الثلاثاء - 21 رجب 1446 هـ - 21 يناير 2025 م

الجواب عن الطعن في حديث: «عَلَيكُم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدين المَهدِيِّين مِن بَعدي»

A A

 

نقف في ما يأتي مع جملةٍ من الاعتراضات التي اعترض بها بعض الحداثيِّين على حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: ‌وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»([1]).

يقول جورج طرابيشي: (ابن حزمٍ الذي يستشهد بهذا الحديث في أكثر من موضع من كتاباته باعتباره حديثًا مُسلّمًا بعدالة راويه لا يخطر له في بال أن يشغِّل حسَّه النقدي ليتساءل: كيف كان للنبي أن يدعو المؤمنين إلى التمسك بسنة الخلفاء الراشدين من بعده ويومئذ لم تكن مؤسسة الخلافة قد رأت النور بعد، ولا كان متوقعًا لها أن ترى النور؛ لأنها واحدة من كبرى النوازل التي لم ينزل فيها قرآن؟! كما كان لاحظ علي عبد الرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، فقد مات النبي ولم يسمِّ أحدًا لخلافته، وما كان أحد يدري أن خلفاءه سيُسَمَّوْن بالخلفاء، ولا على الأخص أن الأربعة الأوائل منهم سيسمون دون غيرهم من الخلفاء اللاحقين بالراشدين، وهو تعبير لم ير النور بدوره إلا في زمن متأخر.

جرى ترويج هذا الحديث في العصر الأموي، وفي سياق الصراع السياسي والإيديولوجي مع الشيعة في أرجح الظن، ولا غرو أن يكون مُرَوِّجُه استعار أحد مصطلحاتهم ليطلقه على الخلفاء الراشدين -وهو نعت أسقطه ابن حزم من استشهاده به- بـ(المهديين).

ولا غرو أيضًا أن يكون فقهاء الشيعة هم أكثر من طعن في صحة ذلك الحديث الذي يكرّس بأمر موضوع على لسان الرسول: سلطة الخلفاء الثلاثة الأوائل الذين لا يعترف الشيعة بمشروعيّة خلافتهم)([2]).

ويقول بسّام الجمل -وهو من تلاميذ الحداثي التونسي الشهير عبد المجيد الشرفي-: (والحاصل أن المفسّرين أوجدوا أسباب نزول بعض الآيات للطعن في مقالات خصومهم في المذهب، فأوقعهم هذا العمل في إسقاط تاريخي كرّس منطق التعسف على النصّ الديني والانحراف به عن مقاصده.

ومن النماذج المعبرة عن هذا المعنى: الخبر المبيّن لسبب نزول سورة قريش، فقد حدّثت أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فضل قريشًا بسبع خصال، ولم يعطها أحدًا قبلهم، ولا يعطيها أحدًا بعدهم: إن الخلافة فيهم، وإن الحجابة فيهم، وإن السقاية فيهم، وإن النبوة فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين لم يعبده أحدٌ غيرهم، ونزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم: {لِإِيلَٰفِ ‌قُرَيۡشٍ} [سورة قريش]»([3]).

ففي هذا الخبر ما يشير إلى إسقاط تاريخي، إذ يتحدث الرسول عن مؤسسة سياسية لم تكن معروفة في مرحلة الوحي، ونعني بها نظام الخلافة الذي تشكل على التدريج منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة سنة 11ه إثر وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

وعندئذ لا يمكن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتنبأ بما سيحصل فعلًا في التاريخ الإسلامي، وهذا ما نبه إليه القرآن، وأكدته عائشة بالقول: من زعم أن محمدًا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية.

والذي نستنتجه أن الحديث الوارد في الخبر موضوع مختلق، نسب إلى النبي بعد تحقق الخلافة في الواقع التاريخي.

وبذلك، فإن وظيفة الخبر هاهنا تعليل استئثار العصبية القرشية بالسلطة السياسية إلى حد اعتبار النسب القرشي -على الأقل نظريًّا- شرطًا من شُروط أهل الإمامة، وتندرج هذه الوظيفة في مبدأ عام مهم يتمثل في أن المؤسسات التي يضعها الإنسان محتاجة دومًا ما يبررها في عيون المستفيدين منها والخاضعين لها. فما إن برزت للوجود حتى بحث لها عن سند مرجعي كان الدين هو مصدره الطبيعي عصر ذاك)([4]).

ويمكن أن نستخلص من هذه النصوص جملةً من الاعتراضات:

الاعتراض الأول: على دلالة الحديث على اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أمرٍ غيبيٍّ.

الاعتراض الثاني: على دلالة الحديث على أصل الخلافة.

الاعتراض الثالث: على دلالة الحديث على إمامة الخلفاء الثلاثة.

وفيما يلي مناقشة ذلك:

الاعتراض الأول وجوابه:

أما الاعتراض الأول -وهو الاعتراض على دلالة الحديث على اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أمرٍ غيبيٍّ- فجوابه أن انفراد الله تعالى بعِلم الغيب لا يَمنَع من إِطْلاعِه بعضَ خلْقِه على بعض الغيوب.

يقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، ٢٧]؛ فوقوعُ الاستثناءِ دالٌّ على أنَّ اللهَ يُطْلِع على غيبِه مَن يَشاء مِن عِباده؛ من الرُّسل البشرية والملائكية؛ فإخبارُهم ببعض الغيب الذي أطلَعَهم الله عليه لا يُعارض الآياتِ التي تنفي عنهم وعن غيرهم الاطِّلاعَ الكاملَ على الغيب كلِّه؛ فالشُّبهةُ باطلةٌ من هذه الجهة، ويكون إخبارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بوجود الخلفاء الراشدين من بعدِه من الغيبِ الذي أطلَعَه الله تعالى عليه، وذلك مِثل إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيحدث من الفتنِ التي وقعت بعد وفاتِه، وإخبارِه عن الحوادِثِ التي تكون بين يَدَي الساعةِ؛ كالدَّجَّال، ويَأجوجَ ومَأْجوجَ، ونزولِ عيسى عليه السلام، وأخبارِ المَهديِّ، وغيرها، وهو مُوافِقٌ للآيات القرآنية التي تُفيد اصطفاءَ الله عزَّ وجلَّ لبعض خلْقِه بإعلامِهم ببعض الغُيوب.

والله تعالى قد اصطفى اللهُ من خلْقه أنبياءَ نبَّأهم من هذا الغيب بما يشاءُ، وأطلَعَهم منه على ما لم يُطلِعْ عليه غيرَهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: ١٧٩]، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، ٢٧]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: ٧٥]؛ فهو سبحانه يختار من الناس والملائكة مَن يُطلِعه ويخبره ببعض أنباءِ الغيب؛ ولذلك سُمِّي النبي نبيًّا من الإنباءِ أي: الإخبار، وقد أخبَر الله في كتابِه أن ما يُحدِّث به نبيُّه صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيبِ إنما هو وحيٌ منه تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: ٤٩].

فقول بسّام الجمل: (وعندئذ لا يمكن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتنبأ بما سيحصل فعلًا في التاريخ الإسلامي) هو جهل منه بحقيقة النبوّة، وكذلك يقال في ما ذكره النصراني جورج طرابيشي.

وقد أخبَر الله تعالى في القرآنِ أنَّ من معجزاتِ نبيِّه عيسى -عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام- إخبارَه ببعضِ الغيوب، حيث قال مخاطِبًا قومَه: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: ٤٩].

والسؤال هنا: هل هذه الآية مُناقِضة للآيات التي تنفي علمَ الغيب عن غيرِ الله تعالى؟ الجواب كما سبق الإيضاح: لا؛ لأنه بعض الغيب الذي أطلع الله عليه أنبياءه كما أخبر القرآن.

فلا مانعَ إذًا من إخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما سيَطرَأ بعدَهُ من أحداثٍ سياسية؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يعلم الغيبَ علمًا مُطلقًا كما في قولِه تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: ١٨٨]، وقولِه تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: ٣١]، إلا أن هذا لا يَمنع من إطلاعِ اللهِ عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم على بعضِ الغيوب بدليل قولِه تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: ٤٩]، وعلى هذا يُمكِن اعتبارُ إخبارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الخلافةَ تكونُ في قريشٍ من ذاك الغيبِ الذي أوحى الله به إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم.

الاعتراض الثاني وجوابه:

أما جواب الاعتراض الثاني -وهو الاعتراض على دلالة الحديث على أصل الخلافة- فإن أصلَ الخلافة ثابتٌ بالدليلِ القطعي، ولو سلمنا جدلًا بصحة الطعنِ في حديثِ العِرباضِ بنِ سارِيةَ رَضيَ الله عنه فإن ذلك لا يُسقِطُ أصْلَ وُجوبِ نصْبِ الإمام؛ لأن أدلَّةَ نصْبِ الإمامِ كثيرة، منها: مُبادرةُ الصحابةِ رَضيَ الله عنهم إلى نصْبِ الإمام قبْل دفْنِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دل ذلك على انعقاد الإجماع على وجوب نصب الإمام، فكان أصل الخلافة ثابتًا بالإجماع القطعي.

والطعنُ في أصل الخلافةِ نشأ في حِقبةِ الاستعمار مَطلَعَ القرن العشرين الميلاديِّ، وتوارَث ذلك الطعنَ بعضُ ذوي الاتجاهاتِ العَلْمانية من العربِ، وتصدَّى علماءُ المسلمين للردِّ عليهم منذ ذلك الوقتِ. ومن أشهر الكتب التي كتبت في ذلك الوقت كتاب علي عبد الرازق الذي اتكأ عليه جورج طرابيشي.

يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في ردّه على هذا الكتاب: (إن ‌الإجماع ‌والتواتر وتظاهر الظواهر الشرعية هي دلائل قاطعة تربو على دلالة الكتاب والسنة إذا كانت ظنية. وقد تواتر بعثُ النبي صلى الله عليه وسلم الأمراءَ والقضاة للبلدان النائية، وأمر بالسمع والطاعة، بل وأمر القرآن بذلك أيضًا، فحصل من مجموع ذلك ما أوجب إجماعَ الأمة من عهد الصحابة رضي الله عنهم على إقامة الخليفة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعوا أبا بكر رضي الله عنه وأطاعه المسلمون في سائر الأقطار، ولم ينكر بيعته أحد. وإنما خرج مَنْ خرج إما للارتداد عن الدين، وإما لمنع دفع الزكاة، ولم يغفل علماء الإسلام عن هاته الأدلة. وإنما الغفلة لمن غفل عن خطة السعد في المقاصد، فإنه كغيره من علماء الكلام بصدد إثبات الأدلة القطعية المقنعة في الردّ على الخوارج وأضرابهم.

والأحاديث الواردة في هذا الشأن لا دلالة في آحادها على ذلك؛ لأن كلّ دليل منها فيه احتمال قد يمنع الخصمُ بسببه الاستدلالَ به عند المناظرة، ولهذا أدرج علماء الكلام مسألة الخلافة في المسائل الاعتقادية تسامحًا، لمشابهتها بمسائل الاعتقاد في قطعية الأدلة، وفي ترتب الضرر على الغلط فيها كما بينوه في كتبهم.

وقد أفصح عن ذلك إمام الحرمين رحمه الله إذ قال في كتاب الإرشاد: “الكلام في هذا الباب -الإمامة- ليس من أصول الدين، والخطر على من يزل فيه يربي على الخطر من يجهل أصلًا من أصول الدين، ويعتوره نوعان محظوران عند ذوي الحجاج: أحدهما ميلُ كل فئة إلى التعصب وتعدي حدّ الحق، والثاني عدّ المحتملات التي لا مجال للقطع فيها من القطعيات)([5]).

فلما تطلبوا الأدلة القطعية وجدوها في الإجماع، والمراد من الإجماع أعلى مراتبه وهو إجماع الأمة من العصر الأول استنادًا للأدلة القاطعة القائمة مقامَ التواتر، وهو في الحقيقة مظهر من مظاهر التواتر المعنوي. وأيُّ دليل على اعتبارهم الخلافة من قواعد الدين أعظمُ من اتفاق الصحابة عليه وهرعهم يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك من غير مخالف؟!

على أن القرآن قد شرع أحكامًا كثيرة ليست من الأفعال التي يقوم بها الواحد، فتعين أن المخاطبَ بها ولاةُ الأمور، نحو قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9]، ونحو قوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] إلخ.

وهذا النوع من الإجماع هو الذي تثبتُ به قواطعُ الشريعة المعبَّرُ عنها بالمعلومات ضرورة. ولو اقتصرنا على مفردات آيات القرآن والسنة لما ثبتت المعلوماتُ الضرورية من الدين إلا نادرًا؛ لأن معظمَ تلك الأدلة لا تعدو الظنية كما هو مقرر في الأصول عند الكلام على الفرق بين كون المتن قطعيًّا وكون الدلالة قطعية)([6]).

ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الله في أرضه، ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي الذي تقدم في كلام القرطبي([7])، وكضرار، وهشام القرطبي ونحوهم)([8]).

هذا، وقد اعترض جورج طرابيشي على حديث العرباض بن سارية بعدم وروده في الصحيح، مع أن ما يروم الطعن فيه -وهو أصل الخلافة- ورد في الصحيح، كقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ما استُخلِفَ خَليفةٌ إلَّا له بِطانَتانِ: بِطانةٌ تَأمُرُه بالخَيرِ وتَحُضُّه عَلَيه، وبِطانةٌ تَأمُرُه بالشَّرِّ وتَحُضُّه عَلَيه، والمَعصومُ مَن عَصَمَ اللهُ»([9]).

الاعتراض الثالث وجوابه:

أما الاعتراضُ الثالثُ -وهو الاعتراضُ على دلالة الحديث على إمامةِ الخُلفاء الثلاثة- فجوابُه أن ثبوتَ خلافة الخلفاء الراشدين لم تَرِد في هذا الحديث فقط، بل جاءتْ في أحاديث أُخرى، ومن أشهَرِ تلك الأحاديث التي تدل على ثبوت خلافة الراشدين أربعتِهم رضي الله عنهم: حديثُ سَفينَةَ رَضيَ الله عنه مرفوعًا: «الخِلافةُ بَعدي ثَلاثُون سَنَةً، ثُمَّ تَكونُ مُلكًا»، وهو حديثٌ مَروِيٌّ في السنن([10])، وصحَّحه الإمام أحمد، واحتجَّ به على التَّربيعِ بعلِيٍّ رَضيَ الله عنه في الخلافة([11]).

وأما خلافة كل واحدٍ منهم فلكل واحد منها أدلَّةٌ مبسوطة في كتب العقائد، ليس هذا محلَّ بسط الكلام فيها، ومناقشة الرافضة في ما ذهبوا إليه.

يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد كلامه آنف الذكر: (واعلم أن ما تتقوله الْإِمَامِيَّةُ من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة، وما تتقوله في الاثني عشر إمامًا، وفي الإمام المنتظر المعصوم، ونحو ذلك من خرافاتهم وأكاذيبهم الباطلة، كله باطل لا أصل له.

وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك: فعليك بكتاب “منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية” للعلامة الوحيد الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية -تغمده الله برحمته- فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلفة)([12]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه أحمد (17272، 17274، 17275، 17276، 17277)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43، 44)، والدارمي (101)، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وسكت عنه أبو داود، وصححه البزار وابن حبان والحاكم وأبو نعيم وابن تيمية. وضعفه ابن القطان الفاسي لجهالة حال راويه عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وجهالة عين حجر بن حجر، وكلاهما يرويه عن العرباض. انظر: «بيان الوهم والإيهام» (4/ 87-88). وبحثُنا على تقدير صحة الحديث، وعلى تقدير ضعفه فلا يضر ذلك، حيث سيتضح لك أن جميع المدلولات التي دل عليها الحديث، والتي طَعَن فيها الطاعنون ثابتةٌ بغيره، والمدلول إذا تعددت أدلته فإنه لا يسقط بمجرد سقوط واحدٍ منها.

([2]) «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» (ص: 378).

([3]) أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (9173)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (447)، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير مرفوعًا. وحسنه الألباني لغيره في «السلسلة الصحيحة» (1944).

([4]) «أسباب النزول» (ص: 195-196).

([5]) «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد» (ص: 410).

([6]) «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم» اعتنى به سليمان بن صالح الخراشي (ص: 82-84).

([7]) يعني ما ذكره القرطبي عن الأصم بقوله: (ولا خلاف في وجوب نصب الإمام بين الأمة، ولا بين الأئمة، إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم). «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 264). والقرطبي في ذلك متابع لغيره من الأشاعرة في ما ينقلونه عن الأصم في هذه المسألة. «الغياثي» للجويني (ص: 217-218) ، و«فضائح الباطنية» للغزالي (ص: 170-171)، و«الأربعين في أصول الدين» (ص: 415)، و«نهاية العقول» للفخر الرازي (4/ 323). إلا أن القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت: 415هـ) لما ذكر هذه المسألة في كتاب «المغني في أبواب التوحيد والعدل» (20/ 48) ذكر قول الأصم ووجهه توجيهًا بحيث لا يعارض الإجماع، قال في كتاب الإمامة من «المغني»: (وأما الأصم فقد سبقه الإجماع، وإن كان شيخنا أبو علي حكى عنه ما يدل على أنه غير مخالف في ذلك، وأنه إنما قال : «لو أنصف الناس بعضهم بعضًا وزال التظالم وما يوجب إقامة الحد لاستغنى الناس عن إمام». والمعلوم من حال الناس خلاف ذلك؛ فإذن يُعلَمُ من قوله أن إقامة الإمام واجب). والله أعلم بالصواب.

([8]) «أضواء البيان» (1/ 71).

([9]) أخرجه البخاري (6611، 7198).

([10]) سنن أبي داود (4646)، سنن الترمذي (2227).

([11]) ينظر: «السنة» للخلال (1/ 332-350).

([12]) «أضواء البيان» (1/ 71-72).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، […]

أحوال السلف في شهر رجب

 مقدمة: إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ ‌وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1]. ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

مقدمة: هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم […]

الصوفية وعجز الإفصاح ..الغموض والكتمان نموذجا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  توطئة: تتجلى ظاهرة الغموض والكتمان في الفكر الصوفي من خلال مفهوم الظاهر والباطن، ويرى الصوفية أن علم الباطن هو أرقى مراتب المعرفة، إذ يستند إلى تأويلات عميقة -فيما يزعمون- للنصوص الدينية، مما يتيح لهم تفسير القرآن والحديث بطرق تتناغم مع معتقداتهم الفاسدة، حيث يدّعون أن الأئمة والأولياء هم الوحيدون […]

القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة: كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، […]

دعوى غلو النجديين وخروجهم عن سنن العلماء

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تكثر الدعاوى حول الدعوة النجدية، وتكثر الأوهام حول طريقتهم سواء من المخالفين أو حتى من بعض الموافقين الذين دخلت عليهم بعض شُبه الخصوم، وزاد الطين بلة انتسابُ كثير من الجهال والغلاة إلى طريقة الدعوة النجدية، ووظفوا بعض عباراتهم -والتي لا يحفظون غيرها- فشطوا في التكفير بغير حق، وأساؤوا […]

التحقيق في موقف ابن الزَّمْلَكَاني من ابن تيّمِيَّة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: يُعتَبَر ابن الزَّمْلَكَاني الذي ولد سنة 667هـ مُتقاربًا في السنِّ مع شيخ الإسلام الذي ولد سنة 661هـ، ويكبره شيخ الإسلام بنحو ست سنوات فقط، وكلاهما نشأ في مدينة دمشق في العصر المملوكي، فمعرفة كلٍّ منهما بالآخر قديمة جِدًّا من فترة شبابهما، وكلاهما من كبار علماء مذهبِه وعلماء المسلمين. […]

الشَّبَهُ بين شرك أهل الأوثان وشرك أهل القبور

مقدمة: نزل القرآنُ بلسان عربيٍّ مبين، وكان لبيان الشرك من هذا البيان حظٌّ عظيم، فقد بيَّن القرآن الشرك، وقطع حجّةَ أهله، وأنذر فاعلَه، وبين عقوبته وخطرَه عليه. وقد جرت سنة العلماء على اعتبار عموم الألفاظ، واتباع الاشتقاق للأوصاف في الأفعال، فمن فعل الشرك فقد استوجب هذا الاسمَ، لا يرفعه عنه شرعًا إلا فقدانُ شرط أو […]

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017