العلامة الرحالة المجاهد بلسانه وقلمه محمد سلطان المعصومي 1297هـ/ 1880م – 1380هـ/ 1960م
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
العلامة المعصومي هو أحد الرموز الغائبة عن أذهان الناس، خاصة أن موطنه الأصلي من بلاد ما وراء النهر([1]).
وتاريخ هذه البلاد الإسلامية لا يزال مجهولا لدى كثير من المسلمين، خاصة بعد الاحتلال الشيوعي الروسي لهذه البلاد الإسلامية بداية من سنة 1917، والذي شهد الكثير من الكوارث الدموية على يد الشيوعيين بحق المسلمين ومحاربة الإسلام ونشر الإلحاد الذي قاومه العلامة المعصومي بكل قوة، وبسبب ذلك حكم عليه بالإعدام مما دفعه للهرب -عدة مرات- إلى بعض البلاد المجاورة، وكلما سيطر الشيوعيون على بلد هرب منه حتى هاجر إلى مكة واستقر بها حتى وفاته، وقد ألّف المعصومي في بيان حقيقة الشيوعية وجرائمها بحق المسلمين عدة كتب.
وفي سيرة المعصومي بيان لجزء من قصة مأساة الإسلام والمسلمين المنسية على يد الشيوعية وكيف أنها زحفت من بلد إلى بلد وخدعت السذج من المسلمين برفع شعارات الإسلام ثم ذبحتهم وفرضت عليهم الموت والنفي والسجن والكفر.
تميزت حياة المعصومي بالرحلة الطويلة في طلب العلم وفي بلاد مختلفة مما يذكرنا بقصص السلف في الرحلة في طلب العلم والحديث، وتميزت كذلك بالهداية الربانية له لمنهج السلف ومن ثم التوفيق لدعوته ونصرته بكل ما يملك والتوفيق الرباني بحصول الاستجابة له، وتميزت من ثم بالجهاد والهجرة وترك الوطن والأهل والأموال في سبيل الله فرارًا من الإبادة الشيوعية ومواصلة الدعوة والتعليم والتأليف لنصرة منهج الكتاب والسنة حتى الموت.
اسمه ومولده ونشأته:
هو أبو عبد الكريم محمد سلطان بن محمد أورون بن محمد ملا مير سعيد المعصومي، نسبة إلى جده الأعلى محمد معصوم، وله كنيتان: أبو عبد الكريم باسم ولده الأول، وأبو الأنوار التي كنّاه بها شيخه في مكة الشيخ محمد صالح كمال.
ولد المعصومي في خجندة سنة 1297هـ/ 1880م لعائلة صالحة وثرية تكفلت بمصاريف سفره لطلب العلم، وخجندة هي من مدن منطقة فرغانة، فيما وراء النهر، وتقع على الضفة اليسرى لنهر سيحون.
وقد اعتنى به والداه فعلّماه القراءة والكتابة ومبادئ العلوم، وذلك باللغة الفارسية أولاً، وهي لغة تلك البلاد، فقرأ ودرس عددا من المتون والكتب، ثم تعلم التركية، لغة أهل الصحاري والقرى هناك، وقرأ كثيرا من الكتب التركية، كما علّماه القرآن الكريم.
ثم شرع بتعلم العربية على بعض علماء بلده فقرأ الصرف والنحو على يد ملا صابر وملا عبدالله، والفقه والمنطق والأصول والعقائد الكلامية.
ثم سافر إلى خوقند([2]) وبخارى، ومكث فيهما سبع سنين، حيث واصل طلب العلم على طريقة أهل عصره فقرأ كتب علم الكلام وعقائد الماتريدية والأشعرية وعلم الفلسفة والفقه الحنفي وشيئًا من التفسير وشرح الأحاديث، حتى حاز ختم الكتب المتعارف عليه هناك، وأجازه علماؤها وكتبوا له سند الإجازة، كالشيخ العلامة محمد عوض الخجندي البخاري، والشيخ عبد الرزاق المرغيناني البخاري، ودرس كثيرا من كتب التصوف.
وكان حاله كحال غالب المنتسبين للعلم: “فعند ذلك ظننا أنفسنا أننا بلغنا أقصى غايات الكمال، فكبرنا العمائم ووسعنا الأكمام وطولنا الذيول، فصرنا ندعي أننا ورثة الأنبياء! وأن العوام كالخدام بل العبيد لنا”، وهذا الحال من الغرور والعجب والتكبر على عباد الله هو مما يبغضه الله عز وجل وهو مما يدل على فساد عملية التعلم هذه وغياب غايتها وهو تقوى الله عز وجل، ونتيجة هذه الأحوال المزرية بين المعلمين والمتعلمين كان الانحطاط والجهل والخرافة والبدعة هي السائدة في مجتمعات المسلمين مع الأسف.
ويقول المعصومي عن أحوالهم في تلك المرحلة: “كنا نعتقد أن المسلم هو الذي تمذهب بمذهب
الحنفية، وأما أهل سائر المذاهب فمخطئون خارجون عن الحق … ومن نتائجه أنا كنا نعتبر غير الحنفي ليس بمسلم، ولا يجوز العمل بغير مذهب أبي حنيفة”!!
ألف المعصومي -في تلك المرحلة- بعض الكتب وكان يعرّف نفسه فيكتب: “محمد سلطان بن عبد الله الخجندي الماتريدي الحنفي النقشبندي”.
وبقي على هذا الحال منشغلا بالقراءة والتدريس حتى قويت معارفه ورسخت أقدامه في العلم وعلت مكانته وأصبح من علماء بلده، وكان عمره –آنذاك- 23 سنة.
بداية مرحلة التحرر من التقليد والانطلاق نحو الإصلاح:
لكن مع كثرة المطالعة وزيادة العلم والفهم والنضج زادت شكوكه في بعض ما رسخ بين الناس من التعصب لآراء الرجال والمذهب، لأنه وجد في كلام العلماء المحققين في الكتب ما يخالف ويعارض هذا التعصب الأعمى الذي كان ينكره حتى الأئمة الأربعة أرباب المذاهب نفسها، بل إن في ذلك معارضة صريحة لآيات القرآن المجيد وأحاديث النبي الكريم، فبدأ بالصدع بالحق ورفض الباطل مهما كان رسوخه.
ويحدثنا المعصومي عن ذلك فيقول: “ولكني لمّا حصلت العلوم والفنون بحول الله وقوته وهدايته وتوفيقه وحصلت لي ملكة المطالعة وحزت ختم الكتب المتعارف عليه هناك، وكان عمري إذ ذاك ثلاثا وعشرين سنة، ظهر لي خطأ بعض المؤلفين، وتعصبهم على ما عليه ائتلفوا، وتعارض ما حرروا ومناقضة بعضه بعضا … فأعلنت ذلك في الملأ من الناس وشرحت المسألة وما عليه أهل ما وراء النهر ومن وافقهم … فصاح العلماء والمشايخ وحملة العمائم الكبار، وقالوا إنما نعمل بقول علمائنا، على ما وجدنا عليه مشايخنا وسلفنا، ولا يجوز الأخذ والعمل بالقرآن والحديث لأن ذلك وظيفة المجتهد، وقد انقرض وانسد باب الاجتهاد.
فقلت إن الشيطان … أغواكم … فأدلاكم في هاوية الكفر وأنتم لا تشعرون، ولا شك أن مَن يحرّم الحلال يكفر فكيف من يحرم السنة الثابتة، وكيف من يقول ويعتقد أنه لا يجوز العمل بالقرآن والحديث ويرجح قول الميتين غير المعصومين على قول المعصوم؟ فما هذا إلا بلاء ومصيبة ابتلي بها من استحق غضب الله فإنا لله وإنا إليه راجعون”.
ومن هنا بدأ الصراع بينه وبين علماء الجهل والتقليد الذين رفضوا التراجع عن الخطأ وتعصبوا لما ورثوه عن السابقين، وبرغم أنه كان يدعوهم لأنوار الوحي في القرآن والسنة إلا أنهم رفضوا ذلك بشدة.
ولما زاد الخصام والخلاف بينه وبين المتعصبة والمقلدة ضاق بهم ذرعًا وقرر السفر، يقول المعصومي: “فلما آل الأمر أخيراً إلى الجدال عزمت على السفر إلى الحجاز وترك بلاد بخارى وما وراء النهر، وقلت: هذا فراق بيني وبينكم إلى أن يصلحني الله تعالى وإياكم”.
وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياة المعصومي زادته علما ومعرفة وهداية واتباعا للقرآن والسنة والتزاماً بمنهج السلف الصالح بعد أن ظهرت له الدلائل القوية على صحة منهج السلف وبطلان منهج التعصب والتقليد والتصوف الضال والعقائد البدعية.
رحلته الكبيرة لطلب العلم:
قلنا إن العلم والمطالعة بتوفيق الله عز وجل كانا هما شرارة الهداية للمعصومي من أوحال وأغلال التقليد والتعصب المذهبي المقيت، ولكن نضجت هدايته واكتملت في رحلته لطلب العلم والتي زار فيها مكة والمدينة ودمشق وبيروت وبيت المقدس والقاهرة والإسكندرية وأثينا وإسطنبول، سوى المدن التي مر بها خلال سفره في الطريق، والتقى في هذه المدن بعلماء كثر مختلفي المشارب والمناهج، فضلا عن العلماء المصلحين الذين تركوا بصمات مهمة في تاريخ النهضة الإسلامية المعاصرة، مما وضح له السبيل وأبان له الحقيقة بجلاء واختصر له الزمن والطريق، وستأتي بعض أسمائهم وأخبارهم.
وكان سافره إلى الحجاز سنة 1323هـ عبر ركوب القطار والباخرة والمرور بعدة مدن كتفليس في جورجيا ثم يالطا في شبه جزيرة القرم ثم أوديسا في أوكرانيا ثم نزل بإسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، وهناك صدم أن البدع منتشرة كما هو الحال في بلده التي خرج منها غاضبا على بدع أهلها كصلاة الظهر احتياطا بعد صلاة الجمعة!
وفي جامع يلدز -الذي كان يصلي فيه السلطان عبد الحميد الثاني- ناقش الإمام ومن معه ولكنه وجدهم مقلدة متعصبين كحال علماء بلده، وساءه خيانة التجار وغشهم للناس وخاصة الحجاج العابرين، فرحل من إسطنبول وفي قلبه غصة، وركب الباخرة للإسكندرية والسويس، ومنها إلى مكة المكرمة.
إقامته بمكة:
وصل إلى مكة في نفس العام وأدرك فريضة الحج، وأقام في الحجاز ثلاث سنوات يطلب الزيادة في العلم من شيوخها والعلماء القاطنين فيها، وهم في الأصل من بلاد كثيرة ومختلفة والتقى كذلك بالكثير من العلماء القادمين إلى مكة في مواسم الحج والعمرة.
فدرس هناك على الشيخ محمد كمال الذي قال عنه: “ومن العلماء الذين عرفتهم في مكة في ذلك الوقت، مفتي الأحناف الشيخ محمد صالح كمال … وأحبني وكنّاني بأبي الأنوار، وكان يكره وينكر بعض المظاهر المخالفة للشرع في البلد الأمين في أيامه”.
والتقى بالشيخ حسيب الله والشيخ محمد سعيد بابصيل الذي قال عنه: “وكان صوفي المشرب، وكتب بيده وقلمه نصائح كالدرر البيضاء وكتب لي سند الإجازة”، والشيخ عبد الحي المكناسي وغيرهم.
وممن التقاه في مكة الشيخ محمد معصوم بن عبد الرشيد المجددي النقشبندي، وهناك أخذ عنه الطريقة النقشبندية، إذ كان لا يزال في بداية طريق العلم الحقيقي بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ويشرح لنا المعصومي سبب دخوله في الطريقة النقشبندية فيقول: “ولما كان عامة العلماء والمشايخ قائلين بلزوم البيعة على شيخ من مشايخ الطرق، وعاملين بها في سائر البلدان، وكنت أنا من جملتهم متوغلا في مطالعة كتب التصوف … وكانت الطريقة النقشبندية من بين سائر الطرق أعدلها وأقومها حسب دعوى أهلها أنها مبنية على اتباع الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة مع اجتناب البدع … فبناءً على هذه المقالات الحقة التي زخرفوا بها طريقتهم دخلتُ في هذه الطريقة، وبايعت على يد الشيخ محمد معصوم المذكور، فعلمني كيفية السلوك، وأمرني بالذكر بتكرار الاسم المفرد اسم الذات (الله) لاصقا اللسان بالحنك الأعلى! … ثم رقاني بعد أشهر إلى لطيفة السر، ثم إلى الروح، ثم إلى الخفي، ثم إلى الأخفى، ثم إلى لطائف عالم الأمر…”.
لكنه -مع ذلك- كان في صدره تردد وشك في بعض مبادئ وأعمال الصوفية، يقول المعصومي عن حاله تلك: “ولكن مع ذلك كان قلبي ينفر عن بعض تعاليمهم كتكرار الاسم المفرد والمراقبة والمرابطة، وملاحظة صورة الشيخ والاستمداد من روحانية مشايخهم وأمثال ذلك، ولكن مع هذا التنفر ما كنت أقدر على إظهار ما في الوجدان لارتكاز عادة التقليد في القلب، بل كنت أفتخر أني نقشبندي المشرب وماتريدي المعتقد وحنفي المذهب”.
والتقى هناك بالشيخ أبي شعيب الدوكالي المغربي، المصلح المعروف، وقال عنه: “وكان علامة مشهورا قرأت عليه في المسجد الحرام صحيح البخاري وصحيح مسلم وموطأ الإمام مالك قراءةَ بحث وتحقيق، وكنت حضرت في بيته في درسه لمشكاة المصابيح واستفدت منه كثيرا وانتفعت به عظيما، وقرأت لديه مصطلح الحديث في أيام الصيف في الطائف وكان من أهل العمل بالكتاب والسنة وكان يحذرني من التعصب، ويحرّضني على العمل بالكتاب والسنة”.
ومع انشغال المعصومي بالعلم الحقيقي في مكة، وهو علم الكتاب والسنة، تبينت له حقائق أنوار الوحي الرباني، فيقول: “ثم فتح الله تعالى عليّ بعلم القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو تنزيل من رب العالمين، وبعلم السنة التي هي كلام سيد المرسلين وسيرته صلى الله عليه وسلم، وما عمله خلفاؤه الراشدون، رضي الله عنهم، واستعنت بالله وانهمكت في مطالعة كتب التفسير وكتب الحديث”.
هنا بدأ يترسخ في وجدان المعصومي خطر التعصب المذهبي وأثره في تفرق المسلمين حيث “أن بعضا منهم -المتعصبة- أفتى بأنه لا يجوز الاقتداء في الصلاة خلف من هو على غير مذهبه … فحدثت منها بدعة المقامات للمذاهب الأربعة في الحرمين، فكنت أرى الحنفي لا يقتدي بالشافعي، ويجلس بين الصفوف ينتظر جماعة مذهبه!
فلما رأيت هذا في المسجد الحرام الذي هو أفضل المساجد على الإطلاق تحيرت واسترجعت وقلت: وامصيبتاه”.
رحلته إلى المدينة:
وبعد إقامته أكثر من سنتين في مكة رحل للمدينة وأقام بها عدة أشهر والتقى فيها بالشيخ عبدالله صوفان القدومي، مفتي الحنابلة في بلاد الشام.
واستفاد كذلك من الشيخ خليل الخربوطي مفتي الأحناف في المدينة، حيث درس عليه بعض كتب الحنفية وناقشه في مسائل كثيرة فيها، وما احتوته من مسائل ومغالطات مخالفة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويروي لنا المعصومي حوارا ظريفا مع شيخه خليل الخربوطي حول الهفوات في كتب متأخري الأحناف فيقول: “الشيخ كان -رحمه الله- متساهلا فيها، ويرى الاعتراض عليها سوء أدب ويقول: حِفظ الأدب مع الأكابر واجب على الأصاغر، فنحن نقتطف من ثمار بساتينهم وننتفع بما في سماطهم ونأكل مما طبخوا من الأطعمة من غير أن نسأل: من أين هو … فقلت له متضاحكا: نعم يا شيخنا نقتطف من بساتينهم المستوى الناضج منها، وأما السيء أو المتفسخ المتغير فلا نأخذه، نعم نأكل مما طبخوا من الأطعمة الطيبة اللذيذة، وأما المحترق والمتغير منها فاجتنبه كما تجتنب شرب الخمر … فقال الشيخ: يا ولدي إنك لجريء، وإني أرى أن التسليم للأكابر أسلم والسكوت عمّا صدر عنهم من الهفوات والغلطات”.
سفره إلى دمشق:
ثم سافر للشام تقريبا في نهاية سنة 1325هـ، بعد إقامة قريبة من ثلاث سنوات في مكة والمدينة حج فيها وزار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وطلب العلم على من فيها أو وفد إليها من مشاهير العلماء.
ويبدو أنه في هذه المرحلة قد تحرر من التعصب الفقهي المقيت، وكذلك ظهر له مخالفة التصوف للحق في كثير من مبادئه وطقوسه وهو الأمر الذي سيظهر في زياراته القادمة لدمشق ومصر وتركيا.
في دمشق نزل في دار الحديث الأشرفية وكان المدرس فيها الشيخ بدر الدين يوسف الحسني والشيخ عبد الحكيم القندهاري، فأخذ عنهما علومًا جمة واستفاد كذلك من الشيخ أبي الخير بن علاء الدين بن عابدين والسيد عارف المنير وغيرهم، وأقام بدمشق أشهرا معدودة، وهناك أنكر ورفض ما يفعله أتباع الطريقة المولوية الصوفية من الرقص الذي يسمونه ذكرا وعبادة، وأنكر على أتباع الطريقة الرفاعية ما يقومون به من أذكار وحركات إبليسية.
وهذا يشير بقوة إلى أنه تحرر من أغلال البدع والشركيات الصوفية والتزم نهج السلف الصالح والعلماء المحققين باتباع الكتاب والسنة.
سفره إلى بيروت:
ثم سافر إلى بيروت وقابل فيها الشيخ يوسف النبهاني والذي وصفه بقوله: “وكان صوفي المشرب كما هو المعروف والمشهور بينهم في ذلك العهد وقد غلب عليه مشرب ابن عربي الطائي وابن الفارض وكان يُظهر المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا زائدًا يؤدي للغلو والتجاوز عن الحد المشروع”.
وقابل أيضًا الشيخ عبد الرحمن الدرويش الحوت الذي أكد عليه التزام العمل بالكتاب والسنة ونبذ التعصب للمذاهب والأئمة، ثم واصل سفره إلى بيت المقدس لزيارة المسجد الأقصى وبقي هناك عدة أيام ومنها انطلق إلى مصر.
وصوله لمصر:
لما وصل إلى القاهرة سنة 1326هـ، نزل بالجامع الأزهر في الرواق السليماني، وفي مصر قابل العديد من العلماء والمصلحين الكبار، وطالع واقتنى الكثير من الكتب والمخطوطات والمجلات، وتعرف على بيئة جديدة لم يكن له بها صلة من قبل، وقد تركت هذه الزيارة آثارا مهمة على شخصية المعصومي بقيت معه بقية عمره.
ففي مصر صحب واستفاد من العلامة محمد بخيت المطيعي الحنفي الذي أصبح لاحقاً مفتي الديار المصرية والذي قال عنه المعصومي: “كنت أتذاكر معه في كثير من المباحث الأصولية والفروعية وكان يميل إلى مذهب التأويل في الصفات وأنا كنت أعارضه بما صرح به الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، في الفقه الأكبر والفقه الأوسط والعالم والمتعلم من رواية أبي مطيع البلخي ومع شرح الملا علي القاري عليه”.
وبهذا يتبين التزامه منهج إثبات الصفات وهو منهج السلف.
وقابل المصلح الشهير العلامة محمد رشيد رضا وطالع مجلته “المنار” ثم اقتنى كافة أعدادها واشترك فيها ليحصل على أعدادها القادمة.
ومن هنا يتبين الدور المركزي الذي قامت به الصحافة الإسلامية في نشر العلم الصحيح والمنهج القويم وساهمت في نهضة الأمة وتأسيس الصحوة الإسلامية ونشرها في ربوع بلاد الإسلام، من خلال استقطاب النخب المتميزة ومن ثم توعيتهم، ومن خلالهم يتم بث دعوة الإصلاح في محيطهم العام، وبيّن المعصومي أثر رشيد رضا عليه فقال: “وممن عرفتهم وانتفعت بهم وبعلومهم الشيخ السيد محمد رشيد رضا… خدم الإسلام خدمات جليلة بتآليفه القيمة وإرشاداته النافعة ومواعظه الثمينة، فهو -رحمه الله- قد أسس مجلة المنار وأسس دار الإرشاد، فكان ينشر الأفكار الناضجة في مجلة المنار شهريا … وقد انتفعت بكتبه انتفاعا عظيما فجزاه الله خيرا”.
ويواصل المعصومي حديثه عن انتفاعه بالمطالعة لعدد من الأئمة بعد ذكره رشيد رضا فيقول: “كما انتفعت بكتب شيوخ الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري أولاً، وبكتب أحمد بن تيمية وابن القيم ثانياً، وبكتب كمال الدين بن الهمام السيواسي وبير علي البركوي ومحمد بن عبد الوهاب النجدي ثالثا، رحمة الله على الجميع”.
فهناك تتبع ما طبع من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وما طبع من كتب محققي العلماء في المذاهب الأربعة، ويبدو أن والده لم يقطع عنه العون المالي، حيث يقول المعصومي: “ومجموع الكتب التي اشتريتها من هناك أكثر من ألف مجلد سوى الرسائل والمجلات”، وهذه الكمية تحتاج لثروة كبيرة في ذلك الزمن، كما أن مصاريف نقلها من القاهرة إلى بلده خجندة وراء النهر تحتاج كلفة عالية أيضا.
وهنا يظهر أن المعصومي بعد هذه المدة في طلب العلم والقراءة واللقاء بالعلماء والمصلحين في عدد من البلاد قد التزم منهج السلف في المعتقد والمنهج والفقه وبذلك تكون اكتملت لديه الرؤية الإصلاحية وأصبح يبحث عن مراجع وكتب العلماء المحققين وانعكس ذلك بكل وضوح على تدريسه ودعوته وعلى كتبه ومؤلفاته بعد ذلك، كما أن اشتراكه في مجلة المنار وأخواتها يشير إلى تقبله أفكار دعاة الإصلاح والنهضة الإسلامية، وهذا ما سيتضح أكثر في تصديه لمؤامرات وأكاذيب الشيوعية ثم مقاومتها بكل ما يملك من قوة.
وفي إقامته في مصر زار الإسكندرية، وأنكر ما شاهده فيها من مظاهر الشرك أو الفجور، مما يجري حول شبابيك قبر الحسين المزعوم أو قبر السيدة زينب والقرافة من الاستغاثة بهم من دون الله وكثير من التصرفات المنافية للدين والسنة النبوية من الاختلاط وشرب الحشيش وترك الصلاة، أو ما يقوم به السفهاء من الرجال والنساء في الحمامات العامة من كشف العورات والتبرج.
المعصومي في إسطنبول:
ومن مصر سافر إلى عاصمة الخلافة العثمانية إسطنبول، مرورا باليونان وعاصمتها أثينا، ومكث هناك عدة أشهر أخذ العلم عمن فيها من العلماء المشاهير وتحصل على إجازاتهم كالشيخ إسماعيل حقي المناسترلي، والشيخ جمال الدين الحنفي، ثم عاد إلى وطنه ومسقط رأسه خجندة.
ويقول المعصومي عن حصيلة هذه الرحلة: “وبالجملة إني قد أخذت عن مائة شيخ تقريبا”.
وتعدد هؤلاء الشيوخ سيكون له أثر كبير في كسب مقدار كبير من العلم والخبرة والتجارب والحكمة، فإن هؤلاء الشيوخ مختلفو المشارب والتوجهات، لكنه انتفع من الجميع مع التزامه منهج السلف الصالح، فأخذ الحق والعلم حيثما وجده وطرح ما خالف الدليل مع التقدير والاحترام والدعاء لهم حتى لو خالفهم وعارضهم، بل وحذر من بعض كلامهم الذي يراه باطلا كما فعل مع شيخه النبهاني مثلا حيث حذر من تأييده لبعض الأذكار المكذوبة والبدع الباطلة.
العودة إلى بلده خجندة وبداية الإصلاح:
وبعد سنوات من السفر عاد المعصومي إلى بلده، بعد أن ترك منهج التقليد والتعصب المذهبي وترك التصوف وبدعه وتجاوز علم الكلام وعقيدة التأويل والتزم منهج السلف في معتقده ومنهجه، وأصبح أكثر علما ومعرفة وإدراكًا لمعوقات عملية الإصلاح التي تحتاجها أمه الإسلام.
وحين عاد إلى بلده واستقرّ بها فرح به أبواه، وبنى له أبوه مدرسة ليدرس فيها ويتفرغ للتعلم والتعليم خاصة أن المعصومي قد جلب معه مكتبة ضخمة نفيسة من القاهرة فانكبّ على المطالعة والبحث والكتابة والتأليف والتدريس، قال المعصومي: “فبنى والدي -رحمة الله تعالى عليه- لأجلي مدرسة كبيرة عالية ذات غرف كثيرة وخصصنا غرفتين عظيمتين للمكتبة جمعنا الكتب ورصصناها في الدواليب البلورية الفاخرة، وكان مجموع الكتب الإسلامية التي جمعتها هناك: ثمانية آلاف مجلد، منها كثير من الكتب النادرة الخطية، وكان أبي رحمه الله تعالى من بيت الثروة الطائلة والدولة الوافرة، وكنت من جهة المعيشة والدنيا مستريح البال ومنشرح الحال، وكان شأني الانهماك في المطالعة، وعلى وجه الخصوص مطالعة مجلات المنار ومؤلفات الشيخ محمد عبده وابن تيمية وابن القيم ومحققي العلماء كابن الهمام وابن عبد البر وملا علي القاري وأمثالهم، فظهر الحق لي ظهور الشمس في رابعة النهار… وقد عُينت مفتيا من سنة 1328هـ، فكنت صدرا -يقصد مسؤولا- في المحاكم الشرعية، وعينت أيضا خطيبا في جامع توغبابا خان، فغيرت الخطبة عما كانت عليه، وجعلتها خطبة سلفية مفيدة بحيث أفهمت فيها المسائل الضرورية بلغتهم، وتركت ظُهر الاحتياط بعد أداء الجمعة، ولم أبالِ بما يقول الناس بل غلبت عليهم لأن الحق صولة”.
وحدثنا المعصومي عن هذه المرحلة فقال: “وجاء أوان البحث والكشف عن منشأ كل مسألة ودليلها حسب المقدرة، فقابلت الكتبَ بالكتبِ، ووزنتها بميزان الكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمة، فشرعت في الردِّ على كثير من المعاصرين أو الغابرين الذين خالفوا أصول الدين، كائنًا من كان، فألفتُ الرسائل، ونشرتُ المجلات”.
ولما بدأ دعوته السلفية الإصلاحية جابه مرة أخرى اعتراضات المقلدين والمتعصبين لكنه تجاوزهم بتأييد الله له وبما فتح عليه من العلم والفهم، وأصبح أمره يزداد ويُقبل الناس على دعوته وعلمه، ولم يكن يأخذ على التدريس والتأليف أجرا، بل كان يحتسب ذلك لله عز وجل، إذ كان ميسور الحال -كما تقدم- وأصبحت له تجارة خاصة به، وبحمد الله وفق الله مساعيه وانتشر العلم والإصلاح وجعل الله عز وجل له القبول والتأييد.
وبلغ ما ألفه من الكتب والرسائل في هذه المدة من سنة 1326هـ إلى سنة 1348هـ ثلاثين كتابًا ورسالة سوى ما نشره مقالات في مجلات بلده وما حولها كمجلة الإصلاح والإيضاح والمرأة والإسلام والدين والمعيشة والفرغانة، وغيرها من المجلات.
وكانت ثمرة هذه الجهود من التعليم والخطابة والإفتاء والكتابة في الصحف وتأليف الكتب “حصول التجدُّد في أهل بلاد ما وراء النهر، وشاع فكر الإصلاح الديني، وعرف من هداه الله مضار البدع والخرافات ومفاسدها، فتابعنا كثير من متنوري الأفكار، وقمنا بإصلاح ما أفسده الخرافيون، وعرف من عرف بفضل الله حقيقة التوحيد والشرع الإسلامي، فبدأ الناس يعودون فيتجنبون ما أحدثه المبتدعون من الطرائق الصوفية الخرافية، والتوجه إلى القبور والبناء عليها والنذْرِ لها والاستمداد من أهلها.
حتَّى وُفِّقْنا بحول الله وقوته إلى هدم كثير من القباب، والضرائح، والمشاهد، وأفهمنا الناس الحقائق، ومنعنا كثيرًا من الصوفية الجهلة عما يفعلونه من أفعالهم الخرافية، وأذكارهم الغنائية … وشرعنا في إصلاح المدارس، وتسهيل طرق التعليم، وقد وافقنا على ذلك وسلك مسلكنا جمع من الأفاضل والأعيان من عامة البلدان”.
وعدد المعصومي في أحد كتبه قائمة بأسماء المؤيدين للإصلاح ومنهج الكتاب والسنة فبلغت القائمة ثلاثين فاضلا من بلاد متعددة كمدينة نمنكان وخوقند وميرغان وعسكة وأندجان وأوش وطشقند وسمرقند وبخارى، وأخبر المعصومي أن هناك أمثالهم من التاتارسان.
وهذا يشير لسعة انتشار دعوته في بلد ما وراء النهر وشمولية دعوته الإصلاحية وتنوعها وتوفيق الله عز وجل بوضع القبول له، وبقي على هذا الحال حتى حدث الغزو الشيوعي البلشفي لبلده سنة 1342هـ/ 1923م.
مرحلة الغزو الشيوعي ومقاومته:
قامت الثورة الشيوعية على خداع الناس -مسلمين ونصارى- بأنها ثورة على ظلم القياصرة ونصرة للضعفاء والفقراء ودعوة للعدل والمساواة وحرية الاعتقاد، لكن سرعان ما تبينت الحقيقة البشعة أن الشيوعيين/ البلشفيك أكثر ظلما من القياصرة وسحقا للفقراء ومحاربة للأديان ولا مجال عندهم للحرية إلا إذا كانت ضد الدين، ولا عدالة عندهم إلا في توزيع الظلم على جميع الناس، مسلمين ونصارى!
ونترك المعصومي يحدثنا عن قصته مع الثورة الشيوعية الروسية: “حدث الانقلاب العظيم في الممالك الروسية بشؤم الحرب العالمية العمومية سنة 1917م وخلعوا القيصر وقتلوه، وأعلنوا الحرية والعدالة والمساواة، فاغتر عامة الناس به في ابتداء الأمر ورفعوا الأعلام المنقوش فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومكتوب تحتها: الحرية والعدل والمساواة، فأسسوا في البلاد مجالس ومحاكم وسموها شوراء إسلامية وانتخبوا أعضاءها من أفاضل البلاد وأعيانها حتى انتخبوني رئيسا على تلك المجالس والمحاكم فتشبثنا لإصلاح المدارس والمحاكم وما يلزم إصلاحه، وسافرت إلى موسكو -غير مرة- للاشتراك في مجالس الشيوخ والمبعوثين، ومضى على هذا تسعة أشهر، وبعده حدث النزاع بين الناس فآل الأمر إلى القمونية -كمونة مصطلح شيوعي يعنى حكومة أو تجمع أو خلية شيوعية- والاشتراكية والشيوعية واللادينية وكان زعيمها لينين اللعين وتلميذه ستالين، فثار حزبهم وعاث فقتل الأمراء والعلماء وأصحاب الأموال والمعامل، ونهبت الأموال وصودرت الأملاك وأجري قانون الاشتراك … ورفعت أعلام اللادينية واللاإلهية فضاقت الأرض على العلماء وأهل الدين، فقبضوا على أكثرهم وحبسوهم، وقتلوا جمعا منهم وسفّروا ألوف الآلاف منهم إلى جهة القطب الشمالي المتجمد فهلك غالبهم هناك، ونجا من نجّاه الله تعالى وفرّ إلى الممالك الخارجية، وجلست الطائفة اللادينية المكّارة على رأس الحكومة، وخطبت في المحافل ونشرَت في الجرائد أن الشرع شرع الطبيعة فلا دين ولا إله، فتابعها كل من في قلبه مرض ممن أضله الله.
وأنا لما كنت متمسكا بالدين بحول الله وتوفيقه، مصرّا على تعليم الناس دينهم، حبستني وأنا في خجندة سنة 1342هـ، فبعد شهرين نجاني الله بفضله، ثم في سنة 1344هـ حبستني ثاني مرة وكانت تشدد علي في محافظتي على الدين ونجاني الله تعالى أيضاً، فتركت خجندة وهاجرت إلى ميرغان”.
فخرج منها متخفيا هاربا بدينه وترك والديه وزوجته وأولاده هناك وهم ستة أولاد وبنتان، ولم يستطع الرجوع إليهم.
وقد نبّه المعصومي على أن الجهل ومنهج الخرافة والبدعة السائد بين العلماء المقلدين وأصحاب الطرق الصوفية كان له دور بارز في تقبل جهلة المسلمين وشبابهم لدعايات الشيوعية الكاذبة وأفكارهم الإلحادية التي كان ينادي بها الشيوعيون تحت شعار “الدين أفيون الشعوب” ويشرح ذلك المعصومي بقوله: “لأن الرهبان في كل ملة إذا نظرنا إليهم وتأملنا فيهم بل هم إذا تأملوا بأنفسهم وأنصفوا يجدون أنفسهم غاشين وخائنين ويقولون ما لا يفعلون، ومع هذا يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ويخطبون خطبا ومواعظ ولكنهم في الأعمال على خلافها… قد شوهوا الدين الحق ونفّروا الناس عنه إلى أن صاروا سببا للطعن في الدين وباعثا لحدوث الشيوعية وشيوعها، فيا أيها المسلمون انصفوا واحترزوا من العناد والاعتساف وزنوا أنفسكم بميزان الإنصاف قبل أن تُجازوا بعدل الجبار المنتقم”.
إن جرائم الروس الشيوعيين بحق المسلمين من الكوارث والمآسي التي لم تدون تفاصيلها في الكتب ولم تطلع عليها الأجيال بشكل واضح، برغم أن قتلى المسلمين على يد الشيوعيين بلغوا مئات الملايين كما بين ذلك الأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم -رحمه الله تعالى- في كتابه “قتلوا من المسلمين مئات الملايين”.
الهجرة إلى مرغينان:
في هذه المرحلة أدرك المعصومي خطورة البقاء في بلده خجندة واستمراره في قيادة الناس وتعليمهم وتوعيتهم بالدين وبيان مناقضة الشيوعية للإسلام تحت سيطرة الشيوعيين وأنه لابد له من الهجرة فراراً بدينه وحياته، فتوجه إلى مرغينان -وهي بلدة تقع في جمهورية أوزبكستان-، وكان ذلك سنة 1344هـ / 1925م فاستقبله أهلها واحتضنوه، وهذا بعض آثار دعوته السابقة حيث لقيت قبولا من الناس في المنطقة فيما حول خجندة، وواصل معهم دعوته الإصلاحية السلفية التي بدأها في بلده خجندة، ويقول عن ذلك: “فاستقبلني أهلها استقبالا حسنا وعيّنوني خطيبا في الجامع العتيق ففعلت فيه مثل ما فعلت في خجندة من ترك (صلاة) ظهر الاحتياط وتبديل الخطبة من البدعية إلى السلفية، فخالفت علماءها، وقد أثبت عليهم الحجج حتى بهتوا، فبعده عرف صلابتي كلُّ أهل البلد فخلعوا قاضيها الذي عارضني، وانتخبوني قاضيا فكنت أنظر إلى الدعاوى حسب المستطاع، ولكن الحكومة كانت تراقبني مراقبة شديدة فاستعفيت وتنحيت واعتزلت الناس لعدم إمكان الحكم بالحق”.
وبرغم كل ما تعرض له من السجن واضطراره للهجرة عن بلده وما تعرض له من مراقبة، إلا أنه لم يتخلّ عن مقاومة الشيوعية وبيان ما فيها من كفر ورِدّة وإلحاد والدفاع عن دين الإسلام خلال إقامته في مرغينان.
ومن ذلك أنه في سنة 1927م أعلنت جريدة الشورى السوفيتية في مدينة طشقند عن موعد عقد مناظرة حول وجود الله عز وجل وطلبت ممن يرغب بالمشاركة الحضور في الموعد، ويحدثنا المعصومي عن هذه الحادثة فيقول: “عندما كنت في بلاد التركستان في سنة 1927م أعلنت جريدة الشورى السوفيتية الصادرة من طاشقند أنه سيعقد مجلس لأجل المناظرة في إثبات وجود الله فكل من يريد الاشتراك فيه فليحضر المجلس في الوقت الفلاني. وأنا كنت إذ ذاك في ميرغان فقمت من مجلسي وركبت القطار وسرت إلى طاشقند في الوقت المشار إليه حيث وجدت هناك جماعة عظيمة من المسلمين والنصارى والشيوعيين الدهريين وغيرهم، أكثر من عشرة آلاف نسمة.
فقام زعيم الدهريين وهو ملحد تتاري يدعى (منصوروف) وخطب وتكلم وهذى كما يهذي هوبز أستاذ كارل ماركس إلى أن قال: إن الناس الدينيين يقولون: إن الله موجود، وهو الذي أوجد العالم وخلقه ويربيه وقولهم هذا (فنتيكيه) أي خرافة وخيال … فقمت من مقامي وصعدت المنبر وحمدت الله تعالى وصليت على رسوله … فبُهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين، ثم إن المسلمين كبروا الله وسبّحوه وسروا واستبشروا، وأما المنكرون الظالمون فخجلوا وخابوا، وقالوا نخبر أستاذنا في موسكو”.
وبعد انتصاره في المناظرة وفضحه شبهاتهم وإلحادهم وكعادة أهل الباطل حين يعجزون عن نصرة باطلهم ورد حجة الحق، هاجموا بيته في ميرغان وحبسوه، وهذه ثالث مرة يتعرض فيها للحبس من قبل الشيوعيين، وهاجموا بيته في خجندة أيضا واستولوا على ما وجدوه فيهما من أموال وبضائع ومقتنيات ثمينة من الذهب والفضة والحرير، حيث كان المعصومي تاجرا ثريا وصاحب وظائف مرموقة، فصادروا منه مبلغًا ضخمًا.
وصادروا مكتبته وما فيها من كتب ثم أحرقوها، وصادروا الدور والبساتين والأراضي التي يملكها، ولم يكتفوا بذلك بل عقدوا له محكمة غيابية حكموا عليه فيها بالإعدام رميًا بالرصاص، لكنه تمكن من الهرب من السجن بأعجوبة ورحل للصين.
ففي الحبس كان يكثر من الدعاء والتضرع لله عز وجل، فرأى رؤيا وهي أن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول له: يا ولدي لا تخف، تمرض فتنجو بحول الله وقوته.
وفعلا حين استيقظ تظاهر بالمرض وحُوّل للعلاج، فأخرجوه للساحة مع المرضى لاستنشاق الهواء ووضعوه في ظل الجدار، وعند مغيب الشمس أرجعوا سائر السجناء المرضى وتركوه ظنا منهم أنه مات أو سيموت! وفي الليل سكر الحراس حتى الثمالة ثم جاء رئيس الحراس يدق الباب ففتحوا قفل الباب له وبسبب سكرهم لم يقفلوه وانخرط الحراس ورئيسهم في السكر، فانسل المعصومي منهم وهرب، واختبأ في مقبرة، ثم واصل سيره ماشيا عدة ليال وأيام حتى وصل إلى بعض تلاميذه في إحدى قرى طاشقند!
ومن هناك زوروا له تذكرة قطار إلى الشمال فرحل على عجلة (عربة) فوصل بعد أسبوع لمنطقة قرب الحدود الصينية، وهناك كان ينتظره أحد أصدقائه واشترى فرسا جيدا ليتمكن من عبور نهر قورغاس وهو الحد الفاصل بين حدود روسيا والصين، ولما أيقن بخروجه من حدود روسيا الشيوعية ودخوله أرض الصين حمد الله وشكره وتذكّر قول شعيب لموسى عليه السلام “لا تخف نجوتَ من القوم الظالمين” وبعد مسير يوم وليلة وصل المعصومي لمنطقة غولجة الصينية التي يقطنها مسلمون، وأعطى الفرس هدية للدليل الذي قاده لعبور النهر مكافأة له.
الهجرة إلى الصين ومواجهة الشيوعيين:
في الصين لجأ المعصومي لمناطق المسلمين هناك وسكن بلدة تسمى (غولجة) برغم أن الخطر الشيوعي كان زاحفا باتجاه مناطق مسلمي الصين أيضاً، وهناك واصل المعصومي دعوته الإصلاحية العلمية السلفية بعد أن غيّر اسمه حتى لا يعرفه الشيوعيون الباحثون عنه، يحدثنا المعصومي عن تلك المرحلة فيقول: “واستقبلني مسلمو تلك البلدة استقبالاً حسنا، وذلك في أواسط شهر ديسمبر 1928م، فبعد سكون القرار التمس أهالي تلك البلدة، على اختلاف أجناسهم من تارانجيين وأوزبكيين وكاشغريين والنونكان والنوغاي وغيرهم، أن أقرأ لهم تفسير القرآن وصحيح البخاري في الجامع الكبير المشهور (دنك مسجد)، فقرأت وقررت ووعظتهم ونصحتهم فانتفع كثير منهم واهتدى جمع كثير غفير، ووفقوا لتصحيح العقيدة عقيدة السلف الصالحين من أهل السنة والجماعة، وأزيل كثير من البدع والرسوم الجاهلية، وإن كان جمهور المنسوبين للعلم والطريقة جهلة خرافية، ومقلدة جامدة تعتقد كل جملة عربية قرآنا، والعوام تبعا لهم، ولكن للحق نور وصولة ولأهله صلابة وشوكة والحمد لله على ذلك”.
ويقول أيضاً: “وحينما كنت في البلاد الصينية بذلت جهدي لإحياء السنة المحمدية وإجرائها وإماتة البدعة وإزالتها، فكم هدمنا من قبب الضرائح ومنعنا عن النذر لها بعد أن أظهرنا الحقيقة، وحتى ترك أكثرهم جمعة الاحتياط بعد الجمعة، والأذكار الغنائية التي يسمونها طريقة، ومنعنا عمل موالد والقيام عند أخذ المخاض، وكذا عن الاجتماع لإحياء ليلة النصف من شعبان بزعمهم أنها ليلة البراءة، وصاروا يشيرون بالمسبحة في تشهد الصلاة ويحترزون عن نداء الأموات والاستمداد منها والنذر لها.
وأفهمتهم بشرح نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة أن اللازم على المسلم إنما هو العلم بما ثبت في الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتقاد بموجبه والعمل به وأن طاعة الله ورسوله سبب لسعادتيْ الدنيا والآخرة، ومخالفتهما باعث لشقاوة الدارين كما هو المقرر المجرب، وألّفت فيما يتعلق بذلك رسائل بلغتهم التركية وطبعتها ونشرتها حسبة لله تعالى”.
وقد بلغ عدد هذه الرسائل باللغة التركية عشر رسائل سردها في ترجمته لنفسه تناولت مواضيع متنوعة مما تمسه حاجة المسلمين مثل توجيهات لنظام التجارة وعن آداب إمام الصلاة وطرق تربية الشباب وفضائل دعاء سيد الاستغفار وتحذير من شؤم الشيوعية وغيرها.
وقد بيّن المعصومي أن معاداة الدين أصل في دستور الشيوعيين الروس فقال: “وفي الدستور السوفيتي الذي صدر سنة 1932م يجب القضاء على الأديان كلها، ويجب القضاء على فكرة الإله التي هي من بقايا القرون الوسطى المظلمة. وفي القوانين التي صدرت سنة 1939 منع الاجتماعات الدينية ومنع الهيئات الدينية والاحتفاظ بأي نوع من الكتب الدينية.
ويقول مولوتوف في خطبة له: “لن تنتشر الشيوعية في الشرق إلا إذا أبعدنا أهلها عن تلك الحجارة التي يعبدونها في الحجاز، وإلا إذا قضينا على الإسلام”.
ولذلك لاحقه الشيوعيون وبحثوا عنه وكان في حكم الهارب والفار منهم، وذلك أن المد الشيوعي في روسيا والصين كان في تصاعد، وكان على رأس قائمة الاستهداف علماء المسلمين وخاصة من تصدى لرفض الشيوعية.
وذلك أن نهج الشيوعيين كان قتل القادة المؤثرين والمعارضين لهم وفرض الشيوعية على الأطفال والنساء والضعاف، وهو النهج المستمر لليوم في عام ( 1444هـ= 2023م ) كما تتسرب الأخبار كل فترة من مناطق المسلمين في الصين من قتل العلماء وقهر النساء والأطفال والمستضعفين، وإجبارهم على ترك الصلاة والصيام والحجاب، والزواج بغير المسلمين، وأكل الخنزير، وشرب الخمر.
وبعد خمس سنوات سيطر الشيوعيون على تركستان بحجة إقامة حكومة إسلامية! وكم خدعت الشيوعية من شخصيات وجماعات بالشعارات الإسلامية، وكانت الثمرة الحقيقية سيطرة الكفر والإلحاد وذبح العلماء والمؤمنين، يحدثنا المعصومي عن حقيقة ما جرى هناك فيقول: “أغوت البلاشفة رجلا من أهل قومولي يسمى خواجة نياز حاجي وأطمعته بمطامع خيالية وهي تأسيس حكومة إسلامية في تركستان الصينية، فثار خواجة نياز وتبعه الأوباش فحدثت الثورة بإثارة البلاشفة الخداعة ولكن الناس بل الحكومة الصينية غافلون، فآل الأمر آخرا إلى استيلاء البلاشفة الحمراء … وذلك في أول شهر جنوري سنة 1934م، الموافق 11 رمضان سنة 1352هـ”.
لما شعر المعصومي بأنه قد يقع في يد الشيوعيين اضطر مرة ثانية للهجرة، ولكن هذه المرحلة قرر الابتعاد كثيرا عن موطنه ومسقط رأسه خجندة والهجرة إلى مكة المكرمة والإقامة فيها، فخرج هاربا مرة أخرى وترك خلفه في غولجة زوجة وولدين وبنتًا، وكان إذا تذكرهم وتذكر أهله في خجندة في غربته الجديدة في مكة يبكي على فراقهم ويدعو الله أن يحفظهم ويجمعه بهم في مكة، وكانت رحلة صعبة قام فيها بتغيير اسمه والسفر على ظهر حصان عبر الجبال المكسوة بالثلوج في رحلة صعبة مر فيها بأهوال عظام في عدد من البلاد.
ولم تخلُ الرحلة من محطات للدعوة والتعليم والتأليف أيضًا، سجل لنا المعصومي طبيعة هذه الهجرة القسرية الثانية بقوله: “فلما عاينت الحال تشبثت بالترحال، فتركتُ الأهل والأولاد والأموال كما كنت تركتها في خجندة ومرغينان، ولم أستطع حملهم معي لكوني شاردا ومختفيا … وكان لي هناك داران مع أشياء كثيرة وكتب عديدة …
والحاصل أني خرجت من غولجة في أوائل ذي القعدة من سنة 1352هـ، عازما على التوجه إلى الحرمين بعدما غيرت اسمي وسمتي فتعديت جبال الثلوج (موز آقصو داوان) راكبا حصانا ووصلت بلدة (آقصو) وكانت الفتنة هناك متراكمة والهرج والمرج مشتد بين فرقتين كبيرتين: الترك والتونغان، وكلتاهما تدعي أنها مسلمة، فبعد شهر استولت الطائفة الحمراء المكّارة الملعونة (أي الشيوعيون)، وأنا بعد أن لاقيت الصعوبات نجاني الله تعالى منها فخرجت متنكرا أيضا وسرت نحو بلاد ختن … فوصلتها في نصف شهر، ووجدتها أيضا بطوفان الفتن ملأى فأعانني قائد جيش التوجان وأمدني بالأموال فسافرنا من هناك واخترقنا جبال همالايا وثلوجها العظام إلى أن وصلنا بلدة (تبت) … ومدة السير خمسون يوما”، ثم واصل السير لكشمير ثم لاهور ومر بدلهي وبومباي بالهند، ومن هناك إلى أرض الحرمين.
ولطبيعة السفر في ذلك الزمان الذي لم تعرف فيه الطائرات ولا السيارات بشكل واسع، كان المعصومي يرحل من بلدة إلى بلدة أو مدينة، وربما جلس فيها مدة، ومن ذلك أنه لما وصل بلدة آقصوا جلس فيها شهرين وكان فيها طوفان من الفتن فألّف فيها رسالة بالتركية لتفسير سورة الحديد.
ولما مر على بلاد ختن ألف رسالة “الختنيات” كشف فيها عن بِدَعهم وخرافاتهم.
ولما مر على الهند في هذه السفرة ألف فيها بعض الرسائل، ففي دلهي كتب رسالة بالفارسية في التحذير من الشيوعية وكتب في بومباي رسالة في الرد على أحد المبتدعة وسيأتي تفصيلها بعد قليل، وجمع مجموعًا بالتركية، وكتب مقالات كثيرة في الصحف عن مظالم الشيوعيين ووقائع البلاد الروسية وفضح مكرهم ودسائسهم.
والمقصود هنا بيان عظم همة المعصومي، فعلى الرغم من أنه في رحلة سفر هارب من القتل لكنه لا يتخلى عن دوره الدعوي والعلمي ورغم أنه ليس من سكان البلد ولا ينوي الاستقرار فيه، لكنه الحرص على نشر كلمة التوحيد ومحاربة الشرك وإعلاء راية السنة وإماتة البدعة والكفر.
وبرغم هذه الصعوبات الشديدة في السفر وتعدد المحطات إلا أن المعصومي استمر في دعوته “وبالجملة لم آلُ أن ناظرت المبتدعين ورددت عليهم وحررت وقررت وأفدت واستفدت إلى أن أوصلني الله تعالى إلى حرمه الشريف، وذلك في مستهل شهر ذي القعدة سنة 1353هـ، فالحمد لله على ذلك”.
استقراره في مكة المكرمة:
وهنا تبدأ مرحلة جديدة من حياة المعصومي في مكة المكرمة كان يصف نفسه فيها بالمهاجر في حرم الله تعالى، ويكون التدريس والتأليف والدعوة شغله الشاغل فيها، وهذه المرحلة تُعد مرحلة النضج العلمي والاستقرار والأمان والعطاء، وقد استمرت مدة ثلاثين عام تقريباً، وتزوج في مكة وولد له ابنان وخمس بنات.
وحين جاء إلى مكة التقى بجمع من أعيانها وعلمائها منهم الملك عبد العزيز ونائبه الأمير فيصل، وأصبح له مكانة عند الملك عبد العزيز، وقابل الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاء والشيخ محمد نصيف، وجيه الحجاز المعروف، وإمام الحرم المكي الشيخ أبو السمح، والشيخ محمد عبدالرزاق حمزة وغيرهم، يقول: “وشغلتُ نفسي بالمطالعة والتحرير والتدريس كما كان شأني في خجنده وبلاد فرغانة والممالك الصينية، وإن كنت الآن قليل البضاعة وليس لدي من الكتب ما يكفيني”.
وفي تلك الفترة ألّف ثلاثة كتب عن وقائع وحوادث الشيوعية في روسيا وتركستان الغربية والشرقية، وللأسف لا يعرف مصير هذه الكتب.
وألّف عدداً من الكتب وكان يسعى لكتابة كتاب عن سورة الفاتحة “ومنذ سنين كنتُ أتفكر في فاتحة الكتاب أمّ القرآن وأنها كافية لسعادة البشر في الدارين، فلهذا جعل الشارع قراءتها لازمة في كل ركعة من الصلوات، بحيث لا تصحّ بدونها ولكن غالب الناس غافلون عن معناها فكنت أتمنى أن يكون لها تفسير موضّح لمعناها بكل الألسنة واللغات المستعملة بين الأمم الإسلامية من عربي وفارسي وأردوي وتركي وجاوي وغيرها ليعمّ نفعها فينتفع بها كافة الذين يقرؤونها فعزمت أن أشرع الآن في ذلك بحول الله وقوته” ووفقه الله عز وجل فكتب “أوضح البرهان في تفسير أمّ القرآن”.
يقول ولده عن حال أبيه في مكة بعد هجرته إليها: “فبعد أن اطمأن فيها في ظل إمام المسلمين وملك الموحدين الإمام عبد العزيز … فشرع في التدريس والوعظ والإرشاد والتأليف والتصنيف على الوجه الأتم الأكمل”، وسبحان الله هذه مكة التي جاءها قبل عقود متعلما مستزيداً من علمائها القادمين من مختلف البلاد، يعود لها اليوم عالما مفيدا من بلاد بعيدة ليفيد طلبة علم آخرين وفدوا من أقطار أخرى، وهذه من بعض بركات مكة المكرمة.
وأخذ المعصومي يدرّس في الحرم المكي وفي دار الحديث المكية الخيرية، ودرّس أيضا مدة ستة أشهر في المسجد النبوي ودار الحديث المدنية، ومسجد ابن عباس بالطائف في فصل الصيف.
وكان يدرّس في أشهر الحج بالبيت العتيق بعدة لغات حيث كان يتقن العربية والفارسية والأردية والبخارية والتركية، وكان يتواصل مع أبيه وذويه عن طريق الحجاج والمعتمرين الأتراك من بلاده.
وكانت له دروس في الإذاعة السعودية، وكتب مقالات كثيرة في الصحف والمجلات، وألّف العديد من الكتب بعدة لغات.
ومن فضل الله عليه أن عرف المسؤولون والعلماء فضلَه، فأوكلوا له مهمة التدريس في أماكن متعددة كما مر معنا، وأوفده الملك عبد العزيز مندوبا عنه للمؤتمر الإسلامي بكراتشي بباكستان سنتي 1368 و1370هـ.
وبسبب خبرته الطويلة في بلاد كثيرة ومعايشته للواقع الصعب للمسلمين في ظل الاحتلال الكافر لبعض بلاد المسلمين أو تمكن العلمانية فيها وإدراكه لتغير الزمان والناس عما كان عليه الدين في الصدر الأول وحالة الضعف التي ترزح تحتها الأمة فإنه كان واعيا لضرورة الأعمال الجماعية والمؤسسية في هذا العصر لإحياء واجب الدعوة الإسلامية وبث العلم الشرعي والحفاظ على هوية المجتمعات الإسلامية التي أضحت أقليات مستضعفة في أوطانها المستباحة والمحتلة، وقد عبر عن ذلك المعصومي بقوله: “ولكن لما انتشر بأيدي الخلَف ذلك العهد ونكث ذلك العقد -يقصد عقد الله وميثاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- صرنا محتاجين إلى تأليف جمعيات خاصة بنظام خاص لأجل جمع طوائف من المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب في التعاون على البر والتقوى، فلا بد لنا من تأليف الجمعيات الدينية والخيرية والعلمية إذا كنا نريد أن نحيا حياة عزيزة”.
وهذا الوعي العالي والمبكر قبل ما يزيد عن 80 سنة بضرورة الأعمال المؤسسية لدى المعصومي يدلك على مقدار نضجه ونصحه للمسلمين.
المعصومي في مواجهة الشائعات:
وبسبب هذا الجهد الكبير في نشر التوحيد والسنة ومحاربة الشرك والبدع كاد له خصومُه وحساده من أهل الباطل خاصة من القبوريين والخرافيين في مناطق بخارى وتركستان، ولذلك أخذوا في إطلاق شائعات ضده بأنه كان في طائرة ووقع في البحر! وأخرى أنه تم اعتقاله وسلّم للحكومة الشيوعية! وأخرى أنه مات في عملية جراحية، ومن ذلك أنه لما ألف كتابه “تمييز المحظوظين عن المحرومين في تجريد الدين وتوحيد المرسلين” أشاع عنه خصومه أن الملك عبد العزيز غضب عليه بسبب هذا الكتاب وأنه سجنه وقتله! بينما الحقيقة أنه كان ضيفا مكرما على الملك في قصره بالرياض وذلك سنة 1371هـ.
طلابه وتلاميذه وثناء العلماء عليه:
للشيخ طلاب كثيرون وفي بلاد مختلفة بسبب تنقله بين البلاد، وكان غالب وقته في التدريس، ولما استقر في مكة كانت دروسه كثيرة في الحرم وفي دار الحديث وكذلك الطلاب الذين استفادوا منه، ولكن لم يعرف تلاميذه على وجه الخصوص إلا في مرحلته الأخيرة، ومن أبرزهم عدد من مدرسي المسجد الحرام، ومنهم:
- الشيخ محمد أمين قاضى مخدوم.
- الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي.
- الشيخ علي بن محمد بن عبد العزيز الهندي.
- الشيخ عبد القادر بن إبراهيم التركستاني.
- الشيخ حافظ برهان.
- محمد حسن جنزي الصيني.
ومن تلاميذه الشيخ محمد أحمد أمين أحمد، إمام وخطيب مسجد معالي الشيخ عبد الله بن عمار بجدة، والشيخ محمد الطيب اليوسف، رئيس المحكمة الكبرى بالطائف.
وإذا كان هؤلاء العلماء والفضلاء من طلاب المعصومي فهذا يدلك على مكانته العلمية وحضوره المتميز، ولذلك شهد له وأثنى عليه الكثير من العلماء بالفضل والعلم والاستقامة، كالشيخ المحدث أحمد شاكر والعلامة عبد الرزاق حمزة وإمام الحرم محمد عبد الظاهر أبو السمح، والعلامة الألباني، وقد أهدى المعصومي بعض كتبه للشيخ الألباني مناولة بشكل مباشر وكتب له عليها إهداء.
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة بعدة لغات وبعضها ترجم إلى عدة لغات، بلغ مجموعها 94 كتابًا كما سردها ولده عبد الرحمن، ولكن ما وجد الباحثون مطبوعًا إلا 17 مؤلفا من أهمها:
- هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان.
- حبل الشرع المتين وعروة الدين المبين.
- تمييز المحظوظين عن المحرومين في تجريد الدين وتوحيد المرسلين.
- إجابة السلطان في ترجمة معنى الفاتحة أم القرآن.
- تحفة الأبرار في بيان فضائل سيد الاستغفار.
- أجوبة المسائل الثمان في السنة والبدعة والكفر والإيمان.
- المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية.
وواضح تعدد المواضيع التي كتب وألّف فيها وأنها انعكاس لحاجة المجتمع والواقع ببيان حقيقة التوحيد وما يناقضه مما يقع فيه الناس، أو شرح وبيان وتفسير للقرآن الكريم، أو إرشاد للأذكار والأدعية الصحيحة، وتوجيه للمسلمين لتصحيح عباداتهم وعقائدهم مما علق بها من شركيات وبدع.
وبعض كتبه كان ردا على أسئلة ترده أثناء رحلاته وهجراته المتعددة، فمن ذلك كتابه “حكم الله الواحد الصمد في حكم الطلب من الميت المدد” ألفه أثناء مروره في الهند في هجرته الثانية إلى بلاد الحرمين، ردا على سؤال من بعض الطلبة البخاريين والتركستانيين المهاجرين للهند عن مدى صحة مزاعم رجل يدعى محمود خان الطرازي حيث أصدر ثلاثة رسائل يجيز فيها طلب المدد والعون من أرواح الأموات والحلف بغير الله، واعترض عليها هؤلاء الطلبة لكن علماء دلهي وديوبند طعنوا على هؤلاء الطلبة واتهموهم بالشرك!
ويبدو أن هؤلاء الطلبة لهم سابق معرفة بالشيخ المعصومي أو أنهم من أتباعه بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث خاطبوه بقولهم: “نرفع إلى خدمة الأستاذ العلامة والحبر البحر الفهامة، فقيه العصر ومحقق الدهر، إمام المجاهدين وصدر المهاجرين، الذي فدى في الله نفسه وأهله ونفيسه، وقال الحق غير خائف من لوم اللائم، أعني مولانا المولوي أبا عبد الكريم محمد سلطان المعصومي الخجندي الحنفي، سلّمه الله تعالى وعافاه”، وهذا الثناء والمدح والمعرفة بعلم المعصومي وجهده وجهاده يكشف عن اتساع دائرة تأثير دعوته الإصلاحية في بلاد ما وراء النهر.
وبعض كتبه تكون رداً على استفتاءات تصله من بلاد متعددة وذلك لقوته العلمية من جهة ولتعدد اللغات التي يتقنها وكونه مستقرا في الحرم فيقصده السائلون من مختلف البلاد، ككتابه “هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان” والمشهور باسم “هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من هذه المذاهب الأربعة؟”، وهو جواب لسؤال ورَده من مسلمي اليابان.
وله كتب لم تصل إلينا تتعلق ببعض رحلاته وأخرى فيها توجيه لطرق تربية الشباب، والتحذير من المدارس النصرانية على الناشئة، وله عدة كتب عن جرائم الشيوعية وكفرها وهي:
- رفع التشكيك عن مظالم البولشوويك (أو المكاشفة عن حالات البلاشفة).
- جلاء البؤس في انقلاب بلاد الروس.
- السهام المعصومية في نحور الشيوعية.
- السيف الصارم السلطاني لقطع عنق البلشوفيك الشيطاني، وهذا ألفه بالفارسية في الهند أثناء هجرته الأخيرة إلى مكة، لوقاية مسلمي الهند وما حولها من الدعاية الشيوعية.
- ومنظومة بالتركية عن حوادث الشيوعية بروسيا وجرائمهم.
ومن كتبه المفقودة والمهمة كتابه “إتحاف الإخوة المؤمنين في شرح حبل الله المتين” وهو شرح لكتابه حبل الله المتين الذي كتبه في بداية توجهه السلفي، وهو يتناول مسائل أصول الدين وفروعه، وجاء هذا الشرح في 27 مجلدا، لكنه فقد حين صادر الشيوعيون مكتبته في خجندة.
ومن المهم ملاحظة زمن تأليف كتبه، حيث إنه في كتبه الأولى لم يكن على المنهج السلفي ووقع فيها في أخطاء، لكن كتبه الأخيرة كانت واضحة في التزام منهج السلف والدعوة للتوحيد والسنة ومحاربة الشرك والبدع ونبذ التعصب المذهبي وبدع الصوفية وخرافاتهم.
مقالاته وأحاديثه في الإذاعة:
كانت للمعصومي عناية بالصحافة حيث أدرك منذ زيارته لمصر قيمة المجلات والمقالات النافعة في نشر العلم والإصلاح وترقية البلاد والمجتمعات، ولذلك حرص على اقتناء مجلة المنار وما يماثلها واشترك فيها.
ثم أصبح يكتب بعض المقالات في الصحف والمجلات في بلاده، ولكن مع الأسف لم تصل لنا هذه المقالات التي جمعها في كتاب سماه “الدرر السلطانية التي نشرتها الجرائد الهندوتستانية”، حيث لم ينشر هذا الكتاب فيما يبدو أو ضاع بسبب هروبه وهجراته المتعددة من الشيوعيين.
ولكن بقيت لنا مقالاته التي نشرها في مرحلته المكية الأخيرة، حيث كتب لمجلة “الحج” قرابة ثلاثين مقالا بين عامي 1368 و1379هـ.
وكانت له مشاركات في الإذاعة السعودية ويبدو أنها كانت بِعدة لغات من التي يتقنه، وقد جمع أحاديثه في كتاب سماه “الأحاديث المعصومية المذاعة في الإذاعة المكية السعودية” وهو أيضا للأسف مما لم ينشر.
وفاته:
وكان في آخر سنوات عمره قد مرض بعدة أمراض وأجريت له عدة عمليات جراحية، وكان خصومه كلما مرض أشاعوا أنه مات ودفن، فيشافيه الله عز وجل ويعود لكرسيه في الحرم يعلّم الناس الحق ويحذرهم من باطل المبطلين.
وبعد هذه الرحلة الطويلة في الحياة، والتي ازداد تبصّره فيها بمنهج السلف، وعبَر خلالها عدة قارات بما فيها من دول، ونشر التوحيد والسنة وقاوم الشيوعية والإلحاد، وسُجن عدة مرات وهرب عدة مرات من بطشهم ودمويتهم، وترك خلفه الأهل والمال، واستقر في مكة المكرمة فعلّم وكتب ودرّس، وترك تلاميذ علماء وكتبا نافعة، حانت لحظة الفراق.
توفي في مكة سنة 1381هـ/ 1960م، عن عمر ناهز الثمانين عاما، تسجل له في صحائف أعماله الصالحة بإذن الله.
قالت ابنته عائشة في مذكراتها: “وحضر جنازتَه كثير من أهل العلم والفضل وأعيان مكة يؤمّهم الشيخ عبد المهيمن أبو السمح إمام وخطيب المسجد الحرام، بعد صلاة الفجر من اليوم الثاني من وفاته، ودفن بمقبرة العلا، رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته”.
لمزيد من التوسع:
- مختصر ترجمة حال محمد سلطان، محمد المعصومي.
- خاتمة ولد المعصومي على كتاب أبيه عقد الجوهر الثمين.
- الشيخ محمد سلطان المعصومي وجهوده في نشر العقيدة، فواز السلمي
- مقدمات علي حسن الحلبي على كتب المعصومي: مفتاح الجنة لا إله إلا الله، أجوبة المسائل الثمان، تمييز المحظوظين.
- مجلة الحج، الأعداد: شوال ١٣٧١، ذو الحجة ١٣٧١، ربيع الآخر ١٣٧٢، رجب ١٣٧٢، رمضان ١٣٧٢، ذو القعدة ١٣٧٩هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) النهر المقصود هو نهر جيحون، والذي يقع اليوم في بعض الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي. واسم “بلاد ما وراء النهر” هو الاسم القديم لجزءٍ من آسيا الوسطى، تشمل أراضيها اليوم أجزاء من جمهوريتي أوزبكستان وطاجيكستان والجزء الجنوبي الغربي من كازاخستان وجنوب قيرغيزستان. وجغرافيًا هي المنطقة بين نهري جيحون في الجنوب وسيحون في شمال قارة آسيا.
([2]) خوقند أو قوقند: مدينة تقع جنوب غرب وادي فرغانة في ولاية فرغانة شرقي أوزبكستان.