الأربعاء - 22 شوّال 1445 هـ - 01 مايو 2024 م

الحقيقة المحمدية عند الصوفية عرض ونقد – الجزء الأول

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة في خطر التصوف الفلسفي وأهم نظرياته:

من المعروف أن التصوف مر بأدوار مختلفة، فبدأ بطبقة الزهاد والعباد الذين كانوا في الجملة على طريقة أهل السنة والجماعة، وكانوا مجانبين لطرائق الفلاسفة والمتكلمين، وإن كان وُجِد منهم شيءٌ من الغلو في مقامات الخوف والمحبة والزهد والعبادة.

ثم وُجِدت طبقة أخرى تأثرت بعلم الكلام، وخلطت التصوف بالكلام، كالحارث المحاسبي والقشيري صاحب (الرسالة).

ولكن أخطر هذه الأدوار وأكثرها فسادًا كان هو التصوف الفلسفي، القائم على خلط التصوف بكلام الفلاسفة، وتقديم نظريات الفلاسفة في قوالب كلام المتصوفة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر جملة ممن أسماهم عُبَّاد أهل السنة والحديث وصوفيَّتهم، كالفُضَيل بن عِياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسَّرِي السَّقَطِي، والجُنَيد بن محمد القواريري، وسَهْل بن عبد الله التُّسْتَري، وعَمرو بن عثمان المكي، قال: “والمتكلمون في التصوف والحقائق ثلاثة أصناف: قومٌ على مذهب أهل الحديث والسنة كهؤلاء المذكورين، وقومٌ على طريقة بعض أهل الكلام من الكُلَّابية وغيرهم كأبي القاسم القُشَيري وغيره، وقومٌ خرجوا إلى طريقة المتفلسفة مثل من سلك مَسْلك «رسائل إخوان الصفا»([1])… وأما ابن عربي وابن سبعين وغيرهما ونحوهما فحقائقهم فلسفية، غيَّروا عبارتها وأخرجوها في قالب التصوُّف، أخذوا مُخَّ الفلسفة فكَسوه لِحاءَ الشريعة”([2]).

وقال رحمه الله: “وبسبب هذا [أي: تقديم كلام الفلاسفة في قالب العبارات الإسلامية] ضل طوائف ممن لم ينكشف لهم حقيقة مقاصد الناس، فلا يفهمون ما يقصده الأنبياء والرسل، ولا ما يقصده هؤلاء، حتى يقابلوا بين هذه المعاني وتلك، فيعلمون هل هي متفقة متشابهة أم مختلفة بل متضادة، بل قد يحرفون كلام أئمتهم إذا ظهر المسلمون، فيصرفونه إلى ما يقبله المسلمون. وكذلك ذكر الكاشفون لأسرار القرامطة والهاتكون لأستارهم -كالقاضي أبي بكر الطيب والقاضي أبي يعلى وطوائف كثيرة- ما وجدنا مصداقه في كتب القرامطة، من أنهم وضعوا لأنفسهم اصطلاحات روّجوها على المسلمين، ومقصودهم بها مقصود الفلاسفة الصابئين والمجوس الثنوية”([3]).

وقد أقر أبو حامد الغزالي -رحمه الله وغفر له- بهذا المزج بين التصوف والفلسفة، وخطر ذلك على من يقرأ في كتبهم فقال: “فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم… أن من نظر في كتبهم كإخوان الصفا وغيره، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحِكم النبوية والكلمات الصوفية، ربما استحسنها وقبِلها، وحسن اعتقاده فيها، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به؛ لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه، وذلك نوع استدراج إلى الباطل”([4]).

ومما يدلك على خطر هذا وعظم فتنته على الناظر فيه أن الغزالي نفسه -كاتب هذا الكلام، والذي رد على الفلاسفة في كتابه المشهور (تهافت الفلاسفة)- لم ينج من غوائل هذه الفلسفة، كما قال عنه ابن العربي رحمه الله وهو من أخص تلامذته ومعظميه: “شيخنا أبو حامدٍ دَخَل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرجَ منهم فما قَدَر”([5]).

وممن ذكر ذلك أيضا الفقيه الشافعي ابن الصلاح رحمه الله، فقال متحدثا عن أبي حامد: “وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على قراءة (رسائل إخوان الصفا)… وفي الجملة هو رجل فيلسوف قد خاض في علوم الشرع، فمزج ما بين العلمين، وحسّن الفلسفة في قلوب أهل الشرع بآيات وأحاديث يذكرها عندها”([6]).

ولا شك أن من يطالع كتابه (الإحياء) و(مشكاة الأنوار) و(المضنون به على غير أهله) ونحوها يجد ذلك جليًّا واضحا -على خلاف في صحة نسبة بعضها إليه-، والله تعالى يغفر له ويرحمه.

والغرض المقصود: بيان خطر هذا التصوف الفلسفي، وتأثيره الضار، ومدى تغلغله في كلام المتصوفة وعقائدهم.

وبيان ذلك واجب؛ حتى لا يغتر أحدٌ بكلامهم وهو لا يعرف أصله الفاسد الذي صدر عنه.

أهم نظريات التصوف الفلسفي:

التصوف الفلسفي قائم على نظريتين يتفرع عنهما أغلب الضلالات والانحرافات:

أولهما: وحدة الوجود.

ثانيهما: الحقيقة المحمدية([7]).

وهذه الثانية فرع عن الأولى، فوحدة الوجود هي الوجود المطلق، والحقيقة المحمدية هي أول الوجود المعين.

فوحدة الوجود ملخّصها: أن الوجود واحد، والكثرة إنما هي في المظاهر أو ما يسمى (المجالي)، فالمخلوق مظهر للوجود الإلهي، ليس بمعنى أنه تظهر فيه آيات الله في خلقه كما هو معتقد أهل السنة وأهل الإسلام، كما قال تعالى: ﴿‌سَنُرِيهِمۡ ‌ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ﴾ [فصلت: 53]، وإنما بمعنى أنه لا وجود حقيقة لهذا المخلوق، بل هو مظهر من مظاهر التجلي الإلهي، على خلاف بينهم كثير في تفسير هذه الكثرة المشاهدة في العيان، ولكنهم متفقون على أن الموجود حقيقة: واحد، وأن هذه الكثرة هي في المجالي أو المظاهر، كتعدد الصور في المرآة لنفس الشخص، فهي بالنظر إلى الصور الظاهرة في المرآة كثيرة، ولكن بالنظر إلى حقيقتها فهذه الصور لا وجود لها في الحقيقة، فالمظاهر المتعددة ولكن الظاهر واحد.

فليس هناك في الحقيقة رب وعبد، ولكنه واحد في الحقيقة، ظهر في صور متعددة، فالشمس والقمر والأصنام والأنبياء والشيطان والكلب والخنزير كلها مظاهر لهذا الوجود الإلهي.

وإذا كانت هذه الموجودات هي مظاهر هذا الوجود الإلهي، يتجلى فيها الله بأسمائه وصفاته، فإن أعظم مجلى ومظهر تعينت فيه الذات الإلهية هي: الحقيقة المحمدية.

الحقيقة المحمدية عند الصوفية:

عرفها الجرجاني بقوله: “‌الحقيقة ‌المحمدية: هي الذات مع التعين الأول، وهو الاسم الأعظم”([8]).

وقال أيضا: “الروح الأعظم: الذي هو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها، ولذلك لا يمكن أن يحوم حولها حائم، ولا يروم وصلها رائم، ولا يعلم كنهها إلا الله تعالى، ولا ينال هذه البغية سواه، وهو العقل الأول، والحقيقة المحمدية، والنفس الواحدة، والحقيقة الأسمائية، وهو أول موجود خلقه الله على صورته، وهو الخليفة الأكبر، وهو الجوهر النوراني، جوهريته مظهر الذات، ونورانيته مظهر علمها، ويسمى باعتبار الجوهرية: نفسًا واحدة، وباعتبار النورانية: عقلًا أولًا”([9]).

ولكي نفهم معنى التعين الأول لا بد أن نعرف نظريتهم في وجود العالم، وكيف فاض بعضه من بعض.

قال التهانوي: “وفي التحفة المرسلة: للوجود الحق سبحانه مراتب: الأولى مرتبة اللّاتعيّن والإطلاق والذات البحت لا بمعنى أنّ قيد الإطلاق ومفهوم سلب التعيّن ثابتان في تلك المرتبة، بل بمعنى أنّ ذلك الوجود في تلك المرتبة منزّه عن إضافة جميع القيود والنعوت إليه حتى عن قيد الإطلاق أيضا، ويسمّى بالمرتبة الأحدية، وهي كنه الحق سبحانه، وليس فوقها مرتبة أخرى بل كلّ المراتب تحتها.

الثانية: مرتبة ‌التعيّن ‌الأوّل وتسمّى بالوحدة والحقيقة المحمّدية، وهي عبارة عن علمه تعالى لذاته وصفاته ولجميع الموجودات على وجه الإجمال من غير امتياز بعضها عن بعض.

الثالثة: مرتبة التعيّن الثاني وتسمّى بالواحدية والحقيقة الإنسانية، وهي عبارة عن علمه تعالى لذاته وصفاته ولجميع الموجودات على التفصيل وامتياز بعضها عن بعض.

فهذه ثلاث مراتب كلها قديمة، والتقديم والتأخير عقلي لا زماني”([10]).

وممن لخص مقصد الصوفية بالحقيقة المحمدية من المعاصرين الدكتور أحمد الطيب فقال: “الحقيقة المحمدية اصطلاح ظهر متأخرًا في أدبيات التصوف الإسلامي، وهو يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور، وأن حقيقته النورية هي أول الموجودات في الخلق الروحاني، ومن نورها خلقت الدنيا والآخرة، فهي أصل الحياة، وسرها الساري في كل الكائنات والموجودات الدنيوية والأخروية.

وللحقيقة المحمدية أسماء أخرى عديدة، مثل: حقيقة الحقائق، وأول موجود في الهباء، والعقل الأول، والتعين الأول، والقائلون بهذه النظرية يؤكدون على أن الأنبياء والرسل السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم هم في حقيقة الأمر نوابه وورثته، وأن دورهم في التاريخ إنما هو تجسيد للحقيقة المحمدية، أو الروح المحمدي قبل ظهور جسده الشريف.

ومن الحقيقة المحمدية يستمد كل الأنبياء والأولياء والعارفين علومهم وأنوارهم الإلهية، وبهذا الاعتبار سمي محمد صلى الله عليه وسلم بنور الأنوار، وأبي الأرواح، وسيد العالم بأسره، وأول ظاهر في الوجود.

أما ظهور الجسد المحمدي فهو الصورة العنصرية لمعنى حقيقته النورية.

والنبي صلى الله عليه وسلم في مفهوم هذه النظرية هو الجد الأعلى للأنبياء والنبي الخاتم في آن واحد”([11]).

وقالت الدكتورة سعاد الحكيم أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية -وهي من أهم المتخصصين والباحثين في تراث ابن عربي-: “الحقيقة المحمدية: هي أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق، بل هي الإنسان الكامل بأخص معانيه، وإن كان كل موجود هو مجلى خاصًّا لاسم إلهي، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد انفرد بأنه مجلى للاسم الجامع، وهو الاسم الأعظم [الله] ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة.

وللحقيقة المحمدية عدة وظائف ينسبها إليها الشيخ الأكبر:

  • من ناحية صلتها بالعالم: الحقيقة المحمدية هي مبدأ خلق العالم، وأصله من حيث إنه النور الذي خلقه الله قبل كل شيء، وخلق منه كل شيء. وهي أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود…
  • من ناحية صلتها بالإنسان: يعتبر ابن عربي الحقيقة المحمدية منتهى غايات الكمال الإنساني، فهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه حقائق الوجود.
  • من الناحية الصوفية: هي المشكاة التي يستقي منها جميع الأنبياء والأولياء العلم الباطن… فهو يقف يسن الحق والخلق، يقبل على الأول مستمدًّا للعلم، منقلبًا إلى الآخر ممدًّا له”([12]).

ومحصل كلام الصوفية في الحقيقة المحمدية أنها:

  • مبدأ الوجود وأول تعين للموجودات (الذات مع التعين الأول).
  • وهي المجلى والمظهر الجامع لجميع الأسماء الحسنى.
  • وأصل الحياة والتكوين أو كما يقولون: المبدِع الأول الذي وجِد منه كل شيء، فمنها وجدت جميع الموجودات، وحقيقتها سارية في جميع ذرات الموجودات بحسب قابليتها واستعدادها.
  • وهي موجودة في كل زمان، في صورة الإنسان الكامل، فآدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هم في بواطنهم هذه الحقيقة المحمدية، وأعظم تجل لها هي في جسد نبينا صلى الله عليه وسلم.
  • ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم في تصور الصوفية له حقيقتان: حقيقة ظاهرة ناسوتية، وهي المقيدة بالزمان والمكان المعينين، وحقيقة لاهوتية نورانية، وهي قديمة أزلية باقية سارية في جميع الموجودات.
  • وهذه الحقيقة المحمدية موجودة ممتدة كذلك بعد موت نبينا صلى الله عليه وسلم في صورة الإنسان الكامل في كل زمان، وهو المعروف بالقطب، وهو وارث الحقيقة المحمدية ومظهرها الأكمل في زمنه.
  • وهي مُفيض القدرة على التصرف ومنبع الحياة وسرها في كل موجود، فهي القدرة المدبرة التي يصدر عنها كل شيء بما في ذلك تقسيم الأرزاق والتصريف في الكون.
  • وهي الواسطة والبرزخ بين الحق والخلق؛ لأن لها وجهين أو حقيقتين: لاهوتية وناسوتية.
  • وهي منبع العلم الباطني، فمنها يستمد جميع الأنبياء والأولياء علومهم الوهبية، بل إن جبريل إنما يأخذ علمه من هذا المنبع، ولذلك يعتبرون النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلِّم لجبريل، وهو المرسِل والمرسَل في نفس الوقت كما قال ابن الفارض في تائيته الشهيرة:

إليَّ رسولًا كنتُ منِّي مرسِلًا … وذاتي بآياتي عليّ استدلِّت([13])

  • والأنبياء يستمدون علومهم الظاهرة الكسبية بصفتهم أنبياء من جبريل، ويستمدون علومهم الباطنة الوهبية بصفتهم أولياء من الحقيقة المحمدية، فهي منبع العلوم الباطنة الوهبية.
  • ونظرًا لكثرة خصائصها، فقد كثرت أسماؤها باعتبار هذه الصفات، حتى وصلت لأربعين اسمًا، فمن أسمائها: الحقيقة المحمدية، والنور المحمدي، والروح الأعظم، والعقل الأول، والقلم، والباء، والبرزخ، والتعين الأول، والمبدِع الأول، والوحدة، والألف المتحرك، والإنسان الكامل، والقطب، والوارث المحمدي، والكلمة، والحق المخلوق به… إلخ هذه الأسماء الكثيرة جدا.

وبالجملة فإن معنى ذلك أن الحقيقة المحمدية اكتسبت كل معاني الربوبية وخصائصها، ومعنى هذا أن النبي أو الولي أو الإنسان الكامل في اصطلاح الصوفية أو القطب صارت له كل خصائص الربوبية والتصريف. وهذا ما يصرح به الصوفية ويلتزمونه، ولا ينكرونه، كما سننقل من أقوالهم من كتبهم ما يبين ذلك.

كلام أئمة الصوفية في الحقيقة المحمدية:

  • الحسين بن منصور الحلاج (ت: 309هـ):

يعتبر الحلاج أول من صرح بمسألة الحقيقة المحمدية الأزلية وطبيعته اللاهوتية، وحلول اللاهوت في الناسوت، فقال: “سراج من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلّى بين الأقمار، كوكب برجه في فلك الأسرار… أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور ولا أطهر وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم.

همته سبقت الهمم، وجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم…

يا عجبا! ما أظهره وأنظره وأكبره وأشهره وأنوره وأقدره وأبصره، لم يزل كان، كان مشهورا قبل الحواديث والكواين والأكوان ولم يزل. كان مذكورا قبل القبل وبعد البعد والجواهر والألوان…

بإشارته أبصرت العيون، به عرفت السرائر والضمائر، والحق أنطقه، والدليل أصدقه، والحق أطلقه. هو الدليل وهو المدلول، هو الذي جلا الصدأ عن الصدر المعلول، هو الذي أتى بكلام قديم، لا محدث ولا مقول ولا مفعول، بالحق موصول غير مفصول، الخارج عن المعقول، هو الذي أخبر عن نهاية النهايات ونهايات النهاية.

رفع الغمام، وأشار إلى البيت الحرام، هو التمام، هو الهمام، هو الذي أمر بكسر الأصنام، هو الذي أرسل إلى الأنام والأجرام.

فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت وأشرقت وأمطرت وأثمرت.

العلوم كلها قطرة من بحره. الحكم كلها غرفة من نهره. الأزمان كلها ساعة من دهره. الحق به وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، هو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة”([14]).

وقال أيضا:

سبحان من أظهر ناسوته … سرّ سنا لاهوته الثّاقب

ثمّ بدا في خلقه ظاهرا … في صورة الآكل والشّارب

حتّى لقد عاينه خلقه … كلحظة الحاجب بالحاجب([15])

فالحلاج بهذا يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم طبيعتين: طبيعة لاهوتية نورانية قديمة أزلية، وطبيعة ناسوتية محدثة. وقد حلت هذه الحقيقة النورانية في جسد النبي صلى الله عليه وسلم عند ولادته.

وهو اعتقاد شبيه باعتقاد النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام، فالحقيقة المحمدية عند الصوفية هي الكلمة التي كانت في الأزل عند النصارى، وهذه الكلمة هي التي وجدت منها جميع الموجودات، حتى ظهرت وتجسدت في المسيح المولود الذي تجسد ليخلص البشر من الخطيئة الموروثة بزعمهم -نعوذ بالله من الضلال-.

  • أبو حفص عمر بن علي الفارض (ت: 632هـ):

له في تائيته المشهورة (نظم السلوك) أبيات كثيرة تدور حول وحدة الوجود، والحقيقة المحمدية أو القطب كما كان يسميها (ابن الفارض).

فمن ذلك: قوله متحدثًا بلسان القطب أو الحقيقة المحمدية:

ولم أُلْه باللاهوت عن حكم مَظهري … ولم أنس بالناسوت مُظهر حكمتي([16])

وقال أيضا:

فبي دارت الأفلاك فاعجب لقطبها الـ … المحيط بها والقطب مركز نقطتي

ولا قطب قبلي عن ثلاث خلفته … وقطبية الأوتاد عن بدليتي([17])

قال العفيف التلمساني في شرحه: “المعنى: لما كنت سبب وجودها وغاية ظهروها فكنتُ قطبها، ولما كانت بما فيها مسخَّرة لي وكلها صور صفاتي كنت محيطًا بها إحاطة الإنسان بالحيوان والنبات والمعدن كإحاطة الإناء بالماء. واعلم أن القطب هو الذي تدور عليه الرحى والبَكَرة، وقطب الكون هو الرجل الذي لأجله وُجِدَ الكون وعليه مدار كونية الدارين، ولكل عصر رجل هو في هذا المقام، وهو صاحب الوقت”([18]).

ويتحدَّث ابن الفارض عن فيض الأرواح من روحه، وفيض الأجسام من جسمه، فيقول:

وروحي للأرواح روح وكل ما … ترى حسنا في الكون من فيض طينتي([19])

ويتحدث عن استمداد الأنبياء من علمه فيقول:

وكلهم عن سبق معناي دائر … بدائرتي أو وارد من شريعتي([20])

ويتحدث أيضا بلسان هذه الحقيقة المحمدية قائلا:

وقد جاءني مني رسول عليه ما … عنِتُّ عزيزٌ بي حريص لرأفة

فحكمي من نفسي عليها قضيته … ولما تولت أمرها ما تولت

ومن عهد عهدي قبل عصر عناصري … إلى دار بعث قبل إنذار بعثة

إليّ رسولا كنتُ مني مرسلا … وذاتي بآياتي عليّ استدلت([21])

وابن الفارض هنا يتحدث بلسان الحقيقة المحمدية، وفي ذات الوقت يتحدث عن نفسه، باعتباره قطبًا متحقّقا بالحقيقة المحمدية.

يقول الدكتور محمد مصطفى حلمي أستاذ الفلسفة والتصوف في جامعة القاهرة: “الحقيقة المحمدية كما يتحدّث عنها ابن الفارض بلسان القطب ليست إلا صورة ثانية من صور الوحدة، تعبر عن معنى خاص من معانيها، وهو تجلي الذات الإلهية أولا في الحقيقة المحمدية الجامعة لكل شيء، ثم فيض الموجودات المعينة بعد ذلك من هذه الحقيقة الجامعة؛ إذ الذات قبل تنزلها من حضرة الأحدية إلى حضرة الواحدية هي… الوجود المطلق عن كل تعين، والحقيقة المحمدية أو القطب المعنوي هو هذه الذات مع التعين الأول. فالذات الإلهية والقطب المعنوي هما إذن حضرتان جامعتان، تظهر الوحدة في إحداهما مجردة عن كل تعين، وتظهر في الأخرى مع التعين الأول الذي هو أصل في كل تعين، ومصدر لكل علم، ومنبع لكل حياة في كل كائن”([22]).

وقال أيضا بعد أن ذكر كثيرًا من أبيات ابن الفارض حول هذه المسألة: “وهكذا يتضح أن لابن الفارض نظرية في الحقيقة المحمدية، وأن هذه النظرية تنتهي إلى إثبات أن الروح المحمدي أو محمدًا المعنى أو القطب قديم أزلي، سبق وجوده كل الموجودات، وتقدمت حقيقته على كل الأنبياء والخلفاء والأولياء، وأفاض من نور باطنه على أولئك وهؤلاء، فظهر ما ظهر على أيدي الأنبياء من المعجزات، وعلى أيدي الخلفاء والأولياء من الكرامات”([23]).

  • محمد بن علي ابن عربي الحاتمي الطائي (ت: 638هـ):

وهو أبرز من تكلم عن هذه النظرية، وأكثر جدًّا من الكلام فيها، وليس هذا مستغربًا، فإذا كان هو إمام أهل الوحدة ومنظرهم الأكبر، فمن الطبيعي أن يكون كلامه كذلك في ثمرة مسألة الوحدة وهي الحقيقة المحمدية.

ومن كلامه في ذلك قوله: “اعلم أن الحقيقة المحمدية مسماة بالعقل الأول، وبالقلم الذي علم الله تعالى به الخلق كلهم، وبالحق الذي قامت السماوات والأرض، وبالباء.

وأحسن أسماء هذه الأسماء: الحقيقة المحمدية، والباء؛ من حيث ظهور الأشياء. وإنما ظهرت الأشياء بالباء؛ لأن الحق تعالى واحد، فلا يصدر عنه إلا واحد، فكان الباء أول شيء صدر عن الحق تعالى، فهي ألف على الحقيقة، وحداني من جهة مرتبتها؛ لأنها ظهرت في المرتبة الثانية من الوجود، فلهذا سميت باء، لتمتاز عن الحق تعالى، ويبقى اسم الألف له تعالى”([24]).

ولا يخفى أثر الفلسفة اليونانية في هذا الكلام، فاعتبار العقل الأول هو أول الموجودات، والذي به وجدت جميع الموجودات، والواحد الذي لا يصدر عنه إلا واحد، هذا كله من نظريات الفلاسفة في وجود العالم بالفيض.

وقال أيضا: “اعلم أن الوجود واحد وله ظهور، وهو (العالم) وله بطون، وهو (الأسماء) وله برزخ جامع فاصل بينهما؛ ليتميز الظهور عن البطون والبطون عن الظهور، وهو الإنسان الكامل”([25]).

وهذا معناه أن هذه الحقيقة لها وجهان: إلهي وبشري، لاهوتي وناسوتي، كما قال الحلاج وابن الفارض من قبل.

وقال أيضا: “اعلم أن القطب الذي عليه مدار أحكام العالم وهو مركز دائرة الوجود -من الأزل إلى الأبد- واحد، باعتبار حكم الكثرة المتعدد. فالنبي في كل عصر هو قطبه، وعند انقضاء نبوة التشريع بإتمام دائرتها انتقلت القطبية إلى الأولياء مطلقًا. فلا يزال في هذه المرتبة واحد منهم، قائم في هذا المقام، ليحفظ الله تعالى به هذا الترتيب والنظام، إلى أن يظهر خاتم الأولياء الذي هو خاتم الولاية المطلقة”([26]).

وقال أيضا: “اعلم أن الحق تعالى تجلى لذاته بذاته، وشاهد جميع صفاته وكمالاته في ذاته، وأراد أن يشاهدها في حقيقة تكون كالمرآة، فأوجد الحقيقة المحمدية التي هي أصل النوع الإنساني في الحضرة العلمية، فوجدت حقائق العالم كلها بوجودها وجودًا إجماليًّا. ثمَ أوجدهم فيها وجودًا تفصيليًّا، فصارت أعيانًا ثابتة. فأعيان العالم في العلم والعين، وكمالاتها إنما حصلت بواسطة الحقيقة المحمدية”([27]).

وقال أيضا: “الحقيقة المحمدية -صلى الله على صاحبها وسلم- هي الحادث الأزلي والنشء الدائم”([28]).

وهذه التنبيهات جامعة لمذهب ابن عربي المنتشر والكثير في الحقيقة المحمدية والإنسان الكامل.

وقال أيضا: “كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخرت طينته في الوجود، فإنه بحقيقته موجود”([29]).

والنصوص عن ابن عربي في ذلك كثيرة جدًّا، وليس الغرض الاستقصاء، بل التدليل على صحة ما نُسِب إليهم([30]).

  • صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي (ت: 672هـ):

يقول في رسالته (مراتب الوجود) والذي قسم فيه الوجود إلى أربعين مرتبة، والمرتبة الأخيرة هي مرتبة الإنسان الكامل: “المرتبة الأربعون من مراتب الوجود هي للإنسان الكامل، وبه تمت المراتب وكمل العالم، وظهر الحق للعالم سبحانه بظهوره الأكمل على حسب أسمائه وصفاته. فالإنسان أنزل الموجودات مرتبة في الظهور، وأعلاهم مرتبة في الكمالات، ليس لغيره ذلك.

وقد بينّا أنه الجامع للحقائق الحقية، والحقائق الخلقية، جملة وتفصيلا، حكمًا ووجودًا، بالذات والصفات… وكل ما رأيته أو سمعته في الخارج فهو عبارة عن رقيقة من رقائق الإنسان.

فالإنسان هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح، وهو القلم، وهو المَلَك، وهو الجن… وهو الوجود وما حواه، وهو الحق، وهو الخلق، وهو القديم، وهو الحادث. فلله در من عرف نفسه معرفتي إياها؛ لأنه عرف ربه بمعرفته لنفسه”([31]).

  • عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي (ت: 826هـ):

وهو صاحب كتاب (الإنسان الكامل)، وهي أحد تسميات الحقيقة المحمدية، وليس المقصود بها -كما يتصور بعضُ من لم يدرك مقاصد الصوفية- الرجلَ الفاضلَ الذي حاز مكارم الأخلاق، ولكنه مصطلح له دلالته الفلسفية البعيدة كما سبق بيانه.

وكتابه كله من أوله إلى آخره في بيان هذه النظرية، ونختار من كلامه نصًّا يوضّح مقصوده بذلك، وهو قوله: “اعلم -حفظك الله- أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس، ويظهر في كنائس، فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له: محمد، وكنيته: أبو القاسم، ووصفه: عبد الله، ولقبه: شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين إسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة.

وسر هذا الأمر: تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم إلا على الحقيقة المحمدية.

ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه: أشهد أني رسول الله، وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله؟! وهذا أمر غير منكور، وهو كما يرى النائم فلان في صورة فلان.

وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به في النوم، ولكن بين النوم والكشف فرقًا، وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية؛ لأن عالم المثال يقع التعبير فيه، فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف، فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما أعطاك الكشف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل”([32]).

وبهذا يُعلم أن الإنسان الكامل هو مرادف للحقيقة المحمدية، كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي: “الإنسان الكامل في نظر الجيلي كما هو في نظر ابن عربي: واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، لكنه يتنوع في الصور، ويظهر في كل زمان في صورة صاحب ذلك الزمان، ويتسمى باسمه. أما اسمه الحقيقي فهو محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله. ولكن المراد به الحقيقة المحمدية على ما أوضحه ابن عربي”([33]).

وتوضح الدكتورة سعاد الحكيم العلاقة بين الحقيقة المحمدية والإنسان الكامل فتقول: “إن الإنسان الكامل هو محمد، أو بعبارة أخرى: الحقيقة المحمدية، ولكن هذه الحقيقة قطب يدور في فلكه دائمًا كل طالب للكمال، فلا يزال يدور، أي: يتحقق بالصفات المحمدية ويدور، وفي دورانه يصغر قطر الدائرة ويصغر، ويتحقق الطالب بوحدته الذاتية مع مركز الدائرة، أي: الحقيقة المحمدية، وهنا في تحققه يطلق عليه اسم من تحقق به، أي: اسم الإنسان الكامل.

فعبارة (الإنسان الكامل) هي لصاحبها أي: محمد، ويصح أن نطلقها على المتحققين به الفانين؛ لأنهم أصبحوا عينه (الصفاتية)، فهي أصلًا لصاحبها الذي خلق إنسانًا كاملًا، وهي تحققًا لأكمل الرجال الذين جاهدوا في سلوك طريقها”([34]).

تنبيه:

النقول في هذه القضية كثيرة جدًّا عن الصوفية، لا يمكننا استيعابها، وكلها تدور حول تأليه الإنسان باعتباره مظهرًا للوجود الإلهي.

وأحب أن أشير هنا إلى أنه قد ورد في كتاب (مشكاة الأنوار) للغزالي، ما يشابه الكلام عن الحقيقة المحمدية، والذي سماه (المطاع) الذي يحرك الأجرام ويدبر أمر الكون، ولكننا لم نرتض ذكره هنا؛ لأن في نسبة هذا الكتاب وهذا الفصل خصوصًا للغزالي شكًّا ونظرًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وممن سلك ذلك صاحب (‌مشكاة ‌الأنوار) وأمثاله، وهي مما أعْظَمَ المسلمون إنكاره عليه وقالوا: أمرضه (الشفاء)([35])، وقالوا: دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج فما قدر، ومن الناس من يطعن في هذه الكتب ويقول: إنها مكذوبة عليه، وآخرون يقولون: بل رجع عنها وهذا أقرب الأقوال؛ فإنه قد صرح بكفر الفلاسفة في مسائل وتضليلهم في مسائل أكثر منها، وصرح بأن طريقتهم لا توصل إلى المطلوب”([36]).

ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا أن الكلام في الحقيقة المحمدية ليس مقتصرًا على الصوفية الوجودية كالذين سبق ذكرهم، بل عامة المتصوفة يتكلمون بها ويذكرونها، ولكنهم متفاوتون في إدراك حقائقها الفلسفية.

فمثلا: الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله -وهو من مشايخ الصوفية الذين كان يثني عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويجله كثيرًا، ويصفه بالشيخ الإمام العارف([37])، ويجعله من مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة([38])- ومع ذلك نجد له كلامًا منكرًا في مسألة الحقيقة المحمدية، فقال -رحمه الله وغفر له-: “خلق الله روح محمّد صلّى الله عليه وسلّم أوّلا من نور جماله كما قال الله تعالى في الحديث القدسيّ: «خلقت محمّدًا أوّلا من نور وجهي»، وكما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أوّل ما خلق الله روحي، وأوّل ما خلق الله نوري، وأوّل ما خلق الله القلم، وأوّل ما خلق الله العقل». والمراد منهم شيء واحد وهو الحقيقة المحمّديّة، لكن سمّي نورا لكونه صافيا عن الظّلمانيّة الجلاليّة كما قال الله تعالى: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ} [المائدة: 15]، وعقلا لكونه مدركا للكلّيّات، وقلما لكونه سببا لنقل العلم، كما أنّ القلم سبب نقل العلم في عالم الحروفات؛ فالرّوح المحمّديّ خلاصة الأكوان، وأوّل الكائنات وأصلها”([39]).

وهذا يدل على تغلغل هذه العقيدة الفاسدة عند جميع مشايخ التصوف، حتى من كان منهم ذامًّا لعلم الكلام كالجيلاني الذي ألف (الغنية) في ذم الكلام، ومع ذلك ردّد كلام الفلاسفة -وهو لا يدري غالبًا- في هذه المسألة، مستندًا لأحاديث باطلة موضوعة، اختلقها بعض الفلاسفة لتمرير عقائدهم الفاسدة، وإخراج المعاني الفلسفية في قوالب صوفية، وهو ما تسبب في فتنة خلائق لا يحصون. والله المستعان.

وبهذا تم المقصود في هذا الجزء، وهو عرض الحقيقة المحمدية كما هي عند الصوفية، ونتناول في الجزء الثاني نقد هذه العقيدة وبيان بطلانها إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) وهي إحدى وخمسون مقالة، خمسون منها في أنواع من الفلسفة، ومقالة جامعة لأنواع المقالات. ومؤلفوها (‌إخوان ‌الصفا وخلان الوفا). وهم جماعة من الشيعة الباطنية الإسماعيلية الذين بنوا القاهرة المعزية سنة بضع وخمسين وثلاثمائة، وفي تلك الأوقات صنفت هذه الرسائل بسبب ظهور هذا المذهب الذي ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض، فأظهروا اتباع الشريعة، وأن لها باطنا مخالفا لظاهرها، وباطن أمرهم مذهب الفلاسفة، وعلى هذا الأمر وضعت هذه الرسائل. انظر: منهاج السنة النبوية (4/ 55)، ومجموع الفتاوى (4/ 79).

([2]) الرد على الشاذلي (ص: 85).

([3]) بغية المرتاد (ص: 193-194).

([4]) المنقذ من الضلال (ص: 155).

([5]) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدة، ينظر: الانتصار لأهل الأثر (ص: 95)، والرد على الشاذلي (ص: 85)، ومجموع الفتاوى (4/ 66).

([6]) طبقات الشافعية (1/ 256).

([7]) والنظرية الثالثة هي الكشف، وهو طريق المعرفة الذي ارتضاه الصوفية كطريق للحقيقة، وهو أيضا من موروث الفلسفة. انظر بحث: التصوف الفلسفي، للدكتور أبو العلا عفيفي، منشور في «مجلة الرسالة» (196/ 106).

([8]) التعريفات (ص: 91).

([9]) التعريفات (ص: 112).

([10]) كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 110).

([11]) موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة (ص: 234)، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر.

([12]) المعجم الصوفي، للدكتورة سعاد الحكيم (ص: 348)، ط: دندرة، ط: الأولى، 1981م.

([13]) البيت 460 من تائية ابن الفارض مع شرحها للتلمساني، بتحقيق جوزيبي سكاتولين، نشر دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة، 2016م.

([14]) الطواسين، ومعه ديوان الحلاج (ص: 94)، دار الكتب العلمية – بيروت.

([15]) ديوان الحلاج (ص: 123).

([16]) 455 من ديوان ابن الفارض، مع شرحه للتلمساني (ص: 232).

([17]) 500-504 من ديوان الفارض (ص: 249).

([18]) شرح التلمساني على ديوان ابن الفارض (ص: 249).

([19]) 313 من ديوان ابن الفارض.

([20]) 629 من ديوان ابن الفارض.

([21]) 457-460 من ديوان ابن الفارض.

([22]) ابن الفارض والحب الإلهي (ص: 361)، دار المعارف – القاهرة، ط: الثانية.

([23]) المصدر السابق (ص: 378-379).

([24]) تنبيهات على علو الحقيقة المحمدية العلية، التنبيه الأول (ص: 394)، ط: دار المحجة البيضاء.

([25]) المصدر السابق (ص: 401).

([26]) المصدر السابق (ص: 407).

([27]) المصدر السابق (ص: 407).

([28]) المصدر السابق (ص: 408).

([29]) فصوص الحكم (ص: 63-64)، ت: أبو العلا عفيفي.

([30]) لمزيد من الاطلاع على كلام ابن عربي في الحقيقة المحمدية انظر: الفتوحات المكية (3/ 444، 2/ 87-88)، والفصوص (ص: 48-52)، وعنقاء مغرب (ص: 40-43).

([31]) ينظر كتاب: الإنسان الكامل في الإسلام، للدكتور عبد الرحمن بدوي (ص: 147).

([32]) الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر (2/ 74-75).

([33]) نقلا عن موسوعة الكسنزان (6/ 189).

([34]) المصدر السابق.

([35]) أي: كتاب ابن سينا المتفلسف.

([36]) مجموع الفتاوى (13/ 238).

([37]) بيان تلبيس الجهمية (1/ 214).

([38]) مجموع الفتاوى (2/ 474).

([39]) سر الأسرار ومظهر الأنوار (ص: 8)، دار الكتب العلمية، ط: الثانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: ﴿‌لَّا ‌يَتَّخِذِ ‌ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةۗ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017