الاثنين - 20 شوّال 1445 هـ - 29 ابريل 2024 م

كيفَ نُثبِّتُ السُّنة النبويَّة ونحتَجُّ بها وهي ظَنِّيَّة؟!

A A

من الشُّبهات التي أثارها المنكِرون للسنةِ النبويةِ شبهةٌ حاصلُها: أنَّ السُّنةَ النبويَّة ظنيَّةٌ، فكيف نقبلُ بهَا ونعُدُّها مَصدرًا للتشريع؟!

واستنَدُوا في ذلك إلى بعضِ الآيات القرآنية التي أساؤُوا فهمَهَا، أو عبَثُوا بدلالتها عمدًا، لكي يوهموا الناس بما يقولون، من تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] يعنون أن الله ذمَّ الذين يتَّبعون الظن، والسنةُ ظنٌّ، ومنها قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] يعنون من هذه الآية أن الله ذم من يتبع الظنَّ، ثم قضى بأنَّ الظن لا يغني عن الحقّ شيئًا، ويرتّبون على هذا أن من يتبع السنة -وهي ظن- مذموم عند الله، وهو على باطل في مَسعاه.

قالوا: فكيف تكون السنة مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي وهذا هو حالها ومنزلتها؟!([1]).

ويتبيَّنُ الجوابُ عن سؤال ظنيَّةِ السُّنَّة على جهة التفصيل من خلال النقاط الآتية:

أولًا: السُّنَّةُ النبويةُ تشتمِل على المتواتر، وعلى المتلقَّى بالقبول، وكلاهما يفيدُ العلم اليقينيّ:

فنحن لا نُسلِّمُ أنَّ النصوص الدالَّةَ على ما تحتاجُ إليه الأمَّة في شؤون عقائدها ومعاملاتِها وعباداتها قدِ اختلف المُحدِّثون فيها تصحيحًا وتضعيفًا، بل أهلُ الحديث يُجمِعون على تصحيح أحاديث تواترت عندهم، كأحاديثِ سجودِ السهو، ووجوب الشُّفعة، وحَملِ العاقلةِ العقْلَ، ورجمِ الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية، وعذابِ القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك، وإن لم تكن تلك الأحاديثُ قد تواترت عند غيرهم. فهذه الأحاديثُ كلها قطعيَّةٌ تفيد العلم.

قال ابن تيمية: (ولهذا كان التواتر ينقسِم إلى عامٍّ وخاصٍّ، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة، كسجود السَّهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية، وعذاب القبر، والحوض، والشفاعة، وأمثال ذلك. وإذا كان الخبرُ قد تواترَ عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصِدقِه لقوم دون قوم، فمن حصل له العلمُ به وجبَ عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجبُ ذلِكَ في نظائِرِه، ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يُسلِّم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحَّتِه، كما على الناس أن يسلِّموا الأحكام المُجمَعَ عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم، فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم، إذ غير العالم لا يكون له قول وإنما القول للعالم، فكما أن من لا يعرف أدلَّةَ الأحكام لا يُعتَدُّ بقولِه؛ فمن لا يعرف طُرُقَ العلمِ بصحة الحديث لا يُعتدُّ بقوله، بل على كل من ليس بعالمٍ أن يتَّبِع إجماعَ أهلِ العلم)([2]).

وكذلك الأخبار التي لم تبلغ درجةَ التواتر اللفظي ولا التواتر المعنوي، لكن الأمة تلقتها بالقبول، فإنها تفيد العلم، ولا يقال فيها: إنها ظنية؛ وذلك أنَّ تَلَقِّي الأمةِ للخبر بالقبول ينفي احتمالَ الخطأ والسهو والكذب على نقلةِ الخبر، للأدلة الدالة على عصمة هذه الأمة، وإذا انتفى احتمال الخطأ والسهو والكذب كان الخبرُ مفيدًا للعلم.

وجمهورُ الأحاديث الواردة في صحيح البخاري وصحيح مسلم هي أحاديثُ مُجمَعٌ على صحتِها، تلقَّتها الأمَّةُ بالقبول، وهي تُفيد العِلمَ، وليس ثبوتها ظنيًّا، لأن إجماعَ الأمَّةِ معصومٌ.

يقول أبو المظفر السمعاني رحمه الله: (قولهم: إنَّ أخبار الآحاد لا تُقبل فيما طريقه العلم، وهذا رأسُ شَغَب المُبتدعة في ردِّ الأخبار، وطلبِ الدَّليلِ من النَّظر والاعتبار. فنقول وبالله التوفيق: إن الخبر إذا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الثقاتُ والأئمة، وأسندُوه خلَفُهم عن سَلَفِهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقَّته الأمة بالقبول، فإنَّه يُوجِب العلم فيما سبيله العلم. وهذا قول عامّة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال، ولا بدّ من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدُهم منه ردَّ الأخبار، وتلقَّفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم علم في العلم وقدمٌ ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول. ولو أنصف الفِرَق من الأمة لأقرُّوا بأن خبر الواحد يوجب العلم، فإنهم تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدلُّ كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد)([3]).

وقال ابن تيمية: (والقسم الثاني من الأخبار: ما لم يَروِه إلّا الواحد العدلُ ونحوُه، ولم يتواتر لا لفظُه ولا معناهُ، ولكن تلقَّتْه الأمةُ بالقبول عملًا به أو تصديقًا له، كخبر أبي هريرة: «لا تُنكَحُ المرأةُ على عمَّتها، ولا على خالتها»([4]). فهذا يُفيد العلم اليقيني أيضًا عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين.

أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولةٌ في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل السرخسي، ومثل الشيخ أبي حامد وأبي الطيب وأبي إسحاق وغيرهم، ومثل القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وابن الزاغوني وغيرهم، ومثل القاضي عبد الوهاب وغيره. وكذلك أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية مثل أبي إسحاق الإسفراييني([5])، وأبي بكر بن فورك وغيرهما.

وإنما نازعَ في ذلك طائفةٌ كابن الباقلَّاني، وتبعَه مثلُ أبي المعالي والغزالي وابن عقيل وابن الجوزي ونحوهم.

وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القولَ الأول وصحَّحه، ولكنه لم يعرف مذاهبَ الناس فيه ليتقوَّى بِهَا، وإنما قاله بموجب الحجة.

وظنَّ من اعترضَ عليه من المشايخ الذين فيهم علمٌ ودين وليس لهم بهذا الباب خبرةٌ تامةٌ، لكنهم يرجعون إلى ما يجدونه في مختصر أبي عمرو بن الحاجب، ونحوه من مختصر أبي الحسن الآمدي، والمحصَّل ونحوهِ من كلام أبي عبد الله الرازي وأمثالِه، ظنُّوا أن الذي قاله الشيخ أبو عمرو في جمهور أحاديث الصحيحين قولٌ انفردَ به عن الجمهور، وليس كذلك، بل عامَّةُ أئمة الفقهاء وكثيرٌ من المتكلمين أو أكثرُهم وجميعُ علماء أهلِ الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو.

وليس كلُّ من وجدَ العلم قدرَ على التعبير عنه والاحتجاج له، فالعلمُ شيءٌ، وبيانه شيء آخر، والمناظرةُ عنه وإقامةُ دليله شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفِه شيء رابعٌ(([6]).

والمعترض على الإمام أبي عمرو ابن الصلاح هما الإمامان النوويّ والعز بن عبد السلام، وإنما لم يذكرهما شيخ الإسلام تأدُّبًا([7])، وكذلك أقرّهما الحافظ العراقي على اعتراضهما في نكته على ابن الصلاح.

يقول الحافظ ابن حجر: (فقول الشيخ محيي الدين النووي: “خالف ابنَ الصلاح المحققون والأكثرون” غَيرُ مُتَّجِه. بل تعقَّبَه شيخُنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح فقال: “هذا ممنوع، فقد نقل بعضُ الحفاظ المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول”. قلت: وكأنه عنى بهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فإني رأيت فيما حكاه عن بعض ثقات أصحابه ما ملخَّصه…)([8]). ثم أورد ملخَّص كلام الشيخ الذي ذكره في كتابه (مقدمة في أصول التفسير) في هذا الموضع([9]).

ولنَعُد إلى ما قالَه شيخ الإسلام في تقريره حجّة هذا القول بعد كلامه آنفِ الذكر: (والحجة على قول الجمهور أنَّ تلقِّي الأمة للخبر تصديقًا وعملًا إجماعٌ منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعتْ على عمومٍ أو أمرٍ أو مطلقٍ أو اسم حقيقةٍ أو على موجب قياس، بل كما لو اجتمعتْ على تركِ ظاهرٍ من القول، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان ذلك لو جرَّدَ الواحدُ إليه نظره لم يأمن على الخطأ، فإن العصمة ثبتتْ بالهيئة الاجتماعية، كما أن خبر التواتر كلٌّ من المخبرين يُجوِّز العقلُ عليه أن يكون كاذبًا أو مخطئًا، ولا يجوز ذلك إذا تواتر، فالأمة في روايتها ورأيها ورؤياها أيضًا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أرى رؤياكم قد تواطأتْ على أنها في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحرِّيَهَا فليتحرَّها في السبع الأواخر»([10]). فجعل تواطؤَ الرؤيا دليلًا على صحتها.

والواحِدُ في الرواة قد يجوز عليه الغلط، وكذلك الواحد في رأيه وفي رؤياه وكشفه، فإن المفردات في هذا الباب تكون ظنونًا بشروطها، فإذا قويتْ تكون علومًا، وإذا ضَعُفتْ تكون أوهامًا وخيالاتٍ فاسدة.

وأيضًا فلا يجُوزُ أن تكُونَ في نفس الأمر كَذِبًا على الله ورسولِه، وليس في الأمة من يُنكِره، إذ هو خلاف ما وصفه الله(([11]).

ثانيًا: ما اختلف فيه المُحدِّثون تصحيحًا وتضعيفًا له أسبابٌ علمية:

فنحن نعلم أنَّ لقبولِ الأحاديث وردِّها ضوابطَ وشروطًا، وهذه الشروطُ بعضُها متفقٌ عليه، وبعضُها مُختلَفٌ فيه، فالعلماءُ يختلِفون مثلًا في رواية المجهول، وفي رواية المُبتدِع، ورواية من يأخذُ أجرةً على التحديث، ويختلفون كذلك في حجِّية الحديث المرسل، إلى غير ذلك من المسائل المعروفة في علم مصطلح الحديث.

والاحتجاجُ بمجرَّدِ الاختلاف على إبطال منهجيةِ المحدِّثين بالكلية هو منهجٌ فاسدٌ، ولو طبَّقناه في كل العلوم لبطَلت جميعُها.

فالفقهاءُ يختلِفون، وليس ذلك بموجِبٍ للإعراض عن الفقه بالكليةِ، والمفسِّرون يختلفون وليس ذلك بموجب للإعراض عن التفسير بالكلية.

وقد عقد الإمام المحدّث أبو عبد الله ابن بطَّة في (الإبانة الكُبرى) بابًا قال فيه: (باب التحذير من استماع كلام قوم يُريدون نقض الإسلام ومحو شرائعه، فيُكَنُّون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين وعَيْبهم بالاختلاف)([12]).

والاختلاف ليس ممَّا يُطعَن به في الإسلام، ونحن لا نُريد أنْ نُذكِّر المعترض بحجْم الاختلاف في مذهَبه، إنْ كان مُبتدعًا منَ الرافضة أوِ المُعتزِلة ونحوهم، ولا حجْم الاختلاف في دِينه إنْ كان نصرانيًّا أو يهوديًّا، فإن ذلك أوضح من أن نحتاج إلى بيان أدلّته.

بل إن الاحتجاج بالاختلاف على إبطال العلوم هو مدخل للسفسطةِ وهي جَحدُ الحقائق الضرورية، فالسوفسطائيون المُنكِرون لثبوت أيَّةِ حقيقة وأيَّةِ معرفة أخذوا أولَ أسلحتهم من وقوع الاختلاف بين آراء العقلاء -بل بين آراء عاقل واحد في أزمنة مختلفةٍ- فأنكروا وجودَ الحقيقة فيما اتفقوا عليه أيضًا، وفيما ثبتوا فيه أيضًا!([13]).

ثالثًا: ما ثبتَتْ ظنيَّتُه من السُّنَّة النبوية يُكتفَى فيه بصحة الإسناد (أو حُسنه) لوجوب العمل به، ولا يُشترَطُ القطعُ:

فصاحِبُ الاعتِراض على حجية السنة قد يقُول: إنني لا أقصدُ من القول بظنيَّةِ السُّنَّة إبطالَها وردَّها بالكلية، وإنما أتعجَّب كيف تكونُ ظنيَّةً ومع ذلك نحن مأمورون بالعمل بها؟!

فحينئذ يقال له: كذِبُ الظنونِ نادرٌ، وصِدقُها غالبٌ، فلو تُرك العملُ بالظنون خوفًا من وقوع الاحتمالات النادرة التي تكذِبُ فيها تلك الظنونُ لتعطَّلت مصالح كثيرة غالبة، خوفًا من وقوع مفاسد قليلة نادرة، وهذا يُخالف الحكمةَ الإلهية التي شُرعت الشرائعُ لأجلها، كما يقول الإمام الفقيه أبو محمد العز ابن عبد السلام رحمه الله([14]).

وهذه بعضُ الأمثلة التي تتعطَّل فيها المصالح الدنيوية عند ترك الأخذ بالظنون بالكلية، فمن ذلك([15]):

1- المسافرُ مع أنه قبل سفرِه يكون لديه احتمال أن يهلَك، ويفنى مالُه، فهو يَبني قرارَه على الاحتمال الأقوى الغالب وهو السلامةُ، ولا يبنيه على الاحتمال النادر وهو الهلاكُ، ولو فكَّر بطريقة: (أنه لن يسافر إلا إذا تيقَّن يقينًا لا شكّ فيه بنجاتِه) فلن يسافر أحدٌ، وستتعطَّل المصالح والتجارات والأعمال.

2- لو أنَّ أحدًا لازمَ بيتَهُ طيلةَ عُمُره، في حالة طبيعية، فقيل له: لماذا لا تخرجُ؟ فقال: إنني أخشى أن تصدمَني سيارةٌ، أو يخرجَ لي لصٌّ فيقتلني، لكان هذا القرار الذي اتَّخذه بِناءً على ظنٍّ نادر دليلًا على فقدانه لعقله أو جنونه.

3- وكذلك مَن كان مطارَدًا من أعدائه، وكان أعداؤُه في الخارج ينتظرونه، ويتربَّصون به، وهو مع ذلك يخرجُ إليهم بناءً على ظنٍّ نادر وهو أن يغفلوا عنه، يُعَدُّ هذا الرجل من الحمقى المُهلِكين أنفسَهم.

فنحن نرى في هذه الحالاتِ أن الناسَ يعتَمِدُون في اتِّخَاذ قرارتهم في مصالحِهم على ظنونٍ غالبةٍ، ولوِ انتظروا القطعَ واليقينَ في كل شيء لتعطَّلت مصالحُهم.

فالأخذُ بالنُّصوص الظنية معناه: أن الشريعة تُرتِّب العمل على الروايات التي يُحتمل السهو والخطأ على رواتها على اعتبار رُجحان ثبوتها ونُدرة توقُّع الخطأ فيها، وهذا أمر متناسِقٌ مع تصرفات الشريعة في سائر الأبواب، ومتناغمٌ أيضًا مع طبائع البشر في تحقيق مصالحهم.

وبهذا يتبين الجواب عن استدلال المعترض بالآيات التي استدلّ بها، كقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {‌وَمِنْهُمْ ‌أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]: (والظنُّ يُطْلَقُ إطلاقين: يطلقُ على الشكِّ. وهو المرادُ هنا، وهو المرادُ في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»([16]). ومنه قولُه عن الكفارِ: {إِن نَّظُنُّ إِلَاّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].

واصطلاحُ الأُصُولِيِّينَ: أن الظنَّ لا يُطْلَقُ على الشكِّ؛ لأن الشكَّ نصفُ الاعتقادِ، والظنُّ عندهم جُلُّ الاعتقادِ، وما بَقِيَ عن الظنِّ من الاعتقادِ يُسَمُّونَهُ وَهْمًا، هذا اصطلاحٌ أُصُولِيٌّ. أما أهلُ اللغةِ العربيةِ فإنهم يُطْلِقُونَ اسمَ الظنِّ على الشكِّ)([17]).

والخلاصَةُ: أنَّ القولَ بأن السُّنَّةَ النبوية ظنيَّةُ الثبوت، وأنها محل اختلاف في الثبوت خطأٌ، بل كثيرٌ منها متواتِرٌ تواترًا معنويًّا، وكثيرٌ من الأحكام على الأحاديث مُجمَعٌ عليه بين المحدِّثين، حيث أجمَع العلماءُ على تصحيح أحاديث، كما أجمعوا على وَضْعِ أحاديث ورَدِّها. وأما ما اختلفوا فيه فاختلافُهم له أسبابٌ علمية منهجية، لا من أجل الهوى والتشهِّي.

ووُرودُ الظنِّ في السُّنَّة الصحيحة ليس معناه أكثرَ من وُرود احتمال الخطأ والسهو على راوٍ من رواة الحديث الصحيح، وهذا الاحتمالُ النادر الضعيف لا يؤخذُ به في مقابل الاحتمال الراجحِ القويِّ كما تقتضيه المنهجيةُ العلمية، بل وطبائع الناس وعاداتُهم في تحصيلِ مصالحهم الدينية والدنيوية تدلُّ أن ترك الأخذِ بالظنون الراجحة بالكلية يؤدِّي إلى فساد حياتهم وتعطُّلِها.

أما وُرودُ الظنِّ في السُّنَّة من جهة الدلالة فهذا واردٌ أيضًا في نصوص القرآن الكريم، ويُتعامَلُ معه وَفقَ علم أصول الفقه.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: «الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية» للمطعني (ص: 116).

([2]) «مجموع الفتاوى» (18/ 51).

([3]) نقله أبو القاسم الأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة» (2/ 227-228).

([4]) أخرجه البخاري (5109، 5110)، ومسلم (1408).

([5]) قال أبو إسحاق الإسفراييني: (أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها). نقله الحافظ في «النكت على كتاب ابن الصلاح ونكت العراقي» (ص: 199).

([6]) «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (ص: 42-44).

([7]) هذا الأدبُ معروفٌ عند أهل العلم، وممن نصّ عليه النووي نفسُه، انظر: «كتاب الأذكار» (ص: 616)، وطبّقه في «المجموع» (4/ 56)، حيث غَلَّط ابن الصلاح في قوله في صلاة الرغَائب، ولم يسمّه. انظر: «تهديم الأركان» للبقاعي (ص: 165-166). وقد حمل الشيخ جمالُ الدين القاسمي صنيعِ الإمام البخاريِّ في عدم تصريحه باسم أبي حنيفة في صحيحه على هذا. انظر: «حياة البخاري» (ص: 22).

([8]) «النكت على كتاب ابن الصلاح ونكت العراقي» (ص: 197-198).

([9]) انظر: «مقدمة في أصول التفسير» ضمن «مجموع الفتاوى» (13/ 351).

([10]) أخرجه البخاري (1158، 2015، 6991)، ومسلم (1165).

([11]) «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (ص: 44-45).

([12]) «الإبانة الكبرى» (2/ 551).

([13]) «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين» لمصطفى صبري التوقادي (4/ 310).

([14]) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (2/ 109).

([15]) مستفادة من «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (2/ 109-110).

([16]) أخرجه البخاري (5143، 6064، 6066، 6724)، ومسلم (2563).

([17]) «العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير» (1/ 167-168).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: ﴿‌لَّا ‌يَتَّخِذِ ‌ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةۗ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017