الخميس - 16 شوّال 1445 هـ - 25 ابريل 2024 م

شذرات في التحوّل المذهبي

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

إن التحوّل المذهبي من الأمور التي تشدّ أنظار المطالع في سير الفقهاء والعلماء والمفكرين من السابقين واللاحقين وتراجمهم، وقلما ينظر فيها طالب علمٍ إلا وتساءل عن أسباب ذاك التحوّل وملابساته.

ومن الرسائل اللطيفة التي أُفْرِدت لهذا الموضوع: رسالة للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، حيث جَالَ الشيخُ في جملةٍ صالحةٍ من كتب التراجِم، مقيّدًا ما رآه من أخبار المتحولين من مذهب إلى مذهب، في الاعتقاد أو الفقه، فحصل له جمع دوّنه في رسالة ظريفة صغيرة الحجم بعنوان: (التحوّل المذهبي).

وفي حالات التحوّل التي ذكرها الشيخ يقف القارئ على أسباب متنوعة للتحوّل من مذهب إلى مذهب، فتجد السبب المادّي أحيانًا، وأحيانًا يكون التحوّل بسبب رؤيا منامية، وأحيانًا بسبب اعتقاد أفضلية المذهب المتحوّل إليه أو تيسيره، وأحيانًا يذكر خبر التحوّل بدون ذكر السبب، ويرى الشيخ في مثل هذه الحالة أنه (ليس من حقنا تَفَعُّل الأسباب)([1]).

والرسالة مفيدة لمن يعتني برصد ظاهرة التحوّل أو تحليل أسبابها، وقد قيدتُ بمطالعتها هذه الشذرات، ضامًّا إليها تعليقاتٍ ونكاتٍ متصلةٍ بها.

الشذرة الأولى: التحوّل المذهبي من أجل محبّة المال:

قال ابن حجر في ترجمة يَلْبُغا أحد كبار أمراء المماليك: (وكان يَتعصَّبُ للحنفية، حتى كان يعطي من يتمذهب لأبي حنيفة العطاء الجزيل، ورتب لهم الجامكية الزائدة -الراتب- فتحوَّلَ جمعٌ من الشافعية لأجل الدنيا حنفيّة، وحاول في آخر عمره أن يجلس الحنفي فوق الشافعي فعاجله القتل)([2]).

وقال السَّخَاوي في ترجمة عبيد الله بن عوض الأردبيلي: (وحكى القاياتي أن عبيد الله هذا كان شافعيًّا، وكذا أسلافه، وأن بعض آبائه صنف في المذهب، بل أهل أردبيل بلده كلهم شافعية، وأنه إنما تحنف على يد يلبُغا، فإنه كان يقول: من ترك مذهب الشافعي وتحنّف أعطيته خمسمائة، وجعلت له وظيفة، ففعل ذلك جماعة منهم صاحب الترجمة)([3]).

ففي هذه الواقعة نجد أن المال كان المؤثر الرئيس في التحوّل.

ولا ننفي أن يكون السَّخَاوي قد بالغ في الموقف من الأمير المملوكي في وقته، وهو ما يلمح إليه قوله: (وحاول في آخر عمره أن يجلس الحنفي فوق الشافعي فعاجله القتل)، فقد كان لدى بعض الفقهاء تصوّرات متأثرة بالعصبية المذهبية عن أثرِ اعتماد المذاهب في تقدّم الدول وانهيارها، وهذا ما نجده عند ابن السبكي حين قال: (وقال أهل التجربة: إن هذه الأقاليم المصرية والشامية والحجازية متى كانت البلد فيها لغير الشافعية خربت، ومتى قدَّمَ سلطانُها غير أصحاب الشافعي زالت دولته سريعًا، وكأن هذا السر جعله الله في هذه البلاد كما جعل مثله لمالك في بلاد المغرب، ولأبي حنيفة فيما وراء النهر)([4]).

والحقّ أن زوال الدول إنما يكون بترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وبإظهار البدع والضلالات، وليس بتقديم أصحاب مذهب على مذهب من المذاهب السنّية الأربعة أو غيرها أو تأخيرهم. وأعني بغيرها: مذاهب السلف التي انعدم أتبعاها كمذهب الإمام الأوزاعي الذي كان منتشرًا بالشام قبل أن يظهر فيها المذهب الشافعي بالقاضي أبي زرعة الدمشقي في المئة الرابعة.

الشذرة الثانية: التحوّل المذهبي من أجل محبة الرئاسة والولاية:

إن عزل القاضي عن منصبه من الأحوال الشاقة عليه التي كثر كلام الفقهاء والأدباء في وصفها، قال نجم الدين الغزي: (حكي عن القاضي عبد الوهاب المالكي أنه قال: “العزل حيض الرجال”. ووجهه أن العادة أن المرأة إذا حاضت حصل عند الحيض ما يشبه الخجل، خصوصًا إذا طلبها الحليل، ولطفت بعض جواري الرشيد حين طلبها لنفسها، وقد فاجأها الحيض، فقالت: “أتى أمر الله فلا تستعجلوه”.

وكذلك القاضي يخجل إذا قيل له: قد عزلت فقم، ولطف بعض الأمراء فيما كتبه بعزل قاضي قم -وهي بلدة من بلاد فارس-:

أيها القاضي بِقُم * قد عزلناك فقم

ومن البلية في القضاء أن من وليه -وإن طلبه سرًّا- أنه يقول: “أكرهونا على ذلك ما قدرنا دفعهم”، وإذا عزل يقول: “قد كان ذلك مطلوبي، وقد استرحت من معاناة الحكم”، ولطف من قال -كما أنشده قاضي القضاة التاج ابن السبكي في كتابه (معيد النعم):

عجيبةٌ قد سمعنا … بمثلها يُتَغنَّى

في قاضيين يعزّى … هذا وهذا يُهنَّى

هذا يقول: أكرَهونا … وذا يقول: ‌استرحنا

ويكذِبان جميعًا … ومن يصدِّق منا)([5]).

ومن القصص العجيبة في موضوع التحوّل المذهبي التي ذكرها الشيخ بكر أبو زيد ما نقله عن ابن تغري بردي قال: (اجتمعتُ مرةً بالقاضي كمال الدين بن البارزي، كاتب السر الشريف بالدّيار المصرية رحمه الله تعالى، فدفع إليَّ كتابًا من بعض أهل غزّة، فوجدت الكتاب يتضمّن السعي فى بعض وظائف غزّة، وهو يقول فيه: “يا مولانا، المملوك منذ عزل من الوظيفة الفلانية بغزّة خاطره مكسور، والمسؤول من صدقات المخدوم أن يوليه قضاء الشّافعية بغزّة، فإن لم يكن فقضاء الحنفيّة، فإن لم يكن فقضاء المالكية، وإلا فقضاء الحنابلة”، فكتبتُ على حاشية الكتاب بخطي: فإن لم يكن، فمشاعلي -وهو الذي يتولى أمر الجرائم- ملك الأمراء)([6]).

وقد كان هذا الداء الذي يصيب القضاة يُعالَج بتحديد مدة لولاية القاضي، ولهذا قرر بعض الفقهاء أن القاضي لا يُترَك على القضاء أكثر من سنته، وعللوا ذلك بأنه إذا تُرِك أكثر من ذلك استأنس، وصار بحيث لو عُزِل لطَلَب ثانيًا، قالوا: وأيضًا إذا استأنس به يداهن في معاملات بعض الناس خوفًا من العزل([7]).

الشذرة الثالثة: التحوّل المذهبي من أجل التسهيل الفقهي:

يقول أكمل الدين البابرتي الحنفي: (قال شيخي العلامة شمس الدين الأصفهاني رحمه الله: توضأت في الطواف ‌زهاء عشر مرات لأطوف على مذهب الشافعي سبعة أشواط، فلم أقدر على ذلك، فقلدت أبا حنيفة)([8]). أي: لعموم البلوى بمس النساء في الطواف مع قول الشافعي بنقض الوضوء بمسها.

وفي ترجمة الشيخة الصالحة المتفقهة الحنفية خديجة بنت محمد بن حسن البابي الحلبي المعروف بابن البيلوني الشافعي: (اختارت مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه مع أن أباها وإخوتها شافعيون حفظًا لطهارتها من الانتقاض بما عساه يقع من مس الزوج لها، وحفظت فيه كتابًا)([9]).

ومما يشار إليه أن هذه المسألة لا تقتضي تحوّلا تامًّا من المذهب الشافعي أو الحنبلي على مقتضى ما أصله الفقهاء والأصوليون منهم، فقد أجاز عدد منهم الخروج عن المذهب إن لم يكن الدافع لذلك محض التشهي وتتبع الرخص([10]).

ومن العجائب في هذا الباب: ترويج بعض الحنفية لمذهبهم في الإرجاء بدعوى التسهيل على الناس، وفي ذلك يقول أكمل الدين البابرتي: (ذهب أبو حنيفة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، فمن صدق محمدًا صلى الله عليه وسلم بقلبه فيما جاء به من عند ربه وأقر بلسانه فهو مؤمن، والأعمال -أي: الصلاة والصوم والزكاة والحج- غير داخلة فيه. فلولا مذهب أبي حنيفة لكان كل من ترك الصلاة أو فعلًا من الأفعال المذكورة آنفًا كان كافرًا تطلق امرأته، وبوطئها يكون زانيًا ويبطل حجه وجهاده)([11]).

وقد كتب ابن أبي العزّ الحنفي رسالةً في الرد على رسالة البابرتي هذه، وقال في الرد على هذا الموضع: (وَمَن لم يُرجِّح الحكم بالدليل لا ينبغي له الانتصار لتاركي الصلاة والزكاة والحج، ويُرجِّح مذهب من قال بالتخفيف عنهم بمجرد التشنيع والتهويل، فإن ذلك ينتهي إلى قولِ المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية. وقد تكرر منه نظير ذلك: “لولا مذهب أبي حنيفة لكان كذا”) و”لولا مذهبه لكان كذا”، وهو كلام ساقط؛ لأن اعتقاد المعتقد كفر مسلم أو بطلان حق أو تحريم حلال أو عكس ذلك لا يغير الشيء عما هو عليه، ألا ترى أن الكفار لما اعتقدوا في الملائكة أنهم إناث لم يغير ذلك الملائكة عما هم عليه، ولم يصيروا إناثا لاعتقاد الكفار الباطل فيهم، ولا يقال: لولا المسلمون لكانت الملائكة إناثًا. ولو لم يُخلق أبو حنيفة والشافعي لما ضر دين الإسلام، وليس إلى العلماء من أمر الدين إلا التبليغ وإيضاح المشكل، وأما أمر التكفير والتفسيق والتحليل والتحريم فإلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)([12]).

ويقول سراج الدين الغزنوي الحنفي: (وأما بيان احتياج كافة الناس -يعني: إلى مذهب أبي حنيفة- فمن وجوه:

الأول: تارك صلاة واحدة عندهم يُقتل إما حدًّا وإما كفرًا، فيجب حينئذ قتل أكثر العالم، إذ المواظبون على الصلوات أقل من التاركين في كل وقت، خصوصًا النساء، فإنَّ أكثرهُنَّ لم تصلّ في العمر إلا نادرًا، فسكوت القضاة عن العامة والأزواج عن نسائهم فيه ما فيه.

وفي القول الذي يكفر تارك الصلاة يُشكل بقاء الأنكحة مع تاركات الصلاة، فإقامتهنّ معهم فيه من العسر ما لا يقاس عليه، فيجب عليهم تقليد أبي حنيفة رضي الله عنه)([13]).

وقد نقل الكوثري([14]) -الذي ردّ به على إمام الحرمين([15])– كلام الغزنوي وختم به كتابه.

ومن العجيب أن الكوثريّ انتقد على الشيخ أحمد شاكر أخذه باجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية في طلاق الثلاث، والحلف بالطلاق، مع أنه يؤيد الغزنوي في ما قاله!

قال الكوثري: (إذا حدث مرضٌ اجتماعي كالعبث بالطلاق، مثلًا يحلف هذا بالطلاق دون سبب، ويطلق ذاك ثلاثًا مجموعة بلا باعث على الاستعجال، فليس دواء ذلك مسايرة المرضَى بتعبيد الطرق لهم في العبث بالطلاق، بل هذه المسايرة تزيد من فتك المرض بهم، وتوجب اتساع الخرق على الراقع، وهذه المسايرة هي التي أدت إلى تخلي الفقه عن كثير من أبوابه في المحاكم بأيدي أبنائه الذين عقوه، وليس ذلك ناشئًا من عدم صلاحية الفقه لكل زمان ومكان بدون تقويض دعائمه، أو قص خوافيه وقوادمه)([16]).

فالإفتاء بعدم وقوع طلاق الثلاث في مجلس واحد ثلاثًا وبعدم وقوع طلاق من علق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث مسايرة لمرض اجتماعي عند الكوثري، أما ما ذكره البابرتي والغزنوي -وأيَّدَه الكوثري- في ترجيح القول بالإرجاء وقول من لم يكفر تاركي وتاركات الصلاة فلا يعد مسايرة لمرض اجتماعي!

ولا يلزم من القول بتكفير تاركة الصلاة ما هَوَّلَ به الغزنوي، قال شيخ الإسلام: (وأما انفساخ النكاح بمجرد التركِ فلا يُحكَم بذلك، لكن إذا دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعتْ انفسخَ نكاحُها في أحد قولَي العلماء، وفي الآخر لا ينفسخ، لكن على الرجل أن يقومَ بما يَجبُ عليه. وليس كلُّ من وجبَ عليه أن يطلِّقَها ينفسخُ نكاحُها بلَا فعله، بل يقال له: مرْها بالصلاة وإلا فَارِقْها، فإن كان عاجزًا عن ذلك لِثِقَلِ صَداقِها كان مُسِيْئًا بتزوجه مَن لا تُصلِّي على هذا الوجه، فيتوبُ إلى الله من ذلك، ويَنوِي أنه إذا قَدَرَ على أكثر من ذلك فَعَلَه، والله أعلم)([17]).

الشذرة الرابعة: بقاء تأثير المذهب المتحوّل عنه بعد التحوَّل:

عند التحوّل من مذهب فكري أو عقدي أو فقهي إلى آخر قد لا ينقطع تأثير المذهب المتحوَّل عنه على خيارات المرء بعد تحوّله، بل تبقى الرواسب تعمل عملها متفاوتة من حالة لأخرى قوّة وضعفًا. فكانت معرفة الأطوار والمراحل التي تمر بها أي شخصية لدى دراستها أو دراسة نتاجها لها نصيبها من الأهمية.

وهذا ما نجده في قول أبي حيان الأندلسي رحمه الله الذي نقله الحافظ ابن حجر في ترجمته أنه كان ظاهريًّا ثم انتمى إلى الشافعية واختصر كتاب “المنهاج” للنووي، إلا أنه كان يقول: (مُحَالٌ أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه)([18]).

الشذرة الخامسة: رجوع بعض الأئمة عن المذاهب الباطلة والمنحرفة:

من صور التحوّل المحمود: الرجوع عن المذاهب الباطلة والآراء المنحرفة والاعتقادات الفاسدة، ونماذج ذلك كثيرة، نذكر اثنين منها:

أما النموذج الأول: فهو الإمام أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي، الذي انتقل عن اعتقاد الأشعرية إلى اعتقاد السلف وأصحاب الحديث، حيث حصلت له نفرةٌ من قولهم بالكلام النفسي المخالف للمعقول والمنقول، وكان من دعائه ما ذكره بقوله: (كنت إذا صليت أدعو الله تعالى أن يوفقني لأحب المذاهب والاعتقادات إليه، فبقيت على ذلك مدة طويلة أقول: اللهم وَفِّقني لأحب المذاهب إليك وأقربها عندك). وفي هذا: فائدة الدعاء وأثرِه العظيم في الهداية إلى مذهب أهل السنة([19]).

ومما قاله في قصته: (فحضرت يومًا عند الشيخ أبي الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد الصالح لأقرأ عليه القرآن، فابتدأت أقرأ عليه القرآن، فقطع علي القراءة مرة أو مرتين، ثم قال: قالوا وقلنا، وقلنا وقالوا! فلا نحن نرجع إليهم، ولا هم يرجعون إلى قولنا، ورجعنا إلى عاداتنا فأيُّ فائدة في هذا؟! ثم كرر علي هذا الكلام. فقلت في نفسي: والله ما عنى الشيخ بهذا أحدًا غيري، فتركت الاشتغال بالخلاف، وقرأت مختصر أبي القاسم الخرقي على رجل كان يقرئ القرآن).

قال: (ورأيت بعد ذلك ما زادني يقينًا وعلمت أن ذلك تثبيت من الله لي وتعليم، لأعرف حق نعمة الله علي، وأشكره إذ أنقذني من اعتقاد البدعة إلى اعتقاد السنة، والله المسؤول الخاتمة بالموت على الإسلام والسنة).

وقد ذكر الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي([20]) قصته، وذكرها غيره.

والنموذج الثاني: هو الإمام عماد الدين الواسطي([21])، المعروف بابن شيخ الحزامِيِّين، من كبار أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، ذكره ابن تيمية في رسالته للمنبجي وسماه: (سيدنا الشيخ عماد الدين)([22])، وسماه كذلك في المحضر الذي كتبه لمجلس عقد في كشف حال ابن عربي، حضره الشيخ عماد الدين وغيره من مشايخ دمشق([23])، ونقل عنه ابن رجب أنه سماه: (جُنيد وقته). وقال مؤرخ الشام الإمام علم الدين البرزالي: (له كلام متين في التصوف الصحيح، وهو داعية إلى طريق الله تعالى). وقال ابن رجب في وصف كتبه: (وهي من أنفعِ كُتُب الصوفيَّة للمُريدين، انتفع بها خلقٌ من مُتصوِّفة أهل الحديث ومتعبِّدِيها)([24]).

ولد الشيخ عماد الدين في قلب الطائفة الأحمدية، إذ كان والده شيخًا من شيوخها. كان التصوف في بلاد إيران والعراق في العصر المغولي الذي عاش فيه الشيخ عماد الدين قوةً ضاربة الجذور اجتماعيًّا وسياسيًّا. رأى الشيخ عماد الدين في نشأته ما وقعت فيه هذه الطائفة من فواقِر مناقضة لتوحيد الله تبارك وتعالى، ومخلّة بالأخلاق الإسلامية. يقول عن نفسه في الرسالة التي كتبها يشرح فيها إنقاذ الله تعالى له من الضلال: (ومن ألطاف الله تعالى بي أن خلق فيَّ غريزةً في حال الطفولة كنت أعلم بها أن هؤلاء ليسوا على شيء، وأن الحقّ وراء ما يدّعونه، وكنت أتشبّث برسالة القشيري وكتاب “القوت” و”الإحياء”، فأعلم باطلهم علمًا في القوّة، ولا سبيل إلى ظهوره في الفعل لأنّ الدولة لهم، فلا يمكن ظهور ذلك في الفعل أصلًا)([25]). انتقل الشيخ عماد الدين من العراق إلى مصر، ونزل في الإسكندرية، والتقى بجماعة من متصوّفتها هم أحسن حالًا من أولئك الذين نشأ بينهم، إلا أنه مما انتقده عليهم أنَّه (لا شعور لهم بالسنة، ولا الأيام النبوية، ولا السير الصحابيَّة، ولا الأخلاق الدينيَّة، ووجدتهم يعتقدون شيئًا من التجهُّم)([26]).

أمّا هناك في دمشق فقد كان تقيُّ الدّين ابن تيمية وصحبُه يسعون في تربية نفوسهم على الطريقة السُّنيَّة السالمة من البدع الاعتقادية والسلوكية المنتشرة في ذلك الزمان، يقول ابن تيمية: (وكُنَّا نجتمع مع إخواننا في الله، نطلبُ الحق، ونتَّبعُه، ونكشفُ حقيقة الطريق)([27]).

وشاء الله أن يجتمع الشيخ عماد الدين بهم بعد سفره إلى دمشق، يقول في وصف هذه الصحبة الجديدة: (فلم أزَلْ في هذا العوز حتى لطف الله تعالى بي، واجتمعت بطائفة بدمشق منّ الله بهم عليّ، فوجدتهم عارفين بأيام النبوة، والسير الصحابية، ومعاني التنزيل، وأصول العقائد المستخرجة من الكتاب والسنة، عارفين بأذواق السالكين وبداياتهم، وتفاصيل أحوالهم، يرونها من كمال الدين، لا يتم الدين إلا بها، ولا تشبه أنفاسهم أنفاس أهل العصر من فقهائهم وصوفيتهم، وما شبهت أنفاسهم إلا بأنفاس القرن الأول والثاني والثالث، في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكأني -باجتماعي بهم ورؤيتهم- وجدت أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، ووجدت التابعين كسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ والربيع بن خثيم وثابت البناني وأمثالهم، وكأني وجدت برؤيتهم مالكًا والشافعي والسفيانين والحمادين وابن المبارك وإسحاق وأحمد بن حنبل وأقرانهم ونظراءهم، فإني وجدتهم عارفين بحقائق العلم الذي أنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم، مسارعين إلى إقامة أوامر الله تعالى، كمسارعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، معظّمين للدين، مُهتمِّين بإقامته وإظهار شرائعه وشعائره، حَنِقِينَ على من هتك حدود الدين، أو انتقص شريعة من شرائعه اعتقادًا أو عملًا، وليستْ أصولهم أصول المتكلّمين، بل أصول عقائدهم على الآيات والأخبار الصحيحة، وأمرّوا الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وأثبتوا حقائقها لله كما يليق به من الاستواء أو النزول وجميع الصفات، وظهر لهم مع ذلك معارف صحيحة، وأنوار ظاهرة من معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته القائمة بذاته ذوقًا وحالًا، مع العلم والنظر، ووجدت آثارها في قلوبهم عند صلاتهم وأذكارهم ودعوتهم إلى الله تعالى)([28]).

وقد كان الاعتناء بالسيرة النبوية من الأمور التي لاحظ الشيخ عماد الدين تميز جماعة ابن تيمية فيها عن تلك المدارس الصوفية التي اطّلع على أحوالها، إضافة إلى ذلك كانت هناك وصية خاصة من ابن تيمية لعماد الدين بالسيرة النبوية، قال ابن رجب في ترجمته: (قَدِم دمشق، فرأى الشيخَ تقيَّ الدِّين ابنَ تيمية وصاحَبَه، فدلَّه على مُطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخَّصَها واختصَرها)([29]).

فالشيخ عماد الدين الواسطي من نماذج التحول المذهبي المحمود، إن صح أن نسميه تحولًا مذهبيًّا، وإلا فحقّه أن يسمّى توبةً ورجوعًا إلى الله تعالى ابتغاء وجهه سبحانه ورضوانه، لا لقصد دنيا ولا جاه ولا رئاسة.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) التحول المذهبي، ضمن (النظائر) (ص: 74).

([2]) الدرر الكامنة (6/ 209). ونحوه في ترجمة يَلْبُغا من: الذيل على دول الإسلام للسخاوي (1/ 155).

([3]) الضوء اللامع (5/ 118)، ونقله الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في التحول المذهبي، ضمن (النظائر) (ص: 156)، وتحرف عنده اسم (يَلْبُغا) إلى (بليفا).

([4]) طبقات الشافعية (8/ 320).

([5]) التحفة الندية شرح اللامية الوردية (ص: 132-133).

([6]) النجوم الزاهرة (13/ 40-41).

([7]) انظر: السعاية، للكنوي (5/ 421).

([8]) النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة (ص: 57-58).

([9]) شذرات الذهب (8/ 172).

([10]) انظر مثلًا: جمع الجوامع، لابن السبكي (ص: 155).

([11]) النكت الظريفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة (ص: 45-47).

([12]) الاتباع (ص: 59 -60).

([13]) الغرة المنيفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة (ص: 542).

([14]) إحقاق الحق (ص: 90).

([15]) وهذا الكتاب لإمام الحرمين ركب فيه الصعب والذلول لإثبات وجوب التمذهب بمذهب الشافعي على كافة الخلق! وقد ردّ عليه الحنفية كالكوثري، والمالكية كالقرافي، حيث قال ابن المعلم في كتابه (نجم المهتدي ورجم المعتدي) (2/ 199) في ترجمة القرافي: (وصنف كتبًا نافعة مفيدة)، ثم ذكر منها: (كتابًا عارض به كتاب إمام الحرمين: مغيث الخلق في اختيار الأحق، يذهب إلى أن أحق العلماء أن يقلد دون غيره الإمام مالك بن أنس، كما عين إمام الحرمين في كتابه الإمام الشافعي).

([16]) الإشفاق على أحكام الطلاق (ص: 4-5).

([17]) جامع المسائل (4/ 143-144).

([18]) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (6/ 59).

([19]) انظر: الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية (ص: 551-552).

([20]) كتاب التوابين (ص: 138-139).

([21]) ذكر الشيخ بكر أبو زيد خبره مختصرًا في التحول المذهبي، ضمن (النظائر) (ص: 126-127).

([22]) مجموع الفتاوى (2/ 464).

([23]) جامع المسائل (7/ 246).

([24]) الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 382).

([25]) رحلة ابن شيخ الحزامِيِّين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الأثر (ص: 26).

([26]) رحلة ابن شيخ الحزامِيِّين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الأثر (ص: 35).

([27]) مجموع الفتاوى (2/ 465).

([28]) رحلة ابن شيخ الحزامِيِّين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الأثر (ص: 45-46).

([29]) الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 381).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017