الأحد - 01 جمادى الأول 1446 هـ - 03 نوفمبر 2024 م

دفاعٌ عن كَعْب الأحبار رحمه الله تعالى

A A

إنَّ للطاعنين في السنة النبوية من المستشرقين وغيرهم مداخلَ كثيرةً ولجوا منها لبثِّ شبهاتهم وتشكيك المسلمين بدينهم، منها ما يدَّعونه من أن مرويات السنة النبوية تتضمن أفكارًا موروثة عن ديانات سابقة تخالف الإسلام، وقد استدلّوا لذلك باشتمالها على روايات مسلِمَة أهل الكتاب. وستنتاول في هذه المقالة ما ذكروه بشأن كعب الأحبار رحمه الله تعالى.

من كعب الأحبار؟

يقول ابن عبد الهادي: (هو كعب بن ماتع الحِمْيَري، من أوعية العلم، ومن كبار علماء أهل الكتاب. أسلم في زمن أبي بكر، وقدِم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر، فأخذ عنه الصَّحابةُ وغيرهم. وأخذ هو من الكتاب والسنَّة عن الصَّحابة، وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعةٌ من التابعين مُرْسلًا، وله شيء في صحيح البخاري وغيره. رحمه الله)([1]).

وقال ابن حجر: (هو كعب بن ماتِع -بكسر المثناة بعدها مهملة- بن عمرو بن قيس من آل ذي رُعَين، وقيل: ذي الكَلَاع الحميري، وقيل غيرُ ذلك في اسم جدّه، ونَسَبِه. يُكنَى أبا إسحاق، كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجُلًا، وكان يهوديًّا عالمًا بكتبهم، حتى كان يُقال له: كعب الحبر، وكعب الأحبار، وكان إسلامه في عهد عمر، وقيل: في خلافة أبي بكر، وقيل: إنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتأخَّرَت هجرَتُه، والأوَّلُ أشهر، والثاني ‌قالَهُ ‌أبو ‌مُسهِر عن سعيد بن عبد العزيز، وأسنَدَه ابنُ منده من طريق أبي إدريس الخَوْلاني. وسكن المدينة، وغزا الروم في خلافة عمر، ثم تحوَّلَ في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها، إلى أن مات بحمص في خلافة عثمان سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وثلاثين، والأوَّلُ أكثر.

قال ابنُ سعد: ذكروه لأبي الدرداء فقال: إن عند ابن الحميرية لعلمًا كثيرًا. وأخرج ابنُ سعد من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: قال معاوية: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين([2]). وفي تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة من طريق بن أبي ذئب أنَّ عبدَ الله بن الزبير قال: ما أصبتُ في سلطاني شيئًا إلا قد أخبرني به كعبٌ قبلَ أن يقَع) ([3]).

إن كعب الأحبار رحمه الله تعالى هو ممن زكاه الصحابة ومدحوه؛ كما تراه منقولًا عنهم، وقد كان صادقَ الإسلام، والطعنُ فيه مكيدةٌ مهولة يُكاد بها الإسلام والسنّة -كما يقول المعلمي-، اخترعها بعض المستشرقين، وتبناها الطاعنون في السنة النبوية، وارتكبوا لترويجها ما ارتكبوا([4]).

والواقع أنّ تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع كعب وغيره يدلُّ على الإنصاف وإنزال أهل العلم منازلهم، وهو بعيد كلَّ البعد عن أن يكون مدخلًا للطعن في حفظهم للسنة.

وقد طعن بعض المبتدِعة في معاوية رضي الله عنه بسبب تحسُّره على لقاء كعب، فقال: (هل يجوز لصحابي مثل معاوية أن يتحسَّر على تابعيّ كان يهوديَّ المعتقد وجلّ علمه من الكتب المحرفة)([5])، وهذا جهلٌ منه بأنّ ذلك من التواضع المحمود ومن الحرص على العلم.

وقد كان عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يسألون كعبًا، فعن سالم بن عبد الله أن ‌كعب الأحبار قال لعمر رضي الله عنه: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، قال عمر: إلا من حاسب نفسه، فقال ‌كعب: إلا من حاسب نفسه. وكَبَّر عمر، وخَرَّ ساجدًا([6]).

وعن سعد الجاري مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب دعا أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب -وكانت تحته- فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا اليهودي -تعني كعب الأحبار- يقول: إنك على باب من أبواب جهنم، فقال عمر: ما شاء الله، والله إني لأرجو أن يكونَ ربي خلقني سعيدًا. ثم أرسل إلى كعب فدعاه، فلما جاءه كعب قال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، والذي نفسي بيده، لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنّة، فقال عمر: أي شيء هذا؟ مرة في الجنة، ومرة في النار! فقال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده، إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها، فإذا متّ لم يزالوا يقتحمون فيها إلى يوم القيامة([7]).

الطعن في السُّنةَ النبوية بحجّة أنها تتضمّن روايات عن كعب الأحبار:

يرى أصحاب هذه الشبهة أن الصحابة رضي الله عنهم تلقَّوا كل ما يلقيه كعب الأحبار -الذي كان يهوديًّا كما تقدّم- بغير نقد أو تمحيص، معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه؛ ما يعني تسرُّب كثير من الأفكار اليهودية غير الصحيحة إلى كتب السنة.

ولذا نحتاج إلى بيان حقيقة حال كعب رحمه الله، وما كان يرويه، وتعامل الصحابة رضي الله عنهم معه. وسنبين ذلك في المحاور الآتية:

أولًا: الصحابة رضي الله عنهم لا يروج عليهم الكذب:

حقيقةُ هذه الشبهةِ الطعنُ في السنة النبوية بالطعن في أجلِّ طبقات رواتها وهم الصحابة رضي الله عنهم، وذلك بسبب روايتهم عن كعب الأحبار، فإنَّ القول بأن كعب الأحبار وغيره من مُسلِمَة أهل الكتاب -كوهب بن منبه- كانوا يكذبون ويروج كذبهم على الصحابة رضي الله عنهم في دينهم فيه حطٌّ شديدٌ على الصحابة رضي الله عنهم، ورميٌ لهم بالغفلة وسوء الفِطنة.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في ردّه على أبي ريّة: (وهذا الذي قاله هنا رَجْمٌ بالغيب، وتَظَنٍّ للباطل، وحَطٌّ لقوم فتحوا العالم ودبَّروا الدنيا أحكمَ تدبير إلى أسفل درجات ‌التغفيل، كأنهم رضي الله عنهم لم يعرفوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ودينه وسنته وهديه، فقبلوا ما يفتريه عليه وعلى دينه إنسانٌ لم يعرفه. وقد ذكر أبو رية في مواضع حالَ الصحابة في توقف بعضهم عما يخبره أخوه الذي يتيقّن صدقه وإيمانه وطول صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل تراهم مع هذا يتهالكون على رجل كان يهوديًّا فأسلم بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنين، فيقبلون منه ما يخبرهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يُفسد دينه؟!

كان الصحابة رضي الله عنهم في غنى تامٍّ بالنسبة إلى سنة نبيّهم، إن احتاج أحدٌ منهم إلى شيء رجع إلى إخوانه الذين صحبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وجالسوه، وكان كعب أعقلَ من أن يأتيهم فيحدثهم عن نبيّهم وهو يعلم أنهم سيسألونه: من أخبرك؟ فإن ذكر صحابيًّا سألوه فيبين الواقع، وإن لم يذكر أحدًا كذَّبُوه ورفضُوه)([8]).

ولذلك أخرج حديث كعب الأحبار أئمةُ الحديث ونُقادُه في كتبهم كالبخاري وأبي داود والترمذي والنسائي.

كما أن النقاد والأئمةَ كانوا قد فطنوا إلى ما يقع من غلط من بعض الرواة فيما يروونه عن كعب رحمه الله، ويهِمون فيه، فعن بسر بن سعيد قال: (اتّقوا الله وتحفَّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نُجَالِسُ أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله، ويحدثنا عن ‌كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ‌كعب، وحديث ‌كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)([9]).

ثانيًا: الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أن أهل الكتاب قد بَدَّلُوا وحَرَّفُوا، فكانوا ينتقدون ما يأتي عنهم ويمحّصونه:

فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم»([10]).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابُكُم الذي أُنزِلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرؤُونَه محضًا لم يُشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيروه؟!»([11]).

وعن معاوية رضي الله عنه ذكر كعب الأحبار فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب»([12])؛ أي: نجد بعض ما يخبرنا عنه يقع بخلاف ما يخبرنا به، ويقع ذلك خطأ منه، أو لأن بعض ما يخبر به محرَّف في الأصل، وليس المراد أنه يتعمد الكذب([13]).

وكان عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما صحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يسمّيها الصادقة([14])؛ تمييزًا لها عن صحف كانت عنده من كتب أهل الكتاب([15]).

وقد زعم كعب أن ساعة الإجابة في يوم الجمعة إنما تكون في جمعة واحدةٍ من السنة، أو في جمعة واحدة من الشهر، فَرَدَّ عليه أبو هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما بخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في كلّ يوم جمعة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه»، قال كعب: ذلك في كلّ سنة مرة، فقلت: بل هي في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، قال عبد الله بن سلام: كذَب كعب، ثم قرأ كعب التوراة فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب([16]).

فهذه القصّة شاهدٌ جليٌّ على أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمحِّصون ما يرونه عن كعب الأحبار، ولا يقبلون كلّ ما رواه، وإن كان كعب مِن أجود مَن ينقل عن أهل الكتاب كما قال ابن كثير([17])، وقد ذكر الذهبي أن وهب بن منبه قد يكون أوسعَ دائرة منه([18]).

والصحابة رضي الله عنهم وإن كان بعضهم يروي وينقل عن كعب الأحبار رحمه الله، ولكن غاية ما في ذلك تصديقُه في أن هذا الخبر موجود في صحف أهل الكتاب، وهذا لا شيءَ فيه، ولا يدلّ على اعتقاد عدم تحريف تلك الكتب، ولا على عدم نقد الصحابة رضي الله عنهم وتمحيصهم.

يقول الشيخ المعلمي: (أما من أسلم من أهل الكتاب وظهر حُسْنُ إسلامه وصلاحُه، فأخبر عن صحف أهل الكتاب بشيء، فلا إشكال في تصديق بعض الصحابة له في ذلك، بمعنى ظنّ أن معنى ذاك الخبر ‌موجود ‌في ‌صحف ‌أهل ‌الكتاب، وإنما المدفوع تصديق الصحابة ما في صحف أهل الكتاب حينئذٍ، مع علمهم بأنها قد غُيِّرت وبُدِّلت)([19]).

ثالثًا: المادّة التي نقلها كعب الأحبار هي الحكايات عن صُحُفِ أهل الكتاب، وأشياء من قوله في الحكمة والموعظة، ولم تكن مادَّةً كيديَّةً لأهل الإسلام:

فكعب الأحبار رحمه الله تعالى إنما كان يعرف الكتبَ القديمة، فكان يحدِّث منها بآداب وأشياء في الزهد والورع، أو بقصص وحكايات تناسب أشياء من القرآن أو السنة، وإن لم تكن تقوم بها حجة استقلالًا، فهذا نوعٌ مما كان يرويه.

وممّا يرويه كعب الأحبار من صحف أهل الكتاب ما يتضَمَّنُ كَذِبًا وتحريفًا، وهذا لا يقدح فيه، إذ كان الصحابة رضي الله عنهم يميّزون ذلك ويعلمونه كما تقدّم عن معاوية رضي الله عنه وغيره. قال ابن تيمية: (ومعلوم أنّ عامة ما عند كعب أن ينقل ما وجده في كتبهم، ولو نقل ناقل ما وجده في الكتب عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم لكان فيه كذب كثير، فكيف بما في كتب أهل الكتاب مع طول المدة، وتبديل الدين، وتفرُّق أهلِه، وكثرةِ أهل الباطل فيه)([20]).

وفيما يرويه كعب الأحبار مادّة نافعةٌ في مناظرة أهل الكتاب ومخاطبتهم، كالذي يرويه في إخبار التوراة بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَسْتَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا). قَالَ عَطَاءٌ: لَقِيتُ كَعْبًا فَسَأَلْتُهُ، فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ، إِلَّا أَنَّ كَعْبًا يَقُولُ بِلُغَتِهِ: أَعْيُنًا عُمُومَى، وَآذَانًا صُمُومَى، وَقُلُوبًا غُلُوفَى([21]).

قال البيهقي رحمه الله عقبه([22]): (فهذان عالمان من أهل الكتاب شَهِدَا ببعض ما وَجَدَا في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في فائدة هذا النوع من الأخبار التي يرويها مُسلِمةُ أهل الكتاب: (وإذا حصَل مِن مُسْلِمَة أهل الكتاب الذين عَلِمُوا ما عندهم بلُغَتِهم وترجموا لنا بالعربية انتُفِع بذلك في مناظرتهم ‌ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سَلام وسلمانُ الفارسي وكعبُ الحَبْر وغيرُهم يحدِّثون عما عندهم من العلم، وحينئذٍ يُسْتَشْهَدُ بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكونُ حجةً عليهم من وجهٍ وعلى غيرهم من وجهٍ آخر، كما بيَّناه في موضعه)([23]).

ولو كان كعبٌ -كما زعمه بعضهم- مُنافقًا مُصرًّا في الباطن على اليهودية مُتَعَصِّبًا لها فليس من المعقول أن يكذب للمسلمين بما يزيدهم ثباتًا على الإسلام وحنقًا على اليهود.

ولو فرضنا أيضًا أنه كان يكيد للإسلام؛ فماذا كان عاقبة وثوق المسلمين به؟! إن غاية ما يفيده وثوقهم هو تصديقهم له في أن ما يحكيه عن كتب أهل الكتاب موجود فيها، ولم يكن هذا ليفيده شيئًا لو كان منافقًا؛ لأنه يعرف أن المسلمين يعتقدون أن كتب أهل الكتاب محرفة مبدلة([24]).

ولا يشترط أن نجدَ اليوم في التوراة المحرَّفة تلك النصوص التي ذكرها كعب، ولا أن نجعل ذلك سببًا للطعن فيه، وفي ذلك يقول الشيخ المعلمي: (وما صحَّ عنه من الأقوال ولم يُوجَد في كتب أهل الكتاب الآن ‌ليس ‌بحجة ‌واضحة على كذبه؛ فإن كثيرًا من كتبهم انقرضت نُسَخُها، ثم لم يزالوا يحرّفون ويبدّلون، وممن ذَكَر ذلك السيد رشيد رضا في مواضع من التفسير وغيره)([25]).

اعتماد روايات كعب الأحبار في تقرير اعتقاد أهل السنة في الصفات:

وفي المادّة التي كان ينقلها كعب الأحبار رحمه الله تعالى من كتب أهل الكتاب ما يؤيد عقائد أهل السنة والجماعة، ولهذا احتجّ أئمة السنة على مخالفيهم بما ينقله كعب في إثبات صفة العلوّ، كما طعن المبتدعة في كعب الأحبار بسبب رواياته تلك([26]).

عن عطاء بن يسار قال: أَتَى رَجُلٌ كَعبًا وهو في نَفرٍ، فقال: يا أبا إِسْحَاقَ، حَدِّثْنِي عن ‌الجَبَّار، فَأَعْظَمَ القَوْمُ قولَهُ، فَقَالَ ‌كَعْبٌ: دَعُوا الرَّجُلَ؛ فإِنْ كَانَ جَاهِلًا تَعَلَّم، وإن كَانَ عَالمًا ازداد عِلْمًا، ثم قال ‌كَعْبٌ: أُخْبِرُكَ أنَّ اللهَ خَلَقَ سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، ثم جعل ما بين كلِّ سماءين كما بين السماءِ الدُّنيَا والأرض، وكثفهن مثل ذلك، ثم رفع العرش، فاستوى عليه، فما في السماوات سماءٌ إِلَّا لها أَطِيطٌ كَأطِيطِ الرَّحْلِ العلافي أول ما يرتحل، من ثِقَلِ ‌الجبَّارِ فَوْقَهُنَّ)([27]).

قال شيخ الإسلام: (وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب؛ فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب، ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة، ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا يدافعها، لا يصدقها، ولا يكذبها، فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجَلِّ الأئمة، وقد حدَّثُوا به هم وغيرُهم، ولم ينكروا ما فيه من قوله: من ثقل الجبار فوقهن، فلو كان هذا القول منكَرًا في دين الإسلام عندهم لم يحدِّثوا به على هذا الوجه)([28]).

وعن سعيد بن المسيب، عن كعب قال: قال الله في التوراة: (أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أُدبّر أمور عبادي، لا يخفى عليّ شيء من أمر عبادي، في سمائي ولا في أرضي، وإليَّ مرجع كلّ خلقي، فأنبئهم بما خفِي عليهم من علمي، أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي، وأعاقب من شئت بعقابي)([29]).

وعن كعب الأحبار قال: (للذكْر دويٌّ حول العرش كدويّ النحل بذكر صاحبه)([30]).

فهذه الآثار عن كعب الأحبار يذكرها أهل السنة في تصانيفهم في تقرير صفَة العلو لله تعالى على خلقه، وهي موافقةٌ لعقائد أهل الإسلام.

وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) طبقات علماء الحديث (1/ 105).

([2]) الطبقات الكبرى (2/ 358).

([3]) فتح الباري (24/ 182-183).

([4]) ومن المؤسف أن هذه الشبهة تبنّاها السيد محمد رشيد رضا، وكثر كلامه في مجلة المنار في الطعن في كعب الأخبار؛ في إسلامِه ودينه وأمانته. انظر: آراء محمد رشيد رضا في قضايا السنة النبوية من خلال مجلة المنار، لمحمد بن رمضان رمضاني (ص: 351-367).

([5]) مقدمة حسن السقاف لكتاب العلو للذهبي (ص: 23).

([6]) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (ص: 59).

([7]) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 332).

([8]) الأنوار الكاشفة -ضمن مجموع آثار المعلمي- (12/ 145).

([9]) أخرجه مسلم في التمييز (ص: 128).

([10]) أخرجه البخاري (4485).

([11]) أخرجه البخاري (7363).

([12]) أخرجه البخاري (7361).

([13]) انظر: فتح الباري (24/ 182).

([14]) سنن الدارمي (513)، تقييد العلم للخطيب البغدادي (152).

([15]) الأنوار الكاشفة -ضمن مجموع آثار المعلمي- (12/ 134).

([16]) أخرج أبو داود (1046)، والنسائي (1430)، والترمذي (491)، وأحمد (10303)، وغيرهم، وصححه الترمذي، وابن حبان (2772).

([17]) البداية والنهاية (3/ 36).

([18]) العلو للعلي الغفار (ص: 130). وانظر: العلل -رواية عبد اللَّه- (81).

([19]) الأنوار الكاشفة -ضمن مجموع آثار المعلمي- (12/ 183).

([20]) مجموع الفتاوى (15/ 151-152).

([21]) أخرجه أحمد (6622)، وهو في صحيح البخاري (2125) بدون كلام كعب الأحبار.

([22]) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد -ط: دار الفضيلة- (ص: 342). وانظر: دلائل النبوّة للبيهقي (1/ 374-375).

([23]) الانتصار لأهل الأثر (ص: 161).

([24]) مستفاد من كلام الشيخ المعلمي في الأنوار الكاشفة -ضمن مجموع آثار المعلمي- (12/ 143-144).

([25]) الأنوار الكاشفة -ضمن مجموع آثار المعلمي- (12/ 136).

([26]) انظر: مقدمة السقاف لكتاب العلو للعلي الغفار للذهبي (ص: 121-124).

([27]) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (88)، وأبو الشيخ في العظمة (234) وصحح ابن القيم إسناده في اجتماع الجيوش (ص: 400).

([28]) بيان تلبيس الجهمية (3/ 268).

([29]) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (244)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (137)، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 402).

([30]) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 4-5).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017