دعوى افتقار علماء السلفية لعلوم الآلة.. عرض ونقد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
من العبارات الفاسدة التي يقول بها المناوؤون للدعوة السلفية، التي يُدرك فسادها بالضرورة قول بعض المناوئين: (لو تعلَّموا وفق المنظومة العلمية التراثية ودرسوا العلم الصناعي لتمشعروا، ولساروا في ركاب الأمة الإسلامية، ولتركوا ما هم عليه من توهبُن وتسلُّف، ولذهبوا إلى القبور يعفرون الخدود ويجأرون بطلب الحاجات).
وهذه مقالة يؤسفني أن أقول: إنها لا تروج إلا على سطحي الفكر قليل الاطلاع.
وستكون مناقشتنا لهذه الشبهة في عدة محاور:
أولًا: ذكر نماذج للعلماء المُتَوَسِّعين في علوم الآلة:
إن الفحول من أهل السنة في القرن الماضي درسوا أيضًا وفق ما يُعرف بالدرس العلمي الصناعي، ووفق النسق التراثي المُتَّبع في المتأخرين.
فهذا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ قد جاء في ترجمته: (بقي ثمان سنوات بمصر، قرأ فيها على عدة علماء منهم الشيخ حسن القويسني ذكر أنه حضر عليه شرح جمع الجوامع للمحلي، ومختصر السعد في المعاني والبيان، وأجازه بجميع مروياته.
ولقي بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي فقرأ عليه في الأحكام الكبرى للحافظ عبد الحق الاشبيلي، وأجازه بجميع مروياته عن شيخه الشيخ محمود الجزائري، والشيخ علي بن الأمير.
ووجد بمصر الشيخ إبراهيم العبيدي المقري شيخ مصر في زمنه في القراءات، فقرأ عليه القرآن ولقي الشيخ أحمد بن سلمونة فقرأ عليه الشاطبية وشرح الجزرية.
وقرأ على الشيخ يوسف الصاوي شرح الخلاصة لابن عقيل وقرأ على الشيخ إبراهيم الباجوري شرح الخلاصة للأشموني.
وحضر على محمد الدمنهوري في الاستعارات والكافي في علمي العروض والقوافي، وذلك بالجامع الأزهر الشريف – عمره الله بالعلم والإيمان وجعله مقرًا للعمل بالسنة والقرآن-)([1]).
ومع ذلك فكان الشيخ عبد اللطيف من أشد المدافعين عن عقائد السلف، والرادّين لبدع القبورية والجهمية، ولم يقع في شيء من مسالكهم وشبهاتهم.
أما العلامة ابن بدران الحنبلي الدومي فكان عالما بالمنطق والمعقولات، ثم إنه تفكَّر في أمره وانقطع إلى البحث والسبر بغية الوصول إلى الحقيقة أيًّا كانت، وتبيَّن له في النهاية صحة مذهب السلفية وترجيحه على غيره.
يقول ابن بدران في هذا الصدد: “إنني لما مَنَّ عليَّ بطلب العلم هجرت له الوطن والوسَن، وكنت أطوف المعاهد لتحصيله وأذهب كل مذهب.. فتارة أطوح بنفسي فيما سلكه ابن سينا… وتارة أتلقف ما سكبه أبو نصر الفارابي من صناعة المنطق… ثم أجول في ميادين العلوم مدة فارتدَّ إليَّ الطرف خاسئًا وهو حسير… فلما هِمْتُ في تلك البيداء ناداني منادي الهدي الحقيقي: (هلمّ الشرف والكمال، ودع نجاة ابن سينا الموهمة إلى النجاة الحقيقية، وما ذلك إلا بأن تكون على ما كان عليه السلف الكرام من الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان…) فهنالك هَدأَ روعي، وجعلت عقيدتي كتاب الله، أكِلُ علم صفاته إليه بلا تجسيم ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل، وانجلى على ما كان على قلبي من رَيْن أورثَته قواعدُ أرسطوطاليس، وقلت ما كان إلا من النظر في تلك الوساوس والبدع والدسائس… إن مَن اتبع هواه هام في كل وادٍ، ولم يبالِ بأي شِعب سلك، ولا بأي طريق هلك”([2]).
ويقول ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻧﺎﺻﺮ ﺍﻟﻌﺠﻤﻲ ﻣﺘﺤﺪﺛًﺎ ﻋﻦ ﻋﻘﻴﺪﺓ ﺍﺑﻦ ﺑﺪﺭﺍﻥ: “ﻭﺣﺪﺛﻨﻲ ﺍﻷﺩﻳﺐ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻋﻠﻲ ﺍﻟﻄﻨﻄﺎﻭﻱ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺳﺄﻟﺘﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻼَّﻣﺔ ﺍﺑﻦ ﺑﺪﺭﺍﻥ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻮﻫﺎﺑﻴﺔ ﺗُﻌَﺪُّ ﺗُﻬﻤﺔ ﺧﻄﻴﺮﺓ ﻣﺨﻴﻔﺔ، ﻭﻛﺎﻧﻮﺍ ﻳﺤﺬِّﺭﻭﻧﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺑﻬﻢ، ﻓﻮﻗﻔﺖ ﻣﺮﺓ ﻓﻲ ﺣﻠﻘﺔ ﺍﺑﻦ ﺑﺪﺭﺍﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺤﻨﺒﻠﻲ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻑ، ﻭﻛﺎﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻃﻼﺏ ﻳﻤﺮُّﻭﻥ ﻓﻲ ﺍﻷﺳﻮﺍﻕ، ﻓﺮﺃﻭﻧﻲ ﻓﻲ ﺣﻠﻘﺔ ﺍﺑﻦ ﺑﺪﺭﺍﻥ ﻭﻗﺪَّﻣﻮﺍ ﻓﻲَّ تقريرًا ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺸﺎﻳﺦ، ﻓﻀُﺮﺑﺖ (ﻓﻠﻘﺔ) في رجلي”([3]).
وكذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب (أضواء البيان) الذي كان يحفظ من هذه العلوم ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، ومع حمله هذه الأحمال الثقال من العلوم ترك مذهب متكلمي الأشاعرة، ووافق مذهب السلف، فليت شعري، أين كان هذا العلم “الصناعي” الذي عصمه من ذاك الانحراف المزعوم؟!
وكذلك العلامة حماد الأنصاري -أحد مسندي العصر- محفوظاته في النحو والبلاغة والأصول وشيوخه يتجاوزون الحصر، ومن محفوظاته الكافية لابن مالك -وهي المنظومة الأم التي اختصر ابن مالك الألفية منها- ويحفظ ألفية السيوطي، وجمع الجوامع للتاج السبكي، والمعلقات، وديوان المتنبي وأبي تمام، والصناعتين، وغيرها من كتب اللغة والأدب.
وقل مثله في العلامة محمد سالم ولد عدّود الذي يحفظ قواميس اللغة كأنها بين عينيه يأخذ منها ويدع، كما يحفظ من كتب الأصول ما لو اجتمع المخالفون ما بلغوا مدّه ولا نصيفَه، وكذا قل في شيخه بدّاه البوصيري الشنقيطي أضعافه وأضعافه.
وكذلك العلامة محمد رشاد سالم، الفيلسوف المُتكلم الأصولي، ومدقق التراث الكلامي لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي حقق جملة من تراث ابن تيمية بإشارة من شيخ العربية محمود شاكر.
ومما يدل على فساد تلك الفكرة أيضًا أن العلامة محمد خليل هراس كان متكلمًا أشعريًّا، ودرس في نفس المنظومة العلمية الأزهرية، وظل إلى قُبيل مرحلة الدكتوراه وهو على المذهب الأشعري. بل كان رحمه الله متخصصَا في علم (الفلسفة والمنطق) أي: في أخصِّ علم يدَّعي المخالفون جهل أهل السنة به، وأنه يعصم الإنسان من ترَّهات الوهابية.
ومن هؤلاء أيضًا العلامة علي الطنطاوي، الذي يحكي قصة تركه مذهب الأشاعرة على يد العلامة بهجت البيطار، قائلًا: “ﻟﻘﺪ ﻭﺟﺪﺕ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺳﻤﻌﻪ ﻣﻨﻪ ﻳﺼﺪﻡ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﺸﺄﺕ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻘﺪ ﻛﻨﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﺮَّﺭﻩ ﺍﻷﺷﺎﻋﺮﺓ ﻭﺍﻟﻤﺎﺗﺮﻳﺪﻳﺔ، ﻭﻫﻮ ﺷﻲﺀ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻓﻲ ﺗﺜﺒﻴﺖ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺐ ﺃﻭ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻛﻨﺖ ﻣﻮﻗﻨًﺎ ﺑﻤﺎ ﺃﻟﻘﻮﻩ ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻭﻫﻮ ﺃﻥ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺴﻠﻒ ﻓﻲ ﺗﻮﺣﻴﺪ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺃﺳﻠﻢ، ﻭﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺨﻠﻒ ﺃﺣﻜﻢ، ﻓﺠﺎﺀ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺑﻬﺠت ﻳﻘﻮﻝ: (إﻥ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻠﻒ ﻫﻮ ﺍﻷﺳﻠﻢ، ﻭﻫﻮ ﺍﻷﺣﻜﻢ)، ﻭﻛﻨﺖ ﻧﺸﺄﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻔﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﻬﺮﺏ ﻣﻨﻪ، ﺑﻞ ﺑﻐﻀﻪ، ﻓﺠﺎﺀ ﻳُﻌﻈِّﻤﻪ ﻟﻲ، ﻭﻳُﺤﺒِّﺒﻪ ﺇﻟﻲَّ، ﻭﻛﻨﺖ ﺣﻨﻔﻴًّﺎ ﻣُﺘﻌﺼِّﺒًﺎ ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ ﺍﻟﺤﻨﻔﻲ، ﻭﻫﻮ ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺃﺟﺎﻭﺯ ﺣﺪﻭﺩ ﺍﻟﺘﻌﺼُّﺐ ﺍﻟﻤﺬﻫﺒﻲ، ﻭﺃﻥ أﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻟﻴﻞ، ﻻ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ… ﻭﺗﺄﺛَّﺮﺕ ﺑﻪ، ﻭﺫﻫﺒﺖ ﻣﻊ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻣﻘﺘﻨﻌًﺎ ﺑﻪ ﺑﻌﺪ ﻋﺸﺮﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻠﺴﺎﺕ ﻭﺍﻟﺴﻬﺮﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﺩﻻﺕ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮﺍﺕ، أنا باندفاعي وحماستي وعنفي، والشيخ بهجت بسعة صدره وطول أناته، وغزير علمه وقوة حُجته، ولقد عرضت في الجزء الأول من كتابي عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلى ما مرَّ علي من أدوار: كيف نشأت مُقلِّدًا مؤولًا كارهًا لابن تيمية، ثم أثر فيَّ الشيخ بهجت، فغدوت سلفيَّ العقيدة مُتمسِّكًا بالدليل”([4]).
وليس المقام مقام سرد العلماء الذين عادوا إلى مذهب السلف، فلو رحنا نجمع تراجم هؤلاء -ومن هم في معناهم- لبلغوا عددا صالحًا.
والمقام هنا للتمثيل والإشارة لمن درس العلم الصناعي على طريقة المتأخرين، وحسبُك من القلادة ما أحاط بالعنق.
ثانيًا: نماذج لجهود علماء السلفية في المساق الكلامي والمنطقي:
لم يكن علماء السلفية وزعماء الإصلاح في القرن السابق بمعزلٍ عن علوم المنطق والكلام، بل تمكّنهم من هذه العلوم وقتئذٍ هو سبب تركهم لمذاهب المتكلمين وتبصُّرهم بخللها وبطلانها، وكان سببًا في رجوعهم إلى مذهب أهل السنة، ولعلماء السلفية مُشاركات وإسهامات جليلة في هذين العلمين، سنذكر أمثلةً منها بعد قليل، ولكن قبل ذكر ذلك ينبغي أن نعرف موضع هذين العلمين من علوم الشريعة، وهل هما من العلوم الأساسية أو بمنزلة الواجب تعلمه؟
ثم ينبغي أن نقرر على الفور ودون مواربة أن العلم تخصصات، ولا تثريب على من تخصص في بعض جوانب الشريعة دون بعضها، فقد لا يُجيد الفقيه علم الحديث ويُقلد فيه، وهذا حاصلٌ في جميع المدارس لا اختصاص للسلفية فيه، فقد تجد من هو رأس في الفقه والفتوى وليس له مُشاركة في غيره من العلوم، ومن تأمل المشاهير وكبار علماء الأزهر كالشيخ الشعراوي والشيخ عطية صقر والشيخ جاد الحق وغيرهم الكثير -رحمهم الله- لن يجدهم قد برزوا إلا في الوعظ والدعوة أو الفقه والفتوى، كغيرهم من المدارس، ولم يكن هذا مطعنًا فيهم بحال.
بل إن الطوفي الحنبلي -وهو من فحول الأصوليين- صرَّح أنه لا يُجيد (علم المنطق)، ولم يمنعه ذلك أن يكون رأسًا في أصول الفقه، يقول الطوفي وهو يُعدد أسباب إهماله المقدمة المنطقية: “والثالث: وهو المعول عليه: أني أنا لا أحقق ذلك العلم، ولا الشيخ أبو محمد كان يحققه [يعني: ابن قدامة]، فلو اختصرتها لظهر بيان التكليف عليها من الجهتين”([5]).
- جهود العلامة محمد رشاد سالم:
بناءً على هذه النظرة الوسطيَّة لأهل السنة كان لأهل العلم مشاركات جليلة حيال هذه العلوم، ومن ذلك: جهود العلامة السلفي محمد رشاد سالم -أستاذ الفلسفة والمنطق- فقد بلغ فيها شأوًا عاليا، فقد أخرج التراث الكلامي لشيخ الإسلام ابن تيمية من غياهب المخطوطات، فقام بدراسته وتدقيقه وإخراجه في حُلل قشيبة، فبدأ بمنهاج السنة النبوية، ثم أخرج بقية التراث الكلامي كنقض التأسيس وغيره.
يقول الأستاذ محمود الطناحي: “وكان مما جرى في تلك الأيام أن الأستاذ الدكتور طه حسين رحمه الله كان معنيا بإخراج كتاب (المغني في أبواب التوحيد والعدل) للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي. وهذا الكتاب من أصول المعتزلة، وهو كتاب كبير، وقد حصل الدكتور طه حسين على عون من وزارة الأوقاف المصرية لطبع الكتاب، وكان وزير الأوقاف وقتئذ الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري، وكان من أودَّاء الأستاذ محمود محمد شاكر، ومن ملازمي مجلسه، فكلمه الأستاذ محمود على طريقته إذا تحمس لشيء وآمن به، وقال له: ما ينبغي أن تعين وزارة الأوقاف على نشر تراث المعتزلة، ولا يكون لها إسهامٌ في نشر كتب السلف، فوافق الشيخ الباقوري على ما أراد شيخنا، وأعانت الوزارة دار العروبة في نشر كتاب (منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وصدر منه جزءان بتحقيق الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم”([6]).
- جهود العالم الكبير محمد خليل هراس:
ومن جهود السلفيين أيضًا في هذه العلوم: جهود العالم الكبير محمد خليل هراس، وقد كان مُتخصصًا في علم المنطق بجامعة الأزهر، وكتب أفضل مدخل للتراث الكلامي التيّمي هو كتاب (ابن تيمية السلفي ونقده لمسالك المتكلمين والفلاسفة في الإلهيات) حاز به الدكتوراه من الأزهر الشريف، وتعرَّض لجُل المباحث الكلامية، وناقش المتكلمين والمناطقة من واقع كتبهم، مع بيان أطروحة ابن تيمية الإصلاحية.
- جهود الأستاذ السلفي الكبير مصطفى حلمي:
ومن الجهود الحثيثة في علم الفلسفة والمنطق كتاب الدكتور الكبير مصطفى حلمي: (الإسلام والمذاهب الفلسفية.. نحو منهج لدراسة الفلسفة الإسلامية)، وهو كتاب ضخمٌ مُستوعب في بابه، أراد به الاستيعاب والسبر مع الشرح الدقيق لأهم أفكار الفلسفة والمنطق، ناقش فيه تاريخ الفلسفة وأفكارها منذ عصر اليونان، ثم انتقل إلى (العصر الأوروبي الوسيط) وهي فترة اندماج الفلسفة بالدين المسيحي، ثم ناقش أهم المذاهب كالمذهب المادي والمذهب الروحي والمذهب الاجتماعي، ثم انتقل إلى الفلسفة في (العصر الحديث) ناقش فيها أسباب توجه الغرب إلى الاعتناء بالفلسفة مُناقشًا بعد ذلك صلة الدين بالعلم، ورؤية فلاسفة النهضة الحديثة مثل ديكارت وكانط وجان جاك روسو. ثم انتقل الدكتور مصطفى إلى علم الكلام عند المسلمين، و(نقد الفلسفة اليونانية من منظور إسلامي)، لا سيما عند شيخ الإسلام ابن تيمية، مثل مسألة حدوث العالم، ونقد كلام أرسطو أتباعه، وقضية القياس العقلي في الغيبيات، ونظرية التولد عند الفلاسفة، ونظرية الصدور وغيرها.
ثالثًا: مواقف لعلماء السلفية تدل على القوة والرسوخ العلمي:
من المواقف التي تدل على قوة علماء السلفية ورسوخهم العلمي والأصولي وقوة حجتهم في المناظرة ما حصل بين الشيخين عبد القادر التلمساني وأحمد بن عيسى النجدي رحمهما الله، والشيخ عبد القادر التلمساني كان صوفيًّا أشعريًّا في أول أمره، ثم ناقشه العلامة ابن عيسى -شارح نونية ابن القيم-، وتباحث معه طلبًا للوصول إلى الحقيقة، واقتنع العلامة التلمساني في آخر الأمر.
وذكر ذلك الشيخ المؤرخ البسَّام في ترجمة أحمد بن عيسى النجدي نقلًا عن الشيخ محمد حسين نصيف رحمه الله، قال: “كان الشيخ أحمد بن عيسى يشتري الأقمشة من الشيخ عبد القادر بن مصطفى التلمساني -أحد تجَّار جُدة- بمبلغ ألف جنيه ذهبًا، فيدفع له منها أربعمائة ويقسّط عليه الباقي، وآخر قسط يحل يستلمه الشيخ التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام، ثم يبتدئون من أول العام بعقد جديد.
وكان الكفيل للشيخ أحمد بن عيسى هو الشيخ مبارك المساعد من موالي آل بسَّام، وكان صاحب تجارة كبيرة في جدة، ودام التعامل بينهما زمنًا طويلًا، وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدَّد لا يتخلَّف عنه ولا يماطل في أداء الحق، فقال له الشيخ عبدالقادر: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عامًّا، فما وجدت أحسن من التعامل معك يا وهَّابي، فيظهر أن ما يُشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين.
فسأله الشيخ أحمد أن يبين له هذه الشائعات، فقال: إنهم يقولون: إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحبونه، فأجابه الشيخ أحمد بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم، إن عقيدتنا ومذهبنا أن مَن لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فصلاته باطلة، ومَن لا يحبه فهو كافر، وإنما الذي ننكره نحن -أهل نجد- هو الغلو الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كما ننكر الاستعانة، والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده.
يقول الشيخ الراوي عن محمد نصيف عن الشيخ عبدالقادر التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام، حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية، وأما توحيد الأسماء والصفات الذي قرأته في الجامع الأزهر، فهو عقيدة الأشاعرة وكتب الكلام مثل السنوسية وأمّ البراهين وشرح الجوهرة وغيرها.
فلهذا دام النقاش فيه بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يومًا، بعدها اعتنقت مذهب السلف، وصرت آخذ التوحيد من منابعه الأصيلة الكتاب والسنة وأتباعهما من كتب السلف، فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى.
ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف، فطبع منها النونية لابن القيم، والصارم المنكي لابن عبد الهادي، والاستعاذة من الشيطان الرجيم لابن مفلح، والمؤمّل إلى الرد الأول لأبي شامة، وغاية الأماني في الردّ على النبهاني للآلوسي وغيرها، وصار التلمساني من دعاة عقيدة السلف. قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبد القادر التلمساني، فالحمد لله على توفيقه”([7]).
والفائدة من القصة السابقة أن فيها دلالة على أن علماء السلفية لم يكونوا سطحيين كما يُشيع عنهم خصومهم، بل لديهم من القوة العلمية والمادة الأصولية الاستدلالية ما يُمكنهم من نقاش الفحول، فإن عالمًا كبيرًا في حجم التلمساني لو وجد ابن عيسى النجدي سطحيًّا وخلوًا من الجانب العلمي لما عاد من أشعريته إلى مذهب السلف.
أيضًا ممن اهتدى إلى مذهب السلف من خلال نقاشه مع العلامة ابن عيسى: العلامة الأصولي أبو بكر خوقير -صاحب المُختصر الشهير في مذهب الحنابلة المعروف بمختصر خوقير، وقد كان تلميذًا للشيخ أحمد زيني دحلان شيخ الشافعية في مكة، وأكبر مناوئ للسلفية في زمنه، ثم عند زيارته للرياض لقي العلامة أحمد بن عيسى النجدي قاضي الحنابلة، وحصلت بينهما مناقشة علمية، واهتدى على إثرها إلى مذهب السلف، وسُجن بسبب ذلك وأوذي وعزله شريف مكة من منصبه.
ولما رأوا تمسكه بعقيدته عقيدة التوحيد الخالص ورأوا ثباته في دعوته أمروا بالقبض عليه وسجنه مع المجرمين في غرفة وحده سنة ١٣٣٩هـ، فسجن دون تحقيق أو حكم، وظل في سجنه إلى أن دخل الملك عبد العزيز رحمه الله مكة المكرمة، فأفرج عنه مع كثير من السجناء المظلومين.
يقول عمر عبد الجبار في ترجمته للشيخ أبي بكر ما نصه: لقد شاهدت الشيخ أبا بكر أثناء دخولي السجن في غرفته بملابس رثة، وقد طال شعر رأسه ولحيته إذ لا يسمح لسجين باستعمال مقص أو موس، فسلمت عليه فرد السلام وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ولي أسوة بإمامنا أحمد بن حنبل. وظل رحمه الله في السجن إلى أن أفرج عنه مع بقية المسجونين جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، وذلك بعد دخول القوات السعودية إلى مكة سنة ١٣٤٢هـ([8]).
قال أبو بكر خوقير المكي مادحًا الوهابية: “ومن نظر في كتبهم -أي الوهابية- عرف ما يفتريه الناس في حقهم، وأن مرجعهم في الأحكام والاعتقاد إلى كتب السنة والتفسير، ومذهب الإمام أحمد، وطريقة الشيخين: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فلهما الفضل على جميع الناس في هذا الباب، كما يعترف بذلك أولو الألباب، وهذه كتبهما قد نشرها الطبع، فنطقت بالحق، وقبِلَها الطبع. فمن أراد الاحتياط ورام التحري والوقوف على الحقيقة فلينظر فيها، وفي كلام من انتقد عليهما من المعاصرين لهما، وليحاكم بينهم بما وصل إليه من الدليل المحسوس والبرهان، وما صدّقه الضمير والوجدان، فإن الزمان قد ارتقى بالإنسان كما يقتضيه الرقي الطبيعي، فمزق عنه حجب الاستبداد، وفك عنه قيود الاستعباد، ورجع به إلى الحكم بما في الصدر الأول والطبع العربي، ولقد تنازل في المحاكمة من يحاكم إلى غير الأقران والمعاصرين في الزمان”([9]).
رابعًا: نظرة بعض المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية لعلم المنطق والكلام:
كان من المُرتَّب ذكره في هذا المقام هو أن نذكر ذم السلف والأئمة لعلم الكلام ومنطق اليونان، وهي البداية التي يُفترض أن نبدأ بها، لكن تجاوزًا واختصارًا سنتخطى كلامهم هذه المرة؛ وذلك لأن ذمهم لعلم الكلام معروفٌ مشهور لا يجهله المخالف، فرأيت من اللائق في هذا المقام ذكر ما قرره بعض العلماء المُتأخرين؛ وذلك لأن المُخالفين لا يعتدون إلا بهم.
قال الشيخ عليش المالكي في بداية باب الجهاد: “وما ذَكَرَهَ من توقُّفِ العقائد عليه (أي: المنطق) وتوقف إقامة الدين عليها (أي: دراسة المنطق) غيرُ صحيحٍ، وقد قال الغزالي في الإحياء: ذهب مالك والشافعي وأحمد وجميع أهل الحديث من السلف -رضي الله تعالى عنهم- إلى أن علم الكلام والجدل بدعةٌ وحرامٌ، وأن العبد أن يلقى الله بكل ذنب خير من أن يلقاه بعلم الكلام”.
ويُتابع الشيخ عليش تعليقًا: “ونهى عن قراءة المنطق الباجي وابن العربي وعياض. وقال الشاطبي في الموافقات في القضايا الشرعية: إن علم المنطق مناف لها، لأن الشريعة لم توضع إلا على الشريعة الأمية اهـ. وقال في الإحياء: معرفة الله سبحانه وتعالى لا تحصل من علم الكلام، بل يكاد الكلام يكون حجابا عنها ومانعا منها. وقال أيضا: ليس عند المُتكلم من عقائد الدين إلا العقيدة التي يُشارك فيها العوام، وإنما يتميَّز عنهم بصنعة المُجادلة.. وحينئذ فإن لم يكن المنطق منهيًّا عنه فلا أقل أن يكون جائزا كما اختاره ابن السبكي وغيره. وأما الوجوب فلا سبيل إليه والله أعلم”([10]).
ويقول ابن حجر الهيتمي: “فيتعين على الولاة منع من يشهر علم الكلام بين العامة لقصور أفهامهم عنه، ولأنه يؤدي بهم إلى الزيغ والضلال، وأمر الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه إذ هو بين واضح يدرك ببداهة العقل كما مر، ثم يتعلم أحكام العبادات والعقود التي كلفوها على ما هو مبين في الفروع… -إلى أن قال:- لأن من اشتغل بعلم الكلام ومقدماته قبل اشتغاله بمعرفة ما كلف به من العبادات وغيرها يجلس مدة ذلك وهو لم يصل ولم يصم ولا حج، وقد لا يتم له تعلم الكلام ومقدماته إلا بعد الزمن الطويل، فيمرق من الدين ويخرج من جملة المسلمين، أعاذنا الله من الشيطان الرجيم، ولا نكب بنا عن المنهج المستقيم برحمته، إنه منعم كريم، وأدام علينا الاستمساك بما جرى عليه السلف وانتهجه صالحو الخلف آمين.
[فائدة]: زعم بعضهم أنه يقرب مما حكى عن البعض المذكور في السؤال قول الإمام في (الإرشاد): أول ما يجب على البالغ العاقل باستكماله سن البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم. انتهى.
وليس ذلك الزعم في محله، إذ ما قاله لا خلاف فيه فلم يحصره في تعلم القوانين الكلامية التي الكلام فيها.
نعم، الذي يقرب من ذلك إنما هو قول الباقلاني: يلزم ذكر حدوث العالم وأدلة إثبات الأعراض وامتناع خلو الجواهر عنها وإبطال حوادث لا أول لها، وأدلة العلم بالصانع وما يجب له تعالى وما يستحيل عليه وما يجوز له، وأدلة المعجزة وصحة الرسالة، ثم الطرق التي وصلنا بها إلى التكليف. انتهى. ولقربه من ذلك قيل عليه: إنه هفوة من القاضي. قال المازري: أردت اتباعه فرأيت في نومي كأني أخوض بحرا من ظلام، فقلت: هذه مزلة الباقلاني. قال البرزلي: سألت شيخنا عن قول المازري: هل أراد الانتقاد عليه أو الأخذ به؟ فقال: الأول، وهو يستلزم الثاني لأنه خوض فيما لا يعني، ويحتمل أن تكون هذه واجبة مع الإمكان، فليست بشرط في وجوب الأحكام، فلا يمنع وجوبها مع فقدها ما ذكر. انتهى. والذي صرح به أئمتنا أنه يجب على كل أحد وجوبًا عينيًا أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين أهل الكلام”([11]).
ويقول جلال الدين السيوطي: “كنت قديما في سنة سبع أو ثمان وستين وثمانمائة ألفت كتابا في تحريم الاشتغال بفن المنطق، سميته (القول المشرق)، ضمنته نقول أئمة الإسلام في ذمه وتحريمه، وذكرت فيه أن شيخ الإسلام أحد المجتهدين تقي الدين ابن تيمية ألف كتابًا في نقض قواعده، ولم أكن إذ ذاك وقفت عليه، ومضى على ذلك عشرون سنة، فلما كان في هذا العام وتحدثت بما أنعم الله به علي من الوصول إلى رتبة الاجتهاد ذكر ذاكر أن من شروط الاجتهاد معرفة فن المنطق، يعني وقد فقد هذا الشرط عندي بزعمه. وما شعر المسكين أني أحسنه أكثر ممن يدعيه ويناضل عليه، وأعرف أصول قواعده، وما بنيت عليه وما يتولد منها معرفة ما وصل إليها شيوخ المناطقة الآن -إلا شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجى فقط- فطلبت كتاب ابن تيمية، حتى وقفت عليه فرأيته سماه: (نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان) وأحسن فيه القول ما شاء من نقض قواعده قاعدة قاعدة وبيان فساد أصولها. فلخصته في تأليف لطيف سميته: (جهد القريحة في تجريد النصيحة)، ثم إن كثيرًا من المخبطين الذين هم عن تحقيق العلم بمعزل لهجوا بأن يقولوا: ما الدليل على تحريمه؟ وما مستند ابن الصلاح في إفتائه بذلك؟ ونحو ذلك من العبارات. والعجب أنهم يناضلون عن المنطق ولا يتقنونه، ويدأبون فيه وفي أبحاثهم لا يستعملونه، فيخبطون فيه خبط عشواء، ولا يهتدون عند المناظرة والاستدلال إلا عمياء. ولقد اجتمع بي بعض من قطع عمره في المنطق، فرأى قول ابن الصلاح في فتاويه: وليس الاشتغال بتعلمه وتعليمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، فقال: هذه شهادة على نفي فلا تقبل. فقلت: يا سبحان الله! لا طريق أهل الشرع سلكتم، ولا طريق أهل المنطق اعتمدتم”([12]).
وقال الشيخ شهاب الدين المرجاني الحنفي في حاشيته على شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني: “ولعمري إنك لو فتشت عن كل صناعة صادفته علمًا وافيًا بمقصوده، بخلاف الكلام، فإنه فنٌّ ضائع، لا يقوم بحاصل، ولا يعود إلى صاحبه بطائل، وإنما هو صناعة جدل وضعها المعتزلة، بعدما طالعوا كتب الفلاسفة، حين فُسِّرت في خلافة المأمون، وأفردوه فنًّا بحياله، وخلطوا مناهجها بمناهجه، وتوارثه الأشعرية منهم، وجَرَوا على إثرهم.
وإنما سمّوه بهذا الاسم إما لأنه صناعة جدل ومناظرة على البدع بعد فرض المسائل الصحيحة من الشرع، وليست براجعة إلى عمل واعتقاد، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق، وإما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي به النوع، ثم أخذوا بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا فيه قبل فهمها والاطلاع عن كنهها، وأحدثوا في الدين ما ليس هو منه، فلهجوا به، وشوَّشوا عقيدة الحق على أهله، وأيم الله ليس مدار أمرهم إلا على إنكار الحق والعيان، ومخاصمة الضرورة والبرهان، تبًّا لمعرفتهم، وتَعسًا لفلسفتهم!
وأما علم التوحيد والصفات الذي هو أصل الواجبات وأساس المشروعات الموسوم بالفقه الأكبر، وعلم أصول الدين والعقائد، فهو ما ورد به الوحي ونطق به الكتاب والسنة، الباحث عن رأس الأمر ومِلاكه، ومبنى أحكام الشرع ومداره، الذي فاقده أضل من النعم، ولا يغني عنه أسفار الحكم، وإن بذَّ فيها الحكماء، أو حكَّ بيافوخه السماء”([13]).
ومما سبق يتبيَّن أنَّ: هذا العلم عند متأخري الأشعرية يدور بين التحريم والإباحة، حتى عند أساطينه، وخصوه لمن يريد الاستزادة وقطع دابر الخصوم، ولم يجعله أحدٌ منهم في مقام الوجوب على العالم فضلًا على طلاب العلم.
إذن فالدعوة المُعاصرة الذائعة عند بعض طلاب العلم في إلزام المُتعلم تعلم المنطق والكلام -وإلا ما فهم الشريعة- هي نغمة غريبة عن المساق العلمي، لم يسبقهم إليها أحد من فقهاء المسلمين.
حتى سمعنا بعض الشباب المُعاصر ممن فُتنوا بهذا العلم يقول: “إذا رأيت شيخًا متصدرًا لتعليم الناس وهو لا يُتقن علم المنطق فلا تثق في علمه”. فليت شعري من أين أتى المُتهوِّك بهذا القول العجيب الذي يلزم منه إهدار جماهير أهل العلم قديمًا وحديثًا -إلا ثلة قليلة منهم-، فضلًا عن إهدار السلف والأئمة الأربعة وغيرهم.
ونحن نقول: إنما حصلت تلك الدعوات المعاصرة غالبًا لمَّا أحسّ بعض السلفيين بالهزيمة النفسية أمام الأشاعرة؛ لجهلهم بهذه العلوم وعدم فهمهم لبعض عبارات ابن تيمية، ومع خلو الساحة في رأيهم من شروحات كتب المنطق؛ فحصل لديهم ما يُمكن أن نُسميه: “عقدة نقصٍ”، فواجهوا هذا النقص الحاصل عندهم بدعوة مُضادة هجينة لم يسبقهم إليها أحد من علماء المسلمين.
والمقصود وضع علم الكلام والمنطق في موضعهما الصحيح دون إفراطٍ أو تفريط، وأن تحصيلهما ليس من الشروط الواجب توافرها في العالم، بل هي علوم تكميلية إضافية، وليس معنى ذلك أن علماء السلفية يُحرمون مطلق تعلُّم هذه العلوم، بل أجازوها للمتخصصين، بشرط وضعها في حجمها الصحيح كعلم بشري كسائر العلوم الإنسانية القابلة للنقد والفحص كالتاريخ وعلم الاجتماع وغير ذلك، بل إن أهل السنة لا يُحرِّمون دراسة كتب اليهود والنصارى والفلسفات الغربية، فكيف بغيرها؟!
وإنما وجه المخالفة بينهم وبين أهل البدع: في نظرتهم إلى هذا العلم، فهم يضعونه في موضعه الصحيح، ولا يجعلون حوله هالة قُدسيَة، أو يسمون علم الكلام علمًا شريفًا -كما يُسميه غلاة المتكلمين- أو يجعلونه قواطع عقلية ومعيارًا للحق يُحاكم إليه الكتاب والسُنة، كما لا يفرضونه على العالم فضلًا على طالب العلم.
يقول الدكتور عبد الكريم الخضير حفظه الله تعالى: “فوصيتي لطلاب العلم عامة ألا ينظروا في علم الكلام، إلا إذا احتيج إلى الرد في مسائل جدت لم يتعرض لها شيخ الإسلام وغيره من العلماء، فالمذاهب لم تنقرض، ولكل قوم وارث، وكل يوم يظهر شخص برأي يلحق، إما برأي الجهمية، أو برأي المعتزلة، أو غير ذلك.
ومن طلبة العلم غير المتأهلين من يتكايس ويزعم أن من دلائل قوّة البحث والباحث رد كل قول إلى مصادره الأصلية، وأن هذا من باب التحقيق العلمي.
وفي هذا خطر عظيم.
ولما أتى عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه عليه غضب صلى الله عليه وسلم، وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب). يعني: هل أنت بحاجة إلى أن تنظر في هذا؟ إذ لم يكن أحد يروج للديانة اليهودية، فيحتاج أن ينظر في كتبهم ليرد عليها خاصة، مع وجود المعصوم المؤيد بالوحي بين أيديهم، ومن ثمّ زجره النبي صلى الله عليه وسلم.
والسخاوي له كتاب أسماه (الأصل الأصيل في تحريم النظر في التوراة والإنجيل)، ومقصوده التوراة والإنجيل المحرّفة التي بأيدي اليهود والنصارى، فينبغي لطالب العلم أن يكون على حذر تام من النظر في كتبهم”([14]).
والحاصل: أن ذم هذا الصنيع وعدم الأخذ به قاله جماعة كبيرة من أهل العلم، وكذا عدم التوسع في كتب المطولات الأصولية والاكتفاء بالمختصرات والمتوسطات التي خلت من المنطق والكلام هو رأي معتبر قطعًا، ولا ينبغي أن يذم الآخذ به.
ويُمكن تلخيص ما سبق كله فيما يلي:
إن دعوى افتقار علماء السلفية للجانب العلمي أو جهلهم بالعلم المدرسي الصناعي عند المتأخرين أمرٌ غير صحيح، ويُكذبه التاريخ الفكري والعقدي للمدرسة السلفية ومشاركاتها الجليلة في النهضة التراثية في القرن السابق، ومن الخلل الظاهر اختزال السلفية في تصرفات العوام في حقبة ما، وتقييم المنهج السلفي من خلالهم.
نعم، كان هناك نوع خلل في التجليات العلمية عند بعض الحركيين الذين انتهجوا النهج الوعظي والحركي في فترة الثمانينات والتسعينات، ثم أصبحوا دعاةً ورموزًا بعد ذلك عند العوام -وقد خلت هذه الصحوة من التأصيل العلمي المدرسي إلا في تقليد بعض الفتاوى المُنتقاة- وهذا أمر صحيح لا ننكره، وهو حاصل وزيادة في سائر التوجهات، والفقر النسبي عند العامة والوعاظ أمرٌ لا يختص به السلفيون فحسب، بل هو عام عند سائر التيارات.
لكن ذاك الخلل لا يحسب على علماء السلفية، الذين لم يكونوا سببًا فيه، بل كان الابتعاد عنهم هو السبب في التقصير في طلب العلم([15]).
لكن بحسب قواعد النقد الفكري يجب أن تسير وفق مبدأ: “دع المناهج تتحدث”. فالمنهج العلمي عند الرموز الكبار والمُنظِّرين عبر التاريخ هو الذي يعوَّل عليه. والله أعلم.
وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مشاهير علماء نجد وغيرهم (ص: 60).
([2]) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (ص: 42-43).
([3]) ﻋﻼﻣﺔ ﺍﻟﺸﺎﻡ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ ﺑﻦ ﺑﺪﺭﺍﻥ (ﺹ: ٢٢).
([4]) رجال من التاريخ (ص: 171)، وينظر في الملحوظات على بعض كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: كتاب الطنطاوي في الميزان.
([5]) شرح مختصر الروضة (1/ 83).
([6]) مدخل إلى نشر التراث (ص: 153).
([7]) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 438).
([8]) مشاهير علماء نجد وغيرهم للبسَّام، نقلًا عن ترجمة ابن خوقير للشيخ عمر عبد الجبار (1/ 302).
([9]) فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال (ص: 69-70).
([10]) منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 63).
([11]) الفتاوى الحديثية (ص: 361).
([12]) صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام (ص: 7-8).
([13]) الحكمة البالغة الجنية في شرح العقائد الحنفية (ص:6-7)