لِكُلِّ أمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ – دراسة لشريعة الحج في الأديان –
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
«لتأخُذوا مناسِكَكم، فإني لا أدري لعلي لا أحجُّ بعد حجَّتي هذه»([1]). بهذا الأمر الدقيق البليغ من نبينا الكريم حفِظَ الله للإسلام والمسلمين نُسكَ الحج وشرائعه وتفاصيله، الذي أذَّن به في الناس إبراهيم عليه السلام، ورفع قواعد البيت الحرام، وكان هو وابنه إسماعيل يطهِّرانه للطائفين والعاكفين والركَّع السُّجود من الحجّاج والعُمّار والزوار، فسبحان من “كرَّم بيته الحرام وجعله وسيلة لكل خير يُؤمِّله آمل من عنده”([2]).
وقد كان الامتثال والطاعة لأمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين ثم من المسلمين على مرِّ العصور والأزمان والأماكن؛ فأخذ الصحابة رضي الله عنهم عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مناسكهم، “واعتنى السلف بأحكامه وأكثروا من تفريع مسائله واقتفى الخلف إِثرَهم”([3])، وحفظوها بكل دقّة، ووعوها بكلّ عناية، وبلغوها بكل أمانة، ولا زلتَ تقرأ حجَّةَ الوداع كأنك تراها، ولا زال مداد العلماء يصُبّ صبًّا والسطور تصُفُّ صفًّا صفًّا؛ لتنقل لنا دقائق تلك الحَجة النبوية، وكأني بك تشاهدها بالصوت والصورة. وقد بلغ الأمر بأعلام الأمة أنهم لم يفردوا مؤلفات وكتبًا للحج وحسب، بل أفردوا مؤلفات لجزئيَّات هذه الفريضة العظيمة؛ فمنهم من ألَّف في سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وهديه وكيفية حجه، ومنهم من ألَّف في الأحاديث الواردة فيه، ومنهم من ألَّف في فقهه وأحكامه، ومنهم من ألَّف في حِكَمه ومقاصده ومظاهره وآثاره، ناهيك عمن ألَّف في تاريخه والتشويق إليه، بل إن منهم من ألَّف في أنواع الدماء فيه.
فهل هذه الصورة المشرقة والكمال التامّ الذي نراه في تشريع الحجّ والنسك في الدين الإسلاميّ نجد مثله في الأديان الكتابية (اليهودية والنصرانية)، أم أن الحج فيها تغيرت تشريعاته وتبدّلت وتأثرت بما اعتراها على مر العصور؟
وقبل ذلك: هل يوجد اليوم أثر للحج في كتب ومصادر أهل الكتاب؟
وإلى أين حجَّ الأنبياء عليهم السلام في معتقد أهل تلك الأديان؟
وهل هناك موضع محدَّد للحج تدلّ عليه التوراة والأناجيل التي بيد اليهود والنصارى اليوم؟
وهل مناسك الحج وشرائعه محددة معلومة عند اليهود والنصارى كما هو الحال عند المسلمين؟
في هذه الورقة سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها.
تمهيد:
ما يُظهر لنا محاسنَ الإسلام ومناقبَه أنّ الأديان برُمَّتها تتَّفق معها في أصولها الكبرى؛ وهذه خصيصة من أهم خصائص الدين الإسلامي أنّ أصوله الخمسة جميعها تتّفق مع عامة الأديان، ويوجد أصل تشريعها في كثير منها حتى يوم الناس هذا؛ وذلك يعود إلى أن الإسلام العام هو دين جميع أنبياء الله ورسله منذ آدم عليه السلام؛ فكل الرسل بعثوا بأصوله المشتركة؛ كالتوحيد والصلاة والزكاة والصوم والحج.
وإذا ركَّزنا عدسة البحث على موضوعنا هنا وهو الحج؛ وجدنا أنَّه “شعار أنبياء الله وعليه سار عباد الله الصالحون”([4])، ووجدنا أن عامة الشرائع والملل والأديان الحقَّة جاءت بفرض الحجّ، ووجدنا لكلّ أمة من الأمم مناسكَ يتقربون بها إلى إلههم، وقد أخبرنا الله في كتابه العزيز -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- بهذه الحقيقة الصافية الحقَّة حيث قال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67].
فلكلّ جماعة خلَت مكانٌ يعتادونه ويجتمعون فيه للتنسُّك وعبادة الله فيه وقضاء فرائضه، فالمنسك هو المكان الذي يعتاده الإنسان، ويتردَّد إليه، إما لخير أو شر؛ “وإنما سميت مناسك الحج بذلك؛ لتردّد الناس إلى الأماكن التي تُعمل فيها أعمال الحج والعمرة”([5]).
ففي هذه الآية “يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكًا… ولكل أمةِ نبيّ منسكا”([6])، وقد تنوَّعت أقوال أهل التأويل في المقصود بالنسك في الآية ما بين الشريعة والعبادة والذبح والحج والعيد، وما أحسنَ إضاءةَ صاحب الأضواء حين قال: “أصل النسك التعبُّد، وقد بين تعالى أنَّ منسك كلّ أمة فيه التقرب إلى الله بالذبح، فهو فرد من أفراد النسك صرَّح القرآن بدخوله في عمومه، وذلك من أنواع البيان الذي تضمَّنها هذا الكتاب المبارك”([7]).
ومصداقًا لما أخبر الله سبحانه وتعالى نجد الدلائل الكثيرة تقرّر ما قرَّره؛ فالدارسون لتاريخ الحضارات القديمة يؤكِّدون وجودَ الحج عندهم، والمتخصِّصون في تاريخ الأديان ومقارنتها يثبتون ويقرّرون ما قرره القرآن الكريم؛ حيث إن الحج كان ولا زال عبادةً وشريعةً أساسيةً من شرائع الأديان والأمم الماضية، ولا يختلف الأمر في ذلك ما بين أمم بدائية أو منعزلة أو ذات حضارة؛ فالبحث والتنقيب في الحضارات والأمم يؤكِّد لنا هذه الحقيقةَ القرآنية، ويصرح أن كل أمة لها منسك يتنسكون به ويتعبدون به، وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرزاق الموحى: “عرف البشر الحج بمفهومه العام منذ القدم؛ إذ لم توجد أمة من الأمم أو ديانة عند الناس إلا وعندها أماكن مقدسة تشدّ إليها الرحال ويسعى الجميع إليها؛ تبعا لطرق وتقاليد وآداب كل سفر ديني، والإنسان غالبًا ما يوجه أشواقه إلى ما يعتقد فيه القدسية ووجوب الاحترام؛ ليشبع به رغبته في التعظيم لتلك الأماكن، منميًا حسَّه الديني، متغلبا على تأنيب الضمير”([8]). وبنحوه يقول الدكتور حسن ظاظا: “الحج عند البشر جميعًا هو زيارة جماعية لمكان مقدس في وقت معلوم: يقصد الشعور باقتراب خاصّ من المعبود الذي يؤمن به القوم، ويربطون هذه الزيارة بذكريات معينة موغلة في القدم، تتصل بالمكان الذي يفدون إليه هكذا كان الحج -ولا يزال- عند البشر جميعًا؛ فقد قدسوا الأشجار والغابات والجبال والأنهار والآبار، وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات، فيشعرون بالقوة التي يبعثها في نفوسهم العدد الكثير، وبالطمأنينة لوجودهم معا في موقف عبادة ذات شعائر خاصة ونظام دقيق”([9]).
ولئن سبق البيان بأن ذلك من أكبر الدلائل على دين الإسلام العام، فإن الطاهر ابن عاشور يخبرنا أنه من أدل دلائل التوحيد؛ إذ يقول: “هذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة بأن الله ما جعل لأهل كل ملة سبقت إلا منسكًا واحدًا يتقربون فيه إلى الله؛ لأن المتقرَّب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة، فلكل صنم بيت يذبح فيه”([10]).
وإن كان الحج بهذه المثابة حيث كان تشريعًا لعامة الأمم من قبلنا، فهنا يطفو على العقل النبيه التساؤل التالي: ما معنى الحج في الأديان؟ وهل هو بنفس مفهومه في الإسلام؟
معنى الحج في الأديان:
من مكامن الصعوبة في هذا البحث صعوبة تحديد مفهوم الحج بدقَّة بحيث تتناسب مع الحج الموجود في الأديان؛ فإذا اعتبرنا وتأمَّلنا في لغة اليهود المعتبرة اللغة العبرية لا نجد فيها هذه الكلمة بقدر ما نجد مصطلح (مُوعِد)، وهو القسم الثاني من أقسام التلمود، وهو مخصَّص لذكر مواعيد المناسبات الدينية عامة لا الأعياد خاصّة كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ المسلم([11])، فنجد في هذا القسم الحديث عن مواقيت الصيام والأعياد، كما نجد ما نتحدث عنه وهو مواعيد الحج، ولا نستغرب إن عرفنا لاحقًا أن مواسم الحج في اليهودية تسمَّى أعيادًا، كعيد الفصح الذي هو أهم مواسم الحج عندهم([12]).
إذن، يطلق مصطلح (مُوعد) ويقصد به يوم الحج ويوم الطواف، وهناك مصطلحات أخرى يجدها المتتبع للمصطلحات العبرية المتعلقة بالحج ومنها:
- (حَجِّيم)، وهي بمعنى: (أعياد)، وهي مرادفة لمصطلح (مُوعِد)، ويشار به إلى مواسم الحج الثلاثة عند اليهود.
- (رأيون) أو (رإيا)، وتعني: زيارة الهيكل/ الحج، وهي “الشريعة الخاصة بالظهور في فناء الهيكل للحج في ثلاث مناسبات”([13]).
- (عُولي رجاليم)، وتعني: الزوار/ الحجاج، أي: من يسافرون إلى القدس لأداء طقوس الحج.
هذا ما نجده في مصطلحات الديانة اليهودية، ولها نظائر في مصطلحات الديانة النصرانية، وعلى سبيل المثال مصطلح (مقدسي) يُطلق على من نال شرف الحج واستطاع زيارة القدس([14]).
ومما زاد الإشكال إشكالًا أن كلًّا من الدينين لا نجد فيهما تشريعًا وفرضًا صريحًا للحج، ولا لزيارة الأماكن التي زارها موسى أو عيسى عليه السلام؛ فإذا ما سبرنا أصول الديانة اليهودية لا نجد بينها الحج؛ فهو ليس بفريضة فيها ولا ركنًا من أركانها([15])، ولا يختلف الحال في الديانة النصرانية، “فسِجِلُّ التاريخ المسيحي الأول لم يُشر من قريب أو بعيد إلى ضرورة زيارة الأماكن التي ارتادها وعاش فيها السيد المسيح عليه السلام”([16]).
وهذا بدوره تسبب في عدم وضوح المقصود بشريعة الحج تحديدًا، أو لنقل: صعوبة تعريفها تعريفًا جامعًا يحدد معناها، وعلى الرغم من هذه الصعوبة نجد مجموعة من الباحثين والعلماء صاغوا لها من التعريفات ما يكشف عنها، ومن أبرزها:
التعريف الأول: “زيارة جماعية لمكان مقدَّس في وقت معلوم؛ بقصد الشعور باقتراب خاصٍّ من المعبود الذي يؤمِن به القوم. ويربطون هذه الزيارة بذكريات معينة موغلة في القدم، تتصل بالمكان الذي يفدون إليه”([17]).
وعلى هذا التعريف جملة من الملاحظات، منها:
- لم يذكر تفاصيل العبادات التي يقوم بها الحاج، وإنما أجملها في الزيارة مع أنها لا تقتصر على مجرد الزيارة، بل غالبًا ما يصاحبها مجموعة من الطقوس الدينية كالدعاء والصلاة والأعطيات والذبح وأحيانا الطواف.
- عدم ذكره ما يكون قبل هذه الزيارة من طقوس تطهيرية غالبا.
- فيه إيحاء بأن الحج أصله وثني لا بوحي إلهي منزل، ويؤكده ما نطق به المؤلف بعد التعريف حيث قال: “ومن المؤكد أن الإنسان في العصور السحيقة قبل التاريخ كان يرتاد بقاعًا من الأرض يجد لها رهبة أو راحة”.
ولا شك أن من تأمل أصل الحج وحقيقته ومقاصده وآثاره وتاريخه مع الأنبياء أدرك أنه من لدن إله واحد حكيم خبير؛ شرعه بكيفية وأحكام محددة ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم وينالوا الأجر والثواب وينعموا بالطهر والتوبة والمآب.
التعريف الثاني: “رحلة يقصد بها المؤمنون إلى مكان مقدَّس بظهور إلهي أو بنشاط معلم ديني؛ من أجل تقديم صلاتهم في إطار ملائم لذلك بصفة خاصة، ويجري التمهيد للحج ببعض طقوس التطهير، وتتم الزيارة في تجمع من شأنه أن يُظهر للمؤمنين الجماعة الدينية التي ينتمون لها”([18]).
ويلاحظ على هذا التعريف أيضا نفس الإشكال السابق، فعلى الرغم من ذكره أنه يكون “من أجل تقديم صلاتهم”، إلا أنه لم يذكر تفاصيل العبادات التي يقوم بها الحاج، وإنما أجملها في الصلاة مع أنها لا تقتصر عليه، بل غالبًا ما يصاحبها مجموعة من الطقوس الدينية كالدعاء والأعطيات والذبح وأحيانا الطواف؛ ومن هنا اقترح الدكتور عبد الله بن ناصر القحطاني إضافة: “من أجل تقديم قرابينهم وتقدماتهم وصلاتهم”([19])؛ لتدل على هذا المعنى الذي هو مرتكز رئيس من مرتكزات الحج في الأمم.
التعريف الثالث: “رحلة إلى مرقد القديس أو زيارة إلى مكان مقدس آخر، ويتم ممارسة هذا الطقس لدوافع مختلفة؛ فهي لأجل الحصول على المساعدة الروحية أو لأجل القيام بصيام التشكر أو القيام بفعل (تكفيري)”([20]).
ويلاحظ هنا بُعد هذا التعريف عن المعنى العام للحج واختصاصه بما في النصرانية من مجرد الزيارة الدينية، كما أنه أيضا لم يبين الدافع له والغرض منه في النصرانية، وهو ما جعل الدكتور عبد الرزاق رحيم صلال الموحى يعقب عليه بقوله: “وهي عقوبة ذاتية ينزلها الآثم بنفسه، وبخاصة توجيه من الكاهن، والمسيحيون ينظرون إلى جسد المسيح هو الهيكل البديل لهيكل اليهود. فاقتصروا في أول الأمر الزيارة إلى ما يمثل رمزه وهو المذبح الموجود في كل كنائسهم”([21]).
التعريف الرابع: “القصد إلى مكان مقدس بظهور رباني، تجلت فيه القدرة الإلهية متمثلًا بكنيسة أو قبر أو مشاهد لقِدِّيسيهم”([22]).
ويلاحظ على هذا التعريف ما قيل في التعريف الأول، ثم لم يذكر أن الزيارة يمكن أن تكون لما يعتقد العابد أنه بيت الإله، وهو واقع موجود في بعض الأديان.
التعريف الخامس: “قصد لبيت الله تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة”([23]).
وأرجح هذه التعريفات وأقربها إلى بيان معنى الحجّ العام في الأديان هو التعريف الثاني؛ لشموله لعامة القواسم المشتركة في الحج بين الأديان؛ فهو بهذا التعريف يشمل كثيرًا من أنواع الحج الذي وجد في الأديان بدءًا ممن عرفنا من الأمم البائدة كالمصريين القدماء الذين كانوا يحجون إلى معبد (أوزيريس) بمدينة (أبيدوس)، والهنود كانوا يحجون إلى المعابد الضخمة التي في جبال الهملايا وعلى ضفاف نهر الكنج، والصينيون كانوا يحجون إلى الجبال المقدسة مثل جبال تاي، ولا يختلف الحال في الحضارة البابلية والفارسية القديمة([24]).
الحج في اليهودية:
يؤكّد كثير من الباحثين في الديانة اليهودية أن الحج لم يكن تشريعًا رئيسًا فيها، ولا توجد نصوص في التوراة تفرض على اليهود الحجَّ فرضًا صريحًا، ولا زيارة الأماكن التي زارها موسى؛ يقول الدكتور حسن ظاظا: “الحج عند اليهود ليس بفريضة، ولا ركنًا من أركان العبادة في اليهودية كما هو في الإسلام، فهو على أكثر تقدير يشبه العمرة عند المسلمين”([25])، فهو إذن إلى النفل والتطوع أقرب منه إلى الفرض والوجوب.
ولكن على الرغم من ذلك فإن علماء اليهود أوجبوا الحجَّ على كل الرجال ثلاث مرات في العام، مع قرابين وتقدمات قربة الله، وهم يعتمدون في ذلك على نصوص عامة لم تذكر طقوس الحج بالتحديد ولا موضعه، ومنها: “ثلاث مرات في السنة تحضر جميع ذكورك أمام الرب إليك في المكان الذي تختاره، في عيد الفطير وعيد الأسابيع وعيد المظال، ولا يحضروا أمام التراب فارغين كل وَاحِدٍ حَسبما تعطي يده، كبركة الرب إلهك الذي أعطاك”([26]).
ومن هنا فالحج في الشريعة اليهودية يكون ثلاث مرات في العام([27])، وهم اليوم يحجون إلى القدس، وتحديدًا إلى حائط المبكى الذي يدعون أنه من بقايا الهيكل، وهذا يجعلنا نتساءل: ما البقعة التي شُرع لليهود الحج إليها؟ هل ورد حج الأنبياء إلى القدس في كتبهم أم الوارد غير ذلك؟
أماكن حج اليهود منذ نشأتهم تاريخيًّا:
من المعلوم عند الباحثين أن رواة النصوص الدينية اليهودية المقدسة لم يحددوا موضع الحج الخاص بهم، وهو ما نتج عنه تعدُّد أماكن الحج في الديانة اليهودية منذ تاريخها القديم([28]).
ومن أهم النتائج والآثار التي نتجت عن عدم معرفة اليهود لموضع الحج الحق وعدم تحديد التوراة لها: أن أنبياء اليهود الأُول بحسب عقيدة اليهود لم يحجوا إلى القدس، بل لم يحجوا إلى مكان محدد بعينه، بل أماكن الحج كانت تتغير بتغير الأزمان بحسب العقيدة اليهودية([29])؛ ومن ذلك على سبيل المثال:
- إبراهيم عليه السلام وسنديانة قَمْرا:
الحق الذي لا مرية فيه هو أن الأنبياء إنما حجوا إلى بيت الله الحرام بمكة كما هو ثابت بالأخبار الصحيحة الثابتة في القرآن والسنة النبوية الصحيحة؛ فثبت عن موسى أنه كان له جؤار بالتلبية في الواد الأزرق حيث نزل بها في طريق حجه إلى بيت الله الحرام بمكة، ومثله عن يونس وغيرهم من الأنبياء، كما ورد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: «أي واد هذا؟» فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: «كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية»، ثم أتى على ثنية هرشى، فقال: «أي ثنية هذه؟» قالوا: ثنية هرشى، قال: «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي»([30]).
وأبو الأنبياء إبراهيم هو الذي رفع قواعد البيت وأذن في الناس بالحج، وحج هو أيضا إليها، “وإذا كان سيدنا إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من بيت الله في مكة المكرمة، فإنه لم يَرِد عنه حتى في المرويات اليهودية أنه بنى لله تعالى بيتًا في فلسطين”([31])، بل الذي ورد عن إبراهيم في كتب اليهود -وتحديدا في سفر التكوين- أنه كان يقيم عند سنديانة قمرا بالقرب من مدينة الخليل، وأن الرب تجلى له عندها، والسياق هناك ليس سياقَ نُسك أو حج، ولنورد النص ليقف القارئ على حقيقة ما يستندون إليه: “وظهر له الرب في سنديانة قمرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. 2 فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. 3 وقال: (يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. 4 ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة. 5 فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم). فقالوا: (هكذا تفعل كما تكلمت). 6 فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: (أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا. اعجني واصنعي خبز ملة). 7 ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وجيدا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. 8 ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم. وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا. 9 وقالوا له: (أين سارة امرأتك؟) فقال: (ها هي في الخيمة). 10 فقال: (إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن). وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه. 11 وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. 12 فضحكت سارة في باطنها قائلة: (أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ!). 13 فقال الرب لإبراهيم: (لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ 14 هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن). 15 فأنكرت سارة قائلة: (لم أضحك). لأنها خافت. فقال: (لا، بل ضحكت)”([32]).
فلا نجد في هذا النص أمرًا بالحج إلى هذا المكان، ولا ارتباط له بالنسك، ولكن لما تجلى الله فيه لإبراهيم وبشَّره بإسحاق بعد معاناة؛ كان هذا الحدث الجلل في تاريخه سببًا لاتخاذه مزارًا ومنسكًا وحسب، دون أن يأمرهم به إبراهيم أو موسى، أو حتى من بعدهم من الأنبياء عليهم السلام.
- إسحاق عليه السلام وبئر لحي الرائي:
على الرغم من أن اليهود يعتقدون أن أوائل بني إسرائيل كانوا يحجون إلى سنديانة قمرا لما سبق أن بينَّا، إلا أنهم لم يقصروا الحج على ذلك المكان وحده، بل حجوا إلى أماكن كثيرة، ويكاد يرتبط بكل نبيٍّ مزارٌ تنسَّك فيه اليهود بسبب حادثة حصلت للنبي فيه، فإسحاق عليه السلام يعتقد اليهود أنه استخلف بعد وفاة أبيه، وباركه الرب عند بئر لحي الرائي، كما أنه تزوج عنده من زوجته (رفقة)، وهذا البئر يقع بالقرب من الخليل وقبالة سنديانة قَمْرا، ونص التوراة الذي ورد فيه: “62 وكان إسحاق قد أتى من ورود بئر لحي رئي إذ كان ساكنا في أرض الجنوب. 63 وخرج إسحاق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء فرفع عينيه ونظر وإذا جمال مقبلة. 64 ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل. 65 وقالت للعبد: (من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟) فقال العبد: (هو سيدي). فأخذت البرقع وتغطت. 66 ثم حدث العبد إسحاق بكل الأمور التي صنع. 67 فأدخلها إسحاق إلى خباء سارة أمه وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها. فتعزى إسحاق بعد موت أمه”([33])، وأما النص الذي جاء فيه أن الرب باركه فيه فهو: “وكان بعد موت إبراهيم أن الله بارك إسحاق ابنه. وسكن إسحاق عند بئر لحي رئي”([34]). وهكذا يلاحظ القارئ هنا أن كل ما في الأمر هو حوادث تاريخية حصلت لأنبياء بني إسرائيل في مواقع معينة، فاتخذوها مزارات وأماكن للحج، “وكثير من أتقياء اليهود يحجون إليها حتى اليوم”([35]).
- يعقوب عليه السلام وبيت إيل:
على منوال الأماكن السابقة نجد أن بني إسرائيل اتخذوا من أحد الأماكن التي نزل بها إسرائيل (يعقوب عليه السلام) محلًّا للحج ومزارًا، ويعتبر الباحثون الموضع الذي نزل به يعقوب هو أول الأماكن التي يحج إليها بنو إسرائيل([36])؛ وذلك أن يعقوب نزل عند جبل جرزيم بالقرب من نابلس، وبنى هناك معبدًا اشتهر باسم (بيت إيل) أي: بيت الله، فصار حرمًا له وللأسباط، وقد ورد هذا في التوراة حيث فيها: “1 ثم قال الله ليعقوب: (قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع هناك مذبحا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك). 2 فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: (اعزلوا الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم. 3 ولنقم ونصعد إلى بيت إيل، فأصنع هناك مذبحا لله الذي استجاب لي في يوم ضيقتي وكان معي في الطريق الذي ذهبت فيه)”([37]).
إذن؛ هذا الموضع كان من قبل أول الأماكن التي يحج إليها اليهود، واستمروا على ذلك من عهد يعقوب، ولم يتغير الأمر ولم يتبدل حتى بعد أن دخل داود القدس واستقرت فيها مملكته، بل وحتى بعد بناء سليمان لقصره الملكي -الذي كان الهيكل المنسوب إليه جزءًا من أجزائه- كان اليهود جميعًا يحجون إلى بيت إيل، واستمر الحال على ذلك بعد وفاته حتى انقسمت مملكة اليهود قسمين؛ ففي عصر الانقسام والشقاق بين اليهود بقي الشماليون (السامرة) على موضعهم الأول، “فهم يرون أن مدينة القدس هي نابلس… ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ولا يعظمونه”([38])؛ حيث يقع في منطقتهم الجغرافية؛ وهو ما وعَّر سبيل الحج على أهل المملكة الجنوبية (يهوذا)، وكان العداء بينهم شديدًا، فاستبدلته بالحج إلى الهيكل في القدس. ثم تتابعت السنون، وفقد بيت إيل قدسيته ومنزلته تلك بين اليهود، حتى إنه لم يعد يحجّ إليه اليهود اليوم عدا طائفة صغيرة هي طائفة السامرة([39]).
ولسنا نريد أن نطيل البحث هنا أكثر مما طال بالاستفاضة في الحديث عن موضع نبع عين قديس (قادش)؛ حيث توقف عندها موسى عنده، فصار مكان حج أيضا، ولا موضع تبرك اليهود بنخلة دبورة النبية، ولا قبور أسلاف اليهود الصالحين التي يحجون إليها، “فما زال اليهود يحجون إلى قبر العُزير في العراق، وقبر المتصوف اليهودي أبي حصيرة في دمنهور، وقبر فقيههم عَمْرَامُ في المغرب بالقرب من وزان، بل قبر المتصوف بَعَل شِمْ طُوف في فلنيوس بليتوانيا”([40]).
وهذه هي المزارات ومواضع الحج التي كان يحج إليها اليهود قديما وتاريخيًّا. وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن موضع حجِّهم اليوم نلاحظ فيما مضى مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([41])، ومثله قوله عندما ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة؛ فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله»([42]).
القدس لم تكن محلا للحج حتى في التوراة التي بيد اليهود اليوم:
لا يحجّ عامّة اليهود اليوم إلى أي موضع من تلك المواضع التي يروونها عن أسلافهم وتذكرها كتبهم عن أنبيائهم، وإنما استبدلوه بالحج إلى القدس([43])، وتحديدًا إلى حائط المبكى الذي يدَّعون أنه من بقايا سور القصر الملكي السليماني، والحج إليه يسمى: الزيارة أو أيام الزيارة، وهو اسم شائع بين يهود المغرب وشمال إفريقيا([44])، فإن كان كذلك فهل ثبت في كتبهم أو عن أي نبي من أنبيائهم أنه حج إلى القدس؟
الحق أننا لا نجد أحدًا من الأنبياء حج إلى القدس، لا في التوراة التي بيد اليهود اليوم، ولا في الإنجيل الذي بيد النصارى اليوم، ولا في القرآن والسنة عند المسلمين؛ فالقدس لم تكن مكانًا للحج منذ القدم، ولم يحج إليها أي نبي، على عكس المعمول به اليوم عند اليهود، بل مما يقرُّ به اليهود وغير اليهود وتنصُّ عليه التوراة أن موسى عليه السلام أول وأهمّ أنبياء اليهود لم تطأ قدمه مدينة أورشليم ولا عرفها ولا رآها، ولا يُعرف في التراث اليهودي أنه دخلها لا حيًّا ولا ميتًا ولا شهادةً ولا حتى غيبًا كما حصل في الإسراء المحمّدي، ولم يأمر باتخاذها مكان حج أو مزارًا([45])، بل كانت مدينة غريبة على بني إسرائيل، لا يحبون حتى المبيت فيها في طرق سفرهم؛ لأنها كانت أراضي الكنعانيين([46])، بل ثمة ما هو أعظم من ذلك وهو أنه لم تطأ أقدام أحدٍ من أنبياء اليهود وملوكهم القدسَ رغم المحاولات الحربية الدؤوبة كما حصل في عهد يوشع بن نون، ولم يظفروا بدخولها إلا على عهد داود، واستيلاؤه عليها وتشييده مملكته بها لم يكن أمرًا دينيًّا، ولم يكن بوحي من الله بحسب عقيدة اليهود، وإنما كل ما في الأمر أن داود اختارها؛ لأنها أكثر تحصينًا من غيرها، ولأنها محمية من معظم نواحيها الجغرافية، بالإضافة إلى أنها في منطقة متوسطة بالنسبة لأسباط اليهود، مما يمنع ثورة النائين من بني إسرائيل، وأيضا هي أقرب إلى سبطه الذين كانوا في الجنوب، وكان جبل جرزيم -الذي هو مركز اليهود أولًا وبه معبدهم- بعيدًا عنهم.
فاستولى داود على القدس، وشيَّد بها مملكته على جبل صهيون، ثم بنى خليفته سليمان القصر الملكي بها، وكان الهيكل جزءًا من أجزائه ليس إلا([47])، بل يذكر الباحثون أن بناء الهيكل وتحديده وموقعه لا يفتقر إلى الوحي الإلهي وإلى النص التوراتي وحسب، بل بناء المعبد المركزي زمن سليمان إنما كان بتأثير من عقائد الأمم الوثنية المجاورة التي كانت تتَّخذ لنفسها معبدًا مركزيًّا تمتاز به([48])، ولا نجد في التوراة أي ذكر للقدس (أورشليم) ينص على أنه المعبد المركزي الذي يحجُّ إليه؛ بل الثابت هو العكس، وهو أن القدس كان يملكها ملك فلسطيني يؤمن بالله وهو (ملكيصدق)، يقول الدكتور حسن ظاظا: “ولا نجد في توراة اليهود التي رواها اليهود عن موسى وكتبوها بأيديهم ما يجعل من الخليل سوى مقبرة لسارة، وله أيضا عندما يختاره الله إلى جواره، وأما شالم (أورشليم) فكان يحكمها ملك فلسطيني مؤمن هو (ملكيصدق)، وليست في التوراة أية إشارة إلى جعل أي من المدينتين مكان عبادة لليهود، أو قبلة، أو معبدًا مركزيًّا لهم يحجون إليه في المناسبات. بالعكس، كانت القدس بلدًا مكروها من بني إسرائيل، مذموما على ألسنتهم، يخافون دخولها لأن أهلها يعادون اليهود (سفر صمويل الثاني)”([49])، ويقول في موضع آخر بعد أن استعرض وسرد مجموعة من النصوص التوراتية التي تكلمت عن القدس: “فمن هذا السرد السريع المستفاد كله من نصوص العهد القديم (التوراة – الأنبياء – كتب الحكمة) يتضح لنا أن أورشليم (القدس) لم تكن إلا أرضا فلسطينية خالصة، يحكمها أمراء فلسطينيون منذ فجر التاريخ، وأنها كانت مقدسة عندهم لله العلي، وأن إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط لم يسكنوها، وأن موسى عليه السلام لم يعرفها ولم يرها، وأنه لم يأمر بتقديسها ولا باتخاذها معبدا أو قبلة، وأن استيلاء داود عليها كان عملًا سياسيًّا وعسكريًّا محضًا، وأن تفكيره في بناء معبد مركزي فيها كان عملًا من أعمال السيادة المدنية عندما وقع اختياره -بوصفه المحارب المنتصر- على بلد يجعله عاصمة له، وأن بناء المعبد فيها بأمر سليمان لم يكن إلا استكمالًا لمشروع معماري شامل لتشييد عاصمة فخمة، لعل المعبد أقل ما فيها فخامة وضخامة بالموازنة مع الاستحكامات العسكرية بالأسوار والأبراج، وثكنات الجند والحرس، والقصر الملكي، ومباني الحكومة، ومئات الديار الرشيقة الأنيقة، والمباني الملحقة بالمعبد من إدارية وكهنوتية. من هنا لم يكن بناء الهيكل حدثًا يهزُّ المشاعر بقدر ما هزَّتها حادثة إحراقه وتدميره التي تركت اليهود يبكون عليه منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، ولم يهتموا بذكرى استكمال بنائه، على حين جعلوا ذكرى تدميره يوم حزن وبكاء ودعاء يُسمى عندهم: «يوم التكفير» أو «يوم الغفران»، وهو أهم صوم لهم في عامهم”([50]).
مواسم الحج عند اليهود:
أما أهم مواسم الحج عندهم اليوم فهي موازية لأعيادهم كما سبق أن ألمحنا إليه. ويمكننا أن نسميها أعياد الحجّ اليهودية، وهي ثلاثة([51]):
- عيد الفصح، وهو أهم مواسم الحج اليهودي، وأهم أعيادهم، وأولها في السنة اليهودية، ويسمى: (فِسَحِيم)، وهي كلمة عبرية تعني: العبور والمرور، أي: عبور موسى عليه السلام البحر([52])، ويسمى: عيد الربيع (حج ها آبيب) وآبيب هو أحد شهور السنة اليهودية.
ووقت هذا النسك من: يوم 15 من شهر أبيب -أي: الربيع- وعُرف هذا الشهر بشهر نيسان بعد السبي، ويستمر إلى ثمانية أيام لمن هم خارج فلسطين، وسبعة أيام لمن هم داخلها، وأهم أيامه: اليومان الأولان أي: الخامس عشر والسادس عشر، واليومان الأخيران: الواحد والعشرون والثاني والعشرون، وتسمى: أيام العيد الكبير، وأيام الحج الكبير. وبقية الأيام أشبه بأيام التحلل من الإحرام.
ويبدأ طقوس هذا النسك وشعائره من قبل ميقاته الزمني بيوم، أي: ليلة 15 وتسمى: ليلة التفتيش؛ حيث يتم فيه التفتيش عن أي خميرة تصلح للخبز في البيت وإخراجها تمامًا([53]).
وفي أيام العيد الكبير تقام طقوس الاحتفال في المساء، وأهم طقوسه: مائدة الفصح([54]) المشتمل على خبز الفطير؛ ولذا يسمى: عيد الفطير([55])، ثم حكاية الفصح، أي: قصة خروج موسى مع بني إسرائيل، ولها ثلاث صيغ بحسب العمر (كبار ومتوسطين وأطفال).
ومن طقوسه أيضا: تقديم الذبائح والقرابين، وأكل الفطير مخلوطًا بالدم مع أعشاب مرة. والدم رمز للخلاص، بينما الأعشاب المرة رمز للعبودية والذل الذي عاشوه.
ومن شعائره: تهنئة بعضهم بعضًا بقول: (السنة القادمة في أورشليم)، وهو في الحقيقة شعار ديني يعبر عن أمنية اليهودي في الحج، لكن الصهيونية استغلته ووظفته لأهدافها([56]).
ومن شعائره: الأضحية ولذا يسمى عيد الضحية؛ بحيث يضحون فيه بحمل أو شاة أو جدي من الماعز أو نحوها([57]).
وهذا الحج يزعم اليهود أنه بمناسبة هجرة بني إسرائيل من مصر مع موسى عليه السلام، إلا أن الباحثين يؤكدون أنه تأثُّر بالأمم الوثنية القديمة؛ حيث إن اليهود اتخذوه عيدًا اتباعًا لسنن الأمم من حولهم في تلك الفترة؛ إذ كل أمة من تلك الأمم حرصت أن يكون لها عيد كبير في موسم الربيع([58])، وعلى الرغم من ذلك فإن اليهود ينسبون ابتداءه إلى عهد موسى، وذلك في سيناء، استنادًا إلى نص التوراة التالي: “1 وقال الرب لموسى في برية سيناء في السنة الثانية لخروجهم من أرض مصر في الشهر الأول: 2 (وليعمل بنو إسرائيل الفصح في وقته. 3 في اليوم الرابع عشر من هذا الشهر بين العشاءين تعملونه في وقته. حسب كل فرائضه وكل أحكامه تعملونه). 4 فكلم موسى بني إسرائيل أن يعملوا الفصح. 5 فعملوا الفصح في الشهر الأول في اليوم الرابع عشر من الشهر بين العشاءين في برية سيناء حسب كل ما أمر الرب موسى هكذا فعل بنو إسرائيل. 6 لكن كان قوم قد تنجسوا لإنسان ميت فلم يحل لهم أن يعملوا الفصح في ذلك اليوم. فتقدموا أمام موسى وهارون في ذلك اليوم. 7 وقالوا له: (إننا متنجسون لإنسان ميت. لماذا نترك حتى لا نقرب قربان الرب في وقته بين بني إسرائيل؟). 8 فقال لهم موسى: (قفوا لأسمع ما يأمر به الرب من جهتكم). 9 فأمر الرب موسى: 10 (قل لبني إسرائيل: كل إنسان منكم أو من أجيالكم كان نجسا لميت أو في سفر بعيد فليعمل الفصح للرب. 11 في الشهر الثاني في اليوم الرابع عشر بين العشاءين يعملونه. على فطير ومرار يأكلونه. 12 لا يبقوا منه إلى الصباح ولا يكسروا عظما منه. حسب كل فرائض الفصح يعملونه. 13 لكن من كان طاهرا وليس في سفر وترك عمل الفصح تقطع تلك النفس من شعبها لأنها لم تقرب قربان الرب في وقته. ذلك الإنسان يحمل خطيته”([59]).
- عيد الحصاد أو الأسابيع (شبوعوت)، أي: أسبوع الأسابيع، بمعنى الأسبوع الفاضل على جميع أسابيع السنة، ومدته يومان، وهو السادس والسابع من شهر سيوان اليهودي، ويقع في أوائل الصيف (آخر مايو وأول يونية).
ومن أبرز طقوسه: عمل حفل زفاف للتوراة داخل المعبد وكأنها عروس؛ وعلة ذلك اعتقادهم أن هذا اليوم هو اليوم الذي نزلت فيه الوصايا العشر على موسى، وهي من أهم نصوص التوراة في نظر اليهود؛ ولذلك يسمى هذا الحج: (حج هتوراه) أي: عيد التوراة، ويبالغ بعضهم في طقوسه: فيقرأ التوراة كاملا في هذين اليومين.
ومن طقوسه أيضا: لبس البياض والكيبا (طاقية الرأس) والطاليت (الشال)، والاحتفال في المعبد.
ومن طقوسه: قراءة سفر راعوث لارتباطه بموسم الحصاد؛ ولهذا الارتباط سمِّي بعيد الحصاد (حج هقاصير)، كما يسمى: عيد البواكير، أي: أوائل الثمار (حج هبكوريم)، وأيضا: عيد أوائل النتاج (حج البوريم)([60]).
- عيد المَظَالّ ويسمى: (الظلل)، وعيد (الأكواخ) وبالعبرية (سوكوت)، وهو آخر أعياد الحج الكبرى، وثاني أعياد الحصاد، ومدته ثمانية أيام، يبدأ في الخريف (أكتوبر) الخامس عشر تشرين الأول من الأشهر اليهودية وحتى الثاني والعشرين منه؛ ؛ فاليومان الأولان منها عيد بكامل مظاهر البهجة والاحتفال، والخمسة الباقية استمرار مخفّف لها، ويبدأ الاحتفال من غروب شمس الرابع عشر، وتكون ليلة العيد.
وسمي هذا الموسم بهذا الاسم لأن من أبرز طقوسه الجلوس في هذه الأيام تحت المظال (العريش) أي: ظلال سعف النخيل وأغصان الزيتون، ويسميه يهود العراق: (عيد العرازيل)، وهي الخيام المصنوعة من سعف النخيل أو القصب بحيث لا تحجب عنهم رؤية السماء تماما، وكانت تنصب المظال أثناء تشييد الهيكل في الساحات وعلى أسطح البيوت، وعلى قمم الجبال. وعلة ذلك عندهم هو تذكُّر ما كان يقاسيه أجدادهم في أيام التيه عند خروجهم مع موسى عليه السلام في سيناء، وتذكُّر إنعام الله عليه بالظلال. وعلى الرغم من ورود هذا التعليل في سفر اللاويين كما سيأتي إيراد نصه إلا أن زمرة من الباحثين يؤكدون أن هذا هو العيد الزراعي المعروف في الأمم الوثنية القديمة ليس إلا؛ ولذا يُسمى: (عيد الجمع)؛ لأنه فيه يجمع الحصاد، ويسمى أيضا: (حج ها أسيف) أي: عيد التخزين؛ حيث كانوا يقيمون احتفالا عقب انتهائهم من تحصيل المنتجات النباتية وتخزينها في فصل الخريف، يقول الدكتور حسن ظاظا: “والأصل في هذا العيد أنه عيد زراعي، كان يحتفل فيه بتخزين المحصولات الزراعية الغذائية للسنة كلها”([61]).
ومن أبرز طقوسه اليوم السابع والأخير -ويسمى اليوم الكبير لطلب النجدة- “وقد جرى عرف اليهود الآن على أنهم في هذا اليوم يدخلون المعبد لهذه الصلاة وفي يد كل واحد منهم غصن من الأغصان التي تستعمل في تهيئة هذه الظلال، فيضربون على الكراسي بهذه الأغصان حتى تتساقط أوراقها كلها، ويعتقدون أنه مع سقوط الأوراق تسقط منهم ذنوبهم التي ارتكبوها في السنة”([62]).
وقد ورد هذا العيد وتعليله في التوراة ونصه: “33 وقال الرب لموسى: 34 (قل لبني إسرائيل: في اليوم الخامس عشر من هذا الشهر السابع عيد المظال سبعة أيام للرب. 35 في اليوم الأول محفل مقدس. عملا ما من الشغل لا تعملوا. 36 سبعة أيام تقربون وقودا للرب. في اليوم الثامن يكون لكم محفل مقدس تقربون وقودا للرب. إنه اعتكاف. كل عمل شغل لا تعملوا. 37 هذه هي مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة لتقريب وقود للرب محرقة وتقدمة وذبيحة وسكيبا أمر اليوم بيومه. 38 عدا سبوت الرب وعدا عطاياكم وجميع نذوركم وجميع نوافلكم التي تعطونها للرب. 39 أما اليوم الخامس عشر من الشهر السابع ففيه عندما تجمعون غلة الأرض تعيدون عيدا للرب سبعة أيام. في اليوم الأول عطلة وفي اليوم الثامن عطلة. 40 وتأخذون لأنفسكم في اليوم الأول ثمر أشجار بهجة وسعف النخل وأغصان أشجار غبياء وصفصاف الوادي وتفرحون أمام الرب إلهكم سبعة أيام. 41 تعيدونه عيدا للرب سبعة أيام في السنة فريضة دهرية في أجيالكم. في الشهر السابع تعيدونه. 42 في مظال تسكنون سبعة أيام. كل الوطنيين في إسرائيل يسكنون في المظال. 43 لكي تعلم أجيالكم أني في مظال أسكنت بني إسرائيل لما أخرجتهم من أرض مصر. أنا الرب إلهكم). 44 فأخبر موسى بني إسرائيل بمواسم الرب”([63]).
ولئن كانت هذه المواسم لم تبدأ منذ عهد موسى في القدس كما سبق تقريره آنفا، بل ولا عهد يوشع بن نون، ولا من بعده من القضاة حتى زمن سليمان، فهو أيضا لم يستمر مع اليهود، بل توقف الحج بعد هدم الهيكل بصفة رسمية، وبخاصة عيد المظال، إلا أنها كانت تقام بصفة فردية ولم تنقطع تمامًا، “فلما فتح المسلمون بيت المقدس بقيادة صلاح الدين في السابع والعشرين من شهر رجب من عام ٥٨٣هـ، الموافق الثاني من أكتوبر عام ۱۱۸۷م، تسنى لليهود القاطنين في المنطقة الإسلامية -وخاصة القاطنين منهم في العراق والشام ومصر- أن يزوروا بيت المقدس. وقد بعثت فكرة الحج من جديد منذ قرون، فكان اليهود في الشرق -ولا سيما في بابل وكردستان- من القرن الرابع عشر الميلادي يؤدون فريضة الحج مرة في السنة على أقل تقدير، وقد كانت الحروب الصليبية مشجعة لليهود في أوروبا على الحج والزيارة، وفي عام ١٤٩٢م عندما أُجلي اليهود من إسبانيا وهاجر عدد كبير منهم إلى مناطق المسلمين تضاعف عدد اليهود الزوار والحجاج، وكانوا يزورون قبر النبي صموئيل في قرية الرامة (قرية في فلسطين -الجليل-)، وهناك كانت تقام أسواق عيدهم السنوي، ويقيمون بعض التقاليد الدينية، وعند حائط المبكى أصبحت تقام تجمعات وطقوس كأنها بديلة عن الحج، وحاليًّا يؤدي فريضة الحج قليل من اليهود؛ مغالاة في التقوى”([64]).
الحج في النصرانية:
من البدهيات المسلَّمة في الديانة النصرانية أن التاريخ النصراني والنصوص الدينية المقدسة عندهم لا نجد فيها تصريحًا أو تلميحًا بوجوب زيارة الأماكن والمواقع التي زارها عيسى عليه السلام أو عاش فيها أو حصلت له بها حوادث جمة؛ فالأناجيل لا تتطرق إلى فريضة الحج أو ما يشبهه، وعيسى أيضا لم ينوه إلى هذا الواجب الديني، وإنما حصلت منه زيارة للقدس وصعود إليه تماشيًا مع عيد الفصح اليهودي([65])؛ كما جاء في إنجيل يوحنا: “وبعد هذا كان عيد اليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم”([66]).
ولذا يمكن القول بأنه لا يوجد لدى النصرانية شيء بمعنى الحج، وإن كانوا يطلقون الحج على مفهوم آخر وهو زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين؛ فهم قد اتَّخذوا من الأماكن والمواضع التي عاش أو ارتادها المسيح مزارات لهم، واتخذوا من قبور صالحيهم مزارات ومساجد يشدون إليها الرحال، وأصبح مفهوم الحج هو “الزيارة إلى مكان تقدس بظهور رباني حسب مصطلحاتهم، أو إلى مرقد قديس لأجل الحصول على الغفران وتقوية الروح المعنوية وشدها أكثر نحو ذلك المكان”([67]).
ومن هنا لا نجد في الديانة النصرانية معبدًا مركزيًّا يفدون إليه للحج كما هو الحال في الإسلام واليهودية بعد أن تحوَّلوا إلى القدس، بل أصبح كل مكان ذي حدث جلل في تاريخ عيسى عليه السلام مكانًا للحج؛ بدءً بالمكان الذي ولد فيه ومرورًا بالمكان الذي صُلب فيه وانتهاء بكل مكان صلى فيه عيسى المسيح أو ظهر هو أو أمه مريم العذراء فهو مكان للحج عندهم([68]).
ومن أهم الأماكن التي يزورها النصارى ويقدسونها:
- الحج إلى بيت المقدس:
وكما سبق فإن تحديد القدس موضعًا للحج أو الزيارة كما أنه لم يرد في كتاب اليهود التوراة فكذلك لم يرد في كتب النصارى وأناجيلهم، فهم لا يتكئون في تحديد موضع الحج على أي نص أو دليل.
وأما بالنسبة للنصارى فكل ما يعتمدون عليه هو السير على ما سارت عليه هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين؛ حيث إنها جاءت إلى القدس في زيارة تفقدية، قامت فيها ببناء كنائس متعددة، وفيها اكتشفت خشبة الصلب الذي صُلب عليه عيسى المسيح عليه السلام؛ فاتخذ المسيحيون ذلك اليوم عيدًا، واتخذوا بيت المقدس الذي كان يحتضن تلك الخشبة مزارًا ومحلًّا للحج، وتحديدًا كنيسة القيامة الذي يعتقدون أن فيه قبر المسيح عليه السلام؛ وذلك في عيد القيامة الذي هو أهم أعياد النصارى، حتى إنهم يقولون بأنه عيد الأعياد، ويصرحون بأن مناسبته هو قيام المسيح بعد صلبه بيومين على خلاف في تحديد الأيام بين طوائف النصارى، ويقع بين 22 مارس و25 أبريل([69])، ويكون بعد الانتهاء من أهم صيام عند النصارى وهو الصوم الكبير، ويسمى: الصوم المقدس، “وله المكانة الأولى لأن الكنيسة تمارسه تذكارًا لصوم المخلِّص الذي صامه، وتذكرًا لمراحم الرب الذي أفاضها”([70])، وهم يتفقون في هذا الصوم مع الكاثوليك، والأرجح أن مدته خمسة وخمسون يومًا قبل عيد القيامة([71]).
وهناك أماكن أخرى في فلسطين تعتبر مزارات للنصارى ومنها:
- جبل صهيون.
- جبل الزيتون.
- وادي يهوشافاط.
- جبل تابور.
- جبل الجلجلة.
- كنيسة صدقايا.
- وفي روما؛ وذلك لأنه يوجد بها ما يأتي:
- قبر القديس بطرس.
- قبر القديس بولس.
ويصعب القول بأن زيارة النصارى لكنيسة روما هو من باب الحج، بل هو زيارة لقبور قديسيهم؛ وأصبحت اليوم سياحة وتجارة وترفيه أكثر مما هو عبادة؛ لأنه لا تتوفر على أي من شروط الحج([72]).
وهناك مواضع أخرى كثيرة اتخذها النصارى مزارات لهم من قبور أنبيائهم وصالحيهم لسنا بحاجة إلى استقصائها، وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: “«لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([73])، وقوله عندما ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله»([74]).
وختامًا: لا بد أن نؤكد أن عدم الدليل ليس دليلًا على العدم؛ فكون اليهود والنصارى لا يملكون أدلة تثبت لهم الأماكن التي حجَّ إليها الأنبياء إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب وموسى ومن بعدهم لا يعني أنهم لم يحجوا، أي أنهم لم يحجوا إلى بيت الله الحرام بمكة؛ فقد ثبت بالأخبار الصحيحة الثابتة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الأنبياء حجوا إلى بيت الله الحرام بمكة، فعيسى عليه السلام حج إلى مكة وسيأتيها حاجًّا مهلِّلًا بعد أن ينزل من السماء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرا، أو ليثنينهما»([75])، وقبله حج يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وقبله حج موسى عليه السلام وله جؤار إلى الله بالتلبية([76])، وإبراهيم عليه السلام هو من أمره الله سبحانه وتعالى بأن يرجع إلى مكة بعد أن ترك بها زوجته وابنه ليبني بها بيته الحرام الكعبة المشرفة: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
فالله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم ببناء هذا البيت الذي “جعله مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا”([77])، وأيضًا جعله الله سبحانه وتعالى آمنًا، يلقى فيه الرجل قاتل أبيه، فلا يخيفه ولا يهيجه ولا يتعرض له حتى يخرج منه([78])؛ فقدم إبراهيم عليه السلام من فلسطين إلى مكة، وبنى البيت الحرام، ومعه ابنه إسماعيل عليه السلام يناوله الحجارة، وارتفع به البناء، فقام على حجر ليكمل البناء وهو مقام إبراهيم الموجود حتى زماننا هذا؛ وكان المقصود من ذلك أن يُعبد الله سبحانه وتعالى ويعظَّم، وحالهما ما ذكر الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]؛ وطلبهما القبول دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، وإنما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك”([79]).
وهكذا بناه عليه السلام مطهَّرًا من الشرك والوثنية وعبادة الأصنام؛ ليكون محلًّا لعبَّاد الله سبحانه وتعالى من الطائفين والعاكفين والمصلين، كما قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
فبناؤه منهما كان تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى وإذعانًا وإقرارًا له بالتوحيد، وأيضًا كانا يلهجان بالتوحيد والاستسلام لله سبحانه، فكانا يقولان: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، “يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك”([80]).
وكما أمره الله تعالى ببناء البيت على التوحيد أمره الله سبحانه وتعالى أن يدعو الناس إلى الحج، فقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، فنادى بذلك، فبلغ نداؤه كل أهل الأرض، وتتابعت الأجيال على حج هذا البيت العظيم، وصار الناس يأتون إلى بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة، ويذكرون الله تعالى ويوحّدونه كما أخبر سبحانه؛ فكل الأنبياء وكل الرسل حجّوا إلى بيت الله الحرام بمكة، ولكن مَن بعدهم ضلّوا عن سواء السبيل.
وأخيرًا لئن اعترى الحج الغموض وعدم الوضوح في التشريع والدلالة وبالتالي عدم اكتراث كثير من أهل الديانتين اليهودية والنصرانية به في دينهم “فالحج في الإسلام بكل ما فيه سحري يثير العَجب والإعجاب، وهو في كثير من وجوهه يمثِّل جوهر الإسلام في أرقى معانيه الإنسانية الخيرة من الشمولية والسلام والمساواة”([81]).
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) صلة الناسك في صفة المناسك، لابن الصلاح الشهرزوري، (ص: 59) بتصرف.
([3]) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة الكناني، (ص: 2).
([4]) الإيضاح في مناسك الحج، النووي، وعليه حاشية ابن حجر الهيتمي (ص: 8).
([5]) جامع البيان، الطبري (18/ 678).
([6]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير -ت: سلامة- (5/ 451).
([7]) أضواء البيان (5/ 298). وينظر: التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور (17/ 328).
([8]) العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى، الأوائل للنشر والتوزيع – دمشق، الطبعة الأولى 2001م (ص: 116).
([9]) مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، مجلة الفيصل، ع: 210 (ص: 6).
([10]) التحرير والتنوير (17/ 327).
([11]) وقيل: إن أصل الكلمة أنها كانت اسم مذبح مقدَّس أقامه بنو رأوبين وبنو جاد على الحدود بينهما، ثم أصبح هذا مصطلحًا يدل على المواسم الدينية. ينظر: قاموس الكتاب المقدس، نخبة من الأساتذة المتخصصين واللاهوتيين بإشراف بطرس عبد الملك، دار مكتبة العائلة – القاهرة، الطبعة الرابعة عشرة 2005م (ص: 444)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني، رسالة دكتوراه بقسم العقيدة بجامعة أم القرى -غير مطبوع- (ص: 336).
([12]) ينظر: مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 10)، موسوعة المصطلحات الدينية، رشاد الشامي (ص: 272)، قاموس الكتاب المقدس، نخبة من الأساتذة المتخصصين في اللاهوتيين بإشراف بطرس عبد الملك (ص: 444).
([13]) موسوعة المصطلحات الدينية، رشاد الشامي (ص: 272).
([14]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 195).
([15]) ينظر: مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 9) بتصرف يسير.
([16]) العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 195).
([17]) مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 6).
([18]) معجم اللاهوت الكتابي (ص: ٢٥7).
([19]) العبادة في الديانة اليهودية (ص: 336).
([20]) معجم اللاهوت الكتابي (ص: ٢٥٨).
([21]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية (ص: 195).
([22]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 196).
([23]) التعريفات للجرجاني، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1403هـ-1983م (ص: 82).
([24]) ينظر: مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 6).
([25]) مقال: طقوس الحج عند اليهود، الفيصل، ع: 210 (ص: 9) بتصرف يسير.
([26]) تث (١٦: ١٦-١٧)، وينظر: خر (۲۳: ١٤، 17).
([27]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري، دار الشروق – القاهرة، الطبعة الأولى 1999م (4/ 166 وما بعدها)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 117)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني (ص: 336).
([28]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 117)، مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 6-7).
([29]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 119).
([31]) مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 6).
([35]) مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 7).
([36]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (4/ 166 وما بعدها)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 117)، الفكر الديني الإسرائيلي، ظاظا (ص: 247)، مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 7).
([38]) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (1/ 82)، وينظر: الملل والنحل للشهرستاني (2/ 24).
([39]) ينظر: مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 7).
([40]) ينظر: مقال: طقوس الحج عند اليهود، ظاظا، الفيصل، ع: 210 (ص: 7).
([41]) أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529).
([42]) أخرجه البخاري (1341)، ومسلم (528).
([43]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (4/ 166 وما بعدها).
([44]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 119).
([45]) ينظر: القدس (أورشليم) في التلمود، ظاظا، الفيصل، ع: ٢٤١ (ص: 19-٢٠).
([47]) مقال: القدس مدينة الله أم مدينة داود، ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: 29 وما بعدها).
([48]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (4/ 159 وما بعدها)، مقال: القدس مدينة الله أم مدينة داود، ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: 16 وما بعدها)، المعبد قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية – العراق – بلاد الشام – مصر، محمد سلطان العتيبي، دار الوراق للنشر – بغداد، الطبعة الأولى 2014م (ص: 70 وما بعدها).
([49]) مقال: اليهود الإصلاحيون والمسيرة الشاقة، الفيصل، ع: 245 (ص: 19).
([50]) القدس (أورشليم) في التلمود، الفيصل، ع: ٢٤١ (ص: 21-22).
([51]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (4/ 166 وما بعدها).
([52]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي (ص: 82).
([53]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (5/ 268)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 118)، الفكر الديني الإسرائيلي (ص: 219).
([54]) هي عبارة عن طاولة يوضع أمامها مقعد مخصص لرئيس العائلة ويكون مستطيل الشكل مثل الدكة أو الكنبة، بحيث يسمح بالاضطجاع بالاعتماد على ذراعه الأيسر الذي يستند إلى بعض الوسائد. وتوضع أمامه ثلاثة أرغفة من خبز الفطير على طبق، وبجانبها قطعة من العظم الذي يحيط به بعض اللحم مأخوذة من الغنم ومشوية، وحزمة من بعض النباتات المرة، وبجانب ذلك شيء من الفاكهة المهروسة أو المدقوقة في الهاون والمنقوعة في النبيذ. وتوضع في نفس الطبق بيضة، وشيء من الخضر، وكأس من الماء المالح أو المخلوط بالخل؛ والغرض من هذه المأكولات غير المرغوبة هو تذكر الشدة التي مر بها موسى ومن معه وقت الخروج بحسب زعمهم. ويجب مع تلك الوجبة شرب أربعة أقداح من النبيذ، ووضع قدح خامس فيه نصيب من النبيذ معدة لأجل النبي إيليا عندما ينزل من السماء معلنا اقتراب مجيء المسيح المخلص. ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 220 وما بعدها)، مقال: من التخبط اليهودي يهود المَرَّان، حسن ظاظا، الفيصل، ع: 247، (ص: 22).
([55]) هو خبز يصنع بعجن الدقيق بالماء بلا ملح ولا خميرة، وينضجونه على الجمر بسرعة ثم يأكلونه، ويسمى اليوم: (ماتساه)، والغرض منه التعبير عن عجلة موسى ومن معه في الخروج بحيث لم يكونوا يستطيعون الانتظار حتى التخمير. ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي (ص: 219)، مقال: من التخبط اليهودي يهود المَرَّان، حسن ظاظا، الفيصل، ع: 247، (ص: 22)، اليهود بين السبي والتلمود: عيد الفصح (الحَمَل) -التلمود البابلي-، ترجمة: عبد الكريم النصراوي، الدار العربية للموسوعات – بيروت، الطبعة الأولى 1437هـ-2016م (ص: 12 وما يعدها)، يهود اليمن، عباس علي الشامي، بدون دار طباعة، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م (ص: 152).
([56]) ينظر: مقال: الدولة الصهيونية والتعصب العنصري، ظاظا، وهو مطبوع ضمن كتاب أبحاث في الفكر اليهودي (ص: 103).
([57]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي (ص: 219).
([58]) ينظر: الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 218)، اليهودية.. عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية، عرفان عبد الحميد فتاح، دار البيارق – دار عمار، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م (ص: 138)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 118)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني (ص: 338).
([60]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (5/ 273)، الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 228 وما بعدها)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 119)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني (ص: 238 وما بعدها)، تاريخ يهود الخليج، نبيل الربيعي، دار الرافدين – بغداد، الطبعة الأولى 2019م (ص: 241).
([61]) الفكر الديني الإسرائيلي (ص: 203). وينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (5/ 264)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 119)، العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني (ص: 340 وما بعدها)، تاريخ يهود الخليج، نبيل الربيعي (ص: ۲۳۹).
([62]) الفكر الديني الإسرائيلي، حسن ظاظا (ص: 204-205).
([64]) العبادة في الديانة اليهودية، عبد الله بن ناصر القحطاني (ص: 341). وينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري (4/ 159)، العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 119).
([65]) ينظر: إنجيل يوحنا (2: 13، 22: 33، 5: 1، 7: 11).
([66]) ينظر: إنجيل يوحنا (5: 1).
([67]) العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 200).
([68]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 199).
([69]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 200).
([70]) الصوم في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، القس شنودة حنا، مكتبة مدارس أحد كنيسة السيدة العذراء – محرم بك إسكندرية، بدون رقم الطبعة، عام 1963م (ص: 21).
([71]) ينظر: كنيستي الأرثوذكسية ما أجملك، القس بيشوي حلمي، دار نوبار للطباعة، الطبعة الأولى 2002م (1/ 269 وما بعدها)، أرثوذكسيتي تراث وعقيدة وحياة، القمص متى مرجان، هارموني للطباعة، بدون رقم الطبعة، عام 2004م (1/ 106)، المواعظ والاعتبار للمقريزي (2/ 27).
([72]) ينظر: العبادات في الأديان السماوية، عبد الرزاق الموحى (ص: 200).
([73]) أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529).
([74]) أخرجه البخاري (1341)، ومسلم (528).
([77]) جامع البيان، الطبري (2/ 26).
([78]) ينظر: جامع البيان، الطبري (2/ 29).
([79]) جامع البيان، الطبري (3/ 72).
([80]) جامع البيان، الطبري (3/ 73).
([81]) ضيوف الرحمن.. الحج والسياسة في العالم الإسلامي، روبرت بيانكي (ص: 15) بتصرف يسير.