الاثنين - 06 ذو الحجة 1446 هـ - 02 يونيو 2025 م

هل يكذبُ ابنُ تيمية على التاريخ؟ وقفة مع صاحب كتاب (براءة الأشعريّين من عقائد المخالفين)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

إنَّ المُناوِئين لشيخ الإسلام ابن تيمية قد أكثروا عليه الأكاذيب والفِرَى، حتى نسبوه إلى التجسيم والنصبِ والغلوّ في التكفير وغير ذلك مما هو منه بريء.

وكتاب (براءة الأشعريين من عقائد المخالفين) من الكتب التي مُلئت بتلك الفِرَى، ومن جملة ما نسبه إليه: الكذبُ على التاريخ.

وقد أورد المؤلّف نماذجَ لذلك بعدَ نظرةٍ عابرةٍ نظرَها في كتاب (منهاج السنة النبوية) كما يقول، وسنناقش في هذه الورقة نموذجًا واحدًا منها، وهذا النموذج هو ما ذكره ابن تيمية منِ ادِّعاء معاوية رضي الله عنه الخلافةَ بعد حُكمِ الحَكَمَيْن، وهو نموذجٌ يكشف عما سواه من النماذج التي يوردها خصوم أهل السنة دون تأمل أو تمحيص.

قال صاحبُ (براءة الأشعريين من عقائد المخالفين): (زعمُه أنّ معاوية ادّعى الأمر -أي: الخلافة- لنفسه بعد حكم الحكمين وقال: “ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدَّعي الأمر لنفسه، ولا يَتَسمَّى بأمير المؤمنين، بل إنما ادَّعى ذلك بعد حُكمِ الحكمين”([1]).

أقول: هذا كذبٌ مكشوف على التاريخ؛ فإن معاوية لم يدَّعِ الأمرَ لنفسه لا قبل التحكيم ولا بعده. وإنما ذكر ابن الأثير في كامله أن أهل الشام لما رجعوا إلى معاوية بعد حكم الحكمين سلموا عليه بالخلافة، وهذا مبنيّ على الأسطورة المشهورة في التاريخ، وهي خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري بخلعه لعلي وإثباته لمعاوية بعد اتّفاقه معه على خلع الاثنين، وهي باطلة نقلًا، والصحيح أنهما خلعا الاثنين) انتهى كلامه بلفظه([2]).

وقولُه: (والصحيح أنهما خلعا الاثنين) يناقض قوله: (إن معاوية لم يدَّعِ الأمرَ لنفسه لا قبل التحكيم ولا بعده)، فكيف يكون معاوية لم يدَّع الأمر قبل التحكيم ثم يكون اتفاق الحكمين على خلعه؟!

فتأمل ما في كلامه من تناقض واضطراب، وقارنه بدِقَّةِ قولِ ابن تيمية -الذي ينسبه للكذب المكشوف على التاريخ- عندما ذكر قصّة التحكيم: (ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين، فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين، بل عزله عن ولايته على الشام، فإنه كان يقول: أنا ولّاني الخليفتان عمر وعثمان، فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام. فاتفق الحَكَمان على أن يُعزَلَ عليٌّ عن إمرة المؤمنين، ومعاوية عن إمرة الشام، وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه، ولم يُظهِر ما في نفسِه، فلما أظهَر ما في نفسه تفرَّق الناس عن غير اتفاق، ولم يقع بعد هذا قتال) ([3]).

والذي يقرأ كلام صاحب كتاب (براءة الأشعريين) يتوهّم أنه يريد من نسبة ابن تيمية إلى الكذب المكشوف على التاريخ أن يُبَرِّئ الحَكَمَيْن أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما من الوقوع في أمرٍ مَذمُوم، غير أننا نجد مقصوده نقيضَ ذلك تمامًا في ما يتعلّق بعمرو بن العاص رضي الله عنه، حيث يقول: (ولو صحّت -يعني قصة التحكيم- لكانت مدحًا لأبي موسى الأشعري، وقدحًا في عمرو بن العاص، ودلّت على كمال الأشعري في الأخلاق الفاضلة، وانحطاط ابن العاص عنها إلى أخلاق السفلة والأشرار، فإن الوفاء بالعهد والوعد من أخلاق المؤمنين، والغدر والخداع من أخلاق المنافقين والأشرار، وفي الحديث الصحيح: «يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استِه، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان»([4]))([5]).

والعجيب أنّ صاحب كتاب (براءة الأشعريين) يزعم أنّ ابن تيمية لا يردّ على الرافضة بقواعد أهل السنّة والجماعة([6])، وقواعد أهل السنة والجماعة تقتضي تعظيمَ عمرو بن العاص رضي الله عنه وإجلالَه، لا تنقيصه بدعوى الدفاع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فكلاهما صحابي.

على أن المستدلّ بقصّة التحكيم إن كان قاصدًا للطعن في الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنه يطعن بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه بالغفلة، كما يطعن في عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمكر والخداع، وكلتا التهمتين مردودة([7]).

وإنك لتعجب من صاحب كتاب (براءة الأشعريين) كيف ينسب ابنَ تيمية إلى الكذب المكشوف على التاريخ وهو في السياق نفسِه يؤيِّد ما قاله ابن تيمية بما ذكره ابن الأثير في تاريخه من أن أهل الشام لما رجعوا إلى معاوية بعد حكم الحكمين سلموا عليه بالخلافة، فهل يكون ابن الأثير قد كذب على التاريخ، أم أن الحكم بالكذب لا يكون إلا إن كان القائل ابن تيمية؟!

والحقّ أن ما ذكره ابن الأثير قاله غيره من المؤرخين ممن تقدّمه، وممن جاء بعده، ولم ينفرد به، يقول الذهبي بعد أن ذكر قصة التحكيم كما ساقها الواقدي إمام المغازي: (ثم بايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين. كذا قال -أي: الواقدي-. وقال خليفة وغيره: إنهم بايعوه في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين، وهو أشبه؛ لأنَّ ذلك كان إثر رجوع عمرو بن العاص من التحكيم)([8]).

فهؤلاء من أئمة التاريخ والمغازي والسير: الواقدي وخليفة والذهبي، ثلاثتهم قالوا بما قاله ابن الأثير، وإن وقع اختلاف في تعيين وقت المبايعة.

ولن نقتصر في مناقشة ما ادّعاه صاحب كتاب (براءة الأشعريين) على بيان عدم شذوذ ابن الأثير وانفراده، وإنما المقصودُ هنا أن نبين أن مستند القائل بادعاء معاوية رضي الله عنه الخلافة بعد التحكيم -كما قاله شيخ الإسلام- لا يقتصر بالضرورةِ على ما سمّاه صاحب (براءة الأشعريين): (الأسطورة المشهورة في التاريخ، وهي خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري بخلعه لعلي)!! بل للقائل بذلك مُستَنَدٌ لا يمكن أن يُنسَب إلى الأساطير.

مُستند القول بادعاء معاوية رضي الله عنه الخلافة بعد تحكيم الحكمين:

المستند الأول: قصة ادعاء معاوية رضي الله عنه الأمر لنفسه في «صحيح البخاري»:

أخرج البخاري في باب غزوة الخندق من كتاب المغازي من «صحيحه»([9]) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على حفصة ونَسْوَاتها تَنْطِف، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيء! فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تَدعهُ حتى ذهَبْ. فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه، فلنَحنُ أحقّ به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحقّ بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع، وتسفك الدّم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حُفِظتَ وعُصمت.

أقوال العلماء في تعيين وقت هذه القصّة:

القول الأول: أنها كانت وقتَ التحكيم:

ذهب جَمْعٌ من شُرَّاح البخاري -كابن حجر والعيني والقسطلاني- أنَّ قولَ عبد الله بن عمر لحفصة رضي الله عنهم: (قد كان من أمر الناس ما تَرين) عنى به ما وقع يوم التحكيم في صِفِّين، وأن أهل قتال صِفِّين راسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما، وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في التحكيم، فشاور ابنُ عُمَر أختَه حفصة في الذهاب، وذكروا أن ابن عمر كان حاضرًا في صِفين يوم التحكيم.

قال ابن حجر: (قوله: “‌قد ‌كان ‌من ‌أمر ‌الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء”: مراده بذلك ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صِفِّين يوم اجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه، فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما، وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك، فشاور ابن عمر أخته في التَّوَجُّه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.

قوله: (فلما تَفَرَّق الناس) أي: بعد أن اختلف الحكمان وهما: أبو موسى الأشعري وكان من قبل علي، وعمرو بن العاص وكان من قبل معاوية.

ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر في هذا الحديث: فلما تفرق الحكمان، وهو يفسر المراد ويعيّن أن القصة كانت بصفين.

وجوَّزَ بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، ورواية عبد الرزاق ترُدُّه، وعلى هذا تقدير الكلام: فلم تدعه حتى ذهب إليهم في المكان الذي فيه الحكمان، فحضر معهم فلما تفرقوا خطب معاوية…)([10]).

فهذه الرواية إذًا تدلُّ على صحة ما ذكره ابن تيمية من أن معاوية رضي الله عنه ادَّعى الأمر لنفسه بعد تحكيم الحكمين.

القول الثاني: أنها كانت وقت أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، وهو ما ذهب إليه ابن الجوزي وابن عاشور.

قال ابن الجوزي: (وقوله: “فلما تفرق الناس خطب معاوية” كان هذا في زمن معاوية وإرادته أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده)([11]).

وقال ابن عاشور: (يُحتمل أن ما جرى بين حفصة وأخيها وقع في صفين يوم التحكيم، فإن ابن عمر حضر يومئذٍ كما في ابن الأثير، وذلك سنة سبع وثلاثين من الهجرة، وأن قول ابن عمر: «فحللت حبوتي وهممت أن أقول…» إلخ وقع عام ستة وخمسين بعد وفاةِ حفصة.

فيظهر أن راوي هذا الخبر خلط بين خبرين أو خلط رواية راويين، وأن البخاري ساق رواية الخبر كما سمعها؛ لأن مقصده من تخريجه هذا الخبر هنا ما فيه من فضيلة ابن عمر رضي الله عنه، فإن الشارح العيني قال: «إن ذكر هذا الخبر هنا لا مناسبة له، وهو استطراد».

وقد ذكر ابن حجر في «فتح الباري» عن ابن الجوزي في «كشف المشكل» أن قول ابن عمر: (ولم يجعل لي من الأمر شيء) حكاية الحال التي جرت قبل حين جعل عمر الأمر شورى، ولم يجعل لابنه من الأمر شيئًا، وأن أقوله: (فلما تفرق الناس خطب معاوية…) إلخ كان هذا لما أراد معاوية أن يجعل ابنه يزيد وليًّا للعهد، وهو كلام وجيهٌ، وإن كان ابن حجر استبعده)([12]).

والصوابُ أنَّ القصة كُلَّها كانت بعد التحكيم أيضًا كما قاله ابن حجر ومن معَه، لما يأتي:

أولًا: استدلّ ابن حجر لكون القصة بعد التحكيم بروايتين للحديث، ومن المعلوم ما لجمع طرق الحديث ورواياته من فائدةٍ في إيضاح مبهم، أو تبيين مجمل، أو غير ذلك من أوجه الإبانة عن معاني الحديث.

الرواية الأولى: فيها (فلما تفرق الحكمان…)، وهي عند عبد الرزاق عن معمر([13]).

الرواية الثانية: فيها (لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدُومة الجندل…)، وهي عند الطبراني([14]). ودومة الجندل هي مكان الاجتماع للتحكيم.

وبهاتين الروايتين استبعد ابن حجر ما ذهب إليه ابن الجوزي.

ثانيًا: يَردُّ ما ذكره ابن عاشور من أنَّ قول ابن عمر: (فحللت حبوتي وهممت أن أقول… إلخ وقع عام ستة وخمسين بعد وفاةِ حفصة) أن حبيب بن مسلمة رضي الله عنه الوارد ذكره في الحديث -وهو صحابي- كان مع معاوية، وولاه غزو الروم، هذا الصحابي إنما كانت وفاته سنة 42هـ([15]). فلا يمكن أن تكون القصة سنة 56هـ، بعد وفاة حفصة.

ثالثًا: مناسبة القصة للباب المذكور -باب غزوة الخندق- بيَّنَها ابن حجر، فقال عند قول ابن عمر رضي الله عنهما: (من قاتلك وأباك على الإسلام) فقال: (يعني يوم أحد ويوم الخندق، ويدخل في هذه المقالة علي وجميع من شهدها من المهاجرين، ومنهم عبد الله بن عمر، ومن هنا تظهر مناسبة إدخال هذه القصة في غزوة الخندق؛ لأنَّ أبا سفيان كان رأس الأحزاب يومئذٍ)([16]). فلا يصح الاستناد إلى عدم تعيين العيني لمناسبة القصّة -على ما ذهب إليه ابن عاشور تبعًا لابن الجوزي- في أن القصّة كانت وقت أخذ معاوية العهد ليزيد.

المستند الثاني: تعيين معاوية رضي الله عنه نوابًا له على الأمصار في حياة علي رضي الله عنه:

ومما يدلُّ على صحّة ما ذكره إليه ابن تيمية من أنَّ معاوية ادعى الأمر لنفسه بعد التحكيم في حياة عليٍّ رضي الله عنه: إرسالُه نُوَّابًا له على الأمصار، وكان ذلك بعد وقوع التحكيم، ومن أمثلة ذلك:

1- إرسال معاوية عبدَ الله بن الحضرمي إلى البصرة:

قال خليفة بن خياط في حوادث سنة 38هـ: (وفيها وجه معاوية بن أبي سفيان عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة ليأخذها، وبها زياد خليفة لابن عباس، فنزل ابن الحضرمي في بني تميم، وتحول زياد إلى الأزد، فنزل علي صبرة بن شيمان الحُدَّاني، فكتب زياد إلى علي يعلمه ذلك، فوجه علي أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقُتِل على فراشة غيلة، فبعث عليٌّ جارية بن قدامة السعدي، فحاصر الحضرمي في دار سُنبيل، ثم حرق عليه)([17]).

(وذكر الطبري في حوادث سنة ثمان وثلاثين من طريق أبي الحسن المدائني، وكذا أخرجه عمر بن شبة في «أخبار البصرة» أن عبد الله بن عباس خرج من البصرة، وكان عاملها لعلي، واستخلف زياد بن سمية على البصرة، فأرسل معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي ليأخذ له البصرة، فنزل في بني تميم، وانضمت إليه العثمانية فكتب زياد إلى علي يستنجده، فأرسل إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقتل غيلة، فبعث علي بعده جارية بن قدامة فحصر ابن الحضرمي في الدار التي نزل فيها، ثم أحرق الدار عليه وعلى من معه، وكانوا سبعين رجلًا أو أربعين، وأنشد في ذلك أشعارًا)([18]).

وقال ابن عبد البر: (وكان من أصحاب عليٍّ في حروبه، وهو الذي حاصر عبد الله بن الحضرمي في دار سُنبيل، ثم حرق عليه، وكان معاوية بعث ابن الحضرمي ليأخذ البصرة وبها زياد خليفة لا بن عباس، فنزل عبد الله بن الحضرمي في بني تميم، وتحول زياد إلى الأزد، وكتب إلى علي فوجه إليه أعين بن صبيعة المجاشعي، فقتل فبعث جارية بن قدامة)([19]).

وقد ذكر الإمام البخاري قصة تحريق جارية بن قدامة لابن الحضرمي في «صحيحه» في كتاب الفتن([20])، فلا وجه للاعتراض على ثبوت تلك القصّة بحال.

فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ). قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: (فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ).

2- تولي عمرو بن العاص رضي الله عنه على مصر:

كان عمرو بن العاص رضي الله عنه افتتح إقليم مصر، وولي إمرته زمن عمر، وصدرًا من دولة عثمان، ثم إنه في حياة عليّ رضي الله عنه تولاها لمعاوية رضي الله عنه بعد مقتل محمد بن أبي بكر سنة 38هـ.

قال خليفة بن خياط: (فيها ولى علي الأشتر مصر، فمات بالقلزُم من قبل أن يصل إليها، فولى عليٌّ محمد بن أبي بكر الصديق، فسار إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا فهُزِم محمد بن أبي بكر. قال: فدخل خربة فيها حمار ميت، فدخل جوفه، فأُحرِق في جوف الحمار، ويقال: قتله معاوية بن حديج في المعركة، ويقال أتي به عمرو بن العاص فقتله صبرًا)([21]).

فالحاصل أن معاوية رضي الله عنه كان يُرسلُ الولاة للأمصار نوابًا عنه بعد تحكيم الحكمين، ويحصل بينهم وبين ولاة عليٍّ رضي الله عنه وَقعَاتٌ ونزاعات، وإن لم يحصل بين الفريقين بعد التحكيم قتالٌ شديد كالقتال الذي وقع في صفّين، وهذا يؤيد أنه ادّعى الأمر لنفسه بعد التحكيم، ويبين أن قول ابن تيمية: (ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدعي الأمر لنفسه، ولا يَتَسمَّى بأمير المؤمنين، بل إنما ادعى ذلك بعد حُكمِ الحكمين)([22]) قول صحيح؛ لأن له مُستَنَدًا ثابتًا صحيحًا، وليس مستنَدُه الأساطيرَ التاريخية. فنسبة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الكذب المكشوف على التاريخ بسبب مقولتِه تلك جنايةٌ محضةٌ.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) «منهاج السنة» (4/ 383). وكرر ابن تيمية هذا المعنى في مواضع أخرى من الكتاب، وكلامه في بعضها أوضح من كلامه في الموضع الذي نقله صاحب «براءة الأشعريين»، فقال في (6/ 327): (فلم يكن أحد ممن قاتل عليًّا ‌قبل الحكمين نصب إمامًا يُقاتل على طاعته، فلم يكن شيء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها، لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة، ولا ادعاء للنص على غيرهم، ولا طَعنًا في جواز خلافة علي)، وقال في (6/ 330): (وكذلك معاوية ‌لم ‌يبايعه ‌أحد لما مات عثمان على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمى بأمير المؤمنين، ولا سماه أحد بذلك، ولا ادَّعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين، وعليّ يسمِّي: نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته، والمسلمون معه).

([2]) «براءة الأشعريين من عقائد المخالفين» (2/ 93).

([3]) «منهاج السنة» (6/ 334).

([4]) أخرجه البخاري (6178، 6966)، ومسلم (1735)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([5]) «براءة الأشعريين من عقائد المخالفين» (2/ 94).

([6]) «براءة الأشعريين من عقائد المخالفين» (2/ 89-90). وهو يعني بهم الأشاعرة والماتريدية.

([7]) وتأمل الفرقَ بين ما ذكره صاحب «براءة الأشعريين» وبين ما ذكره أبو بكر ابن العربي المالكي في «العواصم من القواصم» (ص: 172-181) حيث ذكر ما ينفي تهمة الغدر عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما أنه نفى تهمة الغفلة عن أبي موسى رضي الله عنه. فمن الذي يمثل قواعد أهل السنة والجماعة التي عدَل عنها ابن تيمية: ابن العربي أم صاحب «براءة الأشعريين»؟!

([8]) «تاريخ الإسلام » (2/ 312).

([9]) برقم (4108).

([10]) «فتح الباري» (12/ 261-262). وبنحوه في «عمدة القاري» (17/ 184-185)، «إرشاد الساري» (6/ 124-125).

([11]) «كشف مشكل الصحيحين» (2/ 576).

([12]) «النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح» (ص: 139-140).

([13]) «مصنف عبد الرزاق» (9779)، وقد ذكرها الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 312)، وذكر أن هذه اللفظة جاءت من طريق الزهري عن سالم عن أبيه.

([14]) «المعجم الكبير» (13834).

([15]) ينظر: «تاريخ خليفة» (ص: 205)، و«مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان (ص: 88).

([16]) «فتح الباري» (12/ 263).

([17]) «تاريخ خليفة بن خياط» (ص: 196-197).

([18]) «فتح الباري» (23/ 54-55).

([19]) «الاستيعاب» (1/ 226-227).

([20]) برقم (7078).

([21]) «تاريخ خليفة بن خياط» (ص: 192). ومحمد بن أبي بكر مات وعمره 28 سنة، قال ابن تيمية: (ليس له صحبة، ولا سابقة، ولا فضيلة). «منهاج السنة» (4/ 375).

([22]) «منهاج السنة» (4/ 383).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

ذلك ومن يعظم شعائر الله .. إطلالة على تعظيم السلف لشعائر الحج

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا جرم أن الحج مدرسة من أعظم المدارس أثرا على المرء المسلم وعلى حياته كلها، سواء في الفكر أو السلوك أو العبادات، وسواء في أعمال القلوب أو أعمال الجوارح؛ فإن الحاج في هذه الأيام المعدودات لو حجَّ كما أراد الله وعرف مقاصد الحج من تعظيم الله وتعظيم شعائره […]

‏‏ترجمة الشيخ الداعية سعد بن عبد الله بن ناصر البريك رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشيخ سعد بن عبد الله بن ناصر البريك. مولده: ولد الشيخ رحمه الله في مدينة الرياض يوم الاثنين الرابع عشر من شهر رمضان عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية 14/ 9/ 1381هـ الموافق 19 فبراير 1962م. نشأته العلمية: نشأ رحمه الله نشأته الأولى في مدينة […]

تسييس الحج

  منذ أن رفعَ إبراهيمُ عليه السلام القواعدَ من البيت وإسماعيلُ وأفئدة الناس تهوي إليه، وقد جعله الله مثابةً للناس وأمنا، أي: مصيرًا يرجعون إليه، ويأمنون فيه، فعظَّمه الناسُ، وعظَّموا من عظَّمه وأقام بجواره، وظل المشركون يعتبرون القائمين على الحرم من خيارهم، فيضعون عندهم سيوفهم، ولا يطلب أحد منهم ثأره فيهم ولا عندهم ولو كان […]

البدع العقدية والعملية حول الكعبة المشرفة ..تحليل عقائدي وتاريخي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة تُعدُّ الكعبةُ المشرّفة أقدسَ بقاع الأرض، ومهوى أفئدة المسلمين، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعقيدة التوحيد منذ أن رفع قواعدها نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، تحقيقًا لأمر الله، وإقامةً للعبادة الخالصة. وقد حظيت بمكانةٍ عظيمة في الإسلام، حيث جعلها الله قبلةً للمسلمين، فتتوجه إليها وجوههم في الصلاة، […]

الصد عن أبواب الرؤوف الرحيم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من أهمّ خصائص الدين الإسلامي أنه يؤسّس أقوم علاقة بين الإنسان وبين إلهه وخالقه سبحانه وتعالى، وإبعاد كلّ ما يشوب هذه العلاقة من المنغّصات والمكدرات والخوادش؛ حيث تقوم هذه العلاقة على التوحيد والإيمان والتكامل بين المحبة والخوف والرجاء؛ ولا علاقة أرقى ولا أشرف ولا أسعد للإنسان منها ولا […]

إطلاقات أئمة الدعوة.. قراءة تأصيلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: يقتضي البحث العلمي الرصين -لا سيما في مسائل الدين والعقيدة- إعمالَ أدوات منهجية دقيقة، تمنع التسرع في إطلاق الأحكام، وتُجنّب الباحثَ الوقوعَ في الخلط بين المواقف والعبارات، خاصة حين تكون صادرة عن أئمة مجدِّدين لهم أثر في الواقع العلمي والدعوي. ومن أبرز تلك الأدوات المنهجية: فهم الإطلاق […]

التوحيد في موطأ الإمام مالك

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يختزن موطأ الإمام مالك رضي الله عنه كنوزًا من المعارف والحكمة في العلم والعمل، ففيه تفسيرٌ لآيات من كتاب الله تعالى، وسرد للحديث وتأويله، وجمع بين مختلفه وظاهر متعارضه، وعرض لأسباب وروده، ورواية للآثار، وتحقيق للمفاهيم، وشرح للغريب، وتنبيه على الإجماع، واستعمال للقياس، وفنون من الجدل وآدابه، وتنبيهات […]

مناقشة دعوى مخالفة حديث: «لن يُفلِح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة» للواقع

مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه أجمعين، أمّا بعد: تُثار بين حين وآخر بعض الإشكالات على بعض الأحاديث النبوية، وقد كتبنا في مركز سلف ضمن سلسلة –دفع الشبهة الغويّة عن أحاديث خير البريّة– جملةً من البحوث والمقالات متعلقة بدفع الشبهات، ونبحث اليوم بعض الإشكالات المتعلقة بحديث: «لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوْا […]

ترجمة الشيخ أ. د. أحمد بن علي سير مباركي (1368-1446هـ/ 1949-2025م)(1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور أحمد بن علي بن أحمد سير مباركي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدًا بقرية المنصورة التابعة لمحافظة صامطة، وهي إحدى محافظات منطقة جازان، وذلك عام 1365هـ([2]). نشأته العلمية: نشأ الشيخ نشأتَه الأولى في مدينة جيزان في مسقط رأسه قرية […]

(الاستواء معلوم والكيف مجهول) نصٌ في المسألة، وعبث العابثين لا يلغي النصوص

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد طُبِع مؤخرًا كتاب كُتِبَ على غلافه: (الاستواء معلوم والكيف مجهول: تقرير لتفويض المعنى لا لإثباته عند أكثر من تسعين إمامًا مخالفين لابن تيمية: فكيف تم تحريف دلالتها؟). وعند مطالعة هذا الكتاب تعجب من مؤلفه […]

التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: […]

ابن تيميَّـة والأزهر.. بين التنافر و الوِفاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية أحد كبار علماء الإسلام الذين تركوا أثرًا عظيمًا في الفقه والعقيدة والتفسير، وكان لعلمه واجتهاده تأثير واسع امتدّ عبر الأجيال. وقد استفاد من تراثه كثير من العلماء في مختلف العصور، ومن بينهم علماء الأزهر الشريف الذين نقلوا عنه، واستشهدوا بأقواله، واعتمدوا على كتبه […]

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون […]

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017