السبت - 19 جمادى الآخر 1446 هـ - 21 ديسمبر 2024 م

مثاراتُ الغلط في مسألة التبرُّك

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مسألة التبرك من أكثر المسائل التي حصل فيها خلط وغلط كثير؛ بسبب الإطلاقات غير المنضبطة، إفراطًا أو تفريطًا، مما ترتب عليه اشتباه المشروع بغير المشروع لدى البعض، ومواطن الإجماع بمواطن الخلاف، وما يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ.

وقد حصل توسع كبير في هذا المسألة، أخرجها -في بعض صورها- من حيز المشروع إلى حيز غير المشروع، وأخرج صورًا أخرى من حيز المختلف فيه إلى حيز البدعة المتفق على المنع منها.

فتوسع البعض في مفهوم التبرك أصلا، وخلطه ببعض المسائل الأخرى، وتوسع آخرون في مفهوم آثار النبي ﷺ الذي أجمع العلماء عليها، فأدخل فيه ما ليس منه.

وتوسع آخرون بعد ذلك، فأدخلوا في ذلك التبرك بآثار الصالحين، ثم توسع غيرهم في مفهوم هذه الآثار حتى أدخلوا في ذلك كل موضع مرّ فيه، أو جلس فيه، أو دفن فيه، حتى صار حالهم كحال مشركي الجاهلية وعباد الأوثان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذا يبين شؤم البدع وخطورتها، وأنها تؤول بصاحبها إلى بدع أغلظ، بل ربما تصل به إلى الكفر والشرك، والعياذ بالله.

وفي هذه الورقة بعون الله نسعى لتحرير بعض مواطن هذه الأغلاط ومثاراتها، والله المستعان وعليه التكلان.

أولا: معنى التبرك:

التبرك على وزن (تفعُّل)، بمعنى طلب البركة، كالتكسّب طلب الكَسب، والبركة: هي الثبوت واللزوم، يقال: بركت الناقة إذا ثبتت في محلها.

والبركة في اللغة تطلق على: الزيادة والنماء والكثرة في كل خير([1]). وبهذا وردت في القرآن.

قال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ ٱلقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحنَا عَلَيهِم ‌بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرضِ﴾ [الأعراف: 96]. قال الزجاج: “أي: أتاهم الغيث من السماء والنَباتُ من الأرض، وجعل ذلك زاكيًا كثيرًا”([2]).

وقال تعالى: ﴿قَالُواْ أَتَعجَبِينَ مِن أَمرِ ٱللَّهِ رَحمَتُ ٱللَّهِ ‌وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيكُم أَهلَ ٱلبَيتِ إِنَّهُۥ حَمِيد مَّجِيد﴾ [هود: 73].

ووصف القرآن بأنه مبارك، كما في قوله تعالى: ﴿وَهَٰذَا ذِكر ‌مُّبَارَكٌ أَنزَلنَٰهُ﴾ [الأنبياء: 50] لكثرة خيره، وكذلك وصف ليلة القدر بأنها ليلة مباركة: ﴿إِنَّا أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَة ‌مُّبَٰرَكَةٍ﴾ [الدخان: 3]؛ وذلك لكثرة ما فيها من الخيرات.

قال السمين الحلبي (ت: 756هـ): “فقولنا: تبارك وتعالى أي: تزايد خيره على خلقه، و{في ليلةٍ مباركةٍ} أي: كثر خيرها؛ لأنها مد في زمانها. قال الأزهري: تبارك أي: تعالى وتعاظم. وقال ابن عرفة: هو تفاعل من البركة، وهو الكثرة والاتساع. قلت: يريد ما ذكرتُه، ولا يقال ذلك إلا لله تعالى”([3]).

والتبرك اصطلاحا: طلب البركة وهي الخير الكثير، من ملابسة أو ملامسة شيء معين أو بقعة معينة.

والتبرك له معنى عام: وهو طلب الخير عموما، بتقوى الله وطاعته، فلا شك أن تقوى الله تعالى مجلبة للخيرات والبركات، كما قال تعالى: ﴿‌وَمَن ‌يَتَّقِ ‌ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجا (٢) وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وكما قال تعالى: ﴿وَيَٰقَومِ ٱستَغفِرُواْ رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيهِ يُرسِلِ ٱلسَّمَاءَ عَلَيكُم مِّدرَارا ‌وَيَزِدكُم ‌قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُم وَلَا تَتَوَلَّواْ مُجرِمِينَ﴾ [هود: 52]. وغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على هذا المعنى.

وله معنى خاص وهو: طلب البركة بملامسة شيء معين. فهذا هو مقصود البحث.

وثبوت البركة بالمعنى الأول لا يدل على مشروعيته بالمعنى الثاني، إلا إذا ورد دليل خاص بمشروعية ذلك.

فلا يصح الاستدلال مثلا ببركة مجالسة الصالحين ومصاحبتهم للتعلم منهم أو الاستفادة منهم، على جواز التبرك بالمعنى الخاص.

فالكعبة بيت الله تعالى، بيت مبارك بنص القرآن، ومع ذلك لا يجوز التبرك بأحجارها ولا التمسح بغير الركنين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وكذلك أرض الشام أو المدينة مباركة، وصفت بالبركة، وهذا لا يعني جواز التبرك بترابها وبقعتها؛ لأن التبرك هنا المقصود به كثرة الخير في هذه البلاد.

والبركة بمعناها العام والخاص هي من الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى مالكها يعطيها لمن يشاء ويمنعها عن من يشاء، كما قال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ أَهلَ ٱلقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحنَا عَلَيهِم ‌بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿‌مَّا ‌يَفتَحِ ‌ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحمَة فَلَا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِك فَلَا مُرسِلَ لَهُۥ مِن بَعدِهِۦ وَهُوَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2].

وكان ﷺ يسأل ربه البركة ويطلبها منه، فدعا لأهل المدينة بالبركة فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ»([4]). وغيره من الأحاديث الكثير التي يدعو فيها ربه سبحانه وتعالى بالبركة.

فالبركة من الله تعالى وحده، ولا تطلب إلا منه سبحانه وتعالى، والمسلم إذا تبرك التبرك المشروع بشيء من المخلوقات فإنما يفعل ذلك مع اعتقاده التام أنه سبب من أسباب الخير والبركة، وليس أن هذا الشيء ينفع بذاته، فالبركة من الله تعالى خلقًا وإيجادًا، وهي من العبد تسببا وكسبا.

اعتقاد البركة في شيء لا يكون إلا بدليل ظاهر أو باطن يدل على ذلك:

وبيان ذلك أن الأسباب الجالبة للبركة والخير إما أن تكون أسبابًا ظاهرة، أو أسبابًا باطنة.

فالأسباب الظاهرة: هي التي تكون العلاقة فيها بين السبب والمسبب ظاهرة، مثل أن الطعام سبب للقوة، والدواء سبب للشفاء، وهكذا. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» فإن البركة هنا هي البركة الظاهرة، وسببها ظاهر.

قال النووي رحمه الله: “وأما البركة التي فيه فظاهرة؛ لأنه يقوي على الصيام وينشط له، وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام؛ لخفة المشقة فيه على المتسحر. فهذا هو الصواب المعتمد في معناه”([5]).

وهذا لا ينافي أنه تحصل به بركة باطنة، من متابعة السنة والحرص عليها، ومخالفة أهل الكتاب، وغيرها من فوائد السحور وبركاته الدينية والدنيوية.

وأما الأسباب الباطنة: فهي التي تكون العلاقة فيها بين السبب والمسبب باطنة وغير ظاهرة، وهذه لا تثبت إلا بالدليل الشرعي؛ لأنه لا سبيل لإثباتها بغير ذلك، فمن ادعى في شيء بركةً معينة، وليس ذلك لسبب ظاهر، ولم يكن ثَمّ دليل من الشرع على قوله، كان ذلك كذبًا على الشرع وعلى القدر، ومن ذرائع الشرك كما سيأتي إن شاء الله.

أقسام التبرك:

التبرك من حيث حكمه ينقسم إلى قسمين:

الأول: تبرك مشروع، وهو أنواع:

1- التبرك بآثار النبي ﷺ كتبرك الصحابة بماء وضوئه، وتبركهم بشعره، وتبركهم بنخامته.

وأدلة ذلك مشهورة في السنة، وقد بوّب البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: “‌‌بَابُ مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَصَاهُ، وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ، وَخَاتَمِهِ، وَمَا اسْتَعْمَلَ الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ، وَنَعْلِهِ، وَآنِيَتِهِ مِمَّا ‌يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ”([6]).

وذَكَرَ أدلة ذلك في صحيحه، فمن ذلك: ما رواه بسنده عن عيسَى بن طَهْمَانَ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ. فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ البُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([7]).

ومن ذلك قول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: هَذِهِ ‌جُبَّةُ ‌رَسُولِ ‌اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا([8]).

والأحاديث في ذلك كثيرة، ولم يذكر أحد من العلماء خلافا في المسألة، بل تتابع العلماء على النص على مشروعية ذلك؛ لكثرة أدلته وفعل الصحابة والتابعين لذلك.

ولا فرق في هذه الآثار بين حالة الحياة وحالة الموت؛ لأن هذه الآثار لا تحل فيها الحياة أصلا، ويدل عليه حديث أسماء السابق، وحديث أم سلمة رضي الله عنها في الصحيح عن عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قال: أرْسَلَنِي أهْلِي إلى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبيِّ ﷺ بقَدَحٍ مِن مَاءٍ مِن قُصَّةٍ، فيه شَعَرٌ مِن شَعَرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ إذَا أصَابَ الإنْسَانَ عَيْنٌ أوْ شَيءٌ بَعَثَ إلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَاطَّلَعْتُ في الجُلْجُلِ، فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا([9]).

والمقصود بالآثار: ما لامست جسده الشريف، أو انفصلت منه، كثيابه، وعرقه، ووَضوئه، وشعره صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، سواء في حياته أو بعد مماته، إذا صحت نسبتها إليه؛ لأنه ليس كل ما ينسب إليه ﷺ من آثار تصح نسبته إليه كما سنبين إن شاء الله.

2- ومن التبرك المشروع: التبرك بماء زمزم:

قال ﷺ فيه: «إنها مباركة، إنها طعام طعم»([10]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ماءُ زَمزمَ لما شربَ لَهُ»([11]).

قال ابن القيم رحمه الله: “وقد جربتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض، فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذّى به الأيام ذوات العدد قريبًا من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعًا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يومًا، وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مرارًا”([12]).

ولذلك يستحب نقله للتبرك به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومن حمل شيئا من ماء زمزم جاز، فقد كان السلف يحملونه”([13])، وقال الملا علي القاري رحمه الله: “وأما نقل ماء زمزم للتبرك به فمندوب اتفاقا”([14])، وقال الشيخ الألباني رحمه الله: “وله [أي: للحاج والمعتمر] أن يحمل معه من ماء زمزم ما تيسّر له تبركا به؛ فقد كان رسول الله ﷺ يحمله معه في الأداوي والقرب، وكان يصب على المرضى ويسقيهم”([15]).

3- ومن التبرك المشروع: التبرك بالمطر أول نزوله:

ودليله ما صح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى»([16]).

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “وهذا منه ﷺ تبرك بالمطر واستشفاء به؛ لأن الله تعالى قد سماه رحمة ومباركًا وطهورًا، وجعله سبب الحياة، ومبعدًا عن العقوبة، ويستفاد منه احترام المطر، وترك الاستهانة به”([17]).

ولذلك ثبت عن كثير من الصحابة فعل ذلك، تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتبركًا بالمطر أول نزوله، فصح ذلك عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم([18]).

النوع الثاني: التبرك غير المشروع:

وهو إجمالا كل تبرك لم يثبت عليه دليل صحيح، فالتبرك لا يكون إلا بما قام عليه دليل شرعي، وإلا لم يكن مشروعا.

ومن الأدلة الظاهرة على ذلك: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فَقَالَ: “إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ”([19]).

مع أن الله تعالى وصف البيت بأنه مبارك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي ‌بِبَكَّةَ ‌مُبَارَكا وَهُدى لِّلعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران: 96].

ولكن هذه البركة العامة التي تحصل لمن أتى البيت حاجًّا أو معتمرًا وطائفا وعابدًا غير البركة الخاصة التي تكون بالمسح والتقبيل والملامسة والملابسة، فهذه تحتاج إلى دليل خاص، وإلا لم تكن مشروعة؛ ولذلك لا يشرع تقبيل جدران الكعبة، ولا مسح أركانها غير الركنين اليمانيين، ولا مسح أستارها ولا شيء منها.

وقد أنكر ابن عباس على معاوية رضي الله عنهم لما رآه يمسح أركان الكعبة كلها، ورجع معاويةُ لكلامه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم الأركانَ كلَّها، فقال له ابن عباس: لمَ تستلمُ هذين الركنين ولم يكن رسول الله ﷺ يستلمهما؟! فقال معاويَة: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: ﴿لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ ‌أُسوَةٌ ‌حَسَنَة﴾ [الأحزاب: 21] فقال معاوية: صدقتَ([20]).

وقد روى الترمذي الحديث ثم قال: “والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، ألا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني”([21]).

وقد حذر العلماء من ذلك، فقال ابن الحاج المالكي رحمه الله: “فترى من لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة الحرام، ويتمسح به ويقبله ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم، يقصدون به التبرك، وذلك كله من البدع؛ لأن التبرك إنما يكون بالاتباع له عليه الصلاة والسلام، وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلا من هذا الباب، ولأجل ذلك كره علماؤنا -رحمة الله عليهم- التمسح بجدار الكعبة، أو بجدران المسجد، أو بالمصحف إلى غير ذلك مما يتبرك به سدا لهذا الباب ولمخالفة السنة؛ لأن صفة التعظيم موقوفة عليه صلى الله عليه وسلم”([22]).

وقال ابن العطار الشافعي: “فأما تقبيل الأحجار والقبور والجدران والستور وأيدي الظلمة والفسقة واستلام ذلك جميعه فلا يجوز، ولو كانت أحجار الكعبة، أو قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو جدار حجرته، أو ستورهما، أو صخرة بيت المقدس، فإن الاستلام والتقبيل ونحوهما تعظيم، والتعظيم خاص بالله تعالى، فلا يجوز إلا فيما أذن فيه”([23]).

فالتبرك من العبادات الموقوفة على الدليل، ولا يجوز اعتقاد البركة في شيء أو التبرك بشيء إلا بدليل صحيح من الشرع، وإلا كان بدعة مذمومة.

والتبرك الممنوع قسمان:

القسم الأول: تبرك مختلف فيه، وهو التبرك بآثار الصالحين:

وهذا النوع من التبرك بدعة؛ لأنه لم ينقل عن السلف ولا عن أحد من الصحابة أو التابعين أنهم فعلوه مع من يجزم بصلاحهم، كالخلفاء الأربعة، أو العشرة المبشرين بالجنة، أو أهل بدر، والسابقين الأولين، ولا فعلوه مع كبار التابعين، كأويس القرني الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «يَأْتي علَيْكُم أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ مع أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ، مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ، كانَ به بَرَصٌ فَبَرَأَ منه إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له وَالِدَةٌ هو بهَا بَرٌّ، لو أَقْسَمَ علَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لكَ فَافْعَلْ»([24]). فهذا رجل مقطوع بصلاحه، ومع ذلك لم يتبركوا به، ولم يرشدهم النبي ﷺ لذلك، ولا فعله عمر ولا أحد من الصحابة معه، وإنما أرشدهم للمشروع الجائز، وهو طلب الاستغفار لهم.

فإجماعهم على ترك التبرك بالصالحين مع وجود المقتضي لذلك وانتفاء المانع دليل على البدعية، خاصة أنهم كانوا يتبركون بآثار النبي ﷺ ويحرصون على ذلك، فلماذا لم يفعلوا ذلك مع غيره؟!

وقد ذهب غيرُ واحد من أهل العلم إلى جواز التبرك بآثار الصالحين، قياسًا على التبرك بآثار النبي ﷺ وأكثر الإمامان النووي وابن حجر -رحمهما الله تعالى- في شرحيهما على الصحيحين([25]) من الاستدلال بالأحاديث التي فيها التبرك بآثار النبي ﷺ على جواز التبرك بالصالحين، واعتمدا على ذلك في تجويز التبرك بالصالحين.

والصحيح والراجح أن التبرك بالصالحين بدعة، أجمع السلف على تركه كما سبق، وأما القياس فلا يصح لوجوه:

الأول: أنه قياس مع الفارق، فلا شك أن مرتبة النبي ﷺ لا تضاهيها ولا تدانيها مرتبة، فلا يصح أن يلحق به في ذلك أحد من الصحابة أو الصالحين. فظهور الخصوصية في هذا الباب ظاهر جدًّا، وهو ظاهر صنيع السلف كما سبق.

الثاني: أنا لا نجزم بصلاح أحد لم يشهد له الشرع بذلك، فمن أين نعلم صلاح فلان أو علان حتى نتبرك بآثارهم؟!

وإذا كان الصحابة والتابعون الذين شهد لهم الوحي بالصلاح والخيرية لم يتبرك بهم الصحابة ولا التابعون، فكيف بمن لم يشهد له الوحي بذلك؟! أليس في هذا تزكية مذمومة؟! خاصة إذا كان الشخص يدعو لذلك كما يقع من بعض مشايخ التصوف الذين يدعون الناس لتقبيل أيديهم تبركًا بهم، وكأنه يشهد لنفسه بالولاية والصلاح!

الثالث: أننا لو كنا نعلم صلاحه في الحال فإننا لا نعلم حاله في المآل، وبماذا يختم له، فربما ختمت له بخاتمة السوء، فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره.

الرابع: أن التبرك بآثار الصالحين ذريعة كبيرة للغلو فيهم والشرك بهم، خاصة مع فشو الجهل وقلة العلم، وضعف التوحيد في قلوب كثير من الناس. وغالبا لا يقف العوام عند الصورة المذكورة التي اختلف العلماء فيها -أعني التبرك بآثار الصالحين- بل يتعدونها للتبرك بالتراب والقبور والأضرحة وحديدها والأشجار المحيطة بها كما هو حال عباد الأوثان.

وقد كان أول شرك وقع في الأرض بسبب الغلو في قبور الصالحين، والتبرك بعبادة الله عندها، ثم آل الأمر لعبادتها من دون الله تعالى، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إلى قَوْمِهِمْ أنِ انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِمُ الَّتي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَابًا، وسَمُّوهَا بأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ”([26]).

وممن صرح بمنع هذا القياس ابن بطال المالكي في شرحه على الصحيح، على تبويب البخاري: (باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِي ﷺ وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِك…).

قال: “قال المهلب: إنما ذكر هذه الآثار كلها في هذا الباب لتكون سنة للخلفاء في الختم واتخاذ الخاتم لما يحتاج فيه إليه، واتخاذ السيف والدرع أيضًا للحرب، وأما الشعر فإنما استعمله الناس على سبيل التبرك به من النبي خاصة، وليس ذلك من غيره بتلك المنزلة، وكذلك النعلان من باب التبرك أيضًا ليس لأحد في ذلك مزية رسول الله، ولا يتبرك من غيره بمثل ذلك“([27]).

وممن ذكر ذلك الشاطبي رحمه الله، فذكر لترك الصحابة ذلك سببين: إما لاعتقادهم اختصاص النبي ﷺ بذلك وأن غيره لا يدانيه في ذلك، أو أنهم تركوا ذلك من باب الذرائع؛ خوفا من أن يجعل ذلك سنة، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد([28]).

القسم الثاني: تبرك ممنوع بالاتفاق:

ومن ذلك التبرك بالأحجار والأشجار والقبور والمشاهد، والتمسح بحديد القبور، وتقبيل الأعتاب، ونحو ذلك مما يقع من كثير من الجهال، خاصة من الشيعة والصوفية. وهذا النوع محرم بالاتفاق، وهو أصل عبادة الأوثان.

ومن أدلة تحريمه: ما رواه الترمذي وغيره عنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ‌ذَاتُ ‌أَنْوَاطٍ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ‌ذَاتَ ‌أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ‌ذَاتُ ‌أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللهِ! هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: ﴿‌ٱجعَل ‌لَّنَا إِلَٰها كَمَا لَهُم ءَالِهَة﴾ [الأعراف: 138] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»([29]).

وهذا النوع من التبرك ممنوع بالاتفاق، لا يبيحه إلا أهل الجهل والبدع ممن لا يُعتد بأقوالهم، وأما العلماء والمصلحون فما زالوا ينكرون مثل هذه البدع التي تصدر من الجهال. وسوف نذكر بعضا من كلامهم لاحقا.

ثانيا: مثارات الغلط في التبرك:

1- الغلط في معنى التبرك والخلط بينه وبين التوسل:

وممن وقع في هذا الخلط الدكتور البوطي في كتابه (فقه السيرة)، فبعد أن أورد حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في تتبع آثار أصابع النبي ﷺ في الطعام تبركًا بها استدل بهذا على جواز التوسل بذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم، وجعل كل أحاديث تبرك الصحابة بذاته وآثاره الشريفة المباركة دليلا على جواز التوسل بذاته ﷺ فقال: “التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد، وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسّل به”([30]).

ويكرر هذا الخلط في موضع آخر من نفس الكتاب في فوائد صلح الحديبية وتبرك الصحابة بوَضوء النبي ﷺ ونخامته وشعره، فيستدل بها على التوسل المبتدع، فيقول: “وإذا علمت أن التّبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النّبي ﷺ أمر مندوب إليه ومشروع، فضلا عن التّوسل بذاته الشريفة. وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته ﷺ أو بعد وفاته، فآثار النّبي ﷺ وفضلاته لا تتصف بالحياة مطلقا، سواء تعلق التّبرك والتّوسل بها في حياته أو بعد وفاته”([31]).

وهذا خلط عجيب بين معنى التبرك والتوسل، فمعناهما متغاير.

فالتبرك -كما سبق- يقصد به هنا: طلب الخير الكثير من ملابسة أو ملامسة شيء معين أو بقعة معينة. وليس الكلام في التبرك بالمعنى العام، وهو طلب الخير بفعل الطاعات عموما كي يجعله والتوسل من باب واحد بدعوى أن المتوسل يرجو حصول الخير له أيضا.

فالتوسل على فرض مشروعيته باب آخر غير التبرك، ولا يصح الاستدلال بهذا على ذلك بأي نوع من أنواع الدلالة.

فالتوسل هو: طلب الوسيلة، وهي ما يتوصل بها إلى المقصود والرغبة([32])، ومنه قوله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ‌وَٱبتَغُواْ ‌إِلَيهِ ‌ٱلوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾ [المائدة: 35] أي: القربة والطاعة؛ لأن الطاعة والقربة توصل إلى المقصود، وهو رضا الله تعالى وجنته.

قال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: “وَاطْلُبُوا الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ. وَالْوَسِيلَةُ: هِيَ الْفَعِيلَةُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: تَوَسَّلْتُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، بِمَعْنَى: تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ”([33]).

ومقصود الداعي أن يستجيب الله تعالى له، فيقدم بين يدي دعائه ما يجعل دعاءه أقرب للإجابة، فالتوسل في الدعاء شيء يقدمه الداعي بين يدي دعائه؛ ليكون دعاؤه أقرب إلى الإجابة. كالتوسل بأسماء الله تعالى وصفاته، أو التوسل بالعمل الصالح، أو التوسل بطلب الدعاء من الصالحين الأحياء. فكل هذا توسل مشروع ثبت دليله، فما علاقة هذا بمسألة التبرك؟!

ولكن هؤلاء يستدلّون بالتبرك بالنبي ﷺ على التوسل به، فيخلطون بين التبرك والتوسل، ثم يخلطون مرة أخرى بين التوسل والاستغاثة، فيجوزون الاستغاثة بحجة أنه توسل، فيكون مبدؤهم التبرك المشروع، ومنتهاهم الشرك في العبادة!

وقد رد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله على كلام الدكتور البوطي فقال: “التوسل يختلف اختلافًا بينًا عن التبرك، ومن يسوي بينهما فإنه يكون قد ارتكب خطأ شنيعًا، ووقع في جهل فظيع بالحقائق الشرعية، مما لا يجوز أن يقع فيه طالب علم يحترم نفسه.

إن التبرك هو التماس من حاز أثرًا من آثار النبي ﷺ حصول خير به خصوصية له صلى الله عليه وسلم، وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى لعباده، كأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك ﷺ أن تغفر لي، ونحو ذلك.. فيشرع للمسلم أن يتوسل في دعائه باسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى مثلًا، ويطلب بها تحقيق ما شاء من قضاء حاجة دنيوية كالتوسعة في الرزق، أو أخروية كالنجاة من النار، فيقول مثلًا: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بأنك أنت الله الأحد الصمد أن تشفيني أو تدخلني الجنة، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه شيئًا من ذلك، بينما لا يجوز لهذا المسلم أن يفعل ذلك حينما يتبرك بأثر من آثاره صلى الله عليه وسلم، فهو لا يستطيع ولا يجوز له أن يقول مثلًا: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بثوب نبيك أو بصاقه أو بوله أن تغفر لي وترحمني.

ومن يفعل ذلك فإنه يعرّض نفسه من غير ريب ليشك الناس في عقله وفهمه، فضلًا عن عقيدته ودينه. وظاهر كلام الدكتور أنه يجيز هذا التوسل العجيب، ويعده هو والتبرك بأثر من آثار النبي ﷺ شيئًا واحدًا، وهو بهذا يخلط خلطًا قبيحًا”([34]).

ومن أدلة هذا التباين في المعنى أن العلماء مختلفون في حكم التوسل بذات النبي ﷺ وجاهه بعد مماته، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها([35])، ولكنهم متفقون على جواز التبرك بآثاره ﷺ في حياته وبعد مماته على ما سنبينه بعد قليل إن شاء الله تعالى. ولو كان معناهما واحدًا لما اختلفوا في حكمهما، وهذا واضح وبين إن شاء الله.

2- الخلط بين التبرك بالمعنى العام والمعنى الاصطلاحي الخاص:

فترى البعض يستدل بوصف بعض الأمكنة أو الأشخاص بالبركة على جواز التبرك والتمسح بهم.

وقد سبق بيان بطلان هذا المسلك، وأن الكعبة رغم كونها بيتًا مباركًا إلا أنه لا يجوز التمسح بغير الركنين.

وأعظم الناس بركة بعد الأنبياء هو أبو بكر وآل أبي بكر رضي الله عنهم، فبركتهم مشهودة معلومة في الأحاديث، كما قال أسيد بن حضير رضي الله عنه: “ما هِيَ بِأَوَّلِ ‌بَرَكَتِكُمْ ‌يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ”([36]). ومع ذلك لم يتبرك أحد من الصحابة بأبي بكر ولا آله؛ لأن المقصود هنا البركة العامة.

فالتبرك المشروع بالصالحين هو التبرك بمصاحبتهم لا بآثارهم، كما في الحديث: “هُمُ الْقَوْمُ ‌لَا ‌يَشْقَى ‌بِهِمْ جَلِيسُهُمْ”([37]).

3- التوسع في مفهوم آثار النبي صلى الله عليه وسلم:

وهذا يدخل فيه عدة أمور، منها:

إدخال المواضع التي نزلها النبي ﷺ أو سار فيها في الآثار التي يتبرك بها؛ فإن هذه المواطن ليست من آثار النبي ﷺ بالاتفاق، ولم يكن أحد من الصحابة يتبرك بذلك، لا ابن عمر ولا غيره.

والمقصود بالآثار: فضلات النبي ﷺ كشعره ونخامته وريقه وعرقه، أو ما لامس جسده الشريف وانفصل عنه كآنيته وثيابه ونعليه ونحو ذلك. ولا يدخل في ذلك المواطن التي نزلها أو مشى فيها أو وطأها صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم الذين اعتنوا عناية بالغة بحفظ آثاره لم يتبركوا بهذه المواضع، ولم يعتبروها من آثاره. وهي ليست في معنى الآثار حتى تلحق بها.

بل ثبت أن عمر رضي الله عنه نهى عن ذلك، وقطع شجرة الحديبية لما وجد الناس يتبركون بها ويصلون عندها([38]). ولو كانت من الآثار المشروع التبرك بها لما فعل ذلك.

ونهى أيضا عن قصد الصلاة في الأماكن التي صلى فيها النبي ﷺ وقال: “أيها الناس، إنما هلك من قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعًا، فمن عرضت له صلاة فليمض”([39]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه؛ فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله.

ولو كان هذا مستحبًّا لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئا من ذلك. ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر.

وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر؛ إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنا لنبي أو منزلا أو ممرا”([40]).

وأما ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه من النزول في الأماكن التي نزلها النبي ﷺ فهذا مذهبه رضي الله عنه، وهو متابعة النبي ﷺ في كل أفعاله، حتى التي لا يظهر فيها معنى القربة.

والعلماء مختلفون في هذه الأفعال، هل يشرع الاقتداء بالنبي ﷺ فيها أم لا؟

فجمهور العلماء على أنه لا يشرع التأسّي في ذلك، وذهب بعضهم كابن عمر إلى القول بمشروعية ذلك؛ باعتباره من تمام التأسي.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحا كما فعله مباحا؛ ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدم. وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحا فعلناه مباحا، وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصا به نوع اختصاص”([41]).

وقال أيضا: “وكذلك ‌ابن ‌عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل مواضع منزله، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها، ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحبا، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ‌ابن ‌عمر، ولو رأوه مستحبا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به.

ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي ﷺ شرعه لأمته؛ لم يمكن أن يقال: هذا سنة مستحبة؛ بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي ﷺ لأمته”([42]).

وقال أيضا: “فعلم أن الذي عليه جمهور الصحابة وأكابرهم هو الصحيح، ومع هذا فابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يقصد أن يصلي إلا في مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد الصلاة في موضع نزوله ومقامه، ولا كان أحد من الصحابة يذهب إلى الغار المذكور في القرآن للزيارة والصلاة فيه -وإن كان النبي ﷺ وصاحبه أقاما به ثلاثا يصلون فيه الصلوات الخمس- ولا كانوا أيضا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة”([43]).

فالخلاصة أن النبي ﷺ إذا نزل في موطن وصلى فيه من غير ظهور قصد البقعة، هل يشرع التأسي به في ذلك؟ قولان: الجمهور وأكابر الصحابة لا يرون هذا، خلافا لابن عمر الذي كان يفعل ذلك من باب التأسي والتماس بركة المتابعة للسنة.

أما من ينزل أمكنة يزعم أن النبي ﷺ سار فيها أو لمسها متبركًا بالعبادة فيها، فهذه بدعة لم يقل بها ابن عمر ولا غيره من الصحابة.

إدخال التبرك بالقبر في التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا بدعة بالاتفاق، وقد سبق النقل عن ابن الحاج المالكي وابن العطار الشافعي في النهي عن ذلك.

ونضيف هنا النقل عن الإمام النووي رحمه الله حيث قال: “لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر. قاله الحليمي وغيره. ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وسلم. هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه… ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، وكيف يبتغي الفضل في مخالفة الصواب؟!”([44]).

ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الاتفاق على المنع من ذلك، فقال: “واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين -الصحابة وأهل البيت وغيرهم- أنه ‌لا ‌يتمسح ‌به ولا يقبله؛ بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود”([45]).

الاستدلال بتبرك ابن عمر برمانة المنبر على التبرك بالمنبر والآثار الحالية، وهذا خطأ من جهتين:

الأولى: أن كبار الصحابة لم يفعلوا ما فعله ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يجعلوا المنبر من آثاره التي يتبركون بها، بل كره مالك رحمه الله ذلك.

الثاني: أن ابن عمر كان يقصد التأسي بالنبي ﷺ ونيل بركة متابعته بملامسة منبر جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن فلا وجه لذلك؛ لزوال هذا المنبر، فعلى فرض أنه يشرع التبرك بالمنبر، وأن جميع الصحابة فعلوا ذلك، فيكون غايته أن يكون من التبرك بآثار النبي ﷺ التي لمسها وقعد عليها، فأين هذا من التبرك بما لم يلمسه بل ولم يشاهده قط؟!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي ﷺ ويده، ولم يرخصوا في التمسّح بقبره. وكره مالك التمسح بالمنبر، كما كرهوا التمسح بالقبر. فأما اليوم فقد احترق المنبر، وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رخص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده”([46]).

فالخلاف في التمسح بالمنبر إنما هو في المنبر الذي كان يلامسه النبي ﷺ ويقعد عليه بجسده الشريف، أما المنبر اليوم فلا يدخل في آثار النبي ﷺ بحال.

4- عدم تحقيق المناط فيما يزعم أنه من آثار النبي صلى الله عليه وسلم:

وهذا من أكثر مثارات الغلط في هذا الباب؛ فإن شرط التبرك بهذه الآثار هو ثبوت نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يصعب بل يكاد يكون مستحيلا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وأما ما يزيده الكذابون على ذلك مثل أن يرى في المكان أثر قدم فيقال: هذا قدمه ونحو ذلك، فهذا كله كذب، والأقدام والحجارة التي ينقلها من ينقلها ويقول: إنها موضع قدمه كذب مختلق”([47]).

وقال الشيخ الألباني رحمه الله: “كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلًا على أثر من آثاره ﷺ ويستعمله. ونحن نعلم أن آثاره ﷺ من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرًا غير ذي موضوع في زماننا هذا، ويكون أمرًا نظريًّا محضًا، فلا ينبغي إطالة القول فيه”([48]).

فلا يمكن التحقق من كل ما يُدَّعى نسبته للنبي ﷺ من شعره أو ثيابه أو نعليه، بل يغلب على الظن كذب هذه الدعاوى؛ لطول الزمن، وغياب الأسانيد، بل بعضها مما يجزم بكذبه وبطلانه، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

5- التوسع في التبرك بآثار الصالحين:

ذكرنا من قبل أن هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء، ورجحنا القول بالبدعية، وعدم صحة القياس على آثار النبي صلى الله عليه وسلم.

ومع ذلك فإن أكثر ما يقع من العامة والمبتدعة من ذلك ليس من التبرك بالصالحين المختلف فيه، بل هو من البدع ووسائل الشرك بلا خلاف.

وذلك أن التبرك بآثار الصالحين -على فرض مشروعيته- يكون بلمس آثارهم، كثيابهم وفضل طعامهم ونحو ذلك، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم. أما التبرك بالقبور والمشاهد والأشجار والأحجار فليس من هذا الباب أصلا، بل هو من صور الشرك أو ذرائع الشرك.

وإذا كان العلماء قد نقلوا الاتفاق على عدم التبرك بقبر النبي ﷺ ونهوا عن مسه والتمسح به، فما بالك بقبور غيره من الصالحين ممن لا يضاهون النبي ﷺ ولا يدانونه؟! ثم كيف بالتبرك بمن لم يعلم صلاحه؟! بل كيف بالتبرك بالقبور المجهولة التي لا يعلم أصحابها؟!

وقد تتابع العلماء على النهي عن ذلك، فقال أبو شامة المقدسي (ت: 665هـ) في بيان بعض البدع المستقبحة التي لا يخفى على العلماء والعوام منابذتها للشريعة، والتي تنتشر بين الصوفية الجهال: “وَمن هَذَا الْقسم أَيْضا مَا قد عَم الابتلاء بِهِ من تَزْيِين الشَّيْطَان للعامة: تخليق([49]) الْحِيطَان والعُمُد وسرج مَوَاضِع مخصوصة فِي كل بلد يحْكى لَهُم حاك أَنه رأى فِي مَنَامه بهَا أحدا مِمَّن اشْتهر بالصلاح وَالْولَايَة، فيفعلون ذَلِك ويحافظون عَلَيْهِ مَعَ تضييعهم فَرَائض الله تَعَالَى وسننه، ويظنون أَنهم متقربون بذلك، ثمَّ يتجاوزون هَذَا إلى أَن يعظم وَقع تِلْكَ الْأَمَاكِن فِي قُلُوبهم، فيعظمونها ويرجون الشِّفَاء لمرضاهم وَقَضَاء حوائجهم بِالنذرِ لَهُم، وَهِي من بَين عُيُون وَشَجر وحائط وَحجر.

وَفِي مَدِينَة دمشق -صانها الله تَعَالَى- من ذَلِك مَوَاضِع مُتعَدِّدَة، كعوينة الحمى خَارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصَّغِير، والشجرة الملعونة اليابسة خَارج بَاب النَّصْر فِي نفس قَارِعَة الطَّرِيق، سهل الله قطعهَا واجتثاثها من أَصْلهَا، فَمَا أشببها بِذَات أنواط الْوَارِدَة فِي الحَدِيث!”([50]).

ثم نقل في نفس الموضع عن أبي بكر الطرسوسي الفقيه المالكي (ت: 520هـ) قوله: “أَيْنَمَا وجدْتُم سِدْرَة أَو شَجَرَة يقصدها النَّاس ويعظمون من شَأْنهَا ويرجون الْبُرْء والشفاء من قبلهَا وينوطون بهَا المسامير والخرق فاقطعوها فَهِيَ ذَات أنواط”([51]).

وذكر رحمه الله كلامًا طيبًا عن بعض الصالحين والعلماء الذين قاموا بطمس هذه الأوثان التي يتبرك بها العامة، لاعتقاد أن فلانا من آل البيت أو الصالحين مدفون فيها، أو تلبس بها ونحو ذلك.

والغرض المقصود: أن التبرك بآثار الصالحين الذي وقع فيه الخلاف ليس هو الذي يفعله كثير من العامة من التمسح بالقبور، وتقبيل الحديد والأعتاب؛ فإن هذه ليست من آثار الصالحين أصلا.

6- تنزيل كلام بعض العلماء منزلة كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم:

وهذا من أكبر مثارات الغلط في هذا الباب، فإنك تجد من يعارض الكتاب والسنة وإجماع السلف بحكايات لا تثبت، ولو ثبتت فلا حجة فيها؛ فكلام العلماء يستدل له لا يستدلّ به، وإنما العبرة في إجماعهم، وأما عند الاختلاف فيجب الرد إلى الله والرسول.

والمنقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليس فيه كلمة واحدة في التبرك بآثار الصالحين، فضلا عن التبرك بالأحجار والأشجار والقبور. وغاية ما فيه ما سبق عن ابن عمر أنه كان يرى التأسي بالنبي ﷺ في كل أفعاله، ولو لم يقصد بها القربة والتشريع، مع أن كبار الصحابة خالفوه في ذلك.

وكذلك المنقول عن الأئمة، بعضه لم يثبت، وبعضه من جنس فعل ابن عمر، وغايته إن لم يكن هذا ولا ذاك أن يكون من التبرك بآثار الصالحين المختلف فيه.

فمن ذلك قصة تبرك الشافعي بقميص أحمد -رحمهما الله- التي ذكرها ابن الجوزي([52]) فإنها لا تثبت، قال الذهبي في ترجمة الربيع بن سليمان: “ولم يكن صاحب رحلة، فأما ما يُروى أنَّ الشافعي بعثه إلى بغداد بكتابه إلى أحمد بن حنبل فغير صحيح”([53]).

ومن ذلك ما جاء عن الإمام أحمد من التبرك بمنبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا تابع فيه ابنَ عمر رضي الله عنهما مع ثبوت الكراهة فيه عن مالك رحمه الله. فغايته أن يكون على سبيل التأسي، أو جعله من التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من التبرك بمنبر لم يمسه ولم يجلس عليه، بل لم يره النبي صلى الله عليه وسلم؟!

ومن ذلك ما يروى عن إبراهيم الحربي أنه قال: “قبر معروف الترياق المجرب”. وقد نقله الذهبي ثم قال: “يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء، كما أن الدعاء في السحر مرجو، ودبر المكتوبات، وفي المساجد”([54]).

وهذا من أعظم ما يتمسك به المخالف ويهول به، وهو لا يسلَّم لصاحبه، بل هو مردود عليه، وبركة وقت السحر قد ثبتت بالدليل الشرعي، فأين الدليل على بركة قبر معروف؟! وأين الدليل على تخصيصها بعبادة ودعاء؟!

والنبي ﷺ قال: «لا تجعلوا بيوتَكُم قبورًا، ولا تجعلوا قَبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتَكُم تبلغُني حَيثُ كنتُمْ»([55]). ولما رأى علي بن حسين رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ»([56]).

فانظر كيف نهاه عن قصد القبر من أجل الدعاء، فكيف يقال بعد ذلك: قبر فلان وعلان ترياق ويجاب عنده الدعاء؟!

ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر جملة من أدلة منع التبرك بالقبور والمشاهد ونحوها: “واعلم أنه ليس مع أحد من هؤلاء ما يعارض به ذلك، إلا حكاية عن بعضهم أنه قال: إذا كانت لكم إلى الله حاجة فادعوه عند قبري، أو قال: قبر فلان هو ‌الترياق المجرب، وأمثال ذلك من هذه الحكايات التي قد تكون صدقا وقد تكون كذبا.

وبتقدير أن يكون صدقا فإن قائلها غير معصوم، وما يعارِض النقلَ الثابتَ عن المعصوم بنقلٍ غير ثابت عن غير معصوم إلا من يكون من الضالين إخوان الشياطين. وهذا من أسباب الشرك وتغيير الدين”([57]).

فهذه أهم مثارات الغلط في هذا الباب الذي وقع فيه كثير من الخلط والاضطراب. والله الموفق للصواب.

الخاتمة:

خلصنا في هذه الورقة إلى عدد من النتائج المهمة، فمن ذلك:

أولا: أن التبرك المشروع بالنبي ﷺ ليس هو التوسّل به، فضلا عن الاستغاثة به ودعائه من دون الله تعالى.

ثانيا: أن التبرك بالنبي ﷺ لا يدخل فيه المواطن التي نزلها أو سار فيها بالاتفاق، وأن هذا ليس من فعل أحد من الصحابة، ولا حتى فعل ابن عمر.

ثالثا: أن فعل ابن عمر من قبيل التأسي بالنبي ﷺ في جميع أفعاله، حتى التي لم يظهر فيها وجه القربة رجاء بركة المتابعة، خلافا لكبار الصحابة الذين لم يوافقوه على ذلك.

رابعا: أنه لا يدخل في التبرك المشروع بالنبي ﷺ ما لم يثبت صلته به، وهي عامة الأمور التي يزعم أنها من آثاره ﷺ في هذا الزمان؛ ولذلك صارت هذه المسألة نظرية لا تطبيق لها الآن.

خامسا: أن التبرك بالصالحين فيه خلاف، والراجح المنع منه، وعدم صحة قياسه على التبرك بالنبي ﷺ لوجوه كثيرة.

سادسا: أن التبرك بآثار الصالحين المختلف فيه لا يدخل فيه التبرك بالقبور والمشاهد، بل هذا مجمع على حرمته وبدعيته، وأنه من الشرك الأكبر أو الأصغر، على حسب حال فاعله.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرا.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: معجم العين (5/ 368)، وجمهرة اللغة (1/ 325)، وتهذيب اللغة (10/ 130).

([2]) معاني القرآن (2/ 360).

([3]) عمدة الحفاظ (1/ 183).

([4]) رواه البخاري (1889).

([5]) شرح صحيح مسلم (7/ 206).

([6]) صحيح البخاري -ط. السلطانية- (4/ 82).

([7]) صحيح البخاري (3107).

([8]) رواه مسلم (2069).

([9]) رواه البخاري (5896).

([10]) رواه مسلم (2473).

([11]) أخرجه ابن ماجه (3062)، وأحمد (14849). وصححه الألباني في مناسك الحج (ص: 24).

([12]) زاد المعاد (4/ 319-320).

([13]) مجموع الفتاوى (26/ 154).

([14]) مرقاة المفاتيح (9/ 194).

([15]) مناسك الحج والعمرة (ص: 42).

([16]) رواه مسلم (898).

([17]) المفهم (2/ 546).

([18]) أورد هذه الآثار ابن أبي شيبة في باب من كان يتمطر في أول مطرة (6/ 194-195).

([19]) رواه البخاري (1597)، ومسلم (1270).

([20]) رواه البخاري مختصرا (1608)، والترمذي (858). وأما تصديق معاوية لابن عباس فقد جاء في رواية أحمد (1877)، وصححها الشيخ أحمد شاكر.

([21]) سنن الترمذي (858).

([22]) المدخل (1/ 263).

([23]) العدة شرح العمدة (2/ 1001).

([24]) رواه مسلم (2542).

([25]) انظر مثلا: شرح النووي (1/ 244، 3/ 194، 4/ 219)، وفتح الباري (1/ 522، 569، 3/ 130).

([26]) رواه البخاري (4920).

([27]) شرح صحيح البخاري (6/ 266).

([28]) انظر: الاعتصام (1/ 483).

([29]) رواه الترمذي (2180) وقال: “حديث حسن صحيح”.

([30]) فقه السيرة (ص: 141).

([31]) المصدر السابق (ص: 240).

([32]) مختار الصحاح (338).

([33]) تفسير الطبري (8/ 403).

([34]) التوسل أحكامه وأنواعه (ص: 141-142) باختصار يسير.

([35]) ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، والتوسل أحكامه وأنواعه للألباني.

([36]) رواه البخاري (334).

([37]) رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689).

([38]) صحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 448).

([39]) رواه عبد الرزاق (2734). وصححه الألباني في فضائل الشام (18).

([40]) مجموع الفتاوى (27/ 502) باختصار.

([41]) المصدر السابق.

([42]) مجموع الفتاوى (1/ 281) باختصار.

([43]) مجموع الفتاوى (17/ 477).

([44]) الإيضاح لمناسك الحج والعمرة (1/ 456) باختصار يسير.

([45]) مجموع الفتاوى (27/ 79).

([46]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 244).

([47]) مجموع الفتاوى (27/ 135).

([48]) التوسل أنواعه وأحكامه (ص: 144).

([49]) أي: وضع الخلوق وهو الطيب.

([50]) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 26).

([51]) المصدر السابق (ص: 27).

([52]) مناقب الإمام أحمد (ص: 610).

([53]) سير أعلام النبلاء (12/ 587).

([54]) سير أعلام النبلاء (9/ 344).

([55]) رواه أبو داود (2042) واللفظ له، وأحمد (8790)، وصححه الألباني.

([56]) رواه الضياء في المختارة (428).

([57]) مجموع الفتاوى (27/ 171).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017