حديث إزالة النخامة من المسجد واعتراض الحداثيين
يرى بعض الحداثيين أنَّ هذا الدينَ قد جمع بين بعضِ التناقضات، منها أمور تتعلق بالنظافة؛ إذ كيف يسمح النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته أن يتنخَّموا عن يسارهم وتحت أقدامهم وهم في الصلاة، خاصة لو حدث ذلك في المسجد، أليس هذا منظرًا مؤذيًا لمن حوله؟ ثم أليس هذا الفعل فيه سوء أدب مع الله؟! فإذا كنّا لا نفعل ذلك أثناء ملاقاة ملك أو أمير او مسؤول، فكيف بقيامنا أمام ملك الملوك؟!
والجواب:
أن الإسلام دين الطُّهر والنظافة والفطرة والجمال، وقد جاءت النصوص صريحة في العناية بالمساجد وتنظيفها وتطييبها، وعدم إهانتها برمي القاذورات والقمامة فيها، فمن ذلك:
– الأمر بتنظيف المساجد وتطييبها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبناء المساجد في الدُّورِ، وأن تُنظَّف، وتُطيَّب([1]).
ففي الحديث حثّ على تنظيف المساجد وتطهيرها، وذلك بإزالة الأوسَاخ والقَذر عنها، وصيانتها وحفظها، وأن تجعل فيها الروائح الطيبة من البخور وغيره مما له رائحة طيبة.
– صيانة المساجد عن النجاسات والقاذورات:
عن أنس بن مالك -في قصة بول الأعرابي في المسجد- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذِه المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشيءٍ مِن هذا البَوْلِ ولا القَذَرِ، إنّما هي لِذِكْرِ اللهِ عز وجل والصَّلاةِ وقِراءَةِ القُرْآنِ»، أوْ كما قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ. قالَ: فأمَرَ رَجُلًا مِنَ القَوْمِ فَجاءَ بدَلْوٍ مِن ماءٍ فَشَنَّهُ عليه([2]).
ففي الحديث وجوب صيانة المساجد عن النجاسات، وذلك بإزالة ما وقع منها بصبّ دلو من الماء. ويفهم منه كذلك تحريم إلقاء القذارة في المسجد من بصاق وغيره، وإذا كان القَذَر نجاسة كان التحريم أشدَّ.
– تعيين من يقوم بتنظيف المساجد:
عن أبي هريرة أنّ امْرَأَةً سَوْداءَ كانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ -أوْ: شابًّا-، فَفَقَدَها رَسولُ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَ عَنْها -أوْ: عنْه-، فَقالوا: ماتَ، قالَ: «أفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟!» قالَ: فَكَأنّهُمْ صَغَّرُوا أمْرَها -أوْ: أمْرَهُ-، فَقالَ: «دُلُّونِي على قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ، فَصَلّى عَلَيْها، ثُمَّ قالَ: «إنّ هذِه القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً على أهْلِها، وإنّ اللهَ عز وجل يُنَوِّرُها لهمْ بصَلاتي عليهم»([3]).
وفي رواية: أنّ امرأةً كانَت تلتَقِطُ الخرقَ والعيدانِ منَ المسجِدِ([4]).
فدلّ الحديث على فضل تنظيف المسجد، وذلك لعناية النبي e لمن قامت بذلك، وسؤاله عنها لما افتقدها، وأن صيانة المساجد عن الأوساخ والقاذورات ليس عملًا خاصًّا بالرجال، فيشترك فيه النساء كذلك.
– التنخُّم في المسجد خطيئة:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البُزاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وكَفّارَتُها دَفْنُها»([5]).
واستدل بعض أهل العلم بهذا النص على تحريم البصاق في المسجد، وبعضهم جعل التحريم مقيدًا فيما إذا تفل فيه ولم يدفنه، أما إذا ستر بصاقه فلا إثم عليه([6]).
وليس معنى ذلك أن يبصق ويدفن، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل البصاق معصية، ولا يجوز لأحد أن يعمل ذنبًا ويتبعه بما يكفّره من الحسنات الماحية([7])؛ بل منِ احتاج إلى البصاق وهو في صلاة وبصق على الأرض فعليه أن يدفنه.
ويؤيد هذا ما رواه أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرِضَتْ عليَّ أُمَّتي بأعمالِها حَسَنةً وسيِّئةً، فرأيْتُ في مَحاسِنِ أعمالِها إماطةَ الأَذى عنِ الطريقِ، ورأيْتُ في سَيِّئِ أعمالِها النُّخاعةَ في المَسجِدِ لا تُدفَنُ»([8]).
دل ظاهر هذا الحديث أيضًا على أن هذا القبح والذم لا يختص بصاحب النخامة، بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها بدفن أو حكٍّ أو نحوه([9]).
– تغيُّظ الرسول e من التنخُّم في المسجد:
عن ابن عمر: بينما رسولُ اللهِ ﷺ يخطبُ يومًا إذ رأى نُخامةً في قبلةِ المسجدِ، فتغيَّظَ على الناسِ ثم حكَّها -قال: وأحسبُه قال: فدعا بزعفرانٍ فلطَّخَه به-، وقال: «إن اللهَ قِبَلَ وجه أحدِكم إذا صلّى، فلا يَبزُقْ بين يديه»([10]).
ففيه تعظيم قدر المساجد وصونها عن كل دَنَسٍ، فترفع منها النجاسات والقاذورات وكل ما يستقذر؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم غضب على الحاضرين في المسجد؛ ربما لغفلتهم عن تطهير المسجد عن القاذورات([11])، ولعدم احترام القبلة وتعظيمها، وقد علل ذلك بقوله: «فإن الله عَزَّ وَجَلَّ قِبَل وجهه»، وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام، سواء كان في المسجد أو لا، ولا سيما من المصلي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم([12]).
وظاهر الرواية أيضًا أن النخامة كانت يابسة، إذ لو كانت رطبة لقال: (مسحها) بدل (حكَّها). فهي تفيد أن الاستقذار يكون باليابس كما يكون بالرطب([13]).
والخلاصة: أن الشريعة أولت المساجد اهتمامًا بالغًا، وتجسيدًا لهذا الاهتمام جاءت النصوص في الحث على نظافتها وتطييبها، والإنكار على تدنيسها بالقاذورات أو الأنجاس.
ماذا يفعل من احتاج إلى التنخُّم في الصلاة؟
ليعلم أن أحاديث جواز البصق في الصلاة ليست مطلقة، فإن بدر من المصلي بُصاق فعليه مراعاة عدة أمور:
أولًا: أن يكون البصق عن يساره؛ لحديث: «فإن الله عَزَّ وَجَلَّ قِبل وجهه إذا صلَّى»([14]).
ثانيًا: أن يكون البصق على الثوب أو المنديل، مع كراهة أن يكون على الأرض.
وقد صرح النووي بهذا في شرح قوله: «وليبزق تحت قدمه وعن يساره»، قال: (هذا في غير المسجد، أما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه لقوله e: «البزاق في المسجد خطيئة»، فكيف يأذن فيه e؟! وإنما نهى عن البصاق عن اليمين تشريفا لها… فإن تعذر غير اليمين بأن يكون عن يساره مصل فله البصاق عن يمينه؛ لكن الأولى تنزيه اليمين عن ذلك ما أمكن)([15]).
قال ابن قدامة: (وإذا بدره البصاق وهو في المسجد بصق في ثوبه، ويحك بعضه ببعض، وإن كان في غير المسجد يبصق عن يساره، أو تحت قدمه)([16]).
ثالثًا: إذا بصق على أرض المسجد فعليه أن يزيله.
قال النووي: (واعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقًا، سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج، بل يبزق في ثوبه، فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق)([17])، وتغييبه في التراب؛ لئلا يعلق بثوب مسلم أو رجله فيؤذيه، ولذا أمر بدفنه ولا كفارة له إلا ذلك، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا تنخَّمَ أحدُكم في المسجد فلْيُغَيِّبْ نُخامَتَه؛ أن يُصِيبَ جلدَ مؤمنٍ أو ثوبَه فتُؤْذِيَه»([18]).
قال ابن رجب: (وهذا مما يدل على أن قرار المسجد وباطنه يجوز أن يجعل مدفنًا للأقذار الطاهرة)([19]).
وأما إذا كان المسجد مفروشًا -كحال المساجد اليوم- فلا يجوز البصق فيه بحال من الأحوال، لا سيما وقد تيسرت -ولله الحمد- المناديل بأنواعها وشاع استعمالها بين الناس([20]).
الخاتمة:
اعتنى الإسلام ببناء المساجد وعمارتها ونظافتها، وحرم تنجيسها وتدنيسها بالنجاسات أو القاذورات، بل وأذية المصلين فيها بالروائح الكريهة؛ لذا نهى آكل البصل والثوم من حضور صلاة الجماعة.
والبزاق في المسجد خطيئة، يفعله المصلي اضطرارًا في المساجد التي بها رمل أو تراب أو نحوه، ويؤمر بدفنه، حتى لا يؤذي غيره، وأما المساجد المفروشة اليوم فلا يجوز البصاق على أرضها، بل يكتفى بالبصق على المنديل أو على طرف الثوب، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أبو داود (٤٥٥)، والترمذي (٥٩٤)، وابن ماجه (٧٥٨)، وحسنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح (١/٣٣٦)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (487).
([3]) أخرجه البخاري (٤٦٠)، ومسلم (٩٥٦).
([5]) أخرجه البخاري (٤١٥)، ومسلم (٥٥٢).
([6]) انظر: طرح التثريب (2/ 382).
([7]) ينظر: منحة العلام شرح بلوغ المرام، لعبد الله الفوزان (ص: 386).
([9]) ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (5/ 38).
([10]) أخرجه البخاري (١٢١٣)، ومسلم (٥٤٧)، وأبو داود (٤٧٩) واللفظ له، وأحمد (٤٥٠٩).
([11]) ينظر: المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (4/ 98).
([12]) ينظر: ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 107).
([13]) ينظر: المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (4/ 98).
([14]) أخرجه البخاري (٤٠٦)، ومسلم (٥٤٧).
([18]) أخرجه ابن أبي شيبة (7553)، وأحمد (١٥٤٣)، والبزار (١١٢٧)، وحسن ابن حجر إسناده في الفتح (1/ 610).
([20]) ينظر: منحة العلام شرح بلوغ المرام، لعبد الله الفوزان (ص: 387).