الثلاثاء - 06 جمادى الأول 1447 هـ - 28 أكتوبر 2025 م

لماذا حرَّم الإسلام التبني؟

A A

كان التبنِّي نِظامًا شائعًا معمولًا به في الجاهليَّة قبل الإسلام، حتى إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْل البعثةِ تبنَّى زيدَ بنَ حارثة، وكان يُطلَق عليه: زيد بن محمد، كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا ‌زَيْدَ ‌بْنَ ‌مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿‌ٱدْعُوهُمْ ‌لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5])([1]).

وقد كانوا يعاملون هؤلاء الأدعياءَ معاملةَ الأبناء من كلّ وجه، في الخلوة بالمحارم والميراث وغير ذلك؛ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن سهلة بنتَ سُهيل امرأةَ أبي حذيفة -وكان أبو حذيفة قد تبنى سالما قبل تحريم التبنِّي- جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا -لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ- مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ، وإنه يدخل علينا، وإني أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا… الحديث([2]).

ثم جاء الإسلام فحرَّم التبني، وشدَّد فيه، وأبطله إبطالًا كاملًا.

معنى التبني المحرَّم:

التبني الذي حرمته الشريعة يمكن تعريفه بأنه: “اتِّخاذ الشخصِ ولدَ غيره ابنًا له”([3]).

وذلك بأن يقوم شخصٌ باستلحاق ولدٍ معروف النسَب لغيره أو مجهولِ النسب كاللّقيط، ويصرّح أنه يتَّخذه ولدًا مع كونه ليس ولدًا له في الحقيقة. ويترتّب على ذلك أن يكون لهذا الولد جميعُ الحقوق، وعليه كلّ الواجبات التي تكون بين الأب والابن.

فهذا هو التبنّي المحرَّم، ولكن التبنّي يطلَق عند البعض ويريدون به معنى آخر، وهو أن يكفل شخصٌ يتيمًا أو فقيرًا، معلومَ النسب أو مجهولَ النسب، ويربّيه في أسرته، ويكفله كفالة تامّة، من غير أن يُلْحقه به في النّسب، ولا يجعله كأبنائه الحقيقيِّين في الأحكام المترتِّبة على البنوَّة، مع التزام الضوابط الشرعية عند كبر هذا المكفول ذكرًا كان أو أنثى.

وهذا النوع في الحقيقة ليس تبنِّيًا، ولكنه تعاوُن وتكافل، وهو غير ممنوع، بل هذا مما حثّت عليه الشريعة، ورغّبت فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «‌كَافِلُ ‌الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»([4]).

قال ابن بطال رحمه الله: “حقٌّ على من سمع هذا الحديثَ أن يعمَلَ به؛ ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة”([5]).

والتقاط اللّقيط وكفالته والقيام به مادّيًّا ومعنويًّا، كل هذا من فروض الكفاية التي يأثم الجميع إذا لم يقم بها أحد، كما هو مقرر في كتب الفقهاء.

أما التبني بالمعنى الأول فلا يختلِف المسلمون في حُرمته، وهو ممّا يكاد أن يكون معلومًا من الدّين بالضرورة، ولم ينازع فيه عالم قطّ؛ وذلك لأن القرآن صريحٌ قطعيّ في تحريمه.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ * ‌ٱدْعُوهُمْ لِأبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 4، 5].

قال الطبري رحمه الله: “انسبُوا أدعياءَكم الذين ألحقتم أنسابهم بكُم لآبائهم”([6]).

وقال ابن كثير رحمه الله:” هذا أمر ناسِخ لما كان في ابتداءِ الإسلام من جواز ادِّعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر الله تعالى بردِّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط… ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تعالى زوجة الدَّعِيّ، وتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينبَ بنتِ جحش زوجةِ زيد بن حارثة”([7]).

ودلَّت الآية أيضا على تحريم التبنّي حتى لو كان الولد مجهولَ النسب، لا يعرف أبوه على الحقيقة، فهذا لا يبيح لأحد أن يدَّعيَه ويلحقَه به وهو يعلم أنه ليس ابنًا له، ولم يولد على فراشه الشرعي. بل في هذه الحالة يقال: فلان أخو فلان، أو مولى فلان، كما صار اسم سالم مولى أبي حذيفة، بدلا من سالم بن أبي حذيفة. وهذا يدلّ على تغليظ التبني والتشديد في تحريمه.

ومما يؤكد ذلك التشديد: أن الأمر لم يقتصر على التحريم النظري رغم صراحته وقطعِيَّته؛ فإنه لرسوخ هذه العادة بينهم كان لا بد من التطبيق العملي الذي يقتلع هذه العادة من جذورها، وتصل الرسالة قوية للجميع بأن الدّعيَّ الذي تدّعونه ابنًا ليس ابنًا في الحقيقة، ولا يترتب على دعواكم هذه أيّ شيء؛ لأنها مجرّد دعوى بالكلام، ﴿ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ﴾ [الأحزاب: 4].

ولذلك زوَّج الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش رضي الله عنها بعد أن طلَّقها زيدُ بن حارثة رضي الله عنه، وهو ما يؤكِّد أن زيدَ بنَ حارثة ليس زيدَ بنَ محمد، وأنَّ امرأته ليست محرمةً على النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف حلائل الأبناء كما قال تعالى في ذكر المحرمات من النساء: ﴿‌وَحَلَٰئِلُ ‌أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ﴾ [النساء: 23]، فقوله تعالى: ﴿مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ﴾ للتفريق بين الولد الصلبي والولد من التبني، فإن امرأته لا تحرم على من ادَّعاه.

ورغم أنَّ هذا الأمر كان شاقًّا على النبي صلى الله عليه وسلم وجعله عرضة لطعن الكفار والمنافقين، ولمزوه بأنه تزوج امرأة ابنه، إلا أن الله تعالى أمره ألا يخشى الناس في ذلك، ولا يباليَ بلوم اللائمين في تبليغ رسالة الله تعالى.

قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْد مِّنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَج فِي أَزْوَٰجِ ‌أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولا * مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَرا مَّقْدُورًا * ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبا * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـنَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما﴾ [الأحزاب: 37-40].

وقد جاءت السنة بتحريم التبني، وكذب الإنسان في نسبه، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلا كَفَرَ، وَمَنْ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»([8]).

قال ابن حجر رحمه الله: “وفي الحديث: تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والادعاء إلى غيره، وقيد في الحديث بالعلم، ولا بد منه في الحالتين إثباتًا ونفيًا؛ لأن الإثم إنما يترتب على العالم بالشيء المتعمد له”([9]).

وهذا كله يدلّ على تغليظ تحريم التبني، والتشديد في ذلك.

مفاسد التبنّي وأضراره:

لم يكن هذا التغليظُ والتأكيدُ القوليّ والفعليّ على إبطال التبنيّ إلا لمفاسدِه الكبيرة، وأضراره على الجميع، بمن فيهم الابن المُتَبَنّى.

وقد جمع ذلك كلَّه قوله تعالى: ﴿ٱدْعُوهُمْ لِأبَائِهِمْ هُوَ ‌أَقْسَطُ ‌عِندَ ‌ٱللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]، فتحريم التبني أعدل عند الله، وتجويزه بضدّ ذلك.

وبيان الظلم والمفاسد في التبنّي من وجوه عديدة، منها:

  • أنّ التبنّي يؤدّي لاختلاط الانساب، وما يترتب عليه من تحريم للحلال وتحليل للحرام، وتغيير للأحكام الشرعية: فإن البنوّة ليست مجرد قول باللسان، بل يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية، في أحكام النظر، والخلوة، والمحرمية، والميراث، والشهادة، والحدود في القتل والقذف والسرقة، والنكاح وغيرها من الأحكام.

وكل هذه مفاسد عظيمة جدًّا، وأمثلتها كثيرة لا يتَّسع المقام لذكرها، فمثلا:

إذا اعتبرنا أن الولد بالتبنَّى يصير ابنًا في الحقيقة صار يحلّ له أن ينظر لنساء البيت، ويخلو بهنّ، ويصير محرَمًا لهن في السفر، ووليًّا لهن في النكاح، والحقيقة أن كلّ هذا محرَّم عليه، فدعوى التبني هي في حقيقتها تحليل لما حرَّم الله. ثم هو بالتبنّي يحرم عليه نكاح من سمَّوها أخته، وهي ليست محرمة عليه في الحقيقة، فصار التبني تحريمًا لما أحلَّ الله تعالى.

ثم إن هذا الولد المُدَّعى يرث مالًا لا يحل له أن يرثه، ويحجب غيرَه ممن يستحقّ الميراث حجبَ حرمان أو حجب نقصان؛ فمن المعلوم في الميراث أن الولد الذكر يحجب الإخوة، وينقص ميراث الأم، ويعصّب أخواته البنات، ويحجب العصبات الأبعد، ولو كانت المتبناة بنتًا وحيدة فإنها سترث نصف التركة، وإذا لم تنفرد أنقصت نصيب من شاركها.

ثم هو لو مات فإنهم يرثونه، بلا وجه حقّ، ويأكلون بذلك حقّ غيرهم. فالتبني في حقيقته أكل لأموال الناس بالباطل.

وكذلك في الحدود: لا يقتل والد بولده قصاصًا، فلو أن هذا الأب قَتَل من تبنّاه قتلا يستوجِب القصاص، لكان التبنّي مانعًا من إقامة حكم الله؛ لأنه لا يقتل والد بولده، ولكن هذا في الابن الحقيقي، وليس في الأدعياء.

وهكذا في سائر الأبواب، يؤدّي التبني إلى تبديل الشرائع، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، والعبث بالأحكام الشرعية، وليس الأمر مقتصرًا على حكم واحد كما ظن البعض بأن الإشكالية في الميراث فقط، بل يتعدى لكثير من الأحكام.

  • والتبني كذلك من الكذب والزور في القول: والكذب من ذميم الأخلاق.

فلو فرضنا أن أحدًا قال: إنه سيجتنب كل هذه المفاسد، ولكنه سيسميه باسمه وينسبه إليه فقط لكان هذا كذبًا وزورًا؛ ولذلك ذكر الله تعالى قبل تحريم التبني تحريم الظهار كالتمهيد له، فإنهما يجتمعان في كونهما منكرًا من القول وزورًا، قال تعالى ﴿مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه وَمَا جَعَلَ أَزْوَٰجَكُمُ ٱلَّٰـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: 4].

فقول الرجل عن المتبنَّى: إنه فلان ابن فلان يتضَّمن كذبًا وتلبيسًا على الناس الذين يعاملونه في النكاح والبيع والشراء وغيرها من صور المعاملات، وفي ذلك من الظلم والفساد ما لا يخفى.

وقد سبق في الحديث بيان الوعيد الشديد لمن نسَب نفسه لغير أبيه وهو يعلَم، فمجرد الانتساب محرّم وهو من كبائر الذنوب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمّاه كفرًا، وهو وإن لم يكن الكفر المخرج من الملة ما لم يستحلَّ ذلك فيكفر، إلا أنه دليل على أنه من الكبائر، فإن ذنبًا سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفرًا أعظم مما لم يسمه كذلك.

  • والتبنِّي كذلك هَدم للفطرة ولنظام الأسرة التي فطر الله الناس عليها:

فإن الله تعالى أقام الخلقَ على سنن ونظام، قال تعالى ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا ‌رِجَالا ‌كَثِيرا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، وقال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَٰحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ‌لِيَسْكُنَ ‌إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189]. فالأسرة التي هي وحدة بناء المجتمع البشري تتكون من رجل يتزوج امرأة، والأبناء هم ثمرة هذه الأسرة، وفي كنفها وحضنها ينشؤون نشأة سوية مستقرة.

ولا سبيل لإشباع غريزة الأمومة أو الأبوة إلا من خلال هذا الطريق السويّ المستقيم، ومهما حدث عَبث بهذه المنظومة تهدمت معها الأسرة، ومن بعدها المجتمع.

والناظر في أحوال الغرب الآن يدرك ذلك جيّدًا، فقد تمّ العبث بكل المفاهيم الثابتة، حتى الثوابت التي أجمع عليها البشر عبر تاريخهم، مثل مفهوم: الزوج والزوجة والأسرة والذكورة والأنوثة والابن والابنة، كلها مفاهيم كانت ثابتة عبر التاريخ، تم إصدار تعريفات جديدة لها تتوافق مع الليبرالية الغربية والنسوية. بدءًا من مفهوم الذكر والأنثى الذي صار من أعقد الأمور عندهم، ففي ظل ثورة (الجندر)([10]) لم يعد تعريف الذكر والأنثى شيئًا ثابتًا، بل قابلا للتغيير، وهو خاضع للحرية الشخصية، فالذكر هو من يعرِّف نفسه في المجتمع بأنه ذكر ولو كانت طبيعته البيولوجية تنافي ذلك، والأنثى كذلك.

وتبعًا لذلك فإن مفهوم الأسرة سيتعرض للتغير هو كذلك، فلا يلزم أن تتكون من رجل وامرأة بعقد شرعي صحيح، ولذلك تم استبدال كلمة الشريك بكلمة الزوج، وظهرت الأسر (المثلية) المكونة من رجلين أو امرأتين، أو غير ذلك من أنواع الأسر التي يستحدثونها تحت فوضى الهويات (الجندرية).

والابن ليس من وُلِد لك من زواجٍ شرعيٍّ صحيح، وإنما من تقرِّر أنه ابنُك، ولا علاقة لذلك عندهم بكونه وُلِد لكَ أم لا، فمن حقك -عندهم- ألا تقبل بوجود هذا الابن الحقيقيّ، وأن تقتله تحت مسمى (الإجهاض)، وفي المقابل فيحقّ لك أن تدَّعي بالزور والكذب ولدًا لم تلده، وتنسبه لنفسك بالتبنّي.

وفي ظلّ هذا الانتكاس الفطريّ الخطير اعتبر التبني حلًّا لمسألة الأسر المثليّة التي ترغب في اتخاذ أبناء، ولنا أن نتصوّر الظلم العظيم الواقع على الأبناء الذين ينشؤون في مثل هذه الأسر الشاذّة المناقضة للفطرة، ومدى الصدمة والألم النفسي الذي يحصل لهؤلاء الأولاد حينما يقارنون بين أسرهم والأخرى.

وأيضا اعتبر التبني حلًّا لمشكلة أخرى بعد الفوضى الجنسية التي امتلأت بها بلاد الغرب، وهي مشكلة أولاد الزنا، فنِسبُ أولاد الزنا مرتفعة جدًّا، تصل في بعض الأحيان لأكثر من نصف المواليد([11])، وهي نسبة تبيِّن مدى الانهيار والتفسّخ المجتمعيّ، وقد يظنون أن التبني يمكن أن يكون حلًّا لهذه المشكلة.

والغرض المقصود بيان أن التبني جزء من منظومة الانتكاس عن الفطرة، وتغيير خلق الله، وهدم الأسرة، وتفكيك المجتمعات، والتزهيد في الطريق الشرعي لإشباع الغرائز، وكل ذلك من أمر الشيطان الذي تحدّى ربه قائلًا: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ ‌خَلْقَ ‌ٱللَّهِ﴾ [النساء: 119].

  • ومن مفاسد التبنِّي أن فيه ظلمًا للطفل المتبنَّى:

فيُحرم من إمكان الوصيّة له في حدود الثلث، فإنه لا وصيَّة لوارث، وكذلك نُحَرِّم عليه النكاح بنساء هنَّ حلال له في الأصل، ونرتّب عليه التزاماتٍ بمقتضى البنوّة لا تلزمه في شيء.

ومن ذلك الصدمة التي يشعر بها الطفل، حينما يكبَر ويكتشف الحقيقة، وربما لا يستطيع التكيُّف ولا التعايش بعد أن ظلَّ دهرًا طويلًا لا يفهم حقيقةَ الأمر.

تنبيهان:

التنبيه الأول: أن البعض قد يقول: إن التبني فيه مصلحة ورحمة بهذا الشخص والطفل، بدلا من التشرد والضياع.

والجواب: إن تحريم الشيء لا يعني خلوَّه من بعض المصالح والفوائد، ولكن يعني أن ما فيه من مفاسد أعظم من المصالح، كما قال تعالى في الخمر والميسر: ﴿‌وَإِثْمُهُمَا ‌أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]، والمفاسد الموجودة في التبني أعظَم بكثير من هذه المصلحة، بل إن هذه المصلحة يمكن تحصيلها من غير التبني المحرم، فيمكن للإنسان أن يكفل يتيمًا أو مشردًا أو فقيرًا في بيته، وليس فقط في دار الأيتام، مع مراعاة الضوابط الشرعية في النظر والخلوة ونحوها، مع تجنب إلحاقه في النسب، ويمكن -كما سبق- الوصية له من التركة في حدود الثلث.

فما في التبني من مصلحة جاء بها الإسلام نقيّة من غير مفسدَة؛ بِحَثِّه على كفالة اليتيم، وإيجابه رعايةَ اللُّقطاء، وكفالتَهم، والقيامَ على شؤونهم، وجعل ذلك فرضًا من فروض الكفايات.

التنبيه الثاني: أن ذكر هذه المفاسد التي تبين الحكمة الشرعية من تحريم التبني لا يعني أنه لو تصوّرنا جدلا زوالها أو الاحتراز من بعضها صار التبنّي جائزًا، فإن الأحكام الشرعية لا تتغيّر، ولا تُربط الأحكام بالحِكَم المستنبطة الخفيّة، وإنما بالعِلل، وهي الأوصاف الظاهرة المنضبطة، وأما ذكر هذه الحِكَم فهي من باب طمأنينة القلب وتجلية عظمة الشريعة، وإلا فإنَّ موقف المسلم معلومٌ وهو وجوب الامتثال لحُكم الله تعالى، ولو لم يعرفِ الحكمةَ من وراء ذلك، وذلك لإيمانه بعلم الله تعالى وحكمته وأنه عز وجل كما قال: ﴿‌لَا ‌يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].

والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه البخاري (4782)، ومسلم (2425).

([2]) أخرجه البخاري (4000)، ومسلم (1453).

([3]) الموسوعة الفقهية الكويتية (10/ 120).

([4]) أخرجه البخاري (5304)، ومسلم (2983).

([5]) ينظر: فتح الباري (10/ 436).

([6]) تفسير الطبري (19/ 11).

([7]) تفسير ابن كثير (6/ 377).

([8]) أخرجه البخاري (3508)، ومسلم (61).

([9]) فتح الباري (6/ 451).

([10]) الجندر: هو النوع الاجتماعي، أي: الصفة التي يرغب الإنسان أن يعرف بها في المجتمع بغضّ النظر عن طبيعته البيولوجية. انظر: الموسوعة البريطانية (Encyclopedia Britannica)، عبر الموقع الإلكتروني:

https://www.britannica.com/topic/gender-identity

([11]) في أحد التقارير كشف مكتب الإحصاء الأوروبي أن 43% من المواليد في الاتحاد الأوروبي سنة 2016م ولدوا خارج إطار العلاقات الزوجية. انظر التقرير على هذا الرابط:

https://1-a1072.azureedge.net/misc/2018/8/9/43-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%88%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%A7-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC-%D8%A5%D8%B7%D8%A7%D8%B1

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

تعريف بكتاب “نقض دعوى انتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة بدلالة الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقَـدّمَـــة: في المشهد العقدي المعاصر ارتفع صوت الطائفة الأشعرية حتى غلب في بعض الميادين، وتوسعت دائرة دعواها الانتساب إلى أهل السنة والجماعة. وتواترُ هذه الدعوى وتكرارها أدّى إلى اضطراب في تحديد مدلول هذا اللقب لقب أهل السنة؛ حتى كاد يفقد حدَّه الفاصل بين منهج السلف ومنهج المتكلمين الذي ظلّ […]

علم الكلام السلفي الأصول والآليات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اختلف العلماء في الموقف من علم الكلام، فمنهم المادح الممارس، ومنهم الذامّ المحترس، ومنهم المتوسّط الذي يرى أن علم الكلام نوعان: نوع مذموم وآخر محمود، فما حقيقة علم الكلام؟ وما الذي يفصِل بين النوعين؟ وهل يمكن أن يكون هناك علم كلام سلفيّ؟ وللجواب عن هذه الأسئلة وغيرها رأى […]

بين المعجزة والتكامل المعرفي.. الإيمان بالمعجزة وأثره على تكامل المعرفة الإنسانية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لقد جاء القرآن الكريم شاهدًا على صدق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى صدق الأنبياء كلهم من قبله؛ مصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات. وهذا وجه من أوجه التكامل المعرفي الإسلامي؛ فالقرآن مادّة غزيرة للمصدر الخبري، وهو […]

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثالث- (أخطاء المخالفين في محل الإجماع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثالث: أخطاء المخالفين في محل الإجماع: ذكر الرازي ومن تبعه أن إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وبمعنى الكمال والنقصان محلّ إجماع بينهم وبين المعتزلة، كما تقدّم كلامه. فأما الإطلاق الأول وهو كون الشيء ملائمًا للطبع أو منافرًا: فقد مثَّلُوا لذلك بإنقاذِ الغَرقى واتهامِ الأبرياء، وبحسن الشيء الحلو […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثاني- (أخطاء المخالفين في محل النزاع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثاني: أخطاء المخالفين في محل النزاع: ابتكر الفخر الرازيُّ تحريرًا لمحل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسألة فقال في (المحصل): “مسألة: الحُسنُ والقبح‌ قد يُراد بهما ملاءمةُ الطبع ومنافرَتُه، وكون‌ُ الشي‌ء صفةَ كمال أو نقصان، وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يُراد بهما كونُ الفعل موجبًا للثوابِ والعقابِ والمدحِ […]

ترجمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (1362  – 1447هـ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه([1]): هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مولده ونشأته: وُلِد سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ رحمه الله بمدينة مكة المكرمة في الثالث من شهر ذي الحجة عام 1362هـ. وقد […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الأول- (تحرير القول في مسألة)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ مسألةَ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الجليلة التي اختلفت فيها الأنظار، وتنازعت فيها الفرق على ممرّ الأعصار، وكان لكل طائفةٍ من الصواب والزلل بقدر ما كُتب لها. ولهذه المسألة تعلّق كبير بمسائلَ وأصولٍ عقدية، فهي فرع عن مسألة التعليل والحكمة، ومسألة التعليل والحكمة فرع عن إثبات الصفات […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

وصفُ القرآنِ بالقدم عند الحنابلة.. قراءة تحليلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعدّ مصطلح (القِدَم) من أكثر الألفاظ التي أثارت جدلًا بين المتكلمين والفلاسفة من جهة، وبين طوائف من أهل الحديث والحنابلة من جهة أخرى، لا سيما عند الحديث عن كلام الله تعالى، وكون القرآن غير مخلوق. وقد أطلق بعض متأخري الحنابلة -في سياق الرد على المعتزلة والجهمية- وصف (القديم) […]

التطبيقات الخاطئة لنصوص الشريعة وأثرها على قضايا الاعتقاد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأمور المقرَّرة عند أهل العلم أنه ليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل، سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية، وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبيٌّ يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة […]

الصحابة في كتاب (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي (581هـ) -وصف وتحليل-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يحرص مركز سلف للبحوث والدراسات على توفية “السلف” من الصحابة ومنِ اتبعهم بإحسان في القرون الأولى حقَّهم من الدراسات والأبحاث الجادة والعميقة الهادفة، وينال الصحابةَ من ذلك حظٌّ يناسب مقامهم وقدرهم، ومن ذلك هذه الورقة العلمية المتعلقة بالصحابة في (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي رحمه الله، ولهذه […]

معنى الكرسي ورد الشبهات حوله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدُّ كرسيُّ الله تعالى من القضايا العقدية العظيمة التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نال اهتمام العلماء والمفسرين نظرًا لما يترتب عليه من دلالات تتعلّق بجلال الله سبحانه وكمال صفاته. فقد جاء ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017