الثلاثاء - 14 ربيع الأول 1446 هـ - 17 سبتمبر 2024 م

هل يكذبُ ابنُ تيمية على التاريخ؟ وقفة مع صاحب كتاب (براءة الأشعريّين من عقائد المخالفين)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

إنَّ المُناوِئين لشيخ الإسلام ابن تيمية قد أكثروا عليه الأكاذيب والفِرَى، حتى نسبوه إلى التجسيم والنصبِ والغلوّ في التكفير وغير ذلك مما هو منه بريء.

وكتاب (براءة الأشعريين من عقائد المخالفين) من الكتب التي مُلئت بتلك الفِرَى، ومن جملة ما نسبه إليه: الكذبُ على التاريخ.

وقد أورد المؤلّف نماذجَ لذلك بعدَ نظرةٍ عابرةٍ نظرَها في كتاب (منهاج السنة النبوية) كما يقول، وسنناقش في هذه الورقة نموذجًا واحدًا منها، وهذا النموذج هو ما ذكره ابن تيمية منِ ادِّعاء معاوية رضي الله عنه الخلافةَ بعد حُكمِ الحَكَمَيْن، وهو نموذجٌ يكشف عما سواه من النماذج التي يوردها خصوم أهل السنة دون تأمل أو تمحيص.

قال صاحبُ (براءة الأشعريين من عقائد المخالفين): (زعمُه أنّ معاوية ادّعى الأمر -أي: الخلافة- لنفسه بعد حكم الحكمين وقال: “ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدَّعي الأمر لنفسه، ولا يَتَسمَّى بأمير المؤمنين، بل إنما ادَّعى ذلك بعد حُكمِ الحكمين”([1]).

أقول: هذا كذبٌ مكشوف على التاريخ؛ فإن معاوية لم يدَّعِ الأمرَ لنفسه لا قبل التحكيم ولا بعده. وإنما ذكر ابن الأثير في كامله أن أهل الشام لما رجعوا إلى معاوية بعد حكم الحكمين سلموا عليه بالخلافة، وهذا مبنيّ على الأسطورة المشهورة في التاريخ، وهي خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري بخلعه لعلي وإثباته لمعاوية بعد اتّفاقه معه على خلع الاثنين، وهي باطلة نقلًا، والصحيح أنهما خلعا الاثنين) انتهى كلامه بلفظه([2]).

وقولُه: (والصحيح أنهما خلعا الاثنين) يناقض قوله: (إن معاوية لم يدَّعِ الأمرَ لنفسه لا قبل التحكيم ولا بعده)، فكيف يكون معاوية لم يدَّع الأمر قبل التحكيم ثم يكون اتفاق الحكمين على خلعه؟!

فتأمل ما في كلامه من تناقض واضطراب، وقارنه بدِقَّةِ قولِ ابن تيمية -الذي ينسبه للكذب المكشوف على التاريخ- عندما ذكر قصّة التحكيم: (ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين، فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين، بل عزله عن ولايته على الشام، فإنه كان يقول: أنا ولّاني الخليفتان عمر وعثمان، فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام. فاتفق الحَكَمان على أن يُعزَلَ عليٌّ عن إمرة المؤمنين، ومعاوية عن إمرة الشام، وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه، ولم يُظهِر ما في نفسِه، فلما أظهَر ما في نفسه تفرَّق الناس عن غير اتفاق، ولم يقع بعد هذا قتال) ([3]).

والذي يقرأ كلام صاحب كتاب (براءة الأشعريين) يتوهّم أنه يريد من نسبة ابن تيمية إلى الكذب المكشوف على التاريخ أن يُبَرِّئ الحَكَمَيْن أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما من الوقوع في أمرٍ مَذمُوم، غير أننا نجد مقصوده نقيضَ ذلك تمامًا في ما يتعلّق بعمرو بن العاص رضي الله عنه، حيث يقول: (ولو صحّت -يعني قصة التحكيم- لكانت مدحًا لأبي موسى الأشعري، وقدحًا في عمرو بن العاص، ودلّت على كمال الأشعري في الأخلاق الفاضلة، وانحطاط ابن العاص عنها إلى أخلاق السفلة والأشرار، فإن الوفاء بالعهد والوعد من أخلاق المؤمنين، والغدر والخداع من أخلاق المنافقين والأشرار، وفي الحديث الصحيح: «يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استِه، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان»([4]))([5]).

والعجيب أنّ صاحب كتاب (براءة الأشعريين) يزعم أنّ ابن تيمية لا يردّ على الرافضة بقواعد أهل السنّة والجماعة([6])، وقواعد أهل السنة والجماعة تقتضي تعظيمَ عمرو بن العاص رضي الله عنه وإجلالَه، لا تنقيصه بدعوى الدفاع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فكلاهما صحابي.

على أن المستدلّ بقصّة التحكيم إن كان قاصدًا للطعن في الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنه يطعن بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه بالغفلة، كما يطعن في عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمكر والخداع، وكلتا التهمتين مردودة([7]).

وإنك لتعجب من صاحب كتاب (براءة الأشعريين) كيف ينسب ابنَ تيمية إلى الكذب المكشوف على التاريخ وهو في السياق نفسِه يؤيِّد ما قاله ابن تيمية بما ذكره ابن الأثير في تاريخه من أن أهل الشام لما رجعوا إلى معاوية بعد حكم الحكمين سلموا عليه بالخلافة، فهل يكون ابن الأثير قد كذب على التاريخ، أم أن الحكم بالكذب لا يكون إلا إن كان القائل ابن تيمية؟!

والحقّ أن ما ذكره ابن الأثير قاله غيره من المؤرخين ممن تقدّمه، وممن جاء بعده، ولم ينفرد به، يقول الذهبي بعد أن ذكر قصة التحكيم كما ساقها الواقدي إمام المغازي: (ثم بايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين. كذا قال -أي: الواقدي-. وقال خليفة وغيره: إنهم بايعوه في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين، وهو أشبه؛ لأنَّ ذلك كان إثر رجوع عمرو بن العاص من التحكيم)([8]).

فهؤلاء من أئمة التاريخ والمغازي والسير: الواقدي وخليفة والذهبي، ثلاثتهم قالوا بما قاله ابن الأثير، وإن وقع اختلاف في تعيين وقت المبايعة.

ولن نقتصر في مناقشة ما ادّعاه صاحب كتاب (براءة الأشعريين) على بيان عدم شذوذ ابن الأثير وانفراده، وإنما المقصودُ هنا أن نبين أن مستند القائل بادعاء معاوية رضي الله عنه الخلافة بعد التحكيم -كما قاله شيخ الإسلام- لا يقتصر بالضرورةِ على ما سمّاه صاحب (براءة الأشعريين): (الأسطورة المشهورة في التاريخ، وهي خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري بخلعه لعلي)!! بل للقائل بذلك مُستَنَدٌ لا يمكن أن يُنسَب إلى الأساطير.

مُستند القول بادعاء معاوية رضي الله عنه الخلافة بعد تحكيم الحكمين:

المستند الأول: قصة ادعاء معاوية رضي الله عنه الأمر لنفسه في «صحيح البخاري»:

أخرج البخاري في باب غزوة الخندق من كتاب المغازي من «صحيحه»([9]) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على حفصة ونَسْوَاتها تَنْطِف، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيء! فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تَدعهُ حتى ذهَبْ. فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه، فلنَحنُ أحقّ به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحقّ بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع، وتسفك الدّم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حُفِظتَ وعُصمت.

أقوال العلماء في تعيين وقت هذه القصّة:

القول الأول: أنها كانت وقتَ التحكيم:

ذهب جَمْعٌ من شُرَّاح البخاري -كابن حجر والعيني والقسطلاني- أنَّ قولَ عبد الله بن عمر لحفصة رضي الله عنهم: (قد كان من أمر الناس ما تَرين) عنى به ما وقع يوم التحكيم في صِفِّين، وأن أهل قتال صِفِّين راسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما، وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في التحكيم، فشاور ابنُ عُمَر أختَه حفصة في الذهاب، وذكروا أن ابن عمر كان حاضرًا في صِفين يوم التحكيم.

قال ابن حجر: (قوله: “‌قد ‌كان ‌من ‌أمر ‌الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء”: مراده بذلك ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صِفِّين يوم اجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه، فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما، وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك، فشاور ابن عمر أخته في التَّوَجُّه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.

قوله: (فلما تَفَرَّق الناس) أي: بعد أن اختلف الحكمان وهما: أبو موسى الأشعري وكان من قبل علي، وعمرو بن العاص وكان من قبل معاوية.

ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر في هذا الحديث: فلما تفرق الحكمان، وهو يفسر المراد ويعيّن أن القصة كانت بصفين.

وجوَّزَ بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، ورواية عبد الرزاق ترُدُّه، وعلى هذا تقدير الكلام: فلم تدعه حتى ذهب إليهم في المكان الذي فيه الحكمان، فحضر معهم فلما تفرقوا خطب معاوية…)([10]).

فهذه الرواية إذًا تدلُّ على صحة ما ذكره ابن تيمية من أن معاوية رضي الله عنه ادَّعى الأمر لنفسه بعد تحكيم الحكمين.

القول الثاني: أنها كانت وقت أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، وهو ما ذهب إليه ابن الجوزي وابن عاشور.

قال ابن الجوزي: (وقوله: “فلما تفرق الناس خطب معاوية” كان هذا في زمن معاوية وإرادته أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده)([11]).

وقال ابن عاشور: (يُحتمل أن ما جرى بين حفصة وأخيها وقع في صفين يوم التحكيم، فإن ابن عمر حضر يومئذٍ كما في ابن الأثير، وذلك سنة سبع وثلاثين من الهجرة، وأن قول ابن عمر: «فحللت حبوتي وهممت أن أقول…» إلخ وقع عام ستة وخمسين بعد وفاةِ حفصة.

فيظهر أن راوي هذا الخبر خلط بين خبرين أو خلط رواية راويين، وأن البخاري ساق رواية الخبر كما سمعها؛ لأن مقصده من تخريجه هذا الخبر هنا ما فيه من فضيلة ابن عمر رضي الله عنه، فإن الشارح العيني قال: «إن ذكر هذا الخبر هنا لا مناسبة له، وهو استطراد».

وقد ذكر ابن حجر في «فتح الباري» عن ابن الجوزي في «كشف المشكل» أن قول ابن عمر: (ولم يجعل لي من الأمر شيء) حكاية الحال التي جرت قبل حين جعل عمر الأمر شورى، ولم يجعل لابنه من الأمر شيئًا، وأن أقوله: (فلما تفرق الناس خطب معاوية…) إلخ كان هذا لما أراد معاوية أن يجعل ابنه يزيد وليًّا للعهد، وهو كلام وجيهٌ، وإن كان ابن حجر استبعده)([12]).

والصوابُ أنَّ القصة كُلَّها كانت بعد التحكيم أيضًا كما قاله ابن حجر ومن معَه، لما يأتي:

أولًا: استدلّ ابن حجر لكون القصة بعد التحكيم بروايتين للحديث، ومن المعلوم ما لجمع طرق الحديث ورواياته من فائدةٍ في إيضاح مبهم، أو تبيين مجمل، أو غير ذلك من أوجه الإبانة عن معاني الحديث.

الرواية الأولى: فيها (فلما تفرق الحكمان…)، وهي عند عبد الرزاق عن معمر([13]).

الرواية الثانية: فيها (لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدُومة الجندل…)، وهي عند الطبراني([14]). ودومة الجندل هي مكان الاجتماع للتحكيم.

وبهاتين الروايتين استبعد ابن حجر ما ذهب إليه ابن الجوزي.

ثانيًا: يَردُّ ما ذكره ابن عاشور من أنَّ قول ابن عمر: (فحللت حبوتي وهممت أن أقول… إلخ وقع عام ستة وخمسين بعد وفاةِ حفصة) أن حبيب بن مسلمة رضي الله عنه الوارد ذكره في الحديث -وهو صحابي- كان مع معاوية، وولاه غزو الروم، هذا الصحابي إنما كانت وفاته سنة 42هـ([15]). فلا يمكن أن تكون القصة سنة 56هـ، بعد وفاة حفصة.

ثالثًا: مناسبة القصة للباب المذكور -باب غزوة الخندق- بيَّنَها ابن حجر، فقال عند قول ابن عمر رضي الله عنهما: (من قاتلك وأباك على الإسلام) فقال: (يعني يوم أحد ويوم الخندق، ويدخل في هذه المقالة علي وجميع من شهدها من المهاجرين، ومنهم عبد الله بن عمر، ومن هنا تظهر مناسبة إدخال هذه القصة في غزوة الخندق؛ لأنَّ أبا سفيان كان رأس الأحزاب يومئذٍ)([16]). فلا يصح الاستناد إلى عدم تعيين العيني لمناسبة القصّة -على ما ذهب إليه ابن عاشور تبعًا لابن الجوزي- في أن القصّة كانت وقت أخذ معاوية العهد ليزيد.

المستند الثاني: تعيين معاوية رضي الله عنه نوابًا له على الأمصار في حياة علي رضي الله عنه:

ومما يدلُّ على صحّة ما ذكره إليه ابن تيمية من أنَّ معاوية ادعى الأمر لنفسه بعد التحكيم في حياة عليٍّ رضي الله عنه: إرسالُه نُوَّابًا له على الأمصار، وكان ذلك بعد وقوع التحكيم، ومن أمثلة ذلك:

1- إرسال معاوية عبدَ الله بن الحضرمي إلى البصرة:

قال خليفة بن خياط في حوادث سنة 38هـ: (وفيها وجه معاوية بن أبي سفيان عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة ليأخذها، وبها زياد خليفة لابن عباس، فنزل ابن الحضرمي في بني تميم، وتحول زياد إلى الأزد، فنزل علي صبرة بن شيمان الحُدَّاني، فكتب زياد إلى علي يعلمه ذلك، فوجه علي أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقُتِل على فراشة غيلة، فبعث عليٌّ جارية بن قدامة السعدي، فحاصر الحضرمي في دار سُنبيل، ثم حرق عليه)([17]).

(وذكر الطبري في حوادث سنة ثمان وثلاثين من طريق أبي الحسن المدائني، وكذا أخرجه عمر بن شبة في «أخبار البصرة» أن عبد الله بن عباس خرج من البصرة، وكان عاملها لعلي، واستخلف زياد بن سمية على البصرة، فأرسل معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي ليأخذ له البصرة، فنزل في بني تميم، وانضمت إليه العثمانية فكتب زياد إلى علي يستنجده، فأرسل إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقتل غيلة، فبعث علي بعده جارية بن قدامة فحصر ابن الحضرمي في الدار التي نزل فيها، ثم أحرق الدار عليه وعلى من معه، وكانوا سبعين رجلًا أو أربعين، وأنشد في ذلك أشعارًا)([18]).

وقال ابن عبد البر: (وكان من أصحاب عليٍّ في حروبه، وهو الذي حاصر عبد الله بن الحضرمي في دار سُنبيل، ثم حرق عليه، وكان معاوية بعث ابن الحضرمي ليأخذ البصرة وبها زياد خليفة لا بن عباس، فنزل عبد الله بن الحضرمي في بني تميم، وتحول زياد إلى الأزد، وكتب إلى علي فوجه إليه أعين بن صبيعة المجاشعي، فقتل فبعث جارية بن قدامة)([19]).

وقد ذكر الإمام البخاري قصة تحريق جارية بن قدامة لابن الحضرمي في «صحيحه» في كتاب الفتن([20])، فلا وجه للاعتراض على ثبوت تلك القصّة بحال.

فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ). قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: (فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ).

2- تولي عمرو بن العاص رضي الله عنه على مصر:

كان عمرو بن العاص رضي الله عنه افتتح إقليم مصر، وولي إمرته زمن عمر، وصدرًا من دولة عثمان، ثم إنه في حياة عليّ رضي الله عنه تولاها لمعاوية رضي الله عنه بعد مقتل محمد بن أبي بكر سنة 38هـ.

قال خليفة بن خياط: (فيها ولى علي الأشتر مصر، فمات بالقلزُم من قبل أن يصل إليها، فولى عليٌّ محمد بن أبي بكر الصديق، فسار إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا فهُزِم محمد بن أبي بكر. قال: فدخل خربة فيها حمار ميت، فدخل جوفه، فأُحرِق في جوف الحمار، ويقال: قتله معاوية بن حديج في المعركة، ويقال أتي به عمرو بن العاص فقتله صبرًا)([21]).

فالحاصل أن معاوية رضي الله عنه كان يُرسلُ الولاة للأمصار نوابًا عنه بعد تحكيم الحكمين، ويحصل بينهم وبين ولاة عليٍّ رضي الله عنه وَقعَاتٌ ونزاعات، وإن لم يحصل بين الفريقين بعد التحكيم قتالٌ شديد كالقتال الذي وقع في صفّين، وهذا يؤيد أنه ادّعى الأمر لنفسه بعد التحكيم، ويبين أن قول ابن تيمية: (ولم يكن معاوية قبل تحكيم الحكمين يدعي الأمر لنفسه، ولا يَتَسمَّى بأمير المؤمنين، بل إنما ادعى ذلك بعد حُكمِ الحكمين)([22]) قول صحيح؛ لأن له مُستَنَدًا ثابتًا صحيحًا، وليس مستنَدُه الأساطيرَ التاريخية. فنسبة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الكذب المكشوف على التاريخ بسبب مقولتِه تلك جنايةٌ محضةٌ.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) «منهاج السنة» (4/ 383). وكرر ابن تيمية هذا المعنى في مواضع أخرى من الكتاب، وكلامه في بعضها أوضح من كلامه في الموضع الذي نقله صاحب «براءة الأشعريين»، فقال في (6/ 327): (فلم يكن أحد ممن قاتل عليًّا ‌قبل الحكمين نصب إمامًا يُقاتل على طاعته، فلم يكن شيء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها، لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة، ولا ادعاء للنص على غيرهم، ولا طَعنًا في جواز خلافة علي)، وقال في (6/ 330): (وكذلك معاوية ‌لم ‌يبايعه ‌أحد لما مات عثمان على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمى بأمير المؤمنين، ولا سماه أحد بذلك، ولا ادَّعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين، وعليّ يسمِّي: نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته، والمسلمون معه).

([2]) «براءة الأشعريين من عقائد المخالفين» (2/ 93).

([3]) «منهاج السنة» (6/ 334).

([4]) أخرجه البخاري (6178، 6966)، ومسلم (1735)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([5]) «براءة الأشعريين من عقائد المخالفين» (2/ 94).

([6]) «براءة الأشعريين من عقائد المخالفين» (2/ 89-90). وهو يعني بهم الأشاعرة والماتريدية.

([7]) وتأمل الفرقَ بين ما ذكره صاحب «براءة الأشعريين» وبين ما ذكره أبو بكر ابن العربي المالكي في «العواصم من القواصم» (ص: 172-181) حيث ذكر ما ينفي تهمة الغدر عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما أنه نفى تهمة الغفلة عن أبي موسى رضي الله عنه. فمن الذي يمثل قواعد أهل السنة والجماعة التي عدَل عنها ابن تيمية: ابن العربي أم صاحب «براءة الأشعريين»؟!

([8]) «تاريخ الإسلام » (2/ 312).

([9]) برقم (4108).

([10]) «فتح الباري» (12/ 261-262). وبنحوه في «عمدة القاري» (17/ 184-185)، «إرشاد الساري» (6/ 124-125).

([11]) «كشف مشكل الصحيحين» (2/ 576).

([12]) «النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح» (ص: 139-140).

([13]) «مصنف عبد الرزاق» (9779)، وقد ذكرها الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 312)، وذكر أن هذه اللفظة جاءت من طريق الزهري عن سالم عن أبيه.

([14]) «المعجم الكبير» (13834).

([15]) ينظر: «تاريخ خليفة» (ص: 205)، و«مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان (ص: 88).

([16]) «فتح الباري» (12/ 263).

([17]) «تاريخ خليفة بن خياط» (ص: 196-197).

([18]) «فتح الباري» (23/ 54-55).

([19]) «الاستيعاب» (1/ 226-227).

([20]) برقم (7078).

([21]) «تاريخ خليفة بن خياط» (ص: 192). ومحمد بن أبي بكر مات وعمره 28 سنة، قال ابن تيمية: (ليس له صحبة، ولا سابقة، ولا فضيلة). «منهاج السنة» (4/ 375).

([22]) «منهاج السنة» (4/ 383).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية في الإسلام

  إنَّ حريةَ الاعتقاد في الإسلام تميَّزت بتفاصيل كثيرة واضحة، وهي تعني أن كلَّ شخص حرّ في اختيار ما يؤمن به وما يدين به، ولا يجب على أحدٍ أن يُكرهَه على اعتقاده، كما تعني الاحترامَ لحرية الآخرين في اختياراتهم الدينية والمعتقدات الشخصية. موقفُ الإسلام من الحرية الدينية: الأصلُ عدمُ الإجبار على الإسلام، ولا يُكره أحد […]

دفع إشكال في مذهب الحنابلة في مسألة حَلِّ السِّحر بالسحر

  في هذا العصر -عصر التقدم المادي- تزداد ظاهرة السحر نفوذًا وانتشارًا، فأكثر شعوب العالم تقدّمًا مادّيًّا -كأمريكا وفرنسا وألمانيا- تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال. […]

الفكر الغنوصي في “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي وموقف فقهاء ومتصوفة الغرب الإسلامي منه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم لا تخفى المكانة التي حظي بها كتاب إحياء علوم الدين عند المتصوفة في المغرب والأندلس، فكتب التراجم والمناقب المتصوفة المغربية المشهورة، شاهدة على حضور معرفي مؤثر ظاهر لهذا الكتاب في تشكيل العقل المتصوف وتوجيه ممارسته، وأول ما يثير الانتباه فيه، هو التأكيد على الأثر المشرقي […]

لماذا أحرق أبو بكر وعمر الأحاديث؟

تمهيد: يلتفُّ بعض فرق المبتدعة حول الحداثيين والعلمانيين، ويلتفُّ العلمانيون ومن نحى نحوهم حول هذه الفرق، ويتقاطع معهم منكرو السنَّة ليجتمعوا كلّهم ضدَّ منهج أهل السنة والجماعة في تثبيت حجية السنة والأخذ بها والعمل بها والذبِّ عنها. وبالرغم من أنّ دوافع هذه الفرق والطوائف قد تختلف، إلا أنها تأخذ من بعضها البعض حتى يطعنوا في […]

هل كان ابن فيروز وغيره أعلم من ابن عبد الوهاب بمنهج ابن تيمية؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يعتمد المخالفون على أن مناوئي الدعوة -من الحنابلة- كانوا معظِّمين لابن تيمية وابن القيم، بل وينتسبون إليهم أيضًا؛ كابن فيروز وابن داود وابن جرجيس، ويعتبرون ذلك دليلًا كافيًا على كونهم على مذهب ابن تيمية، وعلى كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعيدًا عن منهج الشيخين ابن تيمية وابن القيم. […]

ترجمة الشَّيخ د. عمر حسن فلاته (محدث الحرمين الشريفين وأول من نال شهادة الماجستير في المملكة العربية السعودية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. عمر حسن فلاته([1]) محدث الحرمين الشريفين وأول من نال شهادة الماجستير في المملكة العربية السعودية   اسمه ونسبه: هو محدث الحرمين الشريفين الشَّيخ الدكتور أبو ميْسُون عُمر بن حسن بن عثمان بن محمد الفُلَّاني المدني المالكي، المعروف بـ(عمر حسن فلاته)([2]). مولده: ولد الشَّيخ في المدينة المنورة […]

ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده.  وبعد: فهذه ترجمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذتها من كتاب زعماء الإصلاح للكاتب والأديب المصري الراحل أحمد أمين، وقد ضمنتها بعض التعاليق التي تبين الوجهة الصحيحة من الشيخ وما في زمانه من أحداث، وتتميز […]

أسانيد الأمة عن الأشاعرة ووجود فجوة بين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب (دعوى ونقاش)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الدعاوى التي يروّجها كثيرٌ من الأشاعرة المعاصرين القولُ بأن أسانيد علوم الإسلام نُقلت من خلالهم، مثل علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم التفسير والأصول، فنقَلَةُ الدين في العصور المتأخرة من الأشاعرة، أو على الأقل من المتأثرين بهم، وحتى فقهاء الحنابلة لم يسلَموا من تقريرات الأشاعرة في كتبهم. ثم […]

فتوى الشيخ عبد الرحمن بن عبدِ الله السُّويدِي (1134- 1200هـ) في فَعاليَّات الدَّرْوَشة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله. هذه فتوى لأحدِ علماءِ العراق في القرن الثاني عشر الهجري -وهو الشيخ عبد الرحمن السويدي الشافعي ت 1200هـ- في الأعمال التي يقوم بها المتصوّفة من أكل الحيات ودخول النيران، وضرب الصدور بالحراب وغير ذلك. وقد اشتهرت هذه الأعمالُ عن أتباع الطريقة الرفاعية منذ دخول التتار إلى بغداد […]

إيضاح ما أَشكَل في قصة موسى عليه السلام وملك الموت

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: إن حديثَ لطم موسى عليه السلام لملك الموت من الأحاديث التي طعَن فيها المبتدعةُ منذ وقتٍ مبكِّرٍ، وتصدَّى العلماءُ للردِّ عليهم في شُبهاتهم. وقد صرّح الإمامُ أحمد رحمه الله لما سئل عن هذا الحديث بأنه: (لا يدَعُهُ إلا ‌مُبتَدِع أو ضعيف الرأي)([1])؛ ولذلك ذكر الأئمة الإيمان بهذا الحديث […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017