الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

الجواب عن شبهة تصريح بعض الأئمة أن آيات الصفات من المتشابه وزعمهم أنه لا سلف لابن تيمية في التفصيل

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمثَّلت قضية المحكم والمتشابه في الأزمنة القديمة في ثوبٍ علميٍّ، واقتصر بحثها في كتب الأصول والتفسير كمسألة علمية تتجاذبها الأدلة ووجهاتُ النظر، ولقد زاد السجال في المعاصرين، لا سيما وأن هذه المسألة لها ارتباطٌ بمبحث الأسماء والصفات عند المتأخِّرين، وكثُرت الدعاوى ممن يتبنى مذهب التفويض، حتى سمعنا من يقول: إن أهل السنة مجمعون على اعتبار آيات الصفات من المتشابه الذي لا يَعرف معناه إلا الله، ورجعوا على ابن تيمية بالردّ والنقد. ولا شك أن هذه الدعاوى والمناكفات تُنبئ عن سطحية في تناول المسألة.

أولًا: مذاهب العلماء رحمهم لله:

اختلف أهل العلم في قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] على قولين:

القول الأول: يرى أن الوقف يكون على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، واحتجوا بما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذرهم»([1]).

والقول الثاني: يرى أن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معطوف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، وعلى هذا يكون تفسير الآية: أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه من القرآن. واحتجوا بالقراءة الثانية، وبمذهب ابن عباس وتلامذته. وقد صحح الإمام النووي هذا المذهب واختاره، كما سيأتي.

ثانيًا: الجمع بين المذهبين :

والحقُّ أنه لا تعارض بين هذين المذهبين، فإن القرآن يُصدِّق بعضه بعضًا، والتوفيق بينهما أمر سهل وميسور إن شاء الله، فإن لفظ (التأويل) يُطلق على معانٍ:

الأول: التفسير: فتأويل الكلام تفسيره وتوضيح معناه. والتأويل في كلام المتقدمين يُطلق بهذا المعنى؛ ولذلك سمى ابن جرير الطبري تفسيره: (جامع البيان في تأويل آي القرآن)؛ فهو اصطلاح معروف ومشهور عند المتقدمين.

والثاني: حقيقة الشيء وكنهه وما يؤول إليه في الخارج من حقائق الصفات، وحقائق الجنة، وما أخبر الله به من حقائق الغيبيات، كل هذا لا يعلمه إلا الله.

وبالمعنى الأول والثاني يحصل التوفيق بين القراءتين.

والثالث -وهو في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين- هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه. فالتأويل الصحيح منه ما وافق نصوص الكتاب والسنة ولم يخالفها([2])، وبذلك يدخل في المعنى الأول وهو التفسير. والتأويل الفاسد ما خالف الكتاب والسنة.

ثالثًا: هل معرفة معنى المتشابه أمر مُستنكر؟!

قال الإمام النووي رحمه الله: “واختلف العلماء في الراسخين في العلم هل يعلمون تأويل المتشابه وتكون الواو في {وَالرَّاسِخُونَ} عاطفة أم لا؟ ويكون الوقف على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، ثم يبتدئ قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}، وكل واحد من القولين محتمل، واختاره طوائف، والأصح الأول: أن الراسخين يعلمونه؛ لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد. والله أعلم”([3]).

ومن خلال موقف النووي السابق: تعلم أن القول بأن (الراسخين يعلمون المعنى) ليس اختراعًا تيميًّا كما يُشغّب الأشاعرة المعاصرون، بل هو مذهب كثير من المحققين، فإن قالوا: إن النووي يرى تأويل بعض الصفات وصرفها عن ظاهرها، قلنا: هذه مسألة، وتلك مسألة أخرى. فاختياره الأصولي مبنيٌّ على أسس علمية في الأصول وعلوم التفسير، وعليه فمن اختار طريقة الوصل أن الراسخين يعلمون تأويله -كما اختار النووي-، ثم التزم مذهب السلف في إثبات الظواهر؛ لا بد وأن ينتهي بإثبات المعنى وتفويض الكيفية، ولا خيار ثالث له.

قال الإمام البغوي: “قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم: الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، وهم مع علمهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}، وهذا قول مجاهد والربيع”([4]).

رابعًا: حيرة المؤولة والمفوضة:

بسبب ما سبق بيانه تحيَّر العلماء الذين قالوا بالتفويض، واضطروا إلى أن يقولوا: إن مذهب الوقف هي الصواب؛ لأن التأويل بدعة وضلال، وأداهم هذا المذهب إلى رد المذهب الآخر وإبطاله، ويلزم من ذلك تكذيب لبعض لبعض ما ورد عن السلف.

ولذلك احتج جمهور الأشاعرة كأبي بكر بن فورك والقشيري وغيرهما بمذهب الوصل في القراءة، وردوا على المفوّضة، وقرروا أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وأصابوا في ردّهم وحججهم التي ساقوها، ولكن أخطؤوا من حيث ظنوا أن التأويل المقصود هو صرف اللفظ عن ظاهره مثل تأويلات الجهمية ونحوهم، وليس هذا هو المقصود.

واحتج المفوضة بمذهب الوقف، ودعَّموا قولهم بأن آثار السلف كلها تذم التأويل، والسلف أعلم بالقرآن من غيرهم، وهذا الفريق أصاب أيضًا في ردِّهم على المؤولة، إلا أن كلا الطائفتين ظنوا أن التأويل هو نفسه الاصطلاح المشهور في المتأخرين.

والمحقّقون من أهل العلم وسطٌ بين طرفين، حيث جمعوا بين المذهبين (الوقف والوصل) وقالوا: إن أصل الصفة مفهوم، ولكن كنهها وما تؤول إليه هو من المتشابه الذي اختص الله بعلمه، كما أن التشابه يكون في بيان إشكالاتٍ تطرأ في الآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات، فتكون بعض الصفات مُشكلة، فلا يعرف تأويلها ووجه تخريجها إلا الراسخون في العلم عن طريق الجمع بين النصوص بما آتاهم الله من العلم.

خامسًا: هل ابن تيمية مسبوق في الجمع بين الطريقتين؟

ليس قول ابن تيمية بدعًا من القول في الجمع بين المذهبين والتوفيق بينهما، فممن جمع بين القراءتين أيضًا ابن عطية الأندلسي المحاربي (٥٤٢هـ) حيث يقول بعد أن حكى الخلاف في الآية: (وهذه المسألة إذا تؤملت قَرُب الخلاف فيها من الاتفاق… فقوله: {إِلَّا اللهُ} مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعا. وإن جعلنا قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} عطفا على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال… فالمعنى: وما يعلم تأويله على الاستيفاء إلا الله، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا}، وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه، وهو ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب {وَالرَّاسِخُونَ} يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه… ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع -أي: على الكمال والاستيفاء-، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال” انتهى مُلخصًا([5]).

ويؤكد الترمذي تلك الحقيقة: أن لأهل العلم تأويلًا يخالف تأويلات الجهمية فيقول: “وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إنما معنى اليد القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر ولا يقول كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}”([6]).

فقول الترمذي: (وفسروها على غير ما فسر أهل العلم) فيه: أن للجهمية تفسيرًا، ولأهل العلم تفسيرًا مخالفًا لهم.

سادسًا: أمثلة على أن أهل العلم الراسخين يعلمون التأويل:

التشابه قد يكون محتملًا لمعان مختلفة تُسبب إشكالًا يطرأ في الآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات، فتكون بعض الصفات مُشكلة عند غير الراسخين أو عند المبتدعة، فلا يعرف معناها ووجه تخريجها إلا الراسخون في العلم عن طريق الجمع بين النصوص بما آتاهم الله من العلم. فيُعرف مراد الله منها بردها إلى المحكمات. ودونك هذه الأمثلة:

المثال الأول: الجمع بين قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} وبين قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}، فهذه الآيات التي قد يظهر فيها التعارض قد تشكل على بعض العوام، أو الشيوخ غير الراسخين بعلوم السلف، أو الذين في قلوبهم مرض من الجهمية ونحوهم، أما الراسخ في العلم فيعلم تأويل ذلك؛ ويقول: {كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا}؛ لأنه يجمع بين الآيات فيشرح ذلك للذي أشكل عليه، من غير دخول في الكيفية التي اختص الله بها نفسه. ولذلك لما استشكل الجهمية هذه الآيات فسَّر الأئمة -كالإمام أحمد وغيره- ذلك بقولهم: (هو على عرشه، وعلمه في كل مكان) ردًّا على الجهمية. وتجاسروا على تأويلها بهذا التأويل، مع أن النصوص ليس فيها هذا الإطلاق، فتأمل.

قال ابن قتيبة شارحًا للآية: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ}: “هو كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع ووكلته بأمر من أمورك: احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك فإني معك، تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك أو جدك للأشراف عليك والبحث عن أمورك، وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز”([7]).

وكان من الممكن ألا يُجيب السلف على هذا الإشكال لو كان مجرد إيمانهم هو إيمان بالألفاظ فقط، وكان حقّهم أن يقولوا للجهمية: هذه مجرد ألفاظ جاء بها القرآن، فنحن نؤمن بها كما جاءت، ولم يحتاجوا إلى الجمع بين الآيتين وشرحهما، فتأمل.

المثال الثاني: ما أشكل على البعض من الجمع بين العلو وأخبار النزول إلى السماء الدنيا:

سأل بشر بن السري حماد بن زيد: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء: «ينزل الله إلى سماء الدنيا» أيتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد ثم قال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء([8]).

وعن إسحاق بن راهويه قال: دخلت على ابن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث؟! يروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، قلت: نعم، رواها الثقات الذين يروون الأحكام، فقال: ينزل ويدع عرشه؟! فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ قال: نعم، قلت: فلم تتكلم في هذا؟!([9]).

المثال الثالث: استشكال حنبل بن إسحاق الفعل الاختياري في صفة الكلام؛ لأن الكلام المُتجدد يلزم منه حدوث الكلام الجديد، لذلك سأل حنبل أحمد: هل يتكلم ربنا يوم القيامة؟([10]) قال أحمد: نعم؛ فمن يقضـي بين الخلائق إلا الله؟! يُكلم عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله متكلمًا؛ يأمر بما يشاء، ويحكـم بما يشاء، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء وأين شاء([11]).

الحاصل: أن وقوف الراسخين في العلم في الآية الكريمة: {وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} هو حق أيضًا، فهم يؤمنون بالآيات كما جاءت، ويقفون عند حدود النص، ولا يتكلفون فيما هو فوق ذلك.

إلا أن تأويل الراسخين المقصود به هو الإيمان بالآيات إجمالًا بما يليق بالله، فإذا جاءهم اعتراض أو شبهة أجابوا عما اشتبه على الناس أو ما يطرحه المُشككون من تعارض ليصلوا إلى تكذيب النصوص؛ فيجيء جواب أهل العلم تأويلًا أيضًا؛ لكنه تأويل من نوع آخر، وهو تفسير النصوص والجمع بينها بما يؤدي في النهاية إلى الإيمان بظاهر النصوص والوقوف عند حدودها؛ ولذلك يقول الجصاص: “وسبيل المتشابه أن يُحمل على المحكم ويُرد إليه”([12])، وهذا يقتضي أن المتشابه محتمل لمعان مختلفة، فيُعرف مراد الله منها بردها إلى المحكمات.

ومن الأمثلة أيضًا على أن الراسخين يعلمون المتشابه ما حصل للإمام أحمد في مسألة اللفظ بالقرآن حيث أزال لهم شبهته، وكتب فيها البخاري في (خلق أفعال العباد) وفصّل في المسألة تفصيلًا بديعًا، وشرحها وتوغّل فيها، وكذلك ابن قتيبة في (اختلاف اللفظ) شرح المسألة أيضًا من جهة اللغة.

وكذلك تصرفات الإمام الطبري ومُباحثاته عند تفسيره لآيات الصفات ودفع إشكالات الخصوم؛ فإنه يورد القول الصحيح ويقول: إن هذا لا يعارضه الخبر ولا النظر، أو غير مدفوع صحته من جهة النظر، ثم يُثبت للخصم أن هذا القول ليس ممتنعًا عقلًا حتى على مذهبه([13]). ولو كانت آيات الصفات مجرد ألفاظ لما جاز للطبري أن يخوض في هذه المباحثات.

وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) ردًّا على دعوى المتكلمين معارضة النصوص للعقل الصريح، فخرَّج لهم الشبهات العقلية لينتهي بهم في النهاية إلى تصديق الخبر، والوقوف حيث وقف النص.

وهكذا تعامل السلف رضي الله عنهم مع آيات الكتاب المبين؛ فردوا المتشابه إلى المحكم متى استطاعوا ذلك وعرفوا، ولم يتكلموا فيه، وآمنوا بالمتشابه الذي لا اجتهاد فيه، وامتثلوا أمر ربهم فقالوا: {كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا}، وفطن السلف إلى التوجيه الرباني في قوله: {مِنهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ}.

ونجد شواهد من السنة النبوية تعضد مسلك السلف في رد المتشابه إلى المحكم، وهو حديث النعمان بن بشير المشهور قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُما أمور مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيِرٌ مِنَ الناسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِك أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُه، أَلا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَح الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب»([14]).

فقوله: «لا يعلمهن كثير من الناس» يفيد معرفة العلماء لها، فمسلك السلف الوقوف عند حدود الله والاستبراء للدين من الشبهات؛ مخافة الوقوع في الحرام. وكان مسلكهم رد الأمر إلى أهل العلم؛ لأنهم يعلمون المحكم، ويعرفون المتشابه، ويفهمون النصوص، ويعرفون الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، والخاص والعام، ويعرفون دلالة النصوص.

سابعًا: الإحكام والتشابه في الصفات أمر نسبي:

الأصل أن آيات الصفات واضحة من حيث المعنى، متشابهة من حيث الحقيقة، إلا أنه قد تكون بعض الآيات مُشكلة عند عالم، فتكون من جنس المتشابه عنده، بينما تكون نفس الآية ليست كذلك عند آخرين، فالأمر نسبي، وكلما ازداد فهم العالم لمعاني الآيات وحل إشكالاتها ازداد رسوخه.

وهي مسألة مهمة يغفل عنها كثير من المعاصرين، وفيها حل لكثير من الإشكالات الواردة في كلام أهل العلم في قضية الصفات وغيرها، كما سيأتي.

يقول ابن القيم: “إن أردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا، وكذلك آيات الأحكام، وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي، فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره، ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض”([15]).

فما يكون مشكلًا ومشتبهًا عند قوم لا يكون كذلك عند آخرين؛ ولذلك وجب الإيمان بالأخبار وإن لم نفهم معناها ووجه تخريجها.

يقول ابن قدامة: «وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظًا وترك التعرض لمعناه»([16]).

ولذلك يقول ابن تيمية: «القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه»([17]).

وقال أيضا: «فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله، فكل ما ثبت أن الرسول قاله فعلينا أن نُصدق به، وإن لم نفهم معناه؛ لأنَّا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول إلا الحق»([18]).

ومن باب هذه النسبية في المحكم والمتشابه: أنك قد تجد بعض أهل العلم يفسر الصفات باللوازم؛ فيجعل النزول هو الانتقال والحركة، ويجعل النزول محكمًا من هذه الجهة كالحسن بن حامد وابن منده وأمثالهما -وقولهم مرجوح-. وقد تجد غيرهم يجعل هذه اللوازم من الكيفيات، وتجد آخرين يجعلون صفة الكلام من المُحكم ردًّا على الأشاعرة في نفيهم الحرف والصوت، ويقصدون بذلك أن صفة الكلام واضحة وأن الكلام لا يكون كلامًا إلا بصوت.

ولذلك ظن بعض المعاصرين أن ابن قدامة يستثني صفة الكلام من المتشابه، ويفوّض بقية الصفات، والأمر ليس كذلك. واستدلوا بقول ابن قدامة: «وأما قولهم: إنكم فسرتم هذه الصفة -أي: الكلام- قلنا: إنما لا يجوز تفسير المتشابه الذي سكت عن تفسيره، وليس كذلك الكلام، فإنه من المعلوم بين الخلق لا شبهة فيه، وقد فسره الكتاب والسنة»([19]).

فاعتبار أن صفة الكلام من المُحكم مطلقًا عند ابن قدامة هو مجازفة غير سديدة، وهو ادعاء أن ابن قدامة يعرف كيفية كلام الله وكُنه ذاته الشريفة، وهذا لا يليق بابن قدامة، بل ولا بمسلمٍ أصلًا؛ إذ لا يعلم كُنه صفاته تعالى إلا هو.

ومراد ابن قدامة أن صفة الكلام فيها لوازم إضافية لم تأت بالقرآن، مثل الحرف والصوت، فجاء جواب ابن قدامة أن المتشابه وإن كان لا يُفسر باللوازم، لكن في حالة الكلام فالحرف والصوت هو الحقيقة المشهورة من صفة الكلام؛ إذن ليس هذا دخولًا في الكيفية.

وبشكلٍ أكثر وضوحًا: يمكن أن نقول بأن الحرف والصوت عند ابن قدامة من الكيفية التي فسرها الكتاب والسنة، ولذلك لم يعتبرها من المتشابه بهذا الاعتبار، وليس الأمر على إطلاقه.

ودليل ذلك أن حمل الصفات على الحقيقة ليس دخولًا في المتشابه، ويتضح ذلك من قوله: “الثاني: أننا نحن فسرناه بحمله على حقيقته تفسيرًا جاء به الكتاب والسنة، وهم فسروه بما لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا يوافق الحقيقة، ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى”([20]).

ولهذا أبعاد معرفية تخص قضية «الاصطلاحية»، فقضية الإحكام والتشابه ينتابها شيء من النسبية كما أسلفنا: فصفة النزول هي عند ابن حامد تعني الانتقال والخلو من العرش، وهذا عند ابن تَيميَّة من الكيفية «المتشابه»، لكنها عند ابن حامد من ظاهر المعنى «المُحكم»؛ لأن النزول بغير انتقال لا يكون نزولًا.

والمُراد من ذلك: أن المتشابه هو اصطلاح نسبي يختلف بحسب اصطلاح هذا العالِم أو ذاك في مفهوم الكيفية التي هي لوازم الصفة، فإذا اعتبرت الانتقال من الكيفية فهو من المتشابه، وكذلك إذا اعتبرت الحرف والصوت من لوازم الكلام فهو من الكيفية أيضًا، لكنه (عند ابن قدامة) من الكيفية التي فسرها الكتاب والسنة، ولذلك اعتبر ابن قدامة صفة الكلام من هذا الجانب من المُحكم.

أما الادعاء أن صفة الكلام من المُحكم مُطلقًا عند ابن قدامة ففيه ادعاء أن ابن قدامة يعرف كُنه صفة الكلام، وحاشاه من ذلك، وإنما الأمر كما بيَّناه.

ثامنًا: الجواب عن قول بعض أهل الحديث: (آيات الصفات من المتشابه):

إن القراءة الحرفية لقضيةٍ ما دون فهم المراد تؤدي إلى نتائج عكسية، وكذلك هي القراءة الحرفية لكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية.

فمعلوم أنك إذا سألت طالب علم معاصر عن آيات الصفات: أهي من المحكم أم من المتشابه؟ أجاب: (إن معناها من المحكم، وكيفيتها من المتشابه)، وهذا الجواب حق وصحيح، لكن وجه الإشكال هاهنا أن أكثر طلبة العلم -وليس كلهم- يحفظ هذه العبارة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كمن يحفظ الطلاسم ولا يفهم مراد ابن تيمية من هذا التفصيل؛ لأنه يظن أن الأئمة السابقين لا بد وأن يذكروا هذا التحقيق والتشقيق الأصولي، وليس هذا بلازم.

وتؤدي هذه القراءة الحرفية إلى عدم استطاعته الجواب عن شبهات الخصوم إذا ما واجهوه بنصوص بعض أهل الحديث ممن جعلوا آيات الصفات من المتشابه، أو يخرج من إلزام الخصم بأن ينسب هؤلاء الأئمة إلى التفويض.

وصنيع هذا كالطالب الذي يحفظ الكتاب ليدخل الاختبار، ثم يريد أن تجيء الأسئلة نمطيَّة وبشكلٍ مباشر، فإذا جاءه السؤال بطريقة أخرى ليختبر فهمه ما استطاع الإجابة.

ولهذا نقول: من المغالطات المعاصرة الدقيقة والتي تحتاج إلى نوع تأنٍّ في التناول: اعتبار كل من جعل آيات الصفات من المتشابه مفوِّضًا، أو اعتباره في مصافِّ النفاة، وهذا الخطأ هو خطأ مزدوج يقع فيه السلفيون وخصومهم أيضًا.

والحق الذي لا شك فيه أن المسألة تحتاج إلى تفصيل، فقد يصنف بعض الأئمة آيات الصفات من المتشابه من باب أنه لا يَعرف كُنهها إلا الله عز وجل. وأما تفصيل ابن تَيميَّة فهو تفصيل وتحقيقٌ زائد لغرض بيان وجه الغلط عند المتكلمين، كعادته في فك المصطلحات، فيُبيِّن وجه التشابه ووجه الإحكام في آيات الصفات.

يقول ابن سُريج -المُلقب بالشافعي الثاني- بعدما نقل جُملةً من الصفات: «وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا مما صح عنه اعتقادنا فيه، وفي الآي المتشابهة في القرآن أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، ولا نفسرها ولا نكيفها… ونسلم الخبر الظاهر والآية الظاهرة تنزيلها، لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية»([21]).

وفيه أن ابن سُريج جعل آيات الصفات وأخبارها من المُتشابه.

ويقول قوام السُّنة الأصبهاني: «قال أهل السنة: الإيمان بقوله تعالى: ﴿الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] واجب، والخوض فيه بالتأويل بدعة، قالوا: وهو من الآيات المتشابهات التي ذكرها الله تعالى في كتابه ورد علم تأويلها إلى نفسه… -إلى أن قال بعد كلامٍ طويل:- فمن خالف موضوع اللغة فقد خالف طريقة العرب، والقرآن عربي، ولو كان الاستواء على العرش بمعنى الاستواء إلى العرش لقال تعالى: (إلى العرش استوى). قال أهل السنة: الاستواء هو العلو، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا استَوَيتَ أَنتَ وَمَن مَعَكَ عَلَى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: 28]، وليس للاستواء في كلام العرب معنى إلا ما ذكرنا»([22]).

فالأصبهاني في النقل السابق جعل آيات الصفات من الآيات المتشابهات، إلا أنه -وفي والوقت ذاته- بيَّن أن الصفات مفهومة على لغة العرب.

ومما يزيد الأمر وضوحًا قول البغوي: «وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف»([23]).

فقد وصف البغوي آيات الصفات بالمتشابهة، مع أن البغوي قد فسَّر آية الاستواء، وبيَّن أنها معلومة المعنى، وذكر أن معناها: «استقر وصعد»، وجعلهما في مقابل قول المعتزلة([24]).

بل إننا نجد ابن تَيميَّة في مواضع جعل آيات الصفات من المتشابه، قال شيخ الإسلام ابن تَيميَّة: «المعنى الذي يراد به هذا في حق المخلوقين لا يجوز أن يكون نظيره ثابتًا لله، فلهذا صار متشابهًا، وكذلك قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرشِ﴾ [يونس:3]، فإنه قد قال: ﴿وَاستَوَتْ عَلَى الجُودِيّ﴾ [هود: 44]، وقال: ﴿فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ [الفتح: 29]، وقال: ﴿فَإِذَا استَوَيتَ أَنتَ وَمَن مَعَكَ عَلَى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: 28]، وقال: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ [الزُّخرُف: 13]؛ فهذا الاستواء كله يتضمن حاجة المستوي إلى المستوَى عليه، وأنه لو عُدم من تحته لخَرَّ، والله تعالى غني عن العرش وعن كل شيء، بل هو سبحانه بقدرته يحمل العرش وحملة العرش.. فصار لفظ الاستواء متشابهًا، يلزمه في حق المخلوقين معان ينزه الله عنها»([25]).

ومن النص السابق نجد أن ابن تَيميَّة أطلق لفظة المتشابه على الاستواء، ومع هذا لا يصح بحال اعتبار ابن تَيميَّة مفوِّضًا.

وعلى الجانب الآخر هناك من خص الكيفية فقط بالمتشابه:

1- شيخ الإسلام ابن تيمية:

ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تَيميَّة -كما هو معلومٌ عنه- فقال: «أما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم؛ فالكلام على هذا من وجهين: الأول: من قال: إن هذا من المتشابه وأنه لا يُفهم معناه، فنقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة -لا أحمد بن حنبل ولا غيره- أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه»([26]).

2، 3- الإسماعيلي والصابوني:

قال أبو عثمان الصابوني: «وقرأت في رسالة الشيخ أبي بكر الإسماعيلي إلى أهل جيلان أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ﴾ [البقرة: 210]، وقال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: 22]، ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه»([27]).

وفي النقل السابق خصَّ أبو بكر الإسماعيلي الكيفية بالتشابُه دون ظاهر الآيات المُحكمة، وأقره الصابوني واستدل به.

ويُمكن أن يُستدل لهذا القول بأن المأثور والمتواتر عن السلف من قولهم: «بلا كيف» دليل على أن المتشابه هو الكيفية.

4- ابن قتيبة الدينوري:

من المعلوم أن ابن قتيبة الدينوري يرى أن المتشابه معلوم المعنى ويعلمه الراسخون في العلم، وانتصر لهذا القول في “تأويل مشكل القرآن”، يقول: «ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوّليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلّا لينفع عباده ويدل على معنى أراده»([28]).

تحرير المسألة:

التحقيق أنه لا خلاف أصلًا بين الأثرية في الإطلاق والتفصيل، وليس هما قولين متناقضين؛ فمن أطلق له وجه، ومن فصَّل له وجه.

ولبيان هذا الأمر بشكلٍ أوضح نقول: إن كثيرًا من أهل العلم الذين أطلقوا لفظ «المتشابه» على آيات الصفات إنما أطلقوا ذلك بحكم ما غلب على الصفة من متشابه، فإن كنه الصفات أو ما تؤول إليه في الخارج هو أمرٌ إلهي لا نعرفه على التحقيق؛ فلذلك صار متشابهًا، وهو مراد الأثرية والحنابلة عند إطلاق أن الصفات من المتشابه، وهو مراد ابن تَيميَّة أيضًا في النقل السابق، وأما المواضع التي فصَّل فيها ابن تَيميَّة بين القدر المُحكم والقدر المتشابه فهي مواضع قد احتيج فيها إلى تفصيل زائد لفك الاشتباه عن اللفظ الذي قد أسيء استخدامه من قِبل النفاة المتكلمين.

تاسعًا: لماذا فصَّل ابن تَيميَّة هذا التفصيل؟ وهل وافقه أحد؟

ثمة سؤال مهم قد يرد في هذا الباب: لماذا فصَّل ابن تَيميَّة هذا التفصيل ما دام إطلاق بعض الأثرية هو إطلاق له وجه صحيح؟

والجواب عن ذلك: أن التحقيق والتفصيل يأتي بعد اشتباهٍ وإجمال يُتوصَّل به إلى معانٍ فاسدة، وهذا المعنى الفاسد كان لدى المتكلمين حول آيات الصفات حيث يطلقون عليها متشابهًا ويريدون من ذلك نفي الصفات، على العكس من الحنابلة ممن يثبتون صفاتٍ زائدةً على السبع.

فمصطلح «المتشابه» يستخدمه المتكلّمون لنفي أصل الصفة، فهم يثبتون صفات المعاني السبع، ويطلقون المتشابه على غير السبع لردها بالتفويض أو التأويل. وهو الأمر الذي لا يفعله جمهور الحنابلة، فهم يثبتون صفاتٍ زائدةً على الذات، فأصبح لفظ المتشابه صحيحًا من وجه، ونقبله من الحنابلة والأثرية من جهة، وخطأ من وجه آخر، ولا نقبله من الأشاعرة من جهةٍ أخرى.

فأصبح وصف الأثرية للصفات بالمتشابه وصفًا حقًّا بحسب مذهبهم الإثباتي، ووصف النفاة والمعطلة للصفات بالمتشابه وصفًا باطلًا بحسب مذهبهم التعطيلي.

ويمكن فهم هذا في ضوء فهم منهجية ابن تَيميَّة القائمة على التحقيق والتفصيل، وهذه سمات المحققين من أهل العلم كما بينَّا مُسبقًا.

ومن جانبٍ آخر: نجد عند أصوليّي الأحناف ما يوافق بعض تحقيقات ابن تَيميَّة، فيقول البزدوي الحنفي: «إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولن يجوز إبطال الأصل بالعجْز عن درك الوصف؛ وإنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه، فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة»([29]).

وزاد شمس الأئمة السرخسي الحنفي: «وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص، أي: بالآيات القطعية والدلالات اليقينية، وتوقفوا فيما هو متشابه، وهو الكيفية، ولم يجوزوا الاشتغال بطلب ذلك كما وصف الله به الراسخين في العلم فقال: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]»([30]).

ولا يعني هذا بالضرورة أن البزدوي أو السرخسي كانا يخالفان أصحابهما من الحنفية، وإنما كلامهم هو توضيحٌ لبقية كلام أصحابهم، أشبه بطريقة شارحي المتون عند وضع قيودات قد أجملها صاحب المتن. كذلك يُقال في ابن تَيميَّة، فإن كلامه زيادة تحقيق وبيان لكلام أصحابه من الأثرية والحنابلة.

إذن، فاختلاف العبارات بين أبناء المذهب الواحد في المحكم والمتشابه لا يعني بالضرورة المفارقة العقدية بينهما.

ومما يزيد الأمر وضوحًا أن الحنابلة صححوا مذهب ابن تَيميَّة في مسائل الصفات، ولم يزل الحنابلة ينقلون تحقيقه في مدوَّناتهم دون تعقب، فهذا ابن عبد الباقي الحنبلي قد وافق ابن تَيميَّة على هذا التحقيق قائلًا: «فإنه -أي: الاستواء- كان معلومًا للسلف علمًا ظاهرًا، فيكون التفسير المحدَث باطلًا، ولهذا قال مالك: الاستواء معلوم. وأما قوله: والكيف مجهول، فالجهل بالكيف لا ينفي عِلم ما قد عُلم أصله، كما نُقرُّ بالله ونؤمن به ولا نعلم كيف هو. أشار إلى ذلك الشيخ ابن تَيميَّة رحمه الله في بعض رسائله»([31]).

ويقول أيضًا ابن عبد الباقي: «ما أنزله -جلَّ اسمُه- في كتابه من ذكر المجيء والإتيان… ونؤمن بذلك بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يُبيِّن لنا كيفيَّة ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكَمَه، وكفَفْنا عن الذي يتشابه»([32]). فنفيه العلم بالكيفيَّة فقط ووصفها بالمتشابه فيه إشارة إلى المقصود.

إذن، إذا عُرف عن عالمٍ من علماء السُّنة سلامة الاعتقاد في باب الصفات، ثم جعل آيات الصفات من المتشابه، فلا يتسرع المرء بنسبته إلى التفويض المذموم، بل هذا العالم مُحقٌّ من جهة أنه أطلق ذلك على سبيل ما يغلب على الصفة من متشابه، ومَن جعله من المُحكم -كابن قتيبة- وقصد به أصل المعنى فهو محقٌّ أيضًا، ومن فصَّل تفصيل شيخ الإسلام رحمه الله، فهو الأولى والأقرب، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) رواه مسلم (2665).

([2]) مثل تفسير الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبَسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي: الشرك، وقد فهم الصحابة الآية على ظاهرها واستشكلوها، ولكن خصصها لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك بالله.

([3]) شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 20).

([4]) تفسير البغوي (3/ 10).

([5]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 162).

([6]) سنن الترمذي، كتاب الزكاة (1/ 189).

([7]) «تأويل مختلف الحديث» (ص: 248).

([8]) رواه ابن منده في «التوحيد» (891) بسند صحيح.

([9]) ينظر: «كتاب العرش» للذهبي (1/ 205)، و«مختصر العلو» له أيضًا (ص: 192).

([10]) لا يخفى على مثل حنبل نصوص الكتاب والسنة في كلام الله يوم القيامة، ولكنه قصد معنًى زائدًا وهو إشكالية تجدد الكلام.

([11]) «المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد» (١/ ٢٨٨).

([12]) «الفصول في الأصول» (1/ 374).

([13]) انظر مثلًا: «تفسير الطبري» وكلامه عن الاستواء (1/ 228)، وكلامه عن أثر مجاهد في الإقعاد (13/ 134) وغيرهما.

([14]) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

([15]) «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» (1/ 212).

([16]) «لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد» (ص: 5).

([17]) «التدمرية» (ص: 33).

([18]) «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 173).

([19]) «الصراط المستقيم» (ص: 44).

([20]) «ذم التأويل» (ص: 45).

([21]) ينظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 86-88).

([22]) «الحجة في بيان المحجة» (ص: 388-389).

([23]) «تفسير البغوي» (3/ 235)، سورة الأعراف، آية: (54).

([24]) المصدر السابق.

([25]) «مجموع الفتاوى» (10/ 147).

([26]) «مجموع الفتاوى» (13/ 294-295).

([27]) «عقيدة السلف أصحاب الحديث» (ص: ١٩١-١٩٢).

([28]) «تأويل مشكل القرآن» (ص: 98).

([29]) «أصول البزدوي مع شرحها كشف الأسرار» (1/ 94).

([30]) «أصول السرخسي» (1/ 170).

([31]) «العين والأثر» (ص: 122-123). وعلق محققه د. عصام قلعجي: «هذا ليس نقلًا عن كتب ابن تَيميَّة، بل أخذًا منه على المعنى والكيف».

([32]) «العين والأثر» (ص: 123-124).

فائدة: هذا الكلام نقله أبو عثمان الصّابوني عن أبي بكر الإسماعيلي. انظر: «عقيدة السَّلف وأصحاب الحديث» للصَّابوني (192).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017