الثلاثاء - 28 شوّال 1445 هـ - 07 مايو 2024 م

خصائص أبي بكر الصديق رضي الله عنه (أدلتها، وركائزها، ومدلولاتها)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

 

فإنَّ مِن أصول أهل السنة والجماعة حبَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمَهم وتوقيرهم، والشهادة لهم بالفضل والسابقة والمكانة السامقة، فهم خير قرون الأمة وأكرمها.

وقد كان السلف رضي الله عنهم يعلِّمون أولادهم حبَّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما يعلِّمونهم السورة من القرآن، كما جاء عن الإمام مالك([1]). ولا يكاد يخلو مصنَّف اعتقاديّ من مصنفات أهل السنة من تقرير هذا الأصل بأدلَّته من الوحيين.

وباب الفضائل يُفَرَّقُ فيه بين الفضائل المشتركة بين الجنس وبين ما يختصّ به بعض أفراده عن بعض، ويمتاز به دونهم.

ومن الأصول التي قرَّرها العلماء أن صُحبَةَ أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم صحبةٌ خاصّة، خصّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكمال الصحبة، فللصِّدِّيق رضي الله عنه الأكملية في الصحبة؛ في مقدارها، ونفعها، وصفتها، لا يشركه في تلك الأكملية أحد من سائر أصحابه رضي الله عنهم، أو سائر الخَلْقِ.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمقصود هنا بيانُ اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يَشرَكه مخلوق، لا في قدرها ولا في صِفتها ولا في نفعها، فإنه لو أُحصي الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة، لوجد ما يختصّ به أبو بكر أضعافَ ما اختصّ به واحد منهم، لا أقول: ضعفه. وأما المشترك بينهم فلا يختصّ به واحد. وأما كمال معرفته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له فهو مبرِّز في ذلك على سائرهم تبريزًا باينهم فيه مُباينَةً لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم، ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته. وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين فكذلك.

فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحقّ الصحابة أن يفضَّلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد»([2]).

وفي هذه الورقة نذكر أدلة تلك الصحبة الخاصّة (الخصائص) لأبي بكر رضي الله عنه، وركائزها، ومدلولاتها، دون استفاضة في ذكر سيرته رضي الله عنه، فإن هذا مما أكثر فيه العلماء وأطنبوا، يقول الحافظ ابن حجر: «‌وقد ‌أطنب أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة الصديق حتى إن ترجمته في تاريخه على كبره تجيء قدر ثمن عشره، وهو مجلد من ثمانين مجلدًا»([3]).

أولًا: الأدلة على الصحبة الخاصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:

مما يدل على تلك الصحبة الخاصة لأبي بكر رضي الله عنه:

الدليل الأول: أن الله سمّاهُ صاحبًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في كتابه:

قال الله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثنَينِ إِذ هُمَا فِي ٱلغَارِ إِذ يَقُولُ ‌لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحزَن إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: ٤٠].

وكان نزول هذه الآية بشأن قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولجوئه إلى الغار ثلاثة أيام. ذكره مجاهد، والأكثر عليه. قاله الإمام ابن عبد البر([4]).

والصاحب المقصود في الآية هو أبو بكر رضي الله عنه بلا نزاع([5])، فهو صاحِبُه ومؤانسُه، وثاني اثنين في الغار إذ اشتدَّ طلبُ المشركين له صلى الله عليه وسلم، ولم يظفر بهذا الكمال في الصحبة أحد غيرُ الصديق رضي الله عنه.

والرافضة لم يستطيعوا إنكارَ كون الآية في أبي بكر؛ لذا لجؤوا مع إثبات كونها في أبي بكر إلى ما يجعلها مثلبةً له لا منقبة، وجعل الصحبة لا تقتضي الموالاة!

يقول أبو عثمان الجاحظ: «ولقد بلغ من ظهور قصة أبي بكر وصحبته ومرافقته وكونه مع النبي صلى الله عليه في الغار أنَّ الروافض مع شدة الإقدام والجرأة على تكذيب الناقلين لم تقدر على دفعه وردّه، حتى قال منهم قائلون: إنما أخرجه النبي صلى الله عليه خوفًا من أن يدلَّ عليه ويسعى بأمره إلى أعدائه؛ لأنه كان حسَّ من النبي بالهجرة، وعرف ميقاته الذي عزم عليه.

وكيف يجوز أن يخاطب الله الناس فيقول: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثنَينِ} والذي به كان النبي صلى الله عليه بائنًا قد أبر على الأعداء وأربى على الكفار، لأن النفاق أعظم من التصريح؟! وهذا ما لا يجوز في عقل، ولا يسنح في فكر، ولا يجوز في التعارف، ولا يليق بالبيان.

وكيف والله يقول على اتصال اللفظ باللفظ والمعنى بالمعنى وتركيب الآية الأخرى على الأولى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفلَىٰ ‌وَكَلِمَةُ ‌ٱللَّهِ ‌هِيَ ‌ٱلعُليَا} [التوبة: 40]؟! ولا كافر أعظم كفرًا ولا أشد عنودًا من ثانيه وصاحبه في الغار، ورفيقه في الطريق، والمعزي لشدة حزنه، إن كان الشأن على ما قالوا وكما وصفوا!

وإنما المنافقة أن يكون الرجل مُعتقدًا لجحد الرسول وعداوته، ولكن الرسول هو الغالب على داره القاطع لمن بادأه بالعداوة وناوأه في الفضيلة، فإنما يستبقي نفسه بنفاقه، وبتزميل حقده، وإخفاء ضغنه.

فأما رجل مقيم بمكة، قليل مفرد، وذليل مطرد، وخائف مشرد، بين استخفاء يعدل الموت، أو هرب يقطع الأحشاء، والذي هرب معه مقهور مخذول، والغالب على داره عدوه، فكيف كان أبو بكر منافقًا والحال على ما وصفنا؟!

ولولا كثرة الفساد وما عم الناس من الغلط وفحش الخطأ ما كان لذكر هذا وشبهه معنى»([6]).

وقد ردَّ ابنُ تيمية على ابن المطهر الحلي في ما أورده في هذه المسألة ردًّا طويلًا مفصلًا في «منهاج السنة» بلغ أكثر من مئة ورقة([7]).

ولم يكن أبو بكر رضي الله عنه ثاني اثنين في الغار فحسب، بل كان كذلك في مواقف كثيرة في العهدين المكيّ والمدني، فهو «ثاني اثنين في التقدُّم في الإسلام، وثاني اثنين في الدعاء إلى الله ورسوله، وثاني اثنين في كثرة المُستجيبين والأتباع، وثاني اثنين في الغار، وثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في العريش، وفي أشباه لهذا كثيرة»، كما يقول الجاحظ([8]).

يقول ابن تيمية: «فقوله تعالى في القرآن: {إِذ يَقُولُ ‌لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحزَن} لا يختَصُّ بمُصاحَبَتِه في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي كمل في الصحبة كمالًا لم يشركه فيه غيره، فصار مُختصًّا بالأكملية من الصحبة»([9]).

الدليل الثاني: أحاديث المخالّة:

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخُوة الإسلام ومودته، لا يبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر»([10]).

يقول ابن تيمية في التعليق على هذا الحديث: «وهذا الحديث فيه ثلاثُ خصائص لم يشرك أبا بكر فيها غيرُه:

قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أمنَّ الناس علينا في صُحبته وذات يده أبو بكر» بيّن فيه أنه ليس لأحد من الصحابة عليه من حقٍّ في صحبته وماله مثل ما لأبي بكر رضي الله عنه.

الثاني: قوله: «لا تبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر»، وهذا تخصيصٌ له دون سائر الصحابة..

الثالث: قوله: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا»، فإنَّه نصٌّ أنه لا أحد من البشر يستحقُّ الخُلَّة لو كانت ممكنة إلا أبو بكر، ولو كان غيرُه أفضلَ منه لكان أحق بالخلة لو كانت واقعةً»([11]).

ومما يدل على اختصاص أبي بكر رضي الله عنه بمحبة من النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه على جيش ذات السلاسل، ووقع في نفسه أنه مُقدَّمٌ عنده في المنزلة، قال عمرو: فأتيته فقلتُ: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: «عائشة»، فقلت: من الرجال؟ فقال: «أبوها»، قلت: ثم من؟ قال: «ثم عمر بن الخطاب»، فعدَّ رجالًا([12]).

الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتُم تاركو لي صاحبي؟!»:

وهذه الجملة هي جُزءٌ من كلامٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، جاء في قصة مُخاصمةٍ جَرَتْ بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما صاحبكم فقد غامر([13])»، فسَلَّمَ وقالَ: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ، فأسرعتُ إليه ثم ندمت، فسألتُه أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلتُ إليك، فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثًا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسَلَّمَ، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّرُ، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!» مرتين، فما أوذي بعدَها([14]).

وتحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!» من معاني الاختصاص بالمودّة والمحبة النبوية ما لا يخفى.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ خصلتين اختصَّ بهما أبو بكرٍ رضي الله عنه([15]):

الخصلة الأولى: ذكرها بقوله: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق».

وفي ذلك يقول عمار بن ياسر رضي الله عنهما: «رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وما مَعَهُ إلا خمسةُ أعبُدٍ وامرأتان وأبو بكر»([16]).

قال ابن حجر: «في هذا الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه أوَّلُ من أسلَمَ من الأحرار مُطلقًا»([17]).

وقد جاء ذلك عن جمع من التابعين، فعن يوسف بن يعقوب الماجشون أبو سلمة قال: «أدركت مشيختنا ومن نأخذ عنه، منهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن المنكدر، وعثمان بن محمد الأخنسي، يقولون: أبو بكر أول الرجال أسلم»([18]).

وجاء عن شعبة عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة مولى الأنصار قال: «أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي»، فقال عمرو بن مرة: «فأتيت إبراهيم النخعي، فذكرت ذلك له فأنكره»، وقال: ‌«أبو ‌بكر ‌رحمهما الله»([19]).

وقال الإمام أحمد في رسالته إلى مسدد بن مسرهد: «وأما الرافضة فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم قالوا: إن علي بن أبى طالب أفضل من أبي بكر الصديق، وأن إسلام علي كان أقدم من إسلام أبي بكر. فمن زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر فقد رد الكتاب والسنة؛ لقول الله عزّ وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، فقدم الله أبا بكر بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن الله قد اتَّخذ صاحبكم خليلًا، ولا نبيّ بعدي».

فمن زعم أن إسلام علي أقدم من إسلام أبي بكر فقد كذب؛ لأن أول من أسلم عبد الله بن عثمان عتيق ابن أبي قحافة، وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وعلي ابن سبع سنين، لم تجر عليه الأحكام والفرائض والحدود»([20]).

ويقول ابن تيمية في ردّه على ابن المطهّر: «فإن الناس متنازعون في أول من أسلم، فقيل: أبو بكر أول من أسلم، فهو أسبق إسلامًا من علي، وقيل: إن عليًّا أسلم قبله، لكن علي كان صغيرًا، وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء، ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع، فيكون هو أكمل سبقًا بالاتفاق، وأسبق على الإطلاق على القول الآخر، فكيف يقال: علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك؟!»([21]).

وقد انتقد عَدَدٌ من المُبتَدِعة المعاصرين([22]) ابن تيمية في استدلاله بأن: (إسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء) على أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على علي رضي الله عنه، مع أن ابن تيمية لم ينفرد بما قاله، فقد قال الشمس الأصفهاني -وهو من الأشاعرة- في جوابه على احتجاج النصير الطوسي بأفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة بإسلامه صبيًا: «وإسلام العاقل البالغ أفضل من إسلام الصبي؛ لأن صحة إسلام العاقل البالغ متفق عليها، وصحة إسلام الصبي مختلف فيها، ولئن سلم أن من سبق إلى الإسلام أفضل؛ لكن من جهة سبق الإسلام لا مطلقًا»([23]).

فيلزم هؤلاء الذين يطعنون في ابن تيمية بتهمة الناصبِيَّة أن يطعنوا في الشمس الأصفهاني إذ ذكر الاستدلال عينَه، فيرموه بالنصب كما رموا ابن تيمية بالنصب!

الخصلة الثانية: ذكرها بقوله: «وواساني بنفسه وماله»، ومما اختصّت به مواساة أبي بكر رضي الله عنه عن مواساة سائر الصحابة أنها لا يكافئه عليها إلا الله تعالى يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لأحدٍ عندَنا يدٌ إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإنَّ له عندنا يدًا يكافئه الله به يوم القيامة»([24]). وسنذكر مزيدًا من شواهد ذلك بإذن الله.

 

ثانيًا: ركائز الصحبة الخاصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:

وقد استحق أبو بكر رضي الله عنه تلك الدرجة العالية من الصحبة لكمال محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكمال نفعه له، وكمال علمه، وكلها متلازمة، وبيانها كما يأتي:

الركيزة الأولى: كمال محبة أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم:

فقد لازمه الملازمة الأكيدة منذ كان في مَكَّة في سنوات الاستضعاف، حيث تقول عائشة رضي الله عنها: «لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية»([25]). «وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة»، كما يقول ابن تيمية([26]).

ويقول ابن تيمية: «وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدر في العريش، لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر. وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم. وأمَّا من كان جاهلًا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أو كذَّابًا فذلك يخاطب خطاب مثله»([27]).

ولو تأمَّلتَ الكلماتِ التي قالها أبو بكر رضي الله عنه في المواقف الرفيعة التي وقفها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لوجدتَها مفصحةً عن صحبته الخاصَّةِ للنبي صلى الله عليه وسلم تمام الإفصاح، في نحو قوله لما حدَّثَ العازبَ رضي الله عنه بخبر الهجرة، وخدمته النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق إلى المدينة: «فشربَ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- حتى رضيتُ»([28])، وقوله الذي فاضَ غَيْرةً على النبي صلى الله عليه وسلم حين رد على من زعم أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم يفرُّون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدَعُونَه يوم الحديبية؛ فقال مستنكرًا: «نحن نفرُّ عنه وندعُه؟!»([29]). ثم إنَّكَ تجدُ بريق المحبَّة يتلألأ من تلك الكلمات الأولى التي قالَها أبو بكر رضي الله عنه بعد رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم وقد وافاه الأجل حيث قال بعد أن قبَّلَه: «بأبي أنت وأمي، طبتَ حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يُذيقك الله الموتتين أبدًا»([30]).

ومن أعظم دلائل كمال محبته للنبي صلى الله عليه وسلم: شجاعته في الدفاع عنه التي لم يشاركه فيها أحد غيره.

فعن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيتُ عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: {‌أَتَقتُلُونَ ‌رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ} [غافر: 28]([31]).

هذا الخبر من شواهد شجاعة أبي بكر رضي الله عنه، وقوّة قلبه في مخاطبته صناديد المشركين من قريش في العهد المكِّي.

ومما يوضح أن أبا بكر رضي الله عنه قد ارتقى الذروة في الشجاعة بين أصحاب النبي صلى لله عليه وسلم أمران:

الأول: تحقيق مفهوم الشجاعة.

والثاني: تحقيق انطباق ذلكم المفهوم على أبي بكر رضي الله عنه، بالنظر في تلكم المواقف العظيمة التي وقفها.

وفي بيان الأمرين يقول ابن تيمية: «الشجاعة هي ثبات القلب وقوته، وقوة الإقدام على العدو، والبعد عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلا فالرجل قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز، وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عنهم أو يخاف.

وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبًا، وأربطَهم جأشًا، وأعظمَهم ثباتًا، وأشدَّهم إقدامًا، وأبعدَهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصحبُه وحدَه في المواضع التي يكون أخوفَ ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبُهما، ويبذل ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يوم بدر وحده، والكفارُ قاصدون الرسول خصوصًا.

ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ظهر من شجاعته وبسالته وصبره وثباته وسياسته وتدبيره وإمامته للدين وقمعه للمرتدين ومعونته للمؤمنين وسد ظهورهم ما لا تتسع هذه الورقة.

وكلُّ من له بالشجاعة أدنى خبرة يعلمُ أنه لم يكن منهم من يقارِبُه في الشجاعة فضلًا أن يشاركه»([32]).

ويقول: «والمقصود هنا أنَّ أبا بكر كان أشجعَ الناس، ولم يكن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع منه، ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم، حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة القعر، فهذا ينكر موتَه، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته، فقام الصديق رضي الله عنه بقلب ثابت وفؤاد شجاع، فلم يجزع، ولم ينكل، قد جمع له بين الصبر واليقين، فأخبرهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم: من كان يعبد محمدًا فإنَّ مُحمدًا قد مات، ومن كان يعبدُ الله فإن الله حي لا يموت، {‌وَمَا ‌مُحَمَّدٌ ‌إِلَّا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَو قُتِلَ ٱنقَلَبتُم عَلَىٰ أَعقَٰبِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَىٰ عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيئا وَسَيَجزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق، فلا تجد أحدًا إلا وهو يتلوها، ثم خطبهم، فثبَّتَهُم، وشجَّعَهُم. قال أنس: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه، وكنا كالثعالب، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود.

وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه، وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة، فهو مع الصحابة يُعلِّمهم إذا جهلوا، ويُقوِّيهم إذا ضعفوا، ويحثّهم إذا فتروا، فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم، حتى كان عمر -مع كمال قوته وشجاعته- يقول له: يا خليفة رسول الله، تألف الناس، فيقول: علام أتألفهم؟ أعلى دين مفترى أم على شعر مفتعل؟ وهذا باب واسع يطول وصفه.

فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر ثم عمر»([33]).

ويقول ابن القيِّم: «وكثيرٌ من الناس تشتبه عليه الشجاعة بالقُوَّة، وهما متغايران، فإن الشجاعة هي: ثباتُ القلب عند النوازل، وإن كان ضعيف البطش([34]).

وكان الصِّدِّيق رضي الله عنه أشجع الأُمَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عُمَرُ وغَيْرُهُ أقوى منه، ولكن برز على الصحابة كلهم بثباتِ قلبه في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيثبِّتُهم ويشجِّعُهم. ولو لم يكن له إلا ثبات قَلْبه يوم الغَار وليلته، وثبات قَلْبهِ يوم بَدْرٍ وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، كفاك بعض مناشدتك ربَّك؛ فإنه منجز لك ما وعدك، وثبات قلبه يوم أحد وقد صَرَخ الشيطان في الناس بأن مُحَمَّدًا قد قُتِل، ولم يبق أحدٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دون عشرين في أُحدٍ، وهو مع ذلك ثابت القلْب سَاكن الجَأْش، وثبات قلبه يوم الخندق وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وثبات قلبه يوم الحديبية وقد قلق فارس الإسلام عمر بن الخطاب حتى إن الصدّيق ليثبَّتُه ويُسكِّنُه ويُطَمْئنُه، وثبات قلبه يوم حُنينٍ حيث فرَّ الناس وهو لم يفرّ، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزَّت لها الدنيا أجمع، وكادت تزول لها الجبال، وعُقِرَت لها أقدام الأبطال، وماجتْ لها قلوبُ أهل الإسلام، كموج البحر عند هُبُوْب قواصف الرياح، وصاح لها الشيطان في أقطار الأرض أبلغ الصِّيَاح، وخرج الناس بها من دين الله أفواجًا، وأثار عدو الله تعالى بها أقطار الأرض عجَاجًا، وانقطع لها الوحي من السماء، وكاد لولا دفاع الله تعالى لطمس نجوم الاهتداء، وأنكرت الصحابة بها قلوبهم، كيف لا وقد فقدوا رسولهم من بين أظهُرِهِم وحبيبهم، وطاشت الأحْلام، وغشي الآفاق ما غشيها من الظلام، واشرأبَّ النفاق، ومدَّ أهله الأعناق، ورفع الباطل رأسًا كان تحت قدم الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعًا، وسَمِع المسلمون من أعداء الله تعالى ما لم يكن في حياته بينهم مَسْمُوعًا، وطمع عدوُّ الله أن يُعيد الناس إلى عبادة الأصنام، وأن يصرف وجوههم عن البيت الحرام، وأن يصدَّ قُلُوبهم عن الإيمان والقرآن، ويدعوهم إلى ما كانوا عليه من التهوُّد والتمجُّس والشرك وعبادة الصُّلبان، فشمَّر الصدِّيق رضي الله عنه من جِدِّه عن ساقٍ غير خوَّار، وانْتَضَى سيف عزمه الذي هو ثاني ذي الفقار، وامتطى من ظُهور عزائمه جوادًا لم يكن يَكْبُو السّبَاق، وتقدَّم جنود الإسلام فكان أفرسهم إنما همُّه اللَّحَاق، وقال: والله لأجاهدنَّ أعداء الإسلام جَهْدِي، ولأَصدُقَنَّهُمُ الحرب حتى تنفرد سالفتي أو أفرد وحدي، ولأدْخِلَنَّهُم في الباب الذي خرجوا منه، ولأرُدَّنَّهُم إلى الحق الذي رغبوا عنه، فثبَّت الله تعالى بذلك القلب الذي لو وُزِن بقلوب الأمة لرجَحَها جيوش الإسلام، وأذلَّ بها المنافقين والمرتدين وأهل الكتاب وعبدة الأصنام، حتى استقامت قناة الدين من بعد اعوجاجها، وجرت الملَّة الحنيفية على سننها ومنهاجها، وتولّى حزبُ الشيطان وهم الخاسرون، وأذَّن مؤذّن الإيمان على رؤوس الخلائق: ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبون.

هذا؛ وما ضعفت جيوش عزماته، ولا استكانت ولا وهنت، بل لم تزل الجيوش بها مؤيَّدة ومنصورة، وما فرحت عزائم أعدائه بالظفر في موطن من المواطن، بل لم تزل مذلولة مكسورة.

تلك لعَمْر الله تعالى الشجاعة التي تضاءلت لها فُرْسَان الأمم، والهِمَّة التي تصاغرت عِنْدها عَلِيَّات الهِمَم، ويحقُّ لصدِّيق الأُمَّة أن يضْرِب من هذا المَغْنم بأوفر نصيب، وكيف لا وقد فاز من ميراث النبوَّة بكمال التَّعْصِيْب؟!

وقد كان الموروث -صلوات الله تعالى وسلامه عليه- أشجع الناس، فكذلك وارثه وخليفته من بعده أشجع الأمَّة بالقياس، ويكفي أنَّ عمر بن الخطاب سهمٌ من كِنَانَتِه، وخالد بن الوليد سلاحٌ من أسْلِحته، والمهاجرون والأنصار أهل بيعته وشوكته، وما منهم إلا من اعترف أنه يستمدُّ من ثباتِه وشجاعته»([35]).

الركيزة الثانية: كمال نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم:

وأعظم شاهد على ذلك نزول القرآن العظيم في بيان كثرة إنفاق أبي بكر الصديق رضي الله عنه في سبيل الله تعالى، كما قال الله تعالى: {‌وَسَيُجَنَّبُهَا ‌ٱلأَتقَى * ٱلَّذِي يُؤتِي مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعمَةٍ تُجزَىٰ * إِلَّا ٱبتِغَاءَ وَجهِ رَبِّهِ ٱلأَعلَىٰ * وَلَسَوفَ يَرضَىٰ} [الليل: ١٧-٢١].

وهذه الآيات مما ذكر غيرُ واحدٍ من المُفَسِّرين نزولها في أبي بكر رضي الله عنه([36]).

قال ابن كثير: «حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك([37])، ولا شكَّ أنه داخلٌ فيها، وأولى الأمة بعمُومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {‌وَسَيُجَنَّبُهَا ‌ٱلأَتقَى * ٱلَّذِي يُؤتِي مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ} ولكنه مُقدَّمُ الأُمة، وسابِقُهم في جميع هذه الأوصاف وسائرِ الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صدِّيقًا تقيًّا كريمًا جوادًا بذالًا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلَها ابتغاءَ وجه ربه الكريم! ولم يكن لأحدٍ من الناس عنده مِنَّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضلُه وإحسانُه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود -وهو سيد ثقيف- يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يد لك كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم؟! ولهذا قال: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعمَةٍ تُجزَىٰ * إِلَّا ٱبتِغَاءَ وَجهِ رَبِّهِ ٱلأَعلَىٰ * وَلَسَوفَ يَرضَىٰ}»([38]).

وفي «الصحيحين» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله، هذا خير»، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من يدعى منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكُونَ منهم»([39]).

قال ابن العربي مُعلِّقًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم، وأرجو أن تكُونَ منهم»: «أطلق الرجاء وأراد اليقين، وذلك كثير في العربية»([40]). وقال ابن حجر مُعلِّقًا أيضًا: «قال العلماء: الرجاء من الله ومن نبيه صلى الله عليه وسلم واقعٌ، وبهذا التقدير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر رضي الله عنه»([41]).

وقد أجملَ ابنُ كثير بقوله: «فكم من دراهم ودنانير بذلَها ابتغاءَ وجه ربه الكريم!» ما فَصَّلته الأخبارِ في وصف ما أنفقه أبو بكر رضي الله عنه.

فمن تلك الأخبار المفصِّلَة ما جاء مُبيِّنًا لكمية ذلك الإنفاق، فجاء عن عائشة رضي الله عنها وعروةَ أن أبا بكر رضي الله عنه أنفق أربعين ألف درهم في سبيل الله تعالى، قالت عائشة: أنفقَ أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفًا([42]).

وعن عروة: أن أبا بكر أسلَم وله أربعون ألف درهم، قال عروة: فأخبرتني عائشة قالت: توفي أبو بكر ولم يترك دينارًا ولا درهمًا([43]).

قال ابن تيمية: «إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي صلى الله عليه وسلم في طعامه وكسوته، فإن الله قد أغنى رسوله صلى الله عليه وسلم عن مال الخلق أجمعين، بل كان معونةً له على إقامة الإيمان، فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله، لا نفقة على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، فاشترى المعذَّبين مثل بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة وجماعة»([44]).

ومنها: ما جاء مُبيِّنًا بعضَ مصارف ذلك الإنفاق، وهو إعتاق المعذَّبينَ في الله، قال عروة: «أسلمَ أبو بكر وله أربعُون ألفًا فأنفقها في سبيل اللَّه، وأعتق سبعةً كلُّهم يُعذَّب في الله: أعتق بلالًا، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عبيس»([45]).

والنصوص في إنفاق أبي بكر متواترة تواترًا معنويًّا([46]).

ولِمَا امتَازَ به أبو بكر رضي الله عنه في الإنفاق؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رامَ مسابقَتَهُ في ذلك يومًا، غير أنه لم يحصل ما أراده، وسبَقَه أبو بكر يومئذٍ، قال عمر رضي الله عنه: أمرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّقَ، ووافق ذلك مالًا عندي، فقلتُ: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقتُه يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثلَه، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له: «يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا([47]).

وإن مما يُجلِّي معنى صدق أبي بكر رضي الله عنه وإخلاصِه في الإنفاق: ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعمَةٍ تُجزَىٰ * إِلَّا ٱبتِغَاءَ وَجهِ رَبِّهِ ٱلأَعلَىٰ} وهو: ما ذكرَهُ أبُو عثمان الجاحظ حيث قالَ مُبرِزًا أوجُه امتياز إنفاق أبي بكر رضي الله عنه وفضلِه: «ثم قد علمتم ما قد صنع أبو بكر بماله، وكان المال أربعين ألفًا، فأنفَقَه على نوائب الإسلام وحقوقه، ولم يكن ماله ميراثًا لم يكد فيه فهو غزيرٌ لا يشعر بعسر اجتماعه وامتناع رجوعه، ولا كان هبةَ مَلِكٍ فيكون أسمح لطبيعته وأخرق في إنفاقه، بل كان ثمرة كدِّه، وكسب جولانه وتعرُّضِه.

ثم لم يكن خفيفَ الظهر، قليلَ النسل، قليل العيال، فيكون قد جمع اليسارين؛ لأن المثل الصحيح السائر: قلة العيال أحد اليسارين، بل كان ذا بنينَ وبناتٍ وزوجة وخدمٍ وأحشام، يعول مع ذلك أبويه وما ولَدَا، ولم يكن فتى حدثًا فتهزه أريحية الشباب وغرارة الحداثة، ولم يكن بحذاء إنفاقه طمع يدعوه ولا رغبة تحدوه، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عنده يد مشهورةٌ فيخاف العار في ترك مواساته وإنفاقه عليه، ولا كان من رهطه دُنيا فيسب بترك مكانفته ومعاونته وإرفاقه، فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد أبلغ في غاية الفضل منه، ولا أدل على غاية الصدق والبصيرة منه»([48]).

ويجلّيه أيضًا ما ذكره ابن تيمية من أن الصدِّيق «لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سببٌ يواليه لأجله ويخرج ماله إلا الإيمان، ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة، وكان عملُه كاملًا في إخلاصه لله تعالى، ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالًا قط، ولا حاجةً دنيوية، وإنما كان يطلب منه العلم، ولا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالًا يخصه به قط، بل إن حضر غنيمة كان كآحاد الغانمين، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مالَه كُلَّه، فهو أكمل الأمة في إخلاصه في ابتغاء وجه ربِّه الأعلى»([49]).

وقال أيضًا: «لفظ الآية أنه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تجزى، وهذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه فلا يبقى لمخلوق عليه منة، وهذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقًا لا يساويه فيه أحد من المهاجرين، فإنه لم يكن في المهاجرين -عمر وعثمان وعليًّا وغيرهم- رجلٌ أكثر إحسانًا إلى الناس قبل الإسلام، وبعده بنفسه وماله من أبي بكر، كان مُؤلَّفًا محبًّبًا يعاون الناس على مصالحهم». ثم ذكر وصف ابن الدَّغِنَة له وخبره مع عروة بن مسعود، وقد تقدَّما، ثم قال: «وما عُرِفَ قطُّ أن أحدًا كانت له يد على أبي بكر في الدنيا لا قبل الإسلام ولا بعده، فهو أحق الصحابة: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعمَةٍ تُجزَىٰ}، فكان أحق الناس بالدخول في الآية»([50]).

وقد تقدم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخُوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا بابُ أبي بكر»([51]).

قال البيضاوي في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر»: «أمنَّ: صيغة تفضيل من منَّ يمنُّ منًّا: إذا بذل، لا من مَنَّ عليه مِنَّةً، فإن الامتنان من الناس -سيما على الرسول صلوات الله عليه- مذموم»([52]).

ومن الجوانب الدالة على كمال نفع أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: شدة تأثيره في الناس، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها: «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج؛ فإنك تكسِب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك.

فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا.

قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة، ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدًا بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجدًا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله»([53]).

تصف عائشة رضي الله عنها أباها بأنَّهُ كان «رجُلًا بكَّاء، لا يملك دمعَهُ حين يقرأ القرآن»، ويظهر من الراوية مجيء هذا الوصف في سياق ذكرها لشدَّة تأثير دعوة أبيها على قريش في العهد المكي، حتى قالت: «فأفزع ذلك أشرافَ قريش من المشركين»، «أي: أخافَ الكفارَ؛ لما يعلمُونه من رقَّةِ قُلُوب النساء والشباب أن يميلُوا إلى دين الإسلام»، كما يقول ابن حجر([54]).

يقول الجاحظ: «وكان أبو بكر مع علمه بالناس وحسن معرفته ذا مال كثير، ووجه عريض، وتجارة واسعة، وكان جميلًا عتيقًا، ومَزورًا مَغشيًّا، ومُحبَّبًا أديبًا، صاحبَ ضيافات، ويعينُ في الحمالات، ويجتمعُ إلى مجلسه كبراء أهل مكة، لما يجدون عنده من طريف الحديث وغريب الشعر، حتى كان مثل عتبة وشيبة يجلسان إليه، ويُعجبان بحديثه، ثم يتخذ لهم ما يتحدثون عليه، ويطول مجلسهم به، من شراب العسل والزبيب واللبن، فكانت قريش بعد إسلام أبي بكر وكثرة مُستجيبيه بمكة تريدُ تنفير عتبة بن ربيعة من مجلسه وإيحاشه منه؛ مخافةَ أن يستميلَه بحُسن دُعائه وتأتِّيه ورفقه ورقة دموعه وشدة خشوعه، فتقول له: أما إنك ما تأتي ابن أبي قحافة إلا لطيب عسله وإلا لمذقته، وإنما نفَّرُوه بهذا وشِبْهِه لأنه كان ذا عيال مملقا ثقيل المؤونة، خفيف ذات اليد، مع سنه وسؤدده وحلمه ورأيه»([55]).

لقد كانت رقَّةُ أبي بكر رضي الله عنه وخشوعُه -بالإضافة إلى علمِه وتودُّدِه وتلطُّفِه وغير ذلك من الصفات- من مقوِّمات التأثير في شخصيته رضي الله عنه، فكانت هذه الشخصية المحبوبة مصدر تهديد وتخويف لكفار قريش، فصاروا يخشون من أثر دعوة أبي بكر رضي الله عنه، واستعملوا معه وسائل القمع والتضييق، كما تقدم في خبر عائشة رضي الله عنها.

وإن من أعظم الدلائل على بركة دعوة أبي بكر رضي الله عنه وعظيم نفعها: إسلام كبار الصحابة على يده؛ كعثمان والزبير وطلحة وسعد رضي الله عنهم، يقول ابن إسحاق: «كان أبو بكر رجلًا مألَفًا لقومه، مُحببًّا، سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه: عثمان، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، وطلحة»([56]).

الركيزة الثالثة: كمال علم أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

ويدلّ على ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: «إن عبدًا خيَّره الله بين أن يؤتيَه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر وقال: فدَيناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به([57]).

يقول الجاحظ: «وفي معرفة أبي بكر بالذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه دون جميع الناس دليلٌ على أنَّهُ المخصوص بحُسن المعرفة وفضيلة الدراية»([58]).

وقد عدّد الجاحظ الدلائل على أن أن أبا بكر كان «المفزع والمرشد بعد رسول الله في المُعضلات، وعند الشُّبهات والحادِثَات»، فذكر منها موقفه يوم الحديبية، وموقفه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفه في قتال أهل الردة، وموقفه في إنفاذ جيش أسامة، وموقفه من الاختلاف في مدفن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوليته لخالد وقد عوتب في ذلك، واستخلافه عمر وقد عوتب في ذلك، ثم قال: «فهل رأيت أبا بكر ضامَّ قومًا قط وجامَعَهم فكان لهم الرأي دونه؟! وهل عُوتب في شيء قط إلا والصواب ما عمل به دون رأي المُعاتِب له؟! وهل أُشير عليه برأي قط إلا وهو المُصيب دون المُشيرينَ عليه؟!»([59]).

ويقول النووي أيضًا في بيان دلائل أعلمية أبي بكر رضي الله عنه: «استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله رضي الله عنه في الحديث الثابت في الصحيحين([60]) أنه قال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.

واستدل الشيخ أبو إسحاق بهذا وغيره في طبقاته على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة؛ لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكمة من المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب، فرجعوا إليه.

وروينا عن ابن عمر أنه سُئل: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر، وعمر، وما أعلم غيرهما([61]).

وقد سبق قريبًا حديث أبي سعيد في الصحيحين([62]) قال: وكان أبو بكر أعلمَنَا»([63]).

ويقول ابن تيمية في بيان دلائل أعلمية أبي بكر رضي الله عنه، وتقرير الإجماع على ذلك: «أهل السنة يقولون ما اتفق عليه علماؤهم: إن أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم، منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي، أحد أئمة الشافعية([64]).

ودلائل ذلك كثيرة؛ فإنه لم يكن أحد يقضي ويخطب ويفتي بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر رضي الله عنه([65])، ولم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصَّلَه أبو بكر، فإنهم شكُّوا في موت النبي صلى الله عليه وسلم فبينه أبو بكر، ثم شكُّوا في مدفنه فبينه، ثم شكُّوا في قتال مانعي الزكاة فبينه أبو بكر، وبين لهم النص في قوله تعالى: {‌لَتَدخُلُنَّ ‌ٱلمَسجِدَ ‌ٱلحَرَامَ إِن شَاءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ} [الفتح: 27]، وبيَّن لهم: أن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، ونحو ذلك، وفسر الكلالة فلم يختلفوا عليه.

ومع قيامه بأمورٍ من العلم والفقه عجز عنها غيرُه حتى بيَّنَها لهم، لم يُحفَظ له قول يخالف فيه نصًّا، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم»([66]).

ويقول ابن كثير في تقرير أعلمية أبي بكر رضي الله عنه بالقرآن: «كان الصديق رضي الله عنه أقرأَ الصحابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قدَّمَه إمامًا للصلاة بالصحابة، مع قوله: «يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله»([67])»([68]). «وهي من خصائصه التي لم يشركه فيها أحد، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تصلي خلف أحد في حياته بحضرته إلا خلف أبي بكر»، كما يقول ابن تيمية([69]).

والحديث في ذلك جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»، قالت عائشة: إنه رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»، فعادت، فقال: «مُرِي أبا بكر فليصلِّ بالناس، فإنكن صواحب يوسف»، فأتاه الرسول، فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم([70]).

يقول ابن رجب: «استدلّ البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن أهل الفضل والعلم أحق بالإمامة من غيرهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر من بين الصَّحَابَة كلهم بالصلاة بالناس، وروجع فِي ذَلِكَ مرارًا وَهُوَ يأبى إلا تقديمه فِي الصلاة عَلَى غيره من الصَّحَابَة، وإنما قدمه لعلمه وفضله؛ فأما فضله عَلَى سائر الصَّحَابَة فهو مِمَّا اجتمع عَليهِ أهل السنة والجماعة، وأما علمه فكذلك، وقد حكى أبو بكر ابن السمعاني وغيره إجماع أهل السنة عليه أيضًا»([71]).

ويقول السيوطي في تقرير أعلمية أبي بكر رضي الله عنه بالسنة: «وكان -مع أعلميته بالقرآن- أعلمَهم بالسنة، كما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو، ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام من أول البعثة إلى الوفاة؟! وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم.

وإنما لم يرو عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل لقصر مُدَّتِه، وسرعة وفاتِه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو طالت مُدَّتُه لكثر ذلك عنه جدًّا، ولم يترك الناقلون عنه حديثا إلا نقلوه عنه، ولكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحد منهم أن ينقل عنه ما قد شاركه هو في روايته، فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم»([72]).

وقد ذهب ابن قاوان إلى أفضلية علي رضي الله عنه في العلم والقرابة وبعض خصائصه المختصة به، وقد بيَّنَّا أن الدليل على خلاف ما قال([73]).

ثالثًا: مدلولات الصحبة الخاصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:

وهذه الصُّحبَة الخاصَّة التي بينا أدلتها وركائزها تدل على أمرين:

الأمر الأول: أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على سائر الصحابة:

ولهذا قال ابن حجر مُعلِّقًا على حديث أبي الدرداء المتقدّم الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم اختصاص أبي بكر بصحبته بقوله: «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!»: «في الحديث فضل أبي بكر رضي الله عنه على جميع الصحابة»([74])، وقد شهد له بتلك الأفضلية أكابر الصحابة كعمر وعليٍّ وابنِ عُمَر وعائشة رضي الله عنهم([75])، وهو إجماعٌ من الأُمَّة، حكاه غير واحد، منهم الإمام الشافعي، كما نقل البيهقي بسنده عن أبي ثور عن الشافعي أنه قال: «ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في علي وعثمان، ونحن لا نخطِّئ واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا»([76]).

ووجه دلالة الصحبة الخاصة على الأفضلية يبيَّنه ابن تيمية بقوله: «والأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات.. وقد قال العلماء: ‌ما ‌صحّ لعلي من الفضائل فهي مشتركة، شاركه فيها غيره، بخلاف الصديق، فإن كثيرًا من فضائله -وأكثرها- خصائص له، لا يشركه فيها غيره»([77]).

وما قرره ابن تيمية من انتفاء خصائص علي رضي الله عنه الدالة على أفضليته لا يخالف فيه إلا من يخالف في أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على سائر الصحابة، من الرافضة والزيدية وغيرهم ممن تأثر بهم.

وقد قرر عدد من الأشاعرة عينَ ما قرره ابن تيمية من انتفاء خصائص علي رضي الله عنه الدالة على أفضليته، بمعنى أنه أكثر الصحابة رضي الله عنهم ثوابًا عند الله، وفي ذلك يقول الشمس الأصفهاني في رده على النصير الطوسي: «ولا نسلّم أن ما اشتهر ونقل من سخاوته وزهده وشرف خلقه وحلمه وعبادته وطلاقة وجهه يدلّ على أنه أزيدُ وأفضل من غيره في هذه الصفات، بل غايته أنه يدلّ على اتصافه بهذه الصفات، واتصافه بهذه الصفات لا يقتضي زيادته على غيره في هذه الصفات»([78]).

ويقول: «وأما اتصافه -كرم الله وجهه- بالكمالات النفسانية والبدنية والخارجية فيدل على أنه كان كاملًا فاضلًا، ولا يدل على أنه أفضل من غيره من الصحابة»([79]).

ويقول: «ولا نسلم أن عليًّا أعلم الصحابة… ولئن سلم أنه أعلم الصحابة وأنه أفضل بالنسبة إلى فضيلة العلم، فلا يلزم أن يكون أفضل من غيره مطلقًا، لجواز اختصاص غيره بفضيلة غير فضيلة العلم يكون بها أفضل من علي رضي الله عنه»([80]).

وقال الخيالي: «اجتماع الكمالات العلمية والعملية لا اختصاص له بعلي بن أبي طالب، بل هو متحقق في غيره أيضًا، وأما حديث الشجاعة والقدرة الكاملة فعلى تقدير اختصاصها به لا يدلان إلا على الأفضلية بمعنى كثرة الخصال الحميدة فيه، والكلام في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب عند الله تعالى»([81]).

وفي كل من هذه النُّقُول ردٌّ على من زعم من المبتدعة المعاصرين أن ابن تيمية انفرد بالقول بأن فضائل أبي بكر رضي الله عنه خصائص لا يشركه فيها غيره من الصحابة، بخلاف فضائل علي رضي الله عنه.

الأمر الثاني: المشاكلة والمشابهة بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات:

وهذه الدلائل الدالةُ على الصحبة الخاصّة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه تدلُّ على المشاكلة والمشابهة بينهما في الصفاتِ؛ إذ المشاكلة والمشابهة علّة المحبَّةِ.

ومن لطيف ما استدل به أهل العلم على تلك المشابهة «أن ابن الدّغنة سيد القارة لما ردّ إلى أبي بكر رضي الله عنه جواره بمكة وصفهُ بنظير ما وصفت به خديجة النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم لما بُعث، فتواردا فيهما على نعتٍ واحد من غير أن يتواطآ على ذلك، وهذا غايةٌ في مدحه؛ لأنَّ صفاتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم منذ نشأ كانت أكملَ الصفات»([82]).

والمقصود بتلكم الأوصاف قول ابن الدغنة لأبي بكر: «فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».

يقول أبو عثمان الجاحظ: «ولا أحدَ أشبَه بالرئيس ممن اختاره الرئيس وزيرًا وصاحبًا، ومُكانفًا ومُعينًا؛ لأن الرجل إذا كان في رأي العين صاحبَ أمر الرئيس، والمتولي على الخاصة والقربة منه في ظعنه ومقامه وخلواته وهربه واستخفائه، وكان هو المبتدِئ بالكلام عنده، والمفزع في الحوائج بعده، والثاني في الدعاء إلى الله ودينه، ولا نعلم هذه الخصال اجتمعت في غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه»([83]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) «مناقب عمر رضي الله عنه» لابن الجوزي (ص: 41).

([2]) «منهاج السنة» (8/ 421-422).

([3]) «الإصابة» (4/ 149).

([4]) «الاستيعاب» (ص: 473).

([5]) انظر: «الإصابة» (4/ 148).

([6]) «العثمانية» (ص: 109-110).

([7]) «منهاج السنة» (8/ 372-493).

([8]) «العثمانية» (ص: 54).

([9]) «منهاج السنة» (8/ 416).

([10]) أخرجه البخاري (3654) ومسلم (532). وأحاديث المخالّة متواترة، انظر: «منهاج السنة» (7/ 375، 8/ 425)، و«الأزهار المتناثرة» (99).

([11]) «رسالة في فضل أبي بكر الصديق» لابن تيمية.

([12]) أخرجه البخاري (3655)، ومسلم (4369). وسبب سؤال عمرو في «فتح الباري» (11/ 43).

([13]) غامر: دخل في غمرة الخصومة.

([14]) أخرجه البخاري (3661).

([15]) انظر: «منهاج السنة» (8/ 423-424).

([16]) أخرجه البخاري (3653).

([17]) «فتح الباري» (11/ 38). وذكر ابن تيمية في «منهاج السنة» (8/ 389) أنه إجماع، وفي «الفتح» (11/ 321) ذكر اتفاق الجمهور عليه.

([18]) أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (261).

([19]) أخرجه الخلال في «السنة» (370).

([20]) ينظر: «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (1/ 343).

([21]) «منهاج السنة» (7/ 155).

([22]) «المقالات السنية» للحبشي (ص: 377)، و«قراءة في كتب العقائد» للمالكي (ص: 176). وانظر: «الدرر الكامنة» (1/ 150).

([23]) «شرح تجريد العقائد» (3/ 493).

([24]) أخرجه الترمذي (3661). وفي سنده محبوب بن محرز القواريري لين الحديث، كما في التقريب (6469) وانظر سنن الدارقطني (3852)، قال الترمذي: (سألت محمدًا، يعني ابن إسماعيل، البخاري، عن هذا الحديث، فلم يعرفه). «ترتيب علل الترمذي الكبير» (688).

([25]) أخرجه البخاري (476).

([26]) «منهاج السنة» (8/ 390).

([27]) «منهاج السنة» (8/ 416).

([28]) أخرجه البخاري (3664)، ومسلم (2009).

([29]) أخرجه البخاري (2731).

([30]) أخرجه البخاري (3660).

([31]) أخرجه البخاري (3678).

([32]) «جامع المسائل» (5/ 249-250).

([33]) «منهاج السنة» (7/ 500-507) بتصرُّف.

([34]) انظر: «العثمانية» (ص: 45-49).

([35]) «الفروسية» (ص: 466-469). وانظر: «الرياض النضرة في مناقب العشرة» (2/ 32-49).

([36]) جاء ذلك عن عبد الله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وقتادة. انظر: «تفسير الطبري» (24/ 479). وجاء عن عروة بن الزبير، وسيأتي كلامه.

([37]) ينظر: «زاد المسير» (9/ 158).

([38]) «تفسير ابن كثير» (8/ 422).

([39]) أخرجه البخاري (2841)، ومسلم (1027).

([40]) «عارضة الأحوذي» (13/ 138).

([41]) «فتح الباري» (11/ 51).

([42]) أخرجه ابن حبان (6859). وانظر: «الرياض النضرة في مناقب العشرة» (2/ 21).

([43]) أخرجه أبو داود في «الزهد» (35)، وصححه ابن حجر في «الإصابة» (4/ 147).

([44]) «منهاج السنة» (8/ 551).

([45]) أخرجه يعقوب بن سفيان في «تاريخه» كما في «الإصابة» (4/ 147)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» كما في «منهاج السنة» (8/ 495).

([46]) ينظر: «منهاج السنة» (8/ 499، 546).

([47]) أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675) وقال: (هذا حديث حسن صحيح).

([48]) «العثمانية» (ص: 36).

([49]) «منهاج السنة» (8/ 500-503) مُلخَّصًا.

([50]) «منهاج السنة» (7/ 378-380).

([51]) أخرجه البخاري (3654)، ومسلم (532).

([52]) «تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة» (3/ 537).

([53]) أخرجه البخاري (2297).

([54]) «فتح الباري» (11/ 445).

([55]) «العثمانية» (ص: 26).

([56]) «سيرة ابن هشام» (1/ 250-252). وانظر: «الأربعين في أصول الدين» (ص: 466)، و«منهاج السنة النبوية» (8/ 389-390).

([57]) أخرجه البخاري (466، 3654، 3904)، ومسلم (6245، 6246).

([58]) «العثمانية» (ص: 85). وانظر: «الرياض النضرة في مناقب العشرة» (2/ 49-50).

([59]) «العثمانية» (ص: 86).

([60]) أخرجه البخاري (1399، 1400، 2946)، ومسلم (32).

([61]) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 334).

([62]) تقدّم تخريجه.

([63]) «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 190).

([64]) هو الإمام أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، وسيأتي في كلام ابن رجب نقل الإجماع عن ابنه أبي بكر محمد.

([65]) انظر: «الرياض النضرة في مناقب العشرة» (2/ 61-62).

([66]) «منهاج السنة» (7/ 500-507) بتصرُّف.

([67]) أخرجه مسلم (1477).

([68]) نقله السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (ص: 116).

([69]) «فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه».

([70]) أخرجه البخاري (678) ومسلم (624). وأمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصلاة بالناس من تعريضه بخلافته، انظر: «الاستيعاب» لابن عبد البر (ص: 376)، و«منهاج السنة» لابن تيمية (8/ 549).

([71]) «فتح الباري» (6/ 112).

([72]) «تاريخ الخلفاء» (ص: 117).

([73]) ومع ذلك فإن ابن قاوان صرح بأن ما ذكره من أفضلية علي في العلم والقرابة لا يدل على أفضليته مطلقًا. انظر: «شرح العقائد العضدية» لابن قاوان (ص106).

([74]) «فتح الباري» (11/ 42). وانظر: «فتح الباري» (3/ 193).

([75]) قول عمر: أخرجه البخاري (3660)، والترمذي وصححه (3918). وقول علي: أخرجه البخاري (3662). وقول ابن عمر: أخرجه البخاري برقم (3647) في باب (فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم)، وقول عائشة: أخرجه مسلم (4379). وانظر: «شرح صحيح مسلم» للنووي (15/ 154)، و«جامع المسائل» لابن تيمية (7/ 264)، و«تاريخ الإسلام» للذهبي (2/ 68).

([76]) «مناقب الشافعي» (1/ 434)، و«الاعتقاد» (ص: 522). وانظر: «منهاج السنة» (7/ 286-287، 368-369). ووقعت كلمة الشافعي عند ابن حجر في «الفتح» (11/33) معزوةً للبيهقي: (أجمع ‌الصحابة ‌وأتباعهم على أفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي). وهو سهو، إذ ليس في رواية أبي ثور عن الشافعي حكاية الإجماع في شأن عثمان وعلي رضي الله عنهما.

([77]) «منهاج السنة» (7/ 121).

([78]) «شرح تجريد العقائد» (3/ 492).

([79]) «شرح تجريد العقائد» (3/ 494).

([80]) «شرح تجريد العقائد» (7/ 491-492).

([81]) «شرح الخيالي على نونية الخضر» (ص: 324).

([82]) «الإصابة في تمييز الصحابة» (4/ 149) لابن حجر، ونحوه في «منهاج السنة» لابن تيمية (8/ 549).

([83]) «العثمانية» (ص: 50).       

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟

  خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! […]

حديث: «جئتكم بالذبح» بين تشنيع الملاحدة واستغلال المتطرفين

الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم. والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال. ومن […]

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017