الثلاثاء - 28 شوّال 1445 هـ - 07 مايو 2024 م

التَّقليدُ في العقائد عند الأشاعِرَة (2) – مناقشة أصول الأشاعرة في مسألة التقليد في العقائد –

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مرَّ بنا في الجزء الأول من هذه الورقة قولُ الأشاعرة في التقليد في العقائد، وأنهم يمنعونه، ويستدلّون على قولهم بأصول عديدة، من أهمها ثلاثة أصول، وهي:

الأصل الأول: وجوب النظر.

الأصل الثاني: ذم الشارع للتقليد.

الأصل الثالث: طلب اليقين في العقائد.

أما الأصل الأول فهو الأصل الأبرز لديهم، وعليه يدور مجملُ كلامهم، وقد سلكوا في تقرير وجوب النظر مسلكين، ذكرت أولهما وهو: وجوب النظر بالأدلة الشرعية، وهنا تكملة لمناقشة الأصل الأول عبر مناقشة المسلك الثاني، ثم مناقشة الأصول الأخرى في المسألة.

المسلك الثاني: معرفة الله نظريَّة:

المسلك الثاني الذي استدلّ به الأشاعرة على وجوب النظر: أن معرفة الله نظرية لا فطرية، وقد توارد علماء الأشاعرة على ذكر هذا، ويمكن أن يناقَش هذا بإثبات أن معرفة الله فطريَّة، ويطول المقام في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في الفطرة، وأن معرفة الله فطرية، لكن أختصر الكلام في ذلك ببيان أن أهل السنة اعتمدوا على أربعة أصول في الاستدلال على فطرية معرفة الله، وهي:

الأصل الأول:

أنه قد جاء التصريح في نصوص عديدة بأن الناس وُلدوا على فطرة معينة، وهذه الفطرة هي الإسلام بالمفهوم الجملي، فهي تقتضي معرفةَ الله ومعرفة كماله ومحبته، وليس معناها القابلية فقط أو الولادة على ما قدّر الله، ومن أصرح الأدلة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»، ثم قرأ أبو هريرة : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم: 30]([1]).

وهذا النصّ صريح في أن الأطفال يولدون مفطورين، والفطرة هنا هي الإسلام، ويدل على ذلك عدد من الشواهد، منها:

  • أولا: ما ذكره راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه، فإنه بعد أن أورد قول النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، وفطرة الله هنا تعني الإسلام، كما نقل ذلك عن مجاهد([2])، وجماعة من المفسرين كما يقول ابن عبد البر (ت: 463هـ): “وقال آخرون: الفطرة هاهنا الإسلام، قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل، قد أجمعوا في قول الله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} على أن قالوا: فطرة الله دين الله الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قول الله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، قالوا: دين الله الإسلام، {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قالوا: لدين الله”([3]).

فإقامة الوجه للدّين حنيفًا هي الفطرة التي فطر الله الناس جميعًا عليها، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): “الحديث مطابق للقرآن، لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وهذا يعمّ جميع الناس، فعلم أن الله فطر الناس كلّهم على فطرته المذكورة، وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذمّ، فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة.

يبين ذلك أنه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وهذا نصب على المصدر الذي دلّ عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه، فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفًا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره، ومثل قوله: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره، دلّ عليه الفعل المتقدم، كأنه قال: كتب الله ذلك عليكم، وسن الله ذلك، وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك: على إقامة الدين لله حنيفًا، وكذلك فسّره السلف كما تقدم النقل عنهم”([4]).

  • ثانيًا: وردت نصوص أخرى تفسّر الفطرة في هذا الحديث، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة»([5])، وفي روايةٍ: «إلا على هذه الملة، حتى يبيّن عنه لسانه»([6]) وفي رواية: «ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه»([7])، فالروايات تفسر بعضه بعضًا، وقد فسرت الفطرة بأنها الإسلام([8]).

فالأدلة تدلّ على أن الناس مفطورون على الاعتراف بوجود الله سبحانه وتعالى وبالاعتراف بكماله.

الأصل الثاني:

الإخبار بأن الأمم لم تجحَد معرفة الله، فمعرفة الله ثابتة عند الناس، ولم يَحفظ التاريخ من جحَد معرفة الله إلا النزر اليسير، بل منهم من حكى الله عنهم أنهم إنما جحدوا ظاهرًا مع اعتراف أنفسهم بوجود الله، وظاهرة التديّن في البشرية تخبر بيقين أن فطرة الله تقتضي معرفته والإقرار به، ولذلك قالت الرسل لأقوامهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، قال ابن كثير رحمه الله (ت: 774هـ): “وهذا يحتمل شيئين:

أحدهما: أفي وجوده شك؟! فإن الفطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شكّ واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده؛ ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه.

والمعنى الثاني في قولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؟! فإن غالب الأمم كانت مقرَّة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى”([9]).

وعلى المعنيَين فإن الآية تدلّ على أن معرفة الله فطرية، فإنه إن قيل: إن المراد: أفي وجود الله شك؟! فإن أقوامهم لم يقولوا: نعم، وإنما صرفوا حجتهم إلى النبوة، وأنها لا يمكن أن تكون لبشر، وإن كان المعنى: أفي ألوهيته؟! فيعني أنهم مقرون به أصلا، أو أن المراد من الاستفهام التقرير، والمعنى: ليس في الله شك.

الأصل الثالث:

واقع أدلة القرآن الكريم؛ فإن القرآن الكريم مليء بالأدلة التي تقرر توحيد الله واستحقاقه وحده للعبادة، وبطلان عبادة الأصنام، أمَّا أدلة وجود الله فأقل، وهو ما يعني أن معرفة الله فطرية، وقد تنحرف تلك الفطرة فيحتاج إلى نظر واستدلال، وأن معظم خطأ الناس فيما يتعلق بالله إنما هو في جحد استحقاقه وحده للعبادة وإشراك غيره معه.

الأصل الرابع:

واقع دعوة الرسل؛ فالرسل قد دَعوا أقوامهم إلى التوحيد والعبادة لا إلى النظر، مما يعني أن معرفة الله فطرية، وإلا كان الأولى أن يعرف الناس بوجود الله أولا وكماله، ثم يبين لهم استحقاقه للعبادة، بينما كل الرسل إنما قالوا لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] فلو لم يكن وجود الله مقرّرا عند أقوامهم لكان هو أول ما يدعونهم إليه.

يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): “فلم يخاطِب المشركين ابتداءً بالمعرفة؛ إذ كانوا مقرين بالصانع، وإنما أمرهم بالشهادتين، ولو لم يكونوا مقرّين بالصانع فإنه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين، بل أمرهم بالشهادتين ابتداءً، والشهادتان تتضمن المعرفة”([10]).

فهذه أصول أهل السنة باختصار في بيان فطرية معرفة الله، أما المتكلّمون فقد قدموا عددًا من الاعتراضات على القول بفطرية معرفة الله، وقد نوقِشت اعتراضاتهم في ورقة علمية بعنوان: “اعتراضات المتكلمين على فطرية معرفة الله.. عرض ونقد”([11]). ولا أطيل بذكر اعتراضاتهم ومناقشتها مرة أخرى، لكن أنبّه إلى أن كلّ اعتراضاتهم لا تقدح في فطرية المعرفة، فبعضها راجعة إلى نفي أمور لم يقل أهل السنة: إنها داخلة في الفطرة، مثل معرفة تفاصيل الإسلام، أو ترجع إلى أن الضروريات لا يمكن أن تغيب عن بال أحد من الناس، وما دام أن الناس قد اختلفوا في وجود الله فوجود الله ليس فطريّا، وهذا غير صحيح، بل المتواتر الضروري قد يغيب عن البعض كما يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): “البديهي هو ما إذا تصوّر طرفاه جزم العقل به، والمتصوَّران قد يكونان خفيّين، فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصوّرها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان، وذلك لا يقدح في كونها ضرورية”([12]).

بقي أن نشير إلى بعض الأوجه في إبطال وجوب النظر؛ إذ إن قولهم في منع التقليد وذمّه وتحريمه مطلقا قائم على وجوب النظر، وقد ثبت عدم صحة أدلتهم على النظر، وثبت أن معرفة الله فطرية، بقي أن يقال في إبطال النظر:

1- معرفة حال النبي صلى الله عليه وسلم: فالنظر لم يعمل به النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولم يطالب به أصحابه، ولم ينقل عنه أنه أمر أصحابه بالنَّظر، بل وكان الناس يأتون إليه أفواجًا يسلِمون، ولم ينقل عنه أنه طلب منهم النظر قبل أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذا الأمر مستفيضٌ معلوم، فلو كان النظر واجبًا لاستمعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولدعا إليه الصحابة، ولاستعمله الصحابة والتابعون من بعدهم، ولا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يتركه مع وجوبه، ولا يعقل أن الصحابة يتركونه، ولا يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو إليه كل من أسلم على يديه على كثرتهم.

وهذا مما لا شكَّ فيه، ولا يمكن المجادلة فيه بأن الصحابة كلهم نظروا، وأدنى اطلاع على كتب السيرة والمرويات التي وردت في إسلام الصحابة وإسلام الوفود الكثيرة التي قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة يدرك به الإنسان أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمرٌ لأحد منهم أن ينظر، بل بدأ مباشرة بالشهادتين، وبذلك دخلوا في الإسلام، فكيف مع هذا يقال: إنه أصل من أصول الدين، بل هو أول واجب على المكلف؟!

يقول أبو المظفر السمعاني (ت: 489هـ) وهو يورد الأدلة الدالة على أنّ أول واجب هو الشهادتان، وأن ذلك هو أول ما يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم لا النظر: “هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله»([13])، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»([14])، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «إذا نازلتم أهل حصن أو مدينة فادعوهم إلى شهادة ألا إله إلا الله»([15])، ومثل هذا كثير، ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال”([16]).

وفي تقرير هذا يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): “والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدًا من الخلق إلى النظر ابتداءً، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه”([17]).

2- أن العوام لا يتحمّلون النظر الكلامي: فكثيرٌ من العوام لا يستطيعون أن يرتّبوا الأدلة العقلية الدالة على وجود الله، أو حدوث الكون، أو صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يسلِم ثم ترسخ العقيدة في قلبه رويدًا رويدًا، ومثل هذا إسلامه صحيح، ولو أننا كلّفنا كل واحد من الناس أن ينظر في كل مسألة عقدية، فينظر في حدوث الكون، ثم في جود الله، ثم في وحدانيته، ثم في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لحمَّلناهم ما لا يطيقون، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة: 286].

والنظر الكلامي المتمثّل في دليل الحدوث معروف بالصعوبة والغموض والتطويل وكثرة التفصيلات، فهي طريقة وَعرة لمن أراد من العوام أن يعبر من خلالها إلى معرفة وجود الله سبحانه وتعالى، وقد حار فيها كبار أئمة علم الكلام، فضلا عن أن يفهمه كل الناس، فكيف يطلب من الناس في معرفة ربهم وإقامة إيمانهم به أن يسلكوا طريقا وعرة غامضة طويلة متشعبة؟!

وفي تقرير هذا يقول الأشعري (ت: 324هـ): “الأعراض لا يصحّ الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدقّ الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة بمخالفتها للجواهر في كونها لا تقوم بنفسها، ولا يجوز ذلك على شيء منها، والمعرفة بأنها لا تبقى، والمعرفة باختلاف أجناسها، وأنه لا يصحّ انتقالها من محالها، والمعرفة بأن ما لا ينقل منها فحكمه في الحدث حكمها، ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك، حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها؛ لأن العلم بذلك لا يصحّ عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفًا، وفي كل مرتبة مما ذكرنا فرق تخالف فيها، ويطول الكلام معهم عليه”([18]).

ويقول ابن تيمية (ت: 728هـ): “وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد، أما المقاصد فإن حاصلها بعد التعب الكثير والسلامة: خير قليل، فهي لحم جمل غثّ على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا، وأما الوسائل فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات ينقطع السالكون فيها كثيرا قبل الوصول، ومقدماتها في الغالب إما مشتبهة يقع النزاع فيها، وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء”([19]).

فالنظر الكلامي إذن طريقة وعرة، وتكليفها على العوام تكليف بما لايطاق، ويصرح السبكي (ت: 756هـ) بأن النظر ليس بمقدور العوام، وإنما يتلقّون الأحكام من العلماء فيعتقدونها مقلّدين فيها، يقول: “قال ابن السمعاني: إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدًّا عن الصَّواب، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يصرف ذلك وتصدر عقيدته عنه؟! بل أكثر العوام بحيث لو عرضت عليهم تلك الدلائل لم يفهموها، وإنما غاية العامي أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى به ربه من العلماء، ويتبعهم في ذلك ويقلدهم، ثم يسلم عليها بقلب سليم طاهر عن الأهواء والأذعَال، ثم يعض عليها بالنّواجذ، فلا يحول ولا يزول ولو قطع إربًا”([20]).

هذا هو الأصل الأول عند المتكلمين ومناقشته، وهو أعظم أصل في منع التقليد وتحريمه، فإذا سقط هذا الأصل سقط الباقي، ومع ذلك فسأمر على الأصلين الباقيين دون إطالة، وهما:

الأصل الثاني: ذم التقليد:

بينتُ أن المتكلمين عند عرض أدلة المانعين تمسكوا كثيرًا بهذا الأصل أيضًا لكون الأدلة الشرعية عليه متوافرة كثيرة، بيد أن تمسكهم بهذه النصوص تمسُّكٌ غير صحيح، فكل النصوص الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة في ذم التقليد إنما يراد بها أنوع محددة من التقليد، والكلام في التقليد المذموم في الكتاب والسنة يطول، إلا أن كلّ الأدلة التي وردت في القرآن في ذم التقليد فهي في ذم التقليد في أحوال، وليس ذم التقليد مطلقا، وبعد دراسة الآيات يمكن أن يقال: إن أنواع التقليد الذي جاء ذمه في القرآن هي التالي:

1- التقليد لمجرد العصبية، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]. فهؤلاء قد امتنعوا عن قبول الحقّ لمجرد أنهم يريدون أن يبقوا على ما كان عليه آباؤهم، ويذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن آباءهم لا يعلمون، وقال في آية أخرى: {لَا يَعقِلُونَ}، فما دام أنهم يقلدون لمجرد التعصب، فإنهم لا ينظرون إلى أهلية المقلَّد وجواز تقليده. يقول الطبري (ت: 310هـ): “يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيّبون السوائب الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله -تعالى ذكره- يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذب قيلكم فيما تضيفونه إلى الله -تعالى ذكره- من تحريمكم ما تحرّمون من هذه الأشياء؛ أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءنا يعملون به، ويقولون: نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل. قال الله -تعالى ذكره- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَلو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئا؟! يقول: لم يكونوا يعلمون أن ما يضيفونه إلى الله -تعالى ذكره- من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كذب وفرية على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة؛ لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدؤوا تحريم ذلك، افتراء على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون، ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، بل كانوا على ضلالة وخطأ”([21]).

2- تقليد من ليس بأهل للتقليد، فكل من قلّد أحدًا دون معيار علمي صحيح فإنه مذموم في الشريعة، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، منها الآية السابقة، فتقليد الآباء مع كونه تقليدا لمجرد التعصب فهو تقليد أيضا لمن ليس بأهل التقليد، وقد بين الله ذلك فقال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]. والأمر بتقليد العالم واضح من قوله تعالى: {اسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فالناس أمروا باتباع أهل الذكر، وهم أهل التخصّص في كل علم وفنّ، ولذلك كثير من المفسرين ذكروا أن المراد الأول لهذه الآية سؤال من قرأ الكتب وعرف ما لم يعرفه كفار قريش، والآية تدلّ عموما على سؤال أهل العلم والأخذ بأقوالهم.

3- التقليد بعد ظهور الدليل: وقد نشر مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “أغلال على العقل.. التقليد بعد ظهور الدليل أنموذجا”([22])، فلا داعي لإطالة الكلام فيه هنا، فهو تقليد مذموم بلا شك.

4- التزام تقليد شخص في كلّ شيء حتى يصل إلى مرحلة المشرع: وهذا من أخطر ما يقع فيه الإنسان، بأن يجعل له مقلَّدًا متبوعًا يأخذ بكلّ ما يقول ويأمر وينهى، فيكون هو كالمشرع له، وقد يكون هذا مقابلَ الدليل، أو يكون بعقد قلبه على أنه لن يخالفه حتى وإن ظهر الدليل بخلافه، فيكون هذا المقلَّد هو الآمر والناهي، ولا شكّ أن الدين الإسلامي قد جاء ليخلص الناس من هذا الرق الفكري بتسليم العقول والقلوب لغير الله، وقد ذم الإسلام هذا في مواطن كثيرة منها: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه إذ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب، فقال: «يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك»، فطرحته، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم! فقال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟!» قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»([23]).

وخلاصة هذا: أن التقليد الذي جاء ذمّه في القرآن الكريم ليس هو التقليد مطلقا، والمنضبط بالشروط، وإنما جاء تقليد أنواع محددة من التقليد.

الأصل الثالث: طلب اليقين في مسائل الاعتقاد:

قالوا: إن مسائل العقيدة كلها يطلب فيها اليقين، والتقليد غير موصل لليقين، فيحرم التقليد، وقد استدلوا على كل من المقدمتين بأدلة شرعية وواقعية -حسب رأيهم-، إلا أن مانعي التقليد قد أخطؤوا في المقدمتين، فكانت النتيجة باطلة بالضرورة، ويتبين ذلك في الآتي:

  • خطأ المقدمة الأولى:

أمَّا المقدمة الأولى -وهي: أن مسائل العقيدة يطلب فيها اليقين- فصحيحة، لكن ليس بهذا الإطلاق، فخطؤهم ليس في تقرير طلب اليقين في الجملة، ولكن في طلب اليقين في كل مسائل الاعتقاد، فقد جعلوا مسائل الاعتقاد كلها على درجة واحدة، وبناءً عليه قالوا: يطلب فيها اليقين كلها.

وهذا التصور مبني على أصل آخر خاطئ، وهو: التفريق بين الأصول والفروع، ثم جعل مسائل العقيدة كلها أصولا، والمسائل العملية كلها فروعًا، ولا أريد الإطالة بذكر موضوع تقسيم الدين إلى أصول وفروع، لكن ألخص المسألة فأقول:

هذا التقسيم تقسيمٌ قديم وجد في كتابات أهل السنة والجماعة، فلا شك أن شرائع الإسلام ليست على مرتبة واحدة، بل بينها تفاضل كبير، بل هو ثابت حتى في المعاصي والآثام، فقد فرق الله بين معاص عظام ومعاص أصغر منها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، فأصل التقسيم ثابت، والاختلاف إنما يرجع إلى ضابط التفريق بين الأصول والفروع، وليس في أصل التقسيم، وكثير من علماء أهل السنة يقرون بأن في الشريعة أصولًا وفروعًا([24])، ويظهر هذا من كلامهم، يقول إسحاق بن راهويه (ت: 238هـ): “أربعة أحاديث هي من أصول الدين”([25]). ويقول ابن تيمية (ت: 728هـ): “فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله”([26])، وهذا إقرار بأن الدين ينقسم إلى أصول وفروع، ويقول: “الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين وفروعه -في الدلائل والمسائل- بأكمل المناهج”([27]).

ومشكلة المتكلمين في تقسيم الدين إلى أصول وفروع هي: أن معاييرهم في التفريق ليست سليمة؛ لأنها ليست مبنية على أدلة تبين التقسيم الصحيح([28])، وأهم تلك المعايير قولهم: إن أصول الدين هي مسائل الاعتقاد أو المسائل الخبرية، وقد ناقش ابن تيمية كل أقوالهم ومعاييرهم فقال: “والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون: هذا قطعي وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيًّا وظنيًّا أمر إضافي.

وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات، والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج.

وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكم شرعي يتعلق بالشرع، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع”([29]).

ويبين خطأ هذا المعيار -وهو أن مسائل الأصول هي المسائل الاعتقادية- فيقول: “فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة.

فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل.

قالوا: وهذا فرق باطل؛ فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش. وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة: هل رأى محمد ربه؟ وكتنازعهم في بعض النصوص هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات: هل هي من القرآن أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة: هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام: كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس في هذا تكفير ولا تفسيق”([30]).

أما المعيار الصحيح عند ابن تيمية فيبينه بقوله: “بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع. فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة؛ ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر كما أن من جحد هذه كفر.

وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية؛ بل هذا هو الغالب فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره”([31]).

فمسائل الأصول لها سمات، من أهمها: أن تكون عليها أدلة قطعية، وأن تكون الدلالة مجمع عليها، فيخرج من هذا ما ليس عليه دليل قطعيّ، بل ظني في ثبوته، أو في دلالته، وهذا يحصل في العقيدة والفقه على السواء.

والذي أريد إثباته في مناقشة هذا الأصل: أن قولهم: إن مسائل العقيدة كلها أصول ولا يدخلها التقليد قول باطل، فمسائل العقيدة ليست على مرتبة واحدة، كما أن مسائل الفقه ليست على مرتبة واحدة، وأصول العقائد يطلب فيها الجزم كما أن أصول الفقه يطلب فيها الجزم، وفروعهما يكتفى فيهما بالظن الغالب، يقول ابن عثيمين (ت: 1421هـ): “الحقيقة أنه لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة يجب فيها اليقين؛ لأن من مسائل العقيدة ما اختلف فيه العلماء، وما كان مختلفًا فيه بين أهل العلم فليس يقينيًّا؛ لأن اليقين لا يمكن نفيه أبدا… والقول بأن العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق غير صحيح، فإنه يوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن.

والحاصل: أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه. فقد يكون الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقا، لأنه قد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة بل عنده يقين، وأما الأول فيكون عنده إشكال، وإذا رجح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن.

ولهذا لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده.

إذا هذه الكلمة التي نسمعها بأن مسائل العقيدة لا خلاف فيها ليس على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك”([32]).

  • وخلاصة هذا: أنَّ العقيدة منها ما يطلب فيها اليقين، ومنها ما يكتفى فيها بغلبة الظن، فالأصول من العقائد لا بد فيها من اليقين، والفروع من العقائد يكتفى فيها بغلبة الظن، ومع ذلك فإن هذا لا يقتضي رد التقليد حتى في أصول العقيدة كما سيأتي بيانه عند مناقشة المقدمة الثانية، فمشكلة المانعين إذن من جهتين:
  • من جهة أنهم جعلوا مسائل الاعتقاد كلها على درجة واحدة، فطلبوا فيها كلها اليقين بحيث جعلوها كلها أصول الدين.
  • ومن جهة أنَّهم حصروا اليقين في أنواع من الأدلة، ونفوا اليقينية عن أمور أخرى.

 

  • خطأ المقدمة الثانية:

أمَّا المقدمة الثانية التي اعتمدوا عليها -وهي أن التقليد لا يوصل لليقين- فمقدمة خاطئة، ذلك أنهم بنوها على مجرد احتمال أن يتزعزع إيمان المقلد عند إيراد الشبهة عليه، وهذا القدر موجود حتى عند من ينظر، بل لعله عند الناظر أكثر لكثرة تعرضه للشبهات دونما حاجة، والذي يطلب في أصول مسائل العقيدة هو الجزم وهو حاصلٌ لغير الناظر، أما ما يطلب في غير المسائل الأصول فهو ما يطلب في المسائل الفروعية في الفقه وهو غلبة الظن، فلا فرق بين مسائل الفروع العقدية والفقهية، والخلاف فيها سائغ، مما يعني أن الجزم والقطع فيها غير مطلوب.

يقول ابن حجر (ت: 852هـ) مبينًا أنَّ من اعتقد عقيدة صحيحة كفاه ذلك سواء كان ذلك تقليدًا أو استدلالا: “يمكن أن يفصل فيقال: من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلا وحصل له اليقين التام بالمطلوب؛ إما بنشأته على ذلك، أو لنور يقذفه الله في قلبه؛ فإنَّه يكتفى منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه، وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قال -أي: صلاح الدين العلائي-: فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة، وأما من غلا فقال: لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه؛ لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضًا فقال: لا يجوز النظر في الأدلة؛ لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر، انتهى ملخصا”([33]).

وبهذا يتبين أن استدلال الأشاعرة بهذه الأصول استدلال لا يصحّ، وأن منع التقليد بالكلية في مسائل الاعتقاد أيضا غير صحيح، ومناقشة قول الأشاعرة في منع التقليد لا يعني الدعوة إلى التقليد ومدحه، فالتقليد لا شك أنه ليس أعلى المراتب في تبنّي موقف ما، فكيف إذا كان هذا الموقف شرعيًّا؟! والله سبحانه وتعال يأمر باتباع الحجة، ومع هذا فالتقليد الذي معه جزم ينجّي الإنسان ويقيه من العذاب، ويصح منه الاعتقاد والعمل بموجبه.

بقي أن يشار إلى أعظم أثر من آثار القول بمنع التقليد في العقائد، وهو الكلام عن مسألة إيمان المقلد، وسيأتي الكلام عنه في الجزء الثالث.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

([2]) ينظر: تفسير الطبري (20/ 97).

([3]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (18/ 72).

([4]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 371).

([5]) أخرجه مسلم (2658).

([6]) الحديث السابق.

([7]) الحديث السابق.

([8]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (8/ 366).

([9]) تفسير ابن كثير (4/ 482).

([10]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 14).

([11]) ينظر: https://salafcenter.org/7600/

([12]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 31).

([13]) أخرجه البخاري (7372)، ومسلم (19).

([14]) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (20).

([15]) في معناه ما أخرجه ابن ماجه (2858).

([16]) الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 61-62).

([17]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 6).

([18]) رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب (ص: 106-107).

([19]) مجموع الفتاوى (2/ 22).

([20]) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 586).

([21]) تفسير الطبري (11/ 137).

([22]) ينظر: https://salafcenter.org/7220/

([23]) أخرجه الطبراني في الكبير (218)، وروى الترمذي معناه بلفظ قريب (3095)، وأخرجه البيهقي في الكبرى (20350)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

([24]) ينظر: الأصول والفروع للدكتور سعد الشثري، والتوقف في العقيدة لبدر بن سعيد الغامدي.

([25]) ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 57).

([26]) مجموع الفتاوى (4/ 56).

([27]) المرجع السابق (2/ 8).

([28]) ينظر: التوقف في العقيدة، لبدر الغامدي (ص: 215-226).

([29]) مجموع الفتاوى (13/ 126).

([30]) منهاج السنة النبوية (5/ 88).

([31]) مجموع الفتاوى (6/ 56-57).

([32]) شرح العقيدة السفارينية (1/ 305-309) باختصار.

([33]) فتح الباري (13/ 354).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟

  خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! […]

حديث: «جئتكم بالذبح» بين تشنيع الملاحدة واستغلال المتطرفين

الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم. والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال. ومن […]

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017