العلامة الأمير صديق حسن خان ( 1248–1307هـ / 1832 – 1890م )
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
برغم شهرة العلامة صديق حسن خان إلا أن المجهول من سيرته لدى معظّميه أكثر مما هو معلوم عندهم!
فبرغم شيوع مؤلفاته وكثرة الاستشهاد بها وبمقولاته إلا أنك من النادر أن تجد شخصا يعرف سيرة هذا العالم العلم والأمير المصلح، وأنه كان -مع سعة مؤلفاته- قد تولى الإمارة والحكم لمدة أربع عشرة سنة في مملكة بهوبال بالهند، فسار في الناس سيرة حسنة، وتولى رعاية النهضة العلمية، فاستقدم العلماء من بلاد مختلفة، وفرّغهم للتدريس والتعليم، وأشرف وتكفل بطباعة ألوف النسخ من أمهات الكتب وفرّقها على العلماء وطلبتهم في مختلف البلاد! وبقي في منصبه أربع عشرة سنة حتى عزله الإنجليز الذين كانوا يهيمنون على حكم الهند ورأوا في سياسته ما يهدد هيمنتهم.
ولهذه السيرة العطرة ولكونه من رواد النهضة الإسلامية ومن المجددين، وصفه تلميذه نعمان الألوسي بقوله: شيخنا الإمام الكبير، السيد العلامة الأمير البدر المنير، البحر الحبر في التفسير، والحديث والفقه والأصول، والتاريخ والأدب والشعر والكتابة، والتصوف والحكمة والفلسفة وغيرها([1]).
اسمه ونسبه ونسبته:
هو أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القَنُّوجي البخاري، ومن عادة الهنود أن يضعوا اسم محمد على أسماء علمائهم ولذلك يورد البعض اسمه محمد صديق حسن، والقَنّوجي: نسبة إلى مدينة قَنّوج في بلاد الهند، والبخاري نسبة لبخارى التي كانت أول موطن لأجداده بعد هجرتهم من العراق([2])، ونسبه يعود “إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه” كما ترجم لنفسه في كتابه أبجد العلوم. ثم لما تزوج ملكة بهوبال لقب بصديق حسن خان، وخان تعني ملك، ولقب أيضاً بالنواب صديق حسن، وذلك لأنه ناب عن الملكة في شؤون الملك.
أسرته ونشأته:
وكانت أسرته([3]) معروفة بالعلم والرئاسة من زمن أجداده، فأبوه من العلماء، حيث درس على أبناء الشاه ولي الله الدهلوي، الشيخ عبد العزيز والشيخ رفيع الدين، ثم شارك في الجهاد ضد السيخ والإنجليز مع السيد أحمد عرفان الشهيد وإسماعيل الشهيد، وغزو الإنجليز للهند بدأ في سنة 1600م تحت غطاء شركة الهند الشرقية واستمر بالتوسع حتى تم إسقاط الدولة المغولية، آخر دول الإسلام في الهند في حياة صديق خان.
وكان أبوه من أكبر خلفاء أحمد عرفان وإسماعيل الشهيد وواصل مسيرة الدعوة والتعليم للتوحيد ونشر السنة حتى توفي سنة 1253هـ، كما أن له عدة كتب بالعربية والفارسية والهندية.
ومن الجدير بالذكر هنا أن والد صديق خان كان وحيد أبيه الذي غادر قنوج وتولى منصبا كبيرا في إمارة حيدر آباد جنوب الهند، ولما توفي والده وهو شاب في الثامنة عشرة من عمره رفض أن يرث منصب وأموال أبيه الطائلة كما لم يصاحبه في حياته إلى حيدر آباد، لأن أباه كان متحولا للتشيع تبعًا لأبيه وبعض أجداده الذين آثروا الدنيا حين ضعفت قنوج وابتلعتها ولاية “أودة” الشيعية القوية، وبذلك أعاد العائلة لمذهبها السني([4]).
وأخوه الكبير السيد أحمد (١٢٤٦-١٢٧٧هـ) كان أيضًا مشتغلا بالعلم، وحصل على إجازات متعددة من علماء عصره، وله عدة كتب منها كتاب “الشهاب الثاقب” الذي نصر فيه منهج السلف وأنه الحق، ولذلك درس عليه صديق خان بعض الكتب والعلوم، وكان شجاعا قويا مرهوب الجانب([5])، والأسرة كانت على منهج أهل الحديث.
ولد صديق خان سنة ١٢٤٨هـ، في الهند، ببلدة بريلِّي وهي موطن آباء أمه “نجب النساء بيكم” ابنة مفتي بريلي الشيخ محمد عوض العثماني، وكان من كبار علماء القرآن الكريم في عصره وله كتب في التجويد([6])، ثم ذهبت به أمه إلى موطن أبيه قنوج، وبقي هناك حتى فقد أباه وقد أتم من عمره خمس سنوات، فعادت به أمه إلى بلدة بريلي، فنشأ يتيماً في حجر أمه التي رعته وعينت له مدرسًا للقرآن الكريم([7])، ولم يترك له أبوه إلا مكتبة قيمة وقطعة أرض.
في ظل هذين الأبوين نشأ صديق خان ثم تولته والدته بالرعاية حتى شق طريقه في الحياة بجد ليبلغ أعلى المنازل، يقول صديق خان عن تربية أمه له: “لما بلغتُ السابعة من عمري وكان المسجد قريبًا من البيت وأنا في نوم هادئ فكانت أمي رحمها الله توقظني وتوضئني وتبعثني إلى المسجد ولم تسمح لي أبدا أن أصلي في البيت، وعندما تجدني مستغرقا في النوم ترش الماء على وجهي”([8]).
هذه هي عائلة صديق خان، ولا عجب أن يكون مخلصًا لربه ودينه وأن يُحسن الجمع بين العلم والإمارة، فهو سليل نسب عريق جمع بين الدين والعلم والزعامة.
وقد بقي أصدقاء أبيه في العلم والجهاد من أتباع الشهيدين على صلة بوالدته وبه وبإخوته، فمثلا لما كان في سن الثانية عشرة زار والدتَه زوجاتُ الشيخين ولايت وعناية علي وهم زعماء الجهاد بعد استشهاد القادة أحمد عرفان والشاه إسماعيل، وأوصاه الشيخان أولاد علي بدراسة “بلوغ المرام”، ولذلك لاحقا قام صديق خان بشرحه وسماه “مسك الختام”([9])، وبقي صديق خان يعيش بيئة العلم والجهاد التي سلكها والده من قبل وكذلك التمسك بمنهج أهل الحديث السلفي كحال والده وأخيه وأصدقاء والده.
كانت الهند قد وقع جزء كبير منها تحت الاحتلال البريطاني، وسقط كثير من دول الإسلام فيها وقويت شوكة السيخ في مناطق منها، وكانت البدع قد استفحلت بين كثير من المسلمين وحدثت خلافات ونزاعات كبيرة بين العلماء([10]) الذين دعوا للإصلاح من أتباع الشاه ولي الله الدهلوي ومن قبله الشيخ السرهندي وبين العلماء المتعصبين للحنفية والماتريدية والتصوف الغالي، وابتعد كثير من الناس عن الدين وفشت فيهم المنكرات، في هذه الظروف كانت ولادة ونشأة صديق خان والتي سيبقى يتعامل مع تبعاتها وتطوراتها ويسعى للتخلص أو التخفيف من مفاسدها([11]).
طلبه للعلم:([12])
درس في البداية على علماء قنوج -على عادة الطلبة في زمانه- الفارسية ثم مبادئ النحو والصرف بالعربية وبعض الفقه، ثم رحل لمدينة كانبور فدرس بعض كتب البلاغة العربية، وقد كان أصدقاء أبيه يتعهدونه بالرعاية والتعليم.
ثم شد رحاله إلى عاصمة الهند دهلي([13]) سنة 1269هـ، وكانت –آنذاك- تعجّ بالعلماء، فأكمل دراسة مختلف الفنون وبرع فيها بما حباه الله عز وجل من ذكاء وذهن، وعاد فدرس المنقول والمعقول على عدد من العلماء أهمهم الشيخ محمد صدر الدين خان الدهلوي تلميذ عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي المجدد المشهور لمدرسة أهل الحديث، وتأثر بمدرسة الشاه الدهلوي حتى أصبح صديق خان من أبرز رموز أهل الحديث في زمانه.
وهناك درس الحديث على أحد تلاميذ الإمام الشوكاني، وهو الشيخ عبد الحق البنارسي، وكانت هذه بداية الصلة بمدرسة الشوكاني التي سيكون صديق خان من أشد أنصارها.
وأهل الحديث بالهند في ذلك الوقت المبكر كانوا في الجملة من الأحناف لكنهم في الفروع لا يتعصبون لمذهبهم بل يتميزون باتّباع الوحيين القرآن والسنة وترك التعصب للمذاهب وفتح باب الاجتهاد وإن خالف المذهب، ولكن لاحقا وعلى يد صديق خان والشيخ نذير حسين ستكتمل لهم دائرة الاتباع للوحيين في الفروع والأصول وتكتمل سلفيتهم، وكان صديق خان قد تعرف على نذير حسين في دلهي([14]).
وبهذه الدراسة والمطالعة ترسخ لديه حب اتباع القرآن الكريم والسنة الصحيحة والتمسك بالدليل من أي مذهب كان، وجعل منهجه: “أن يترك التقليد ويتبع بالدليل ولا يتقيد بمذهب من المذاهب المشهورة”([15]).
وحبه للعلم والمطالعة كبر معه من صغره حين حدثنا عن طفولته: “عندما كان الشيخ الحسيني (خادم والده) يشمس كتبه وكنت صغيراً ألعب بها، وأقلب أوراقها وأطالع أحيانا، فأفهم بعض الفقرات ولا أفهم بعضها الآخر، ومن أجل ذلك مال قلبي إلى الدراسة، وكنت أشتاق دائما إلى قراءة الكتب وفهمها، فما تركت كتابا إلا قرأته من أوله إلى آخره”([16]). وقد بقي هذا الحب للمطالعة رفيق دربه طيلة عمره مهما عظمت أشغاله ومناصبه، وهذا الحب للمطالعة العلم ساعده على الجد في طلب العلم.
وفي دلهي لم يستفد العلم والمعرفة فقط بل كانت دلهي مقر السياسات والشؤون العامة، وشابٌّ بذكاء وفطنة صديق خان وبيئته المترعة بالجهاد والدعوة ومقاومة الاحتلال اكتسب من الوعي والإدراك للشأن العام الشيء الكثير الكثير، إذ كان يحضر كثيرا من الاجتماعات العامة واللقاءات الثقافية والسياسية فيها ويلتقي العديد من الشخصيات المهمة وذات الشأن([17]).
بدء العمل في بهوبال:
حين أنهى الشيخ صديق خان مرحلة طلب العلم وطالع الكثير من الكتب والنوادر وكان قد بلغ عمره 21 سنة، عاد إلى قنوج ولكن لم تطل إقامته هناك لأن مسؤولية رعاية البيت وقعت عليه، وليبدأ بشق طريقه في الحياة سافر سنة 1371هـ إلى مدينة بهوبال، وهي عاصمة ولاية مادهيا برادش، وتقع في وسط الهند، وكانت مشهورة بالعلم والعلماء ومساجدها كثيرة وأسواقها عامرة وفيها العديد من الحدائق.
ثم هناك وفّقه الله عز وجل والتقى الوزير السلفي الشيخ جمال الدين بن وحيد الدين الدهلوي الذي كان من تلاميذ الشاه عبد العزيز الدهلوي كأبيه، وهذا مما يدل على سعة انتشار تأثير مدرسة الشاه ولي الله الدهلوي في الهند، فتوسط له الشيخ جمال عند ملكة بهوبال الملكة “سكندر جيهان بيكم” فقربته وعيّنته كاتبا في الديوان مع تولي الوعظ والإرشاد في مسجد إبراهيم خان([18]).
وفي بهوبال التقى بالشيخ زين العابدين بن محسن السبعي الأنصاري وبأخيه الشيخ المحدث القاضي حسين بن محسن السبعي الأنصاري الذي كان في زيارة لبهوبال، وهو من تلاميذ الشيخ أحمد ابن الإمام الشوكاني فزاد تأثره بالشوكاني، ونشر العديد من كتبه فيما بعد، ولما تولى إدارة المملكة لاحقا قام باستدعاء شيخه حسين السبعي فاستوطن ببهوبال وفرّغه للتدريس فصارت بهوبال مقصد طلبة الحديث([19]).
ولكنه في سنة 1273هـ فصل من وظيفته وعُزل وأُخرج من بهوبال إثر نقاش مع أحد العلماء ذوي النفوذ، فعاد إلى قنوج، وفي الطريق سرق خادمُه متاعه وبغله فزاد همه همًّا.
الثورة الكبرى ضد الإنجليز وموقف صديق حسن خان:
ثم نشبت الثورة الكبرى ضد الإنجليز مما اضطره للرحيل مع الأسرة لعدة مناطق عانوا فيها من الفقر وضنك العيش([20])، ثم عادوا لقنوج بعد فشل الثورة ضد الإنجليز الذين تم لهم الاحتلال الكامل للهند فقاموا بمجازر ضخمة في الشوارع والطرقات، وسَجن الإنجليز آخر ملوك الهند المسلمين الملك المغولي بهادر شاه وقتلوا أولاده، ثم قطعوا رؤوسهم وشووهم، وقدموهم للملك وقت الغداء! ولكن الملك بهادر لم يجزع ويخف بل قال بكل شجاعة وبطولة: إن أولاد التيموريين البواسل يأتون هكذا إلى آبائهم محمرة وجوههم([21])، فعل الإنجليز ذلك في وحشية منقطعة النظير.
وإذ نذكر ما قام به الإنجليز من جرائم في الهند، فالمقصود بذلك التعريف بمقدار إجرام هذه الدول (المتمدنة)، وحتى نعرف الجو الذي كان يعيش فيه المسلمون عامة، وصديق خان خاصة، وكيف أن هذا البطش كان يحيط به ويهدده دوما لما تولى إدارة الدولة لاحقا.
وقد وصف الشيخ صديق خان انتصار الإنجليز بمرارة فقال: “حال مملكة الهند في هذا العصر وهو آخر المائة الثالثة عشر من سني الهجرة منذ ذهبت منها دولة الإسلام واندرست معالم ملوكها وسلاطينها العظام وصارت تلك الدولة بأيدي البريطانية، أعني الإنجليز، وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”([22]).
ويبدو أن الشيخ صديق حسن كان يرى أن هذه الثورة لم تستكمل مقومات النجاح وتحقيق الغرض وهو إزالة حكم الإنجليز، بل للأسف كانت النتيجة إطباق سيطرة الإنجليز على الهند وتعميم وترسيخ بطش الإنجليز بالمسلمين، وهو ما بينه قوله في كتابه ” الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة”([23]) بعد ذكر قول الإمام القرطبي في وجوب كف اليد واللسان عن سفك الدماء وانتهاك الأعراض عند ظهور الفتن ونزول البلايا والمحن: “وقد فعلت مثل ذلك في زمن الفساد الذي وقع في إقليم الهند بين عساكر الإفرنج وحكامهم في سنة 1372هـ الموافق 1857م وابتلي ناس كثير به، وسمّوه الجهاد، ولم توجد شروطه، ولم يكن على منهاج الشريعة الحقة، وانتدب لطلب الملك والرياسة، فأصبحوا خاسرين، ولله الأمر من قبل ومن بعد”.
العودة إلى بهوبال:
وفي هذه الأثناء تفرغ صديق حسن خان لإكمال حفظ القرآن الكريم فأتمه سنة 1274هـ، وبعدها طُلب منه مرة أخرى للعودة لبهوبال بأمر من الملكة، ولكنه تأخر في الوصول إليها بسبب كثرة الأمطار والسيول في الطريق، ولما وصل كان بعض الحساد قد أوغروا صدر الملكة عليه فطلبت منه المغادرة فورا!
فخرج منها مبتئسًا قد اجتمعت عليه هموم فقد العمل وقلة المال مع مسؤوليته عن إعانة والدته وشقيقاته، فمر على “تونك” وكانت دولة في وسط الهند في طريقه إلى بلده قنوج، وهناك آوى إلى صديق والده السيد إسماعيل، ولما اطلع على حاله الأمير محمد وزير خان وكان من محبي والده أمره بالبقاء وصرف له مكافأة 50 روبية، لكنه لم يرتح فيها لأحوالها الاجتماعية، فطلب إجازة لمدة أربعة أشهر، ومع كل هذه المصاعب لم يتوقف صديق خان عن التأليف والتصنيف.
وفي هذه الأثناء وصله طلب ملكة بهوبال مرة أخرى بالقدوم والعمل في ديوانها، فوصلها في عام 1276هـ، وأسندت له وظيفة تدوين تاريخ المملكة، فأرسل للأمير محمد وزير خان رسالة يشكره فيها ويعتذر إليه وأهداه كتابه الجديد “تحفة الفقير”، ثم جد واجتهد في كتابة تاريخ مملكة بهوبال بنهج جديد، واستمر في وظيفته تسع سنوات حتى توفيت الملكة سكندر سنة 1285هـ([24]).
زواجه الأول:
في سنة 1277هـ زوّجه الوزير جمال الدين ابنته الأرملة “ذكية بيغم” التي كانت معروفة بالصلاح والعلم والتقوى لِما رآه من جده وصلاحه، وكان عامة المسلمين يكرهون الزواج بالأرامل تأثراً بالهندوس بخلاف حكم القرآن، ولذلك سار صديق خان على نهج القرآن الكريم: “وأنكحوا الأيامى منكم” وكان سبقه لذلك السيد أحمد الشهيد، وكان هذا الزواج الأول للشيخ صديق خان، وقد سعد بزواجه منها ورزق من زوجته هذه بأولاده السيد نور الحسن والسيد علي الحسن([25]).
ولكن في سنة 1277هـ فجع بوفاة أخيه أحمد الذي توفي وهو في طريقه إلى الحج وكان عمره ثلاثين سنة، فحزنت عليه أمه كثيرا وكذلك صديق خان حيث قال: “وكنت إذ ذاك ببلدة بهوبال المحمية والله يعلم ماذا صبّ عليّ من المصائب والأحزان والنوائب، ولا مفر لأحد من تقدير العزيز العليم”([26])، لأنه فقد والده صغيرًا، والآن يفقد أخاه الأكبر الذي كان له أخًا وأستاذًا وصديقًا، وعندها قام بإحضار والدته وشقيقتيه من قنوج إلى مملكة بهوبال ليكونوا تحت رعايته ومباشرته، وكان مع اشتغاله بهذه الوظيفة يواصل عمله الدعوي والتعليمي والتأليف والمطالعة.
وبقي على هذا الحال حتى سنة 1285هـ حيث توفيت والدته، ثم شقيقتاه الكبرى والوسطى في السنة نفسها.
وفي السنة نفسها توفيت الملكة “سكندر جيهان بيكم” وتولت ابنتها “شاه جهان بيغم”([27])، التي ستصبح زوجته بعد ثلاث سنوات.
رحلته للحج ([28]):
كان الشيخ صديق خان يتمنى السفر للحج لأداء هذا الركن العظيم في الإسلام والالتقاء بالعلماء في اليمن وفي الحرمين، وفعلا حين استقرت أموره وأصبح وضعه يسمح له بالسفر استأذن الملكة الجديدة “شاه جهان بيغم” سنة 1285هـ للسفر للحج.
فانطلق نحو مدينة بومبي بالقطار ومنها بالسفينة إلى مدينة الحديدة اليمنية التي وصلها بعد شهر تقريبا.
وفي هذا الشهر قاسى من دوار البحر وأصيب بالدوار والغثيان لكنه بعد عدة أيام تمكن من مواصلة صيام رمضان في السفينة، ولم يتوقف عن الكتابة، حيث نسخ في السفينة بخطه كتاب ابن عبد الهادي “الصارم المنكي على نحر ابن السبكي” وهذا مما يدل على جَلَده وعنايته بوقته وحرصه على طلب العلم، وعناية صديق خان بهذا الكتاب هو انتصار لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع السفر لزيارة القبور ومنها قبر النبي صلى الله عليه وسلم، مما يؤشر إلى انتهاج صديق خان نهج شيخ الإسلام في ذلك الوقت، وإن كان لم يطلع بعد على كثير من كتبه.
وانتقد في هذه الرحلة انتشار الشرك بين البحارة واستغاثتهم بغير الله عز وجل فقال: “ومِن العجائب التي لا ينبغي إخفاؤها أن الملاحين إذا ترددوا في أمر المركب من جمود الريح، أو هبوبها مخالفة، أو شيئا من الخوف على السفينة وأهلها، كانوا يهتفون باسم الشيخ عيدروس، وغيره من المخلوقين مستغيثين ومستعينين به، ولم يكن يذكرون الله عز وجل أبدا أو يدعوه بأسمائه الحسنى، وكنتُ إذا سمعتهم ينادون غير الله ويستعينون بالأولياء خفت على أهل المركب خوفا عميقا”([29])، وهذا يبين وضوح عقيدة التوحيد في وجدان الشيخ وإدراكه لخطره ويبيّن سلفيته بكل وضوح.
وحين نزل الحديدة نزل ضيفا على شيخه الشيخ حسين بن محسن المحدث الذي قابله في الهند من قبل، وأهداه وعددا من علماء الحديدة كتابه “الحطة في ذكر الصحاح الستة” ولقي كتابه منهم ثناءً وقبولًا، وهذا يدل على أن صديق خان أصبحت له قدم راسخة في العلوم والتأليف وهو لم يصل بعد لسن الأربعين.
ومكث في الحديدة اثنا عشر يومًا قضى جلّها بمطالعة الكتب ونسخها، ومن ذلك أنه نسخ 25 رسالة للعلامة الأمير محمد إسماعيل الصنعاني.
وفي الحديدة اقتنى عدة كتب، ذكر أربعة منها، وأولها: “اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، وهذا مما يؤكد عمق الصلة بشيخ الإسلام، وذكر اقتناءه ثلاثة كتب للإمام الشوكاني، حيث كان صديق خان من كبار المتأثرين بمنهج الشوكاني.
وبهذا يكون قد حقق صديق خان غايته من المرور على اليمن بملاقاة علمائها والاستفادة منهم، وإهدائهم كتابه والاطلاع على ما فيها من كتب لم يرها واقتناء بعضها، ومن ثم ركب السفينة إلى مدينة جدة.
وقد استغرقت رحلة السفينة إلى جدة شهرًا كاملاً بسبب سكون الريح، وسببت لهم ذلك الكثير من القلق والهمّ، وكادت تصطدم ببعض الجزر الصغيرة وتغرق لولا لطف الله عز وجل بهم.
ولما وصل إلى مكة اعتمر مرة قبل الحج ومرة بعد عودته من المدينة، وهناك مع انشغاله بالحج والذكر والدعاء والطواف والعبادة، لم يتوقف عن المطالعة والنسخ والتأليف!
ومما نسخه هناك في الحجاز كتاب “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” لابن تيمية([30])، ولعل انخراطه بالوظائف الرسمية في مملكة بهوبال شجعه على اقتناء هذا الكتاب مع إعجابه بعلم شيخ الإسلام، هذا الإعجاب الذي سيتعاظم لدرجة يكتب فيها العلامة صديق خان عدة تراجم لابن تيمية في كتبه العربية والفارسية، وكما سيطبع كتابين في الدفاع عن ابن تيمية هما “الرد الوافر” و”جلاء العينين”، وسيَنشر عدة مختصرات لكتب ابن تيمية بالفارسية وبعض كتبه بالعربية، ولاحقًا سنجد أن الأمير صديق خان طبّق عمليًا الكثير من قواعد ابن تيمية المذكورة في هذا الكتاب حين تزوج ملكة بهوبال وتولى -نيابة عنها- إدارة المملكة.
وفي مكة التقى الشيخ عبد الحق بن فضل الله الهندي، والشيخ التقي محمد يعقوب أخا الشيخ محمد إسحاق حفيد الشيخ عبد العزيز الدهلوي رحمهم الله تعالى، وأجازوه مشافهة وكتابة، ومكث في مكة حوالى أربعة أشهر كان يعدها من خير أيامه حيث قال: “وعندي أن حاصل عمري كان تلك الأيام، والذي مضى في غيرها لم يكن إلا حلما أو مناما”.
وفي طريق العودة استغل وقته في نسخ سنن الدارمي وتعليقات الشاه ولي الله الدهلوي عليه([31])، وكادت تضل سفينتهم وتهلك لولا رحمة الله بهم حيث أضاع قبطان السفينة الاتجاه بسبب سوء حالة الجو، وقد ألف كتابا في ثبت شيوخه بالإسناد سماه “سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند”، وكان بقاؤه في مكة والمدينة نحوًا من ثمانية أشهر.
واستفاد العلامة صديق خان من رحلته هذه -بخلاف الفوائد العلمية- اطلاعه على أحوال الناس في البلاد التي مرّ بها وما انتشر فيهم من بدع ومنكرات فقال: “وقد شاهدتُ في سفري هذا عجائب ورأيت فيه عدة مصائب واختبرت الناس وميزت السفهاء من الأكياس ووقفت على رسوم القوم وبدعهم ومحدثاتهم، وانهماكهم في تحسين الملابس والمطاعم والمناكح والمساكن وقصر هممهم على ذلك، وعدم رفع رؤوسهم إلى السنن وما مات منها، وضعف الإسلام، وهذا شين لأهل الدين لا سيما أهل مكة والمدينة الذين هم في خير بقاع الأرض وهم قدوة المسلمين خصوصا الأئمة منهم.
وقد رأيت منهم الإسراف المنهي عنه: في طول الذيول والثياب وغيرها، حتى رأيت العمائم كالأبراج، والكمائم كالأخراج، وبدعا لا تحصى ومحدثات لا تستقصى فرحم الله من اجتنب ذلك وصان نفسه عما هنالك ونهى القوم عن هذه المناهي والمنكرات وجمعهم على التمسك بالسنة والكتاب وذكر مقامه ومقامهم بين يدي رب الأرباب وخاف الله في كل ما يأتي به ويذر وفي الحضر والسفر والحياة والممات وكل الأحوال”.
وهذا التشخيص الدقيق لواقع الإسلام والمسلمين ينبئ عن وعي فكري عميق سيكون له تجسد في حياة الأمير صديق حسن خان العملية لاحقا، بحيث يسعى -بكل قوته- إلى الإصلاح بكل سبيل ممكن، وبعد هذه الرحلة واللقاء بالعلماء اتسعت معارفه وزاد تبصره واستحق أن يعد من كبار العلماء.
توليه منصب وزير التعليم:
بعد عودته من الحج سنة 1286هـ، أصدرت “شاه جهان بيكم” أمرًا بتعيينه ناظرا للمعارف = وزيرا للتعليم في مملكة بهوبال، فقبل المنصب وسرّ به جدا، وكأنه وجد فيه وسيلة للقيام بما يتمنى من الإصلاح ونشر العلم وتغيير الواقع المنحرف الذي شاهده في رحلة الحج ونقده في كتابه “رحلة الصديق إلى البيت العتيق”([32]).
والعلامة صديق خان كان منصرفا للتأليف والتصنيف فيما يصلح المجتمع، ولكنه الآن أصبح يتولى مسؤولية التعليم والنهوض به، فاستدعى من يثق بهم من العلماء لمساندته في هذه المهمة العظيمة، من التأليف والتعليم ورعاية المتعلمين، وهي المهمة التي سيبقى يوليها اهتمامه الدائم حتى لما توسعت مناصبه علمًا بأنه لم يبقَ في هذا المنصب سوى سنة واحدة فقط!
وقام بتأسيس المدارس والمعاهد وجلب العلماء الصالحين الأكفاء ومنحهم رواتب سخية رسخت للنهضة العلمية التي استمرت برغم ابتعاده المباشر عن وزارة التعليم، ولكنه بقي يقول: “إنني أرى هذه الخدمة العلمية أفضل من جميع الخدمات السابقة واللاحقة وهي أملي وغايتي”([33]).
ومن أجلّ الخدمات التي قام واستمر بها إنشاء المكتبات وجلب ذخائر الكتب والمخطوطات لها، وقد عين له وكلاء في عدد من المدن والدول ليزوّدوه أولاً بأول بذلك وجعل لهم رواتب مجزية.
رئاسته لديوان الملكة:
توسعت شؤون إمارة بهوبال واحتاجت الملكة لمن يدير ديوانها بشكل متقن، ولم تجد أفضل من
العلامة صديق حسن لذلك، فنقلته من وزارة المعارف إلى ديوانها الخاص، وجعلته سكرتيرها الخاص ومنحته لقب “خان” وذلك سنة 1287ه.
كانت بهوبال -رغم استقلالها الداخلي- واقعة تحت هيمنة الإنجليز الذين لهم وكيل مقيم قرب الملكة، فقام العلامة صديق خان بواجباته خير قيام وأعان الملكة في كل ما تحتاجه.
زواجه الثاني من الملكة:
كانت الملكة قد فقدت زوجها الأول في سنة وفاة والدتها وتسلمها الحكم عام 1285هـ، وكانت ملتزمة بالحجاب فقد نشأت وتربت على يد الشيخ جمال الدين الدهلوي الذي أحسن تعليمها وتربيتها تربية دينية مستقيمة في نفسها ومتقنة للقيام بمصالح شعبها، وكانت حريصة على متابعة شؤون رعيتها بنفسها ومتابعة كل صغيرة وكبيرة، وقد فعلت في مدة صغيرة من إنجاز المعاملات والتيسير على الناس الشيء الكثير برغم حجابها وعدم مخالطتها للرجال، ولكن كانت تتحرج من دخول المساعدين عليها، ومنهم العلامة صديق خان، دون وجود محرم لها، وأصبح يصعب عليها متابعة الأمور بنفسها وإجراء المقابلات الرسمية مع ساسة الإنجليز وملوكهم دون وجود زوج لها، عندها اقترح عليها الوكيل الإنجليزي أن تبحث لها عن زوج يساعدها ويعاونها في شؤون الحكم.
وبعد أن استشارت مَن حولها من الأقرباء والمساعدين والأعيان والوجهاء قررت الزواج بالعلامة صديق حسن خان، لِما له من سمعة دينية وعلمية طيبة وخبرة إدارية طويلة وإخلاص في خدمة المملكة وكونه من أسرة شريفة وعريقة، وأُعلن الزواج سنة 1288هـ بعد أن أجازه سلطة الاحتلال البريطاني.
وقد مضت الملكة في هذا الزواج رغم معارضة جدتها وابنتها، لأنها رأت أن ذلك خير لها ولشعبها، ويبدو أن بعض أعضاء أسرتها لم يرغبوا بهذا الزواج، ربما خوفا من فقدهم الحكم لاحقا لصالح أسرة العلامة صديق حسن، واحتجوا لذلك بأنه ليس من أهل البلد ولا من الأسرة الحاكمة، وسنعود للحديث عن ذلك حين تكاثرت المكائد عليه وتم عزله من مناصبه.
كان موضوع الزواج من تدبير الملكة، ولم يكن بطمع أو سعي من العلامة صديق خان كما أخبرنا بنفسه حيث يقول: “والله يشهد بأنني لم أقدر لأمر ما، وكنت محتاراً والقلب يخفق بين جوانحي هلعاً وفزعاً وحيرة ودهشة ولم تذكر لي الأميرة قبل ذلك عن الأمر وخضعت للأمر الواقع”([34]).
وفي زواج الشيخ صديق حسن للمرة الثانية من امرأة أرملة هدم لما شاع من كراهية الزواج بالأرامل بين المسلمين تأثرا بالهندوس الوثنيين الذين كانوا يحرقون الزوجة وهي حية عند وفاة زوجها، وهو الأمر السائد بين الهندوس حتى صدر قانون بالهند سنة 1987م يمنع من ذلك، وزواج العلامة صديق حسن من أرملتين هو نموذج من الإصلاح الاجتماعي العملي الذي هو من وظائف العلماء.
وقد كان هذا الزواج بركة وخيرا على الملكة حيث وجدت زوجا مخلصا لها وللناس، حيث وجدوا حاكما عادلا محسنا، وخيرًا على الشيخ نفسه فقد أتيح له القيام بالكثير مما يتمنى في سبيل الله من نشر العلم والمعرفة وإحياء الكتب وبثها ونشر الفضائل وبعثها ورعاية العلماء وطلبتهم في كل مكان.
ترجم العلامة صديق خان في كتابه “أبجد العلوم” لزوجته الملكة جيهان([35]) فقال: “أهل بيتي نواب شاهجهان بيكم مليكة بلدة بهوبال المحمية ومالكة رياستها العلية المخاطبة: بالرئيس البطل الأعظم من الطبقة العليا، ولدت في سنة 1254هـ، وجلست مجلس أبيها بالاستحقاق وهي ابنة تسع سنين وربت في حجر أمها: نواب سكندر بيكم وحصلت الفنون الفارسية وتعلمت الخط والكتابة واستفادت سليقة الرياسة والسياسة حتى برعت في ذلك، وامتازت في القدرة على ترجمة القرآن وتحرير الرسائل الدينية وتقرير المسائل الدولية. يضرب بها المثل في: الذكاء والحفظ والكرم والرحمة والجود، ولما بلغت اثنتين وعشرين سنة فوضت الرياسة إلى أمها واكتفت بولاية العهد، وحين توفت والدتها سنة 1285هـ، جلست على مسند الرياسة ثم تزوجت بي في سنة 1288هـ، بعد ما أجازته بذلك السلطنة البرطانية.
وتقرر لنا ضرب سبعة عشر مدفعا من جهة ملكة إنكلند في جميع أرضها المعمولة فيها عند ورودنا وصدورنا في تلك البلاد.
وفي سنة 1296هـ ورد مثالان عظيمان على اسمها الشريف مع نشان الدرجة العليا التي يقال لها شفقت من جهة السلطان عبد الحميد خان ملك الدولة العثمانية.
وهي التي عمرت الديار بعد خرابها، وأحيت المدارس العلمية بعد دروسها، وبَنت المساجد العظيمة، وقررت الوظائف الفخيمة، وحفرت الآبار، وغرست الحدائق والأشجار، وأحدثت العمائر الكبار، وأكرمت الصغائر والصغار، وأحيت السنن وأماتت البدع، وقلعت أسباب الفجور والفسوق وطهّرت الديار عن أدناس الإشراك والمحدثات.
وأسبلت ذيول المنح والعطايا على أهل المكرمات وجمعت من نفائس الكتب -على اختلاف أنواعها- وأعطت الطلبة ألوفا من المصاحف والرسائل الدينية مجانا، ولم تحرم من نوالها وجودها إنسانا، وأوقفت أرزاقا كثيرة على الفقراء وقررت لهم وظائف جمة من النقود والغلات، ولا تزال تعطي العفاة والواردين بمملكتها من الحجاج والغزاة والمسافرين والطلبة والمساكين من الأموال والأقمشة والبيوت إلى أن سالت سيول فيوضها العامة لكل حاضر وبادي وأمِن الناس في ظلها من كل خوف تالد وطارف، تتحرى الصدق والصواب في كل إياب وذهاب، وتقيم الصلاة والصوم لها يد عاملة في النظم فارسيا كان أو هنديا، ويمنى جارحة في النثر”.
وقد بقيت الملكة شاه جهان على هذا النهج حتى بعد أن أُجبرت على إبعاد الأمير الشيخ صديق خان عن المناصب، وبهذا التناغم بين الملكة والشيخ عمرت البلاد وحدثت نهضة علمية دينية تعدت حدود بهوبال وشهد لها كل منصف وعاقل.
وقد لخّص الأمير صديق خان هذه المرحلة بعد عودته من الحج فقال: “ثم ألقى عصا التسيار والترحال بمحروسة بهوبال من بلاده مالوة الدكن فنزل بها نزول المطر على الدمن وأقام بها وتوطن وأخذ الدار والسكن، وتمول وتولد واستوزر وناب وألّف وصنف، وعاد إلى العمران من بعد خراب وكان فضل الله عليه عظيمًا جزيلاً”([36]).
العلامة الأمير صديق حسن خان في سدة الحكم:
كانت الملكة تعي وجود حساسية من بعض أقاربها وأعيان المملكة في اختيار العلامة صديق خان زوجا لها وخوفهم من إبعادهم عن السلطة، لذلك لم تتعجل الملكة بمنحه الألقاب والصلاحيات وتسليمه مقاليد الأمور، وجعلت ذلك يتم بشكل تدريجي ليحصل على لقب “نوابَّ عالي الجاه أمير الملك خان بهادر”.
كانت الأوضاع في بهوبال خاصة، والهند بعامة، معقدة وشائكة، فهناك جهل وابتعاد عن الدين عند قطاع واسع من الناس حتى أنهم كانوا يشربون الخمر والحشيش في المساجد، ويضعون مع الميت جرة خمر! وهناك قوانين جائرة وضرائب باهظة على الناس بفعل الاحتلال والهيمنة الإنجليزية من جهة، وبفعل القوانين المتوارثة من جهة أخرى.
كان العلامة الأمير صديق خان يدرك أهمية التعاون بين العلماء والأمراء، وأن ابتعاد العلماء عن الأمراء يسبب ضررا لعموم الأمة، ولذلك نقل في كتابه “الإمامة” كلام العلامة الشوكاني: “ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والدين من مداخلة الملوك لتعطلت الشريعة المطهرة لعدم من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة وعم الجهل وطم”([37])، وقد طبق الأمير ذلك بنفسه من خلال تولي المناصب المتعددة أولاً، ثم زواجه بالملكة، والنيابة عنها في إدارة الأمور ثانياً.
ولذلك عزم الأمير صديق خان والملكة على تغيير الأوضاع ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً، والعمل على إعادة حكم الإسلام للبلد، فقاما بزيارات لكافة المدن والنواحي والقرى، واستمعوا مباشرة من الناس لمشاكلهم، وخلصوا لعدد من القرارات منها:
إعادة توزيع الأراضي، رفع الضرائب الجائرة، تنظيم دفع الزكاة وصرفها بحسب الشريعة، تنظيم شؤون القضاء وإصلاح نظام الشرطة، تأسيس المدارس وفتح المكتبات العامة، إنشاء دار للحسبة، وإحياء الشؤون الدينية وتعيين العلماء المخلصين فيها، وتأسيس المطابع الحجرية لنشر الكتب، إنشاء مجلس للشورى، وإعادة تنظيم جيش الإمارة، وإقامة مصلحة للبناء، ونشر الوعي الإسلامي والحث على فضائل الأخلاق ورعاية الفقراء والمساكين والأرامل ومحاربة الربا والرشوة والمسكرات([38]).
وطبّق الأمير صديق خان هذه القرارات بداية بتأسيس مجلس للعلماء للمشاورة وتأليف الكتب اللازمة والتدريس وتولي المناصب الهامة([39]) فأسند القضاء والإفتاء لكبار العلماء من شيوخه، وافتتح المدارس، وكان تدريس الدين اجباريا في جميعها، والدراسة مجانية، وأنشأ بعض المدارس العربية لزيادة الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وافتتح أيضا مدارس صناعية وعصرية وأدخل بعض المواد الجديدة والعصرية كالحساب والجغرافيا والتاريخ والمحاماة والمساحة والإحصاء والسكرتاريا ومواد صناعية كالنسيج والتطريز والخياطة وغيرها لتساهم في نهضة البلاد، وقد كانت الملكة أنشأت عدة مدارس على نفقتها، منها مدرسة للأيتام وتكفلت الإمارة بكافة مصاريفهم وملابسهم وسكنهم، كما أن الشيخ صديق خان أنشأ المدرسة الصديقية من ماله الخاص بجوار قصره وتكفل بمصاريفها وكان يدرّس فيها أحيانا، ولما توفي رحمه الله نقلت الملكة هذه المدرسة إلى جوار البستان الذي فيه قبره، ثم ضمت المدرسة إلى مسؤولية الدولة.
وجعل الأمير صديق خان جوائز ومِنح للطلبة المتفوقين ولحفظة القرآن الكريم وصحيح البخاري، وأقام بجوار المدارس مكتبات لتقوية معارف الطلبة، ومن أعظم المكتبات مكتبته الخاصة التي جمع لها ذخائر المخطوطات والمطبوعات من مختلف البلاد وجعل له وكلاء يشترون له الكتب حتى قال عنها: “وهكذا تجمّع لدي من ذخائر الكتب الثمينة الكبيرة لمؤلفات ابن حجر العسقلاني والذهبي والشعراني والمنذري والسفاريني وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن القيم وابن رجب الحنبلي وابن الجوزي والسيوطي وأئمة اليمن وغيرهم ومؤلفات السيد الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني والقاضي محمد بن علي الشوكاني وغيرهما خاصة رضي الله عنهم أجمعين وانعدمت هذه الكتب من عالمنا اليوم كالكبريت الأحمر وعنقاء مغرب وأنفقت عليها مبالغ كثيرة تصل إلى مئات آلاف من الربيات، وإنني انتفعت من تلك الآثار المقدسة كثيرا ولله الحمد… وأما الكتب التي طبعت في مصر واستانبول، سواء كانت قديمة أو حديثة، فتوجد أكثرها في مكتبتي، وكثير منها لا يعثر عليه في الهند”، وقبل موته قسّم هذه المكتبة بين ورثته، وقسم كبير منها أهداه ولداه نور وعلي الحسن إلى مكتبة ندوة العلماء وأفرد لها جناح خاص باسم أولاده([40]).
واعتنى العلامة الأمير صديق خان بإنشاء المطابع للعناية بتوسيع دائرة العلم والمعارف، فأسس أربع مطابع في بهوبال، ووثق الصلات مع بعض المطابع الهندية الأخرى، وقد كانت سياسته الإصلاحية في التصدي لهجمات التنصير ودسائس الاستعمار التي تسهل أمور الفسق والمجون، تقوم على إحكام المناهج التعليمية ونشر الكتب النافعة وتربية الأبناء في المدارس والآباء في المساجد، وتوجيههم توجيها صحيحا بعيدا عن ساحة المناظرات والمجادلات، وقد لقيت هذه السياسة نجاحا جيداً. وأيضا سعى لمنع الرشوة والمسكرات والربا في معاملات التجار وألزم من حوله بذلك، فتبدل حال كثير من الناس([41]).
واعتنى الأمير بطباعة مئات الكتب من أمهات الكتب السلفية الداعية للتوحيد والسنة ومناقضة الشرك والبدعة بعدة لغات وتعميم نشرها في البلاد المختلفة، وكان يطبع في الهند ومصر واستانبول ليعم النفع ويسهل النقل والتوزيع، ومما طبعه ونشره الأمير صديق خان تفسير ابن كثير وفتح الباري شرح صحيح البخاري، وكان هو أول من أدخله للهند ونيل الأوطار للشوكاني وغيرها من أمهات الكتب([42]).
وكان يهتم باستقدام العلماء وتوطينهم عنده في بهوبال ويفرّغهم للتدريس والتعليم مما جعل الطلبة يتوافدون على بهوبال من كافة مناطق الهند وخارجها أيضا، ولم يقتصر ذلك على علماء الهند بل استقدم بعض العلماء من اليمن كما فعل مع الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني.
وهذه الإنجازات والثمار المباركة كانت نتاج تخطيط ورؤية نافذة وصبر وأناة تجسدت في استراتيجية إصلاحية بعيدة المدى([43]).
علاقة العلامة الأمير صديق خان مع العلامة نذير حسين:
أي دارس لتاريخ الهند الحديث وتاريخ العلم، وخاصة علم الحديث، لا بد أن يدرك مباشرة الدور المركزي الذي قام به العلامة نذير حسين (1220- 1320هـ /1805-1902م)، حيث كان الشيخ نذير هو الوارث لعلم آل الشاه ولي الله الدهلوي بعد أستاذه الشاه محمد إسحاق الدهلوي، وجلس في كرسي التدريس والتعليم أكثر من ستين سنة فرسخ المنهج السلفي وتخرج على يديه آلاف الطلبة، الذين أصبح بعضهم كبار علماء عصرهم.
وقد كان العلامة صديق حسن التقى بالعلامة نذير حسين في دلهي أيام طلبه للعلم واستفاد منه قليلا وسبب ذلك أن الشيخ نذير كان لا يزال في بدايات التدريس في ذلك الوقت، ولكن مع الأيام قويت العلاقة والصلة بينهما وأصبحا المرجعية للسلفية في الهند، ولما تولى الأمير صديق خان المناصب في بهوبال عرض على العلامة نذير القدوم للتدريس فيها لكنه آثر البقاء في دلهي، وكانت بينهما مراسلات ومشاورات فيها تقدير واحترام متبادل.
وقد اعتمد الأمير صديق خان في تنفيذ مشروعه الإصلاحي على الكثير من العلماء المخلصين والأكفاء مِن خيرة طلاب العلامة نذير حسين، ومنهم الشيخ بشير السهسواني، صاحب كتاب “صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان”، والذي تولى إدارة المدارس في بهوبال([44])، والشيخ سلامة الجيراجفوري، الذي تولى إدارة التعليم بعد تقاعد الشيخ السهسواني([45]).
نشره للكتب السلفية:
بسبب نشاط العلامة الأمير في الكتابة والتأليف من قديم، وحرصه على نشر العلم والكتب ودعمه للعلماء وطلبة العلم بالكتب النافعة والأعطيات الجزيلة ومنافحته عن منهج السلف في الأصول والفروع عمّ صيته الكثير من البلاد وأصبح ينتظر رأيَه الكثير من العلماء، ومن أدلة ذلك ما جاء في شهادة الشيخ راشد بن علي النعامي النجدي، الذي راسل الأمير صديق خان وكتب في إحدى رسائله: “ولي أصحاب ينيفون على خمس مئة ألف نفس من الرجال والنساء والأطفال كلنا على معتقدكم الطاهر المطهر، ومؤلفات مشائخنا مطابقة لما أنتم عليه وما نحن عليه … وإني أنا وأصحابي الآن نعتقد أنك مجدد هذا القرن، وكنا قبل نحسب أن هذه الطريقة السلفية لنا، ليس لنا فيها مشارك في الدنيا حتى وقفت على بعض مؤلفاتكم الشريفة … وإن رأيتم ترسلون ما تيسر من مؤلفاتكم الشريفة لأجل بثها في بلادنا وتجعلونها وقفا لله عز وجل”([46]).
وفي هذه الرسالة توثيق تاريخي أن الكتب السلفية لم تنفرد الدولة السعودية بنشرها، بل سبقتها جهود سلفية هندية كبيرة، وقد كان لدول وأثرياء الهند الإسلامية فضل إنشاء كثير من المساجد والمدارس في الحرمين الشريفين وبقية دول الخليج حتى وقت ليس ببعيد.
ثناء العلماء عليه:
أما العلامة نعمان الألوسي مفتي العراق فكتب رسالة للأمير يطلب رأيه في ما يفعله أتباع الطريقة النقشبندية الصوفية من استحضار صورة شيخهم أثناء الذكر ويسمونها “الرابطة”، ثم ختم رسالته بقوله: “جعلكم الله تعالى للسلفيين وكافة الموحدين حصنا حصينا”([47]).
وقال عنه العلامة عبد الرزاق البيطار علامة الشام: “سيد علماء الهند كان مليا بالعلوم مجتهداً في إشاعتها مجدداً لإذاعتها أحيا السنن الميتة بالأدلة البيض من السنة والقرآن”.
وقال فيه العلامة محمد رشيد رضا: “وناهيك بسلفها الصالح السيد صديق حسن خان صاحب المصنفات الشهيرة التي هي من دعائم إحياء العلم والدين، رحمه الله تعالى([48]).
وقد جُمع كثير من كلمات ثناء العلماء والمصلحين من مختلف البلاد على الأمير صديق خان ومؤلفاته في كتاب “قرة الأعيان ومسرة الأذهان في مآثر الملك الجليل النواب محمد صديق حسن خان” الذي صنفه سليم أحمد فارس الشدياق صاحب مطبعة الجوائب بالقسطنطينية وطبعه سنة 1298هـ، وكانت مؤلفات العلامة الأمير-آنذاك- تسعة وخمسين مؤلفا فقط!([49]) وبالطبع زاد عدد مؤلفاته بعد ذلك وازدادت متانةً في سنواته الأخير بعد كثرة اطلاعه وجلبه ذخائر مخطوطات العلماء، ومن أبرزهم ابن تيمية وطلابه.
إكثاره من التصنيف:
كان العلامة صديق خان سريع الكتابة والتأليف، ذكر عنه تلميذه العلامة نعمان الألوسي: “بأنه فصيح سريع القراءة، سريع الكتابة، سريع الحفظ والمطالعة”.
يحكي عنه معاصروه بأنه كان يستغل وقته جيدا وكان مستعدًا دومًا للكتابة، يقول ابنه علي: “كان الأمير يقضي جلّ أوقاته في التأليف ولا يزال الناس في الإمارة أحياء، شاهدوا بأعينهم الانهماك وغاية الشغف بالتصنيف والتأليف للسيد الأمير وسرعة قلمه وكتابته وجودة خطه”، ويقول الشيخ حيدر حسن خان، أحد معاصري الأمير: “إن الأمير صديق حسن خان كان يؤلف جزءا واحدا كل يوم، وإن ذهب إلى أحد في مناسبة أو حفلة أو مأدبة وتأخر الطعام فيتنحى ويشتغل بالتأليف في نفس المكان”([50]).
ويقول العلامة الأمير عن مصادر كتبه: “إنني كل ما كتبت وألفت هو مستقاة من كتب الأئمة السلف والعلماء المتقدمين واستفدت من كتب المتأخرين قليلا جداً”([51]).
ولذلك أنجز الكثير من الكتب في مختلف الفنون والعلوم حتى بلغت 222 كتابًا، وإذا أضيف لها الرسائل الصغيرة تصل إلى ثلاثمئة مصنف باللغات الثلاث: العربية والفارسية والأوردية، ومؤلفاته العربية هي ست وخمسون مؤلفًا، حتى قيل فيه: إنه أنجز ما لم تنجزه الأكاديميات، وقد بدأ بالتصنيف مبكرا، وكان أول كتبه في دهلي زمن الطلب سنة 1270هـ، وهو “ترجمة المراح في التصريف”.
وقال متحدثًا عن كتبه: “انتشرت تلك الدفاتر بعد الطبع الجميل، والتشكيل الجليل، في بلاد الهند وبهوبال المحمية، ومصر القاهرة، وقسطنطينية، إلى الحرمين الشريفين – زاد الله شرفهما – وإلى البلاد الحجازية كلِّها من أبي عريش، وصنعاء اليمن، وزَبيد، وبيت الفقيه، وحُديدة، وعدن، ومراوعة، وبغداد، ومصر، والشام، والإسكندرية، وتونس، وبيروت، وإسلامبول، والقدس، والجزائر، وبلغار، وقازان، وجميع بلاد الترك، والفرس؛ كأصفهان، وطهران، وإيران، وغير ذلك، وأخذها الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء، والعلماء الموجودون الآن في حدود تلك البلدان على أيدي العظمة والإجلال والقبول والإقبال”([52]).
أهم مؤلفاته:
* ومن أهم كتبه تفسيره للقرآن الكريم المسمى “فتح البيان في مقاصد القرآن” الذي أنجزه سنة 1289هـ([53]) وبلغ عدة مجلدات، وقد شجعته على تأليفه زوجته الأميرة شاه جهان ودعمته لينجزه وخصصت له مطبعة خاصة، وطبع لأول مرة سنة 1290هـ([54]).
وقد نهج فيه النهج السلفي في التفسير بالبعد عن الآراء الشخصية والإسرائيليات والموضوعات واعتماد الآثار والمرويات والتقيد بفهم السلف والأئمة المتبعين، ولذلك وجد الكتاب تقبلا من العلماء من مختلف البلاد وأثنوا عليه.
وقد أهدى الأمير صديق خان نسخة من تفسيره إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني فأرسل له السلطان كتاب شكر وهدية هي نسخة من كتاب “أقوم المسالك في أحوال الممالك” وأنعم عليه بنيشان من الدرجة الثانية([55]).
وفي سنة 1297هـ وصل تفسيره للعلامة حمد بن عتيق فطالعه ثم كتب رسالة للأمير تدل على انتشار صيته، واعتباره من الشركاء في نصرة الحق، وشكره على تصنيف هذا الكتاب المبارك وقال فيها: “اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له (صديق) فنفرح بذلك ونسر لغرابة الزمان وقلة الإخوان وكثرة أهل البدع والأغلال. ثم وصل إلينا كتاب “الحِطَّة” و”تحرير الأحاديث” في تلك الفصول فازددنا فرحًا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم والالتقاط من جواهركم لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهلة وغلبة الأهواء، فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير، فرأينا أمرا عجيبا، ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله، في عصرنا وما قرب منه، لما في التفاسير التي تصل إلينا من التحريف، والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمْل كتاب الله على غير مراد الله، وركوب التعاسيف في حمله على المذاهب الباطلة، وجعله آلة لذلك. فلما نظرنا في ذلك التفسير، تبيّن لنا حسن قصد منشئه، وسلامة عقيدته، وبعده عن تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام، فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله :(وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) والحمد لله رب العالمين”.
في هذا النص يصرح العلامة ابن عتيق بأن الأمير صديق خان: أخ صادق، ذو فهم راسخ وطريقة مستقيمة، وجعله من الإخوان على السنة والتوحيد في مقابلة أهل البدع والضلال، ورغبة ابنه سعد بالسفر إليه في الهند للتعلم عليه، وسلامة عقيدة الأمير، وعدم تعمد مخالفة منهج السلف.
وقد صرح ابن عتيق بسلفية الأمير في التفسير في مجمله فقال: “واعلم أرشدك الله أن الذي جرينا عليه أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير أو شرح حديث اختبرناه واعتبرنا معتقده في العلو والصفات والأفعال … فلما اعتبرنا هذا التفسير وجدناك وافقتهم في ذكر المذهبين -يقصد مذهب السلف ومذهب الخلف – وخالفتهم في اختيار ما عليه السلف وتقرره، وليتك اقتصرت على ذلك ولم تكبر هذا الكتاب بمذهب أهل البدع فإنه لا خير في أكثره” وهذا تصريح بأن الأمير يختار مذهب السلف في هذه المسائل.
ثم يذكر الشيخ ابن عتيق بعض المواطن التي وقع فيها خطأ من العلامة الأمير في باب الصفات ويمكن حصر المؤاخذة عليه في نوعين:
1- أنه أورد في كتابه أقوال الأشاعرة والمتكلمين.
2- وقع من العلامة صديق خان في التفسير أخطاء وتناقضات في تفسير بعض آيات الصفات.
وذلك أن بعض مباحث العقيدة -وخاصة في باب الأسماء والصفات- اختلطت على كثير من الناس حتى من بعض أهل الحديث والحنابلة المتأخرين في تلك المرحلة الزمنية، ومن قبل أيضا، بسبب كثرة انتشار كتب أهل الكلام والفلسفة من جهة، وضعف انتشار كتب أئمة السلف وكتب ابن تيمية وتلاميذه كابن القيم وابن كثير والذهبي وابن رجب وغيرهم، وهذا تسبب في وقوع أخطاء من صديق خان في تفسير بعض الآيات ولذلك عبر عنها ابن عتيق بكلام دقيق: “وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل وأنه من ذلك القليل” وقال أيضا عن هذه الأخطاء: “وعدم تعمد مخالفة منهج السلف”، وهذا ضابط مهم في تمييز السني السلفي عن غيره، فهو يلتزم اتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة لكنه قد يقع في بعض الأخطاء عن غير قصد لجهل أو تأول أو ظن أن هذا هو منهج السلف.
ولعلاج هذه الأخطاء عند العلامة صديق خان أرسل له ابن عتيق هدية قيمة وهي كتاب “نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية” وطلب منه شرحها والاستفادة منها في الرد على أهل البدع، كما طلب منه زيادة الاستفادة من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم كالعقل والنقل، والتسعينية، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، واجتماع الجيوش الإسلامية، ونحوها من كتبهما، وهذه الرسالة تصلح نموذجا يدرس للطلاب لأدب التناصح بين العلماء وطلبة العلم وكيف يتعامل مع أخطاء الفضلاء السلفيين.
وفي هذا مؤشر مهم على دور كتب ابن تيمية وابن القيم في إحياء منهج السلف وبثه وتوعية العلماء والناس بحقيقة دين التوحيد والسنة النبوية، وفيه إشارة لأثر غياب بعض تراث شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في وقوع أخطاء وتناقضات من بعض الرموز السلفية المتأخرة في بعض دقائق علوم العقيدة، وأنه كلما ظهرت كتب ومخطوطات جديدة لابن تيمية وتلاميذه وانتشرت وطالعها العلماء تمايزت الصفوف وانكشف كثير من تلبيسات المبتدعة من أهل الكلام والفلسفة التي يموهون بها على العلماء والعامة.
وهنا نقطة يلزم بيانها وهي أن البعض يظن أن الأمير صديق خان كان ماتريديا في الأسماء والصفات ثم تحول لمنهج السلف في الصفات بعد رسالة العلامة ابن عتيق، وهذا غير صحيح، ومما يدل على ذلك أن صديق خان في نفس سنة تأليف كتابه في التفسير كتب عقيدته السلفية المعروفة باسم “قطف الثمر من عقائد أهل الأثر” وذلك سنة 1289هـ، وفي كتاب سليم فارس الشدياق “قرة الأعيان ومسرة الأذهان في مآثر الملك الجليل النواب محمد صديق حسن خان” سرد لمؤلفاته المطبوعة قبل سنة 1298هـ، وهي بعد سنة من رسالة ابن عتيق، نجد فيها الكتب التالية: “الاحتواء على مسألة الاستواء” و”الإدراك لتخريج أحاديث رد الإشراك” و”الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح” و”قصد السبيل في ذم الكلام والتأويل” و”عون الباري لحل أدلة البخاري”، وكلها كتب تنصر العقيدة السلفية في كافة جوانبها، مما يؤكد سلفية الأمير صديق خان من قبل.
ولكن هذا لا يمنع من وقوع الخطأ والزلل في بعض المواطن من تفسيره، ربما بسبب طول الكتاب، وربما بسبب عدم إدراك تفاصيل بعض المسائل في باب الأسماء والصفات، ومثل هذه الأخطاء وقعت له ولغيره ممن هم أعلى منه شأنا وأقدم عهدا بكثير.
* ومن أهم كتبه “الدين الخالص”، وجعله على قسمين: الأول جمع فيه آيات التوحيد الواردة في القرآن، والقسم الثاني خصصه لمباحث الاعتصام بالسنة واجتناب البدع.
* ومن كتبه المركزية كتاب: “الروضة الندية شرح الدرر البهية” وهو شرح لكتاب مختصر للإمام الشوكاني في الفقه، فقام الأمير بذكر الوفاق والخلاف في المسائل بأدلتها وترجيح ما يدل عليه الدليل الأقوى دون التزام مذهب بعينه، ومن جودة هذا الكتاب أن الشيخ الألباني كان يدرسه لطلبته في دمشق سنة 1956م([56]).
* ومن الكتب المهمة كتابه “إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة” وقد ألّفه بعد زواجه بالأميرة شاه جهان وتوليه المسؤولية بالنيابة عنها، فقد احتاج إلى أن يضع خطة ومبادئ يلتزم بها، فكتب في مقدمة الكتاب: “فلما ابتليت بالولاية والرياسة والسياسة المدنية خلافة عن الرئيسة المعظمة نواب شاه جهان بيكم سرحت نظري في مجاري أمور السياسة وجدت الذي ينفذ فيها وفي الدساتير والتنظيمات الملكية تخالف السياسات الشرعية!
حملني الخاطر على تأليف رسالة فيها جوامع من الخلافة والسياسة الإلهية والإمامة والإيالة النبوية” ودار كتابه على خلاصة مفادها: “فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإقامة دينه، وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا، وإن انفرد السلطان عن الدين، والدين عن السلطان فسدت أحوال الناس”([57]).
وقد وفقه الله عز وجل للجمع بين الرياستين وأن يحافظ على عطائه العلمي ويحسن إدارة الدولة برغم العقبات التي وضعت في طريقه.
وقد بقي يحب العلم والتأليف برغم رياسته، ولم ينشغل بالدنيا وزينتها عن زينة العلم والمعرفة، وبقي هذا التعلق بالعلم والتأليف حتى مرض موته، فحين عجز عن الكتابة آخر عمره كان يطلب من رفيقه الشيخ أحمد البهوبالى أن يكون عنده وهو يؤلف في كتابه “مرآة النسوان” حتى يأنس بمجلس الكتابة ويتناقش معه في بعض مسائله المتنوعة([58]).
نماذج من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وجهاده العلمي والسياسي:
من عادة الإنجليز صنع العملاء والفرق الضالة، ومن الأمثلة على ذلك سيد أحمد خان مؤسس ما عرف بالنيجرية، نسبة للكلمة اللاتينية “Nature” الطبيعة، والذي قام وأتباعه من بعده بتحريم الجهاد في الهند لصالح نصرة بريطانيا! وقد ظهر في زمن الأمير صديق خان، فلم يتردد الأمير في فضحه وبيان عداوته للإسلام والمسلمين ونصرته للكفار المحتلين برغم أنه في سدة الحكم وتحت هيمنة الإنجليز، فكتب عنه محذرا في سنة 1290هـ: “حتى نبعت فرقة لعهدنا هذا في مملكة الهند تقول بالملة النيجيرية وَتَنصر النصَارى وتخذل المسلمين بأدلة واهية وشكوك شيطانية وحجج داحضة، ولها دعاة في ديارهم يدعون ضعفاء العقول وسفهاء الأحلام إِلى قبول قولها وتحسين فعلها”([59])، وقال عنه: “ومنهم رجل أصله من بلدة كشمير ونشأ هو في بلدة دلهي، وتوسل بالنصارى حكام الهند اليوم يسمى بسيد أحمد خان أوجد ملة جديدة سماها “نيجرية” ينكر وجود الملائكة والشياطين ويحرف معاني نصوص الكتاب والسنة”([60]).
وبتأثير أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة ظهرت فرقة منكري السنة النبوية والقاديانية([61]).
وبرغم إدراكه للضعف الذي تعيشه مملكة بهوبال وهو ما يصيبه كذلك، إلا أنه لم يجبن عن بيان فضيلة الجهاد وأحكامه الشرعية في عدة كتب من مؤلفاته، وقد جعل خصومه من علماء السوء ذلك عيبا حرضوا الإنجليز به عليه! ولكنه كان يدرك أمانة العلم ومسؤولية البيان في الشرع وعدم كتمان بعضه لحاجة الأجيال لهذا وأنه لا يمكن بقاء الحال تحت هيمنة الكفار([62]). وبالمقابل عاب عليه البعض أنه كان لا يرى جواز الجهاد حاليا ضد الإنجليز لعدم القدرة عند المسلمين على ذلك.([63])
ومن الجوانب المهمة في جهاد الأمير صديق خان تصديه لإبطال اتهام أهل الحديث في الهند بالوهابية، وهذا موضوع ملتبس نوعاً ما بين السياسة والدين! وبين خصوم السلفية والإنجليز!
فمعلوم لكل باحث عن الحق أن السلفية تعني اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية بفهم السلف الصالح، وأن ثمرة ذلك توحيد الله عز وجل في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات ونبذ الشرك والبدع والتأويل، واتباع الدليل الصحيح في الفروع والعبادات، وهذا أمر مشترك بين جميع المسلمين الصادقين عبر التاريخ من مختلف المذاهب الفقهية.
ولذلك حارب المتعصبون لتقليد الرجال من أي مذهب أو أصحاب التأويل وعلم الكلام وأنصار التصوف الضال والبدعة والخرافة، وفي أي زمان ومكان دعاة السلفية وأطلقوا عليهم الأوصاف الباطلة والتهم الظالمة.
ولما ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1115 – 1206هـ) في نجد والشاه ولي الله الدهلوي (1114 – 1176هـ) في الهند بنفس الوقت تقريبا كانت بينهما مشتركات كثيرة بسبب وحدة المصدر وهو اتباع الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح وتلمذتهم على الشيخ محمد حياة السندي في مكة! لكن خصومهما كالوا لهما التهم الباطلة، منها وصفهم بالضلال والابتداع وعدم احترام العلماء، وألفوا في ذلك كتبا ونشروها في البلاد المختلفة بين إخوانهم وأنصارهم من المؤولة والمبتدعة والمتصوفة، هذا هو الجانب الديني من القضية.
أما الجانب السياسي من القضية فيتعلق بمقاومة السلفيين للإنجليز حيث وقعت صدامات بين أتباع محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود من قبائل القواسم وغيرهم مع القوات الإنجليزية على سواحل الخليج العربي سنة 1804م، مما جعل الإنجليز يدركون عرقلة الوهابيين لأطماعهم في الجزيرة العربية([64])!
أما في الهند فقد كان أهل الحديث معروفين بجهادهم الطويل ضد أعداء الإسلام من السيخ والإنجليز، وخاصة زمن الشهيدين أحمد عرفان والشاه إسماعيل اللذين استشهدا في معركة وادي بلاكوت سنة 1831م، من هنا أدرك الإنجليز وبقية المستعمرين والغزاة لبلاد الإسلام الأخرى أن العقيدة السلفية السليمة -وخاصة عقيدة الولاء والبراء- لا تقبل بالعدوان والهيمنة غير الإسلامية على بلادهم.
تفتق الخبث الإنجليزي عن الجمع بين الجانب الديني والسياسي للقضية عبر سياسة ماكرة تمثلت في ثلاث خطوات:
1- استغلت عداء المؤولة والمتصوفة القديم للوهابية في الحجاز وأشاعت أن أهل الحديث وهابيون! وبذلك فرّقت صف المسلمين في الهند الذي كان يفترض أن يجتمع على حرب الغزاة الكفار، وقد تسبب هذا لاحقا في انفصال الأحناف أتباع الشاه ولي الله الدهلوي بين أهل الحديث وبين الأحناف المتعصبين الماتريدية واشتهروا بلقب “الديوبندية” ومن ثم انفصل بعضهم وابتعد أكثر تحت راية البريلوية([65])!
2- أطلق الإنجليز على المجاهدين من أهل الحديث لقب “الوهابية” وجعلوه موازيا لكلمة إرهابي ومقاوم، ويستحق أشد العقاب والنكال، وقد طبقوا ذلك بوحشية شديدة، وأصدروا في ذلك قانونا خاصا يجرّم كل شخص يتهم بالوهابية([66])، ولذلك أصبح هناك حرج كبير يقع على أهل الحديث، خاصة إذا قام بعض قليلي الدين من خصوم أهل الحديث بالدس عليهم والتحريض عند الإنجليز كما حصل مع العلامة الأمير.
3- قام الحاكم الإنجليزي د. هنتر في كتابه “مسلمونا الهنود” بدس خبيث، حيث جعل مفهوم “الوهابية” -الذي هو في عرفهم بالهند يعني مقاومة الإنجليز- يشمل كل أصول الإسلام، بهدف إبطال الإسلام نفسه، وكان هذا الدس الخبيث مبالغا به جدًا لدرجة أن نصيرهم ومساندهم أحمد خان لم يتحمل ذلك وأنكره وصرح بأنه -بهذا المفهوم- يعتبر هو نفسه وهابيا([67])!
فأصبح الإنجليز -تحت لقب وهابي- يفرّقون صف مسلمي الهند وينكّلون بمن شاؤوا من أهل الخير والعلم، ويسعون لاجتثاث الإسلام، وأصبح قليلو الدين من خصوم أهل الحديث السلفيين من المتعصبين للمذهب الحنفي وأتباع الطرق الصوفية المبتدعة والغارقين في التأويل لصفات الله عز وجل يتهمونهم بالوهابية ويحرّضون الإنجليز عليهم، ومن ضمن من حرّضوا عليهم الأمير صديق خان.
وقد تصدى العلامة الأمير صديق خان لهذه الافتراءات وبيّن أن هذه التهمة لا تصح، فالإسلام الصحيح والمنهج السلفي هو مقتضى القرآن والسنة وفهم السلف وليس فهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحده، وأن توافق أهل الحديث والسلفيين في الهند مع دعوة ابن عبد الوهاب توافق بسبب وحدة المصدر وهو القرآن والسنة، وأيضا ليس كل أهل الحديث باعتقادهم المتوافق مع الوهابيين هم في حالة قتال وصراع مع الإنجليز، وألّف لذلك كتابه “ترجمان الوهابية” باللغة الأردية([68]).
والعجيب أن خصوم الأمير صديق خان من المبتدعة وأهل الأهواء كانوا يتهمونه بالوهابية والخروج على الإنجليز، وبالمقابل يتهمه بعض المتحمسين من مجاهدي أهل الحديث بالعمالة والمهادنة للإنجليز بسبب نفيه عن أهل الحديث تهمة الوهابية بمعنى الخروج والمقاتلة للإنجليز! فالعلامة الأمير كان ينفي عن أهل الحديث بالهند الوهابية بالصفة السياسية الإنجليزية أي العمل المسلح وليس الوهابية بالصفة الدينية الصحيحة، وهو كان يفعل ذلك بحسب السياسة الشرعية ومراعاة القوة والضعف، ودفع أعلى المفسدتين، فلم يكن في مقدوره محاربة الإنجليز، وعليه واجب حماية بقاء أهل الحديث وعموم المسلمين، ولا خيار لديه سوى ما قام به، وهذا الحال الاستثنائي لا يزال هو واقع كثير من بلاد المسلمين من الوقوع تحت هيمنة الكفار مع العجز عن مدافعتهم وإخراجهم، وعندها يتحمس البعض ويتهمون الآخرين بالجبن والعمالة!
إنصافه العلمي:
ومِن نماذج صدق وصراحة العلامة وصراحته وتقواه جمعه بين إنكار منكر تولية النساء للحكم والملك وبين إقراره ملك زوجته! فلم يمنعه كون زوجته ملكة من بيان حكم الشرع في تولية النساء القيادة العامة فقال في شرحه لصحيح البخاري عند حديث “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”: فقال: “والحديث إخبار عن عدم فلاح من ولي أمرهم امرأة … وكذلك تملك قطرنا هذا نساء مسلمات منذ أيام طوال، ولا تخلو عن فتن ومفاسد ظاهرة أو باطنة، فلا جعلنا الله تعالى من القوم الذين لم يفلحوا حيث ولوا أمرهم امرأة وهو جدير بالإجابة”([69]).
وهنا يظهر حسن السياسة الشرعية، فالملكة والأمير هما تحت الهيمنة الإنجليزية، وتخلي الملكة عن الحكم يفتح الباب للطامعين الفاسدين أو الإنجليز، وبقاؤها ومعاونة الأمير لها هو الأفضل للإسلام والمسلمين، فكان قبول الأمير بهذا هو أخف الشرور وأحسن المنافع الممكنة، وقد تبيّن هذا لما أجبر الإنجليزُ الأميرَ على التنحي عن شؤون الإمارة والبعد عنها وسحبت منه الألقاب والصلاحيات في سنواته الأربع الأخيرة([70]).
حسد الخصوم ومكائدهم([71]):
كان الأمير صديق خان يدرك ما يجري من حوله، والحالة التي هو فيها، ولذلك كتب يقول عن وضعه: “ثم خوّله سبحانه من المال الكثير والحكم الكبير والآل السعداء والأخلاف الصلحاء والنسب الحميد والحسب المزيد ما يقصر عن كشفه لسان اليراع ولو كشف عنه الغطاء ما ازداد الواقف عليه إلا يقينا وإن يأباه بعض الطباع.
وهو الذي يقول لأخلافه مقتديا بأسلافه بفم الحال ولسان المقال: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور”، “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ”، وهو قد طعن الآن في عشر الخمسين من العمر المستعار مع ما هو مبتلى به من: سياسة الرياسة وقلة الشغل بالعلم والدراسة وفقد الأحبة والأنصار وتسلط الأعداء الجاهلين بالقضايا والأقدار.
والمرجو من حضرة رب العالمين أن يجعله ممن قال فيهم: “وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ” والحمد لله الذي جعله محسودا ولم يجعله حاسدا وخلقه صابرا شكورا ولم يخلقه فظا غليظ القلب عانداً، ولله در الحسد أعدله … بدأ بصاحبه فقتله“([72]).
وكعادة الناجحين والمصلحين أن يبتلوا بالحاسدين والحاقدين، فتجمعت ضد الأمير العلامة صديق خان جبهة مكونة من بعض أفراد أسرة الملكة، ومنهم ابنتها ولية العهد الأميرة سلطان جهان، وبعض رجال الحكم، وبعض علماء السوء، وبالطبع بعض ساسة الإنجليز وعملائهم، فأخذت المؤامرات تحاك ضده، فبداية حاولوا أن يوغروا صدر الملكة ضده لكنهم فشلوا، وكان بعض أفراد الأسرة الحاكمة قد دسوا على الأميرة بعض أدوية العقم حتى لا تنجب من الأمير صديق خان!
ولم يتوقفوا عن مكائدهم فوجهوا لهما خطابات تهديد بالقتل فلم يخافا منهم، فدسوا لهما السم في الطعام ولكن الله نجاهما برغم أن الأمير العلامة صديق خان أصابه القيء فورا.
فلجأوا لبث الإشاعات ضد الأمير بالتقصير في أمور الإمارة ونشروا ذلك في الصحف! ولقيت هذه المزاعم قبولا لدى الحاكم الإنجليزي المنزعج من الأمير ونشاطه وسياساته الإصلاحية غير الصدامية.
كان الخصوم قد لفقوا للأمير عدة تهم حرضوا بها الحاكم الإنجليزي عليه، وهي:
الحث على الجهاد والترغيب به ضد الإنجليز، ونشر الوهابية التي هي عند الإنجليز تعني الجهاد والمقاومة، وإلزام زوجته بالحجاب ليستبد بالحكم من دونها، ومصادرة الإقطاعيات والتصلب والعنف في الحكم والتعامل مع الموظفين، الوقيعة بين زوجته الملكة شاه جيهان وبين أمها الأميرة قدسية وابنتها الأميرة سلطان.
ومن المؤسف أن تصدر هذه الاتهامات من مسلمين بل بعضهم يعد نفسه من العلماء ويسعى بها لتأليب الإنجليز الكفار على مسلم!
تكاثرت المكائد على الأمير من أقرباء الملكة وعلماء السوء وعملاء الإنجليز، وبعد أربع عشرة سنة من تولي منصب النيابة عن الملكة صدرت الأوامر الإنجليزية بسحب ألقاب الإمارة منه في سنة 1302هـ، وفي العام التالي سُحبت صلاحياته ومُنع من العمل الإداري، بل مُنع من البقاء مع زوجته الملكة في قصرها لمدة ثمانية أشهر([73])!
وبقيت زوجته وفية له في وجه كل خصومه، فذهبت للحاكم الإنجليزي العام في الهند وطلبت أن يعود الأمير لقصرها فوافق، ووعدها بإجراءات أخرى لاحقا، كما أن بعض العلماء من رفاق الأمير ومساعديه تضامنوا معه، مثل الشيخ محمد بن عبد العزيز الجنبوري الذي قدم استقالته من منصب القضاء بعد عزل الأمير الذي كان قد ولاه القضاء([74]).
تعرض العلامة الأمير للإهانة والمكائد وقاسى من جراء ذلك كثيراً، فانظر إلى حالة الضعف هذه التي حصلت بسبب الأحقاد الشخصية والمصالح الذاتية لعلماء الضلالة، فهل يفهم شباب اليوم مقدار معاناة العلماء المصلحين في نشر العلم ومنهج السلف وكم قاسوا من صعوبات، كما أن هذا يوضح من جهة أخرى سبب عدم قيام الأمير صديق خان ببعض الأمور من إنكار بعض المنكرات أو التصريح بالحق التام حيث أنه -برغم إمارته- يصبح ضعيفا نتيجة ضعف دول الإسلام عموما، بل ولا يملك أمر البقاء مع زوجته!
وقد كَتب عن هذه الحالة فقال: “اللهم إنك تعلم كوننا في هذه المائة الثالثة عشرة التي ذهبت بكل خير وجاءت بكل شر، ومذ فتحنا عيننا لم نر إلا شيناً وريناً، ووقعنا في ناس جاهلين وقوم عن الدين ناكبين وخلقنا في زمان ليس علينا فيه سلطان أحد من المسلمين وإنما نحن الأسارى في أيدي الفجرة الكفرة الجبابرة الظالمين لا نقدر على شيء ولا نعرف سبيلاً إلى خروج”([75]).
وفاته:
وبقي على هذا الحال صابرا محتسبا لم يستعطف أحدا من الناس في سنواته الأخيرة، حيث تنكر لهُ غالب الناس إلا زوجته ملكة بهوبال التي بقيت مخلصة له وفيّة لصحبته تدافع عنه وتسعى عند الإنجليز لعودته إلى وضعه السابق.
في 1307هـ، أصيب بمرض الاستسقاء، واشتد عليه المرض وأصبح طريح الفراش وقامت زوجته الملكة برعايته والتخفيف عنه، وفي آخر ليلة فتح عينيه وكانت أصابعه تتحرك وكأنها تكتب لكثرة ما فعل ذلك من قبل، وسأل عن كتابه الأخير “مسائل الإحسان” الموجود في المطبعة وإن كانت قد انتهت طباعته؟ فقيل له: سيصل خلال يومين، ثم استيقظ من نومه وسأل عن الوقت فقيل له: إنها الواحدة ليلا، وطلب الماء وقال: أحبّ لقاء الله، واحتضر وفاضت روحه، رحمه الله، في 29 جمادى الآخرة 1307هـ – 1890م، عن عمر 59 سنة، رحمه الله وتقبله في الصالحين.
ومع إعلان نعيه جاء قرار الحاكم العام بإعادة ألقاب الأمير والمراسم الأميرية له وأن تطبق على جنازته، ويبدو أن هذا على طريقة الإنجليز: يكرمون ميتا لا يضرهم، ويكسبون حيا يحتاجونه!([76]) وكانت جنازته عظيمة حضرها الآلاف وكان قد أوصى أن يدفن على السنة والتزمت زوجته بذلك ودفن قرب حديقة “نظر باغ”.
وقد تحقق في الأمير العلامة صديق حسن خان مقولة إمام الحديث الإمام أحمد بن حنبل: “مع المحبرة إلى المقبرة”، فقد بقي الأمير إلى آخر رمق في حياته يؤلف ويصنف برغم المحن والدسائس والمرض ويتابع طباعة كتبه لحرصه على نشر العلم وإفادة الناس.
وبذلك تكون غربت شمس علمه عن الناس لكن بقيت للناس منه كتبه الكثيرة وما ساهم في طبعه ونشره وما قام به من جهود عظيمة في إنشاء المدارس والمكتبات وتفريغ العلماء للتدريس والتحقيق والتأليف.
وقد ترك من بعده ولدين وبنتا من زوجته الأولى، وكان يحب أولاده ويجلّهم وهم الذين حملوا من علمه وساهموا في حياته ومن بعده في التعليم والتصنيف وترجم لهم في عدد من كتبه، وهم:
– نور الحسن، تتلمذ على أبيه وعلماء عصره من شيوخ أبيه ورفاقه، له تأليفات منها:
رسالة النهج المقبول من شرائع الرسول، وكتاب عرف الجادي من جنان هدى الهادي، وهما في فقه السنة. وتذكرة في شعراء الفرس سماه نكارستان سخن، وتذكرة أخرى في شعراء الهند.
– علي حسن، درس على أبيه والعلماء كأخيه، وله رسالة في حكم التقليد.
وقد بقيت أرملته الملكة جهان على الوفاء له ولأولاده كما كان وفيا لابنتها سلطان جهان، رغم كرهها له بسبب وشايات الخصوم، وبقيت الملكة سائرة على نهجها ونهج الأمير حتى وفاتها سنة 1318هـ/ 1901م، رحمهما الله جميعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1]– جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، نعمان الألوسي، ص 62.
[2]– ترجمة الأمير العالم المصنف صديق بن حسن خان، محمد زياد التكلة، مقال في موقع الألوكة على شبكة الإنترنت.
[3]– أبجد العلوم، صديق حسن خان، 3/267، الحركة السلفية ودورها في إحياء السنة، عبد الرحمن الفريوائي، ص 41، ترجمة محمد زياد التكلة له.
[4]– الأمير سيد صديق حسن خان حياته وآثاره، د. محمد اجتباء الندوي، ص 36، 41.
[5] – الأمير سيد صديق حسن خان، ص 54 و56.
[6] – المصدر السابق، ص 50.
[7] – ترجمته لنفسه في نهاية كتابه الحطة في ذكر الصحاح الستة.
[8] – الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية وموقفه من عقيدة السلف، أختر جمال أحمد لقمان، ص 17، نسخة مصورة.
[9]– الأمير سيد صديق حسن خان، ص 64.
[10]– المصدر السابق، ص 23.
[11]– دعوة الشيخ صديق حسن خان واحتسابه، علي بن أحمد الأحمد، ص 22.
[12]– ترجمته لنفسه في كتابه الحطة، الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 19. الأمير سيد صديق حسن خان، ص 62.
[13] – عرفت هذه المدينة قديما باسم دهلي ولذلك ينتسب لها العلماء بلقب “الدهلوي” ثم حوّله الإنجليز إلى دلهي.
[14] – مقدمة الشيخ عبد الحميد عبد الجبار الرحماني على كتاب دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية وموقف الخصوم منها، لصلاح مقبول، ص 33، وكلام المؤلف الشيخ صلاح مقبول ص 175.
[15] – إبقاء المنن لصديق خان، ص 30، نقلاً عن الأمير سيد صديق خان، ص 197.
[16]– الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 19.
[17]– الأمير سيد صديق حسن خان، ص 70.
[18]– المصدر السابق، ص 83.
[19] – ترجمته لنفسه آخر كتابه الحطة، الحركة السلفية ودورها في إحياء السنة، عبد الرحمن الفريوائي، المكتبة الشاملة، ص 40. وهو مختصر من كتابه الكبير جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة، ص 98.
[20] – الأمير سيد صديق حسن خان، ص 85.
[21] – الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 3.
[22] – لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان، صديق خان، ص 230.
[23] – ص 67.
[24] – الأمير سيد صديق حسن خان، ص 92.
[25] – المصدر السابق، ص 94.
[26] – أبجد العلوم 3/265.
[27] – الأمير سيد صديق حسن خان، لمحمد زياد التكلة، ، ص 99.
[28] – رحلة الصديق إلى البيت العتيق، صديق حسن خان، ص 160 – 169.
[29] – المصدر السابق، ص 171.
[30] – ذكر نُسخ هذا الكتاب: أختر جمال في رسالته الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 30، وكذلك في كتاب الأمير سيد صديق حسن خان، ص 102، ومقدمة الشيخ عبد الحميد عبد الجبار الرحماني على كتاب دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها، ص 34.
[31] – ذكر نُسخ هذا الكتاب: أختر جمال في كتابيه السابقين.
[32] – الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 30.
[33] – الأمير سيد صديق حسن خان، ص 109.
[34] – الروض الخضيب، ص 171، ومآثر صديقي 2/88 نقلا عن الأمير سيد صديق خان، ص 118 و148.
[35] – أبجد العلوم باختصار.
[36] – أبجد العلوم، 1/273.
[37] – إكليل الكرامة، ص 354.
[38] – الأمير سيد صديق خان، ص 120 و130.
[39] – دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بين مؤيديها ومعارضيها في شبه القارة الهندية، أبو المكرم بن عبد الجليل، ص36. دعوة الشيخ صديق خان واحتسابه، ص 338 و341.
[40] – الأمير سيد صديق خان، ص 105 و127، ودعوة الشيخ صديق حسن خان واحتسابه، ص 148.
[41] – الأمير سيد صديق خان، ص 130. دعوة الشيخ صديق خان واحتسابه، ص 348.
[42] – الأمير سيد صديق خان، ص 106، الدعوة السلفية في شبه القارة الهندية، ص 438.
[43] – دعوة الشيخ صديق واحتسابه، ص 313.
[44] – الأمير سيد صديق خان، ص 62 و181 و190، ومقدمة الشيخ عبد الحميد عبد الجبار الرحماني على كتاب دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها، ص 36، وكلام الشيخ صلاح مقبول ص 175.
[45] – الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 44.
[46] – التاج المكلل، ص 517.
[47] – الأمير سيد صديق خان، ص 162.
[48] – مجلة المنار (14/471).
[49] – التاج المكلل، ص 537.
[50] – الأمير سيد صديق خان، ص 219.
[51] – إبقاء المحن ص 17، نقلا عن الأمير سيد صديق خان، ص 223.
[52] – التاج المكلل، 1/537.
[53] – ترجمته في مقدمة تفسيره، ص 4.
[54] – الأمير سيد صديق خان، ص 233.
[55] – قرة الأعيان ومسرة الأذهان في مآثر الملك الجليل النواب محمد صديق حسن خان، ص 4.
[56] – الأمير سيد صديق خان، ص 247. وكتاب د محمد اجتباء الندوي تم تأليفه بسبب تدريس الألباني لكتاب الروضة الندية وحضور د. محمد اجتباء الندوي الدرس وسؤال الألباني له عن سيرة العلامة الأمير وعجز الندوي عن الجواب! كما صرح الندوي في المقدمة.
[57] – مقدمة كتابه إكليل الكرامة.
[58] – – الصديق حسن القنوجي آراؤه الاعتقادية، ص 37.
[59] – لقطة العجلان، ص 191.
[60] – الإذاعة لما كان ويكون من أشراط الساعة، ص 128.
[61] – أثر الاستشراق على المنهج العقدي الإسلامي بالهند (١٨٥٠ م -١٩٥٠م) دراسة نقدية، سعيد أحمد هندي، 1/552.
[62] – دعوة الشيخ صديق خان واحتسابه، ص 205، سيرة الأمير صديق خان، ص 146.
[63] – لمزيد من التوسع انظر: مآثر صديقي (بالأردو) 3/130-140، نقلاً عن موائد العوائد (بالفارسي) ص 34، بواسطة د. نصر من الله بن غلام محمد الأفغاني في رسالته للدكتوراة ترجيحات القنوجي في تفسيره فتح البيان في مقاصد القران.
[64] – أثر الدعوة الوهابية على تطور العلاقات السياسية العثمانية البريطانية، محمد نادر قواسمة وعبد المجيد زيد الشناق، بحث منشور في مجلة أبحاث اليرموك “سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية”، المجلد 31، العدد 1، آذار 2022م/ شعبان 1443هـ، الاستيعاب في تاريخ الدولة السعودية الأولى ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، د. سلطان فالح آل حثلين، 1/418.
[65] – حركة الانطلاق الفكري وجهود الشاه ولي الله في التجديد، محمد إسماعيل السلفي، ص 123، الدعوة السلفية في شبه القارة الهندية، عبدالوهاب خليل الرحمن، رسالة مصورة إلكترونية، ص 351.
[66] – الدعوة الإسلامية في باكستان، محمد يعقوب طاهر، رسالة مصورة إلكترونية، ص 49.
[67] – سيرة الأمير صديق خان، ص 141.
[68] – دعوة الشيخ صديق واحتسابه، ص 291، سيرة الأمير صديق، ص 140 و146، الحركة السلفية في البنغال، محمد مصلح الدين، نسخة مصورة إلكترونية، ص 91 و325، البريلوية، إحسان إلهي ظهير، ص 36، الدعوة الإسلامية في باكستان، ص 49، الدعوة السلفية في شبه القارة الهندية، ص 341 و573، دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بين مؤيديها ومعارضيها في شبه القارة الهندية، ص50.
[69] – عون الباري لحل أدلة البخاري، 4/ 596.
[70] – دعوة الشيخ صديق خان واحتسابه، ص 228.
[71] – الأمير سيد صديق خان، ص 141.
[72] – أبجد العلوم 3/273.
[73] – ترجمة صديق حسن، لمحمد زياد التكلة.
[74] – سيرة الأمير صديق خان، ص 153، دعوة الشيخ صديق واحتسابه، ص 339.
[75] – إكليل الكرامة، ص 63.
[76] – ترجمة صديق حسن لمحمد زياد التكلة.