الأربعاء - 26 جمادى الآخر 1447 هـ - 17 ديسمبر 2025 م

دعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك .. شبهة وجواب

A A

مقدمة:

أرسل الله تعالى نوحًا عليه السلام إلى قومه ليدعوَهم إلى عبادة الله وحده، فلما بلَّغ رسالة ربه ونصحهم رفضوا دعوتَه ونصيحتَه، وزعموا أنه عليه السلام لا يستحقّ أن يكون رسولًا إليهم؛ لأنه بشرٌ مثلهم، ولو شاء الله إرسال رسول إليهم لأنزل ملكًا من الملائكة، وادَّعوا أن الذي دعا نوحا إلى هذا هو رغبته في أن يتفضَّل عليهم ويكونوا أتباعًا له. فلم يلتفت إلى ادِّعاءاتهم، بل واصل تأديةَ الرسالة، ولبِث في دعوتهم ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ ولكن لم يزدهم ذلك إلا فرارًا من دعوته، فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من آمن، عند ذلك التجأ إلى الله بالدعاء على قومه بالهلاك والدمار، فاستجاب الله دعاءه، وأعلمه بأنه سيهلكم بالطوفان فلا يُبقي منهم أحدًا.

ثم نهى الله تعالى نوحا عليه السلام عن أن يطلب منه دفعَ العذاب عنهم ومراجعته في نجاة أحد من الذين كفروا؛ لأنه قد حكم على كل الكافرين بالغرق، وأوحى إليه أن يصنع الفلك -السفينة- لينجو عليها من الغرق هو ومن آمن معه([1])، ولم يكن لنوح ولا لغيره معرفة بصنع الفلك؛ ولذلك أوحى الله إليه صنعها وعلّمه كيف ينبغي أن تكون كما قال تعالى: ﴿‌وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [هود: 37]. وإنما أمره بعدم مراجعته في شأنهم؛ لأن عذاب الله إذا جاء فلا يردّ عن القوم المجرمين، ولعله قد تدركه رقّة عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبر كالعيان.

وأخذ نوح عليه السلام يصنع السفينة تحت أمر الله ووحيه، وجعل قومُه يمرّون عليه فيهزؤون به ويسخرون منه ويقولون له: يا نوح، قد كنت بالأمس نبيًّا واليوم قد صرتَ نجارًا، ويجتمعون عليه وهم يضحكون وهو جادّ عليه السلام في عمله، فكان يجيبهم بقوله: ﴿إِنْ ‌تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [هود: 38، 39]، ولما انتهى من صنعها أمره الله سبحانه أن يحمل معه أهله ومن معه من المؤمنين، وأن يحمل فيها من الحيوانات من كل صنف زوجين اثنين -ذكر وأنثى-، ومن سائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، ثم جعل له علامة وهو فَوَران التّنّور، والمراد به على رأي جمهور المفسرين: وجه الأرض، أي: أن تنبع الأرض من سائر أرجائها، فذلك وقت ركوب السفينة مع المؤمنين([2])، بعد ذلك سيكون الطوفان والغرق لجميع سكان الأرض، ولا ينجو من الغرق إلا ركاب السفينة. فلما ظهرت العلامة ركبوا في السفينة، وأرسل الله من السماء مطرًا لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها، كما قال تعالى في سورة القمر: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي ‌مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 10-14]، وارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعًا، وعمّ جميع الأرض طولها وعرضها، سهلها وحزنها، جبالها وقفارها، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، فقد غمرهم الماء، وجرفهم الطوفان، ولم ينج إلا ركّاب السفينة، ولهذا يسمّى نوح عليه السلام أبا البشر الثاني؛ لأن جميع أهل الأرض بعد الطوفان هم من نسل أهل السفينة الذين كانوا مع نوح، حتى ابن نوح الذي لم يؤمن بالله ولم يركب مع أبيه في السفينة كان من الهالكين، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهِيَ ‌تَجْرِي ‌بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 42-44]([3]).

شبهة وجواب:

أثار بعض المتوهّمين أن نوحًا عليه السلام كان الأولى عليه أن يدعو لقومه بالهداية وليس بالهلاك كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 26، 27]، كما يزعمون أنه استغفر لنفسه عقب الدعاء عليهم بالهلاك؛ لأنه وقع في ذنب، كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [نوح: 28]، وأنه اعتذر يوم القيامة عن الشفاعة بهذه الدعوة التي دعا بها على قومه. وهذا ينافي العصمة التي يتصف بها الأنبياء؟!

والجواب:

أن نوحًا عليه السلام ظلَّ يدعو قومه ليلًا ونهارًا سرًّا وجهارًا مدة تسعمائة وخمسين عامًا، ومع كل ذلك لم يستجيبوا لدعوته؛ بل قابلوا الإحسان بالإساءة، واللطف بالشدة، فكلما ازداد لهم نصحًا ازدادوا عنادًا، وكلما ذكّرهم بالله زادوا ضلالًا وفسادًا، وظلُّوا في طريق الضَّلال سائرين، لا يلتفتون إلى دعوة نوح، ولا يبالون بتحذيره وإنذاره، وهو لا يفتأ يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” كما ورد في البخاري عن عبد الله قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»([4])، وكما في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: 5-10].

لقد كان جهاد نوح عليه السلام وصبره على إيذاء قومه بما لا طاقةَ لأحد على تحمّله ولا قدرة له عليه. فقد كان جهاده جهاد الأبطال، وصبره صبر الجبال، أوذي وعذب واضطهد وهو لم يكفّ عن تبليغ دعوة الله لمدة تقارب ألف عام، ولم يضعف عن إبداء النصح والتذكير ابتغاء مرضاة الله. وقد استعمل المشركون معه صنوف الاستهزاء والبلاء ليصدّوه عن دعوته، فلم يجدوا منه إلا كل صبر وثبات. اتهموه بأنواع الاتهامات، وافتروا عليه أنواع الافتراءات، فما زاده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا وصبرًا وجهادًا، فكان من الأنبياء المقربين ومن أولي العزم الصابرين([5]).

وقد ذكر المفسرون أن نوحًا عليه السلام كان يأتي قومه فيدعوهم إلى الله، فيجتمعون عليه ويضربونه الضرب المبرّح، ويخنقونه حتى يغشى عليه، ثم يلفونه في حصير ويرمون به في الطريق، ويقولون: إنه سيموت بعد هذا اليوم، فيعيد الله تعالى إليه قوته، فيرجع إليهم ويدعوهم إلى الله، فيفعلون به مثل ذلك. وهكذا بقي يؤذَى ويعذَّب وهو مع ذلك صابر لا يدعو على قومه بالعذاب، وإنما كان يأمل فيهم أو في أبنائهم الخير والصلاح، ويقول: “لعل الله يخرج من أصلابهم من يستجيب لدعوتي ويؤمن بالله”، ولكن مع هذه المدة الطويلة لم يؤمن معه إلا قليل منهم، قال الله تعالى: ﴿‌وَأُوحِيَ ‌إِلَى ‌نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: 36]، وكان كلما انقرض جيل جاء منْ بعده جيل أخبث وألعن، فلقد كانوا يوصون أبناءهم بعدم الإيمان به، وكان الوالد يقول لولده إذا بلغ وعقل: يا بني، احذر هذا، لا يغرنّك عن دينك وآلهتك، ولهذا دعا عليهم بعد أن يئس من إيمانهم: ﴿إِنَّكَ إِنْ ‌تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 27] فكان بعد ذلك الطوفان([6]).

والخلاصة: أن نوحًا عليه لم يقْدِم على الدعاء على قومه إلا بعد اليأس منهم، وبذل النصح والتذكير طوال تسعمائة وخمسين عاما، والتحمّل في سبيل ذلك صنوفَ الأذى وأنواع الاتهامات، وصبره على إيذاء قومه بما لا طاقة لأحد على تحمله ولا قدرة له عليه. وبعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن منهم أحد إلا الذي آمن معه فقط، وبقي يؤذى ويعذب وهو مع ذلك صابر لا يدعو على قومه بالعذاب؛ وبعد استنفاذ جميع المحاولات دعا عليهم بعد أن يئس من إيمانهم: ﴿إِنَّكَ إِنْ ‌تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 27] فكان بعد ذلك العقاب والغرق والطوفان.

استغفار نوح عليه السلام:

أما استغفار نوح عليه السلام بقوله: ﴿‌رَبِّ ‌اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [نوح: 28] فلا يعني أنه وقع في ذنب، والاستغفار يستحب في كل الأحوال من الأنبياء وغيرهم؛ لأنه بشر معرَّض للخطأ والتقصير، وهو من كمال العبودية والأدب مع الله تعالى من أنبيائه، وجاء عن النبي ﷺ أنه كان يستغفر الله تعالى في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة([7])، وفي رواية: مائة مرة([8])، وليس ذلك لمعصية ارتكبها أو لخطأ فعله.

قال الرازي: “واعلم أنه لَمَّا دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزیه الله تعالى الأنبیاء عليهم السلام من المعاصي وجب حَمل ما تقدم على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سیئات المقربین؛ فلهذا السبب حمل هذا العتاب والأمر بالاستغفار، ولا یدل على سابقة الذنب؛ كما قال تعالى: ﴿‌إِذَا ‌جَاءَ ‌نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [سورة النصر]، ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار؛ قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: ١٩ ]، ولیس جمیعهم مذنبین، فدل ذلك على أن الاستغفار قد یكون بسبب ترك الأفضل”([9]).

ومع هذا فإن دعاء نوح على قومه كان خلاف الأولى؛ إذ كان الأولى أن يوكل أمر قومه إلى الله، إن شاء أهلكهم وإن شاء أبقاهم، كما صنع إبراهيم عليه السلام إذ قال: ﴿‌رَبِّ ‌إِنَّهُنَّ ‌أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 36]، وكما صنع عيسى عليه السلام إذ قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ ‌عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118]، فلما دعا نوح عليه السلام بإهلاك قومه كان قد ترك الأولى، وتركُ الأولى ليس ذنبا كما يدّعي بعض الواهمين، ومع هذا يستغفر منه الأنبياء؛ لسموّ درجتهم عند الله، وهذا ما فعله نوح عليه السلام([10]).

وأما عن اعتذاره عن الشفاعة يوم القيامة كما في الحديث: «إنّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعد مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري…»([11]) فإن هذا الحديث يدلّ أن اعتذار نوح عليه السلام عن الشفاعة لقومه لم يكن لخطأ قد ارتكبه، ولكن لأنه كانت له دعوة مستجابة فدعا بها على قومه، ولو أخرها لدعا واستشفع بها في هذا اليوم.

وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة»([12]).

وعلى هذا فإنّ اعتذار نوح عليه السلام عن الشفاعة يوم القيامة يكون بسبب استهلاكه الدعاءَ المستجابَ له في دعائه على قومه.

عصمة نوح عليه السلام:

قد اتفق العلماء على عصمة الأنبیاء عليهم السلام في كل ما كان طریقُه الإبلاغ في القول([13])، قال القاضي عياض: “وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه ‌من ‌الإخبار ‌عن ‌شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا”([14]).

وقال الرازي: “فالأمة مجمعة على كون الأنبیاء علیهم السلام معصومین عن الكذب والتحریف فیما یتعلق بالتبلیغ، وإلا لارتفع الوثوق بما أمروا بتبلیغه؛ واتفقوا على أن ذلك لا یجوز وقوعه منهم عمدًا كما لا یجوز أیضًا سهوًا”([15]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن الأنبياء -صلوات الله عليهم- معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة؛ ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه… والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين”([16]).

فتبين أن دعوة نوح على قومه بالهلاك واستغفاره لا يعد ذنبًا ولا معصية ينافي العصمة التي يتصف بها الأنبياء، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ‌بَلِّغْ ‌مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، وقال تعالى: ﴿‌وَلَوْ ‌تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44-47].

قال ابن تيمية: “الأنبياءُ -صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- معصومون من الإقرارِ على الذنوبِ كِبارِها وصغارِها، وهم بما أخبر اللهُ به عنهم من التوبةِ يرفَعُ دَرَجاتِهم ويُعَظِّمُ حَسَناتِهم؛ فإنَّ اللهَ يحبُّ التَّوَّابين ويحِبُّ المتطَهِّرين، وليست التوبةُ نقصًا، بل هي من أفضَلِ الكمالاتِ، وهي واجبةٌ على جميعِ الخَلقِ”([17]).

ويقول أيضا: “هم متَّفِقون على أنَّهم لا يُقَرُّون على خطأٍ في الدِّينِ أصلًا، ولا على فُسوقٍ ولا كَذِبٍ، ففي الجملةِ كُلُّ ما يقدَحُ في نبُوَّتِهم وتبليغِهم عن اللهِ فهم متَّفِقون على تنزيهِهم عنه. وعامَّةُ الجمهورِ الذين يجَوِّزون عليهم الصَّغائرَ يقولون: إنهم معصومون من الإقرارِ عليها، فلا يَصدرُ عنهم ما يَضُرُّهم”([18]).

وهذه الصَّغائِرُ التي تقَعُ من الأنبياءِ لا يجوزُ أن تُتَّخَذَ سَبيلًا للطَّعنِ فيهم والإزراءِ عليهم؛ فهي أمورٌ صغيرةٌ ومعدودةٌ غفرها اللهُ لهم، وتجاوز عنها، وطهَّرهم منها، فحَقُّ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ المحبَّةُ والتكريمُ والتوقيرُ، وعلى المُسلِمِ أن يأخُذَ العبرةَ والعِظةَ لنَفسِه من ذلك، فإذا كان الرُّسُلُ الكِرامُ الذين اختارهم اللهُ واصطفاهم عاتبهم اللهُ ولامهم على أمورٍ كهذه، فيَجِبُ إذًا أن يَكونَ العبدُ على حَذَرٍ وتخوُّفٍ مِن الذُّنوبِ والمعاصي، وأن يتأسَّى بالرُّسُلِ والأنبياءِ في المسارعةِ إلى التوبةِ إلى اللهِ وكثرةِ استِغفارِه([19]).

والحمد لله رب العالمين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع

([1]) ينظر: البداية والنهاية (1/ 237)، وعصمة الأنبياء، محمد أبو النور الحديدي (ص: 207).

([2]) ينظر: تفسير الطبري (15/ 320).

([3]) ينظر: تفسير القرطبي (9/ 36)، تفسير ابن كثير (4/ 323).

([4]) أخرجه البخاري (6929)، ومسلم (1792).

([5]) انظر: النبوة والأنبياء للصابوني (ص: 148-149).

([6]) انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 481).

([7]) أخرجه البخاري (5948).

([8]) أخرجه مسلم (7033).

([9]) التفسير الكبير (18/ 358).

([10]) انظر: عصمة الأنبياء (ص: 258)

([11]) أخرجه البخاري (3162)، ومسلم (501).

([12]) أخرجه البخاري (5945)، ومسلم (508).

([13]) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 420).

([14]) الشفا (2/ 746).

([15]) التفسير الكبير (3/ 7).

([16]) مجموع الفتاوى (10/ 289-290).

([17]) مجموع الفتاوى (15/ 51).

([18]) منهاج السنة النبوية (1/ 472).

([19]) انظر: الرسل والرسالات، لعمر الأشقر (ص: 112).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

قواعد عامة للتعامل مع تاريخ الوهابية والشبهات عنها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يفتقِر كثيرٌ من المخالفين لمنهجية الحكم على المناهج والأشخاص بسبب انطلاقهم من تصوراتٍ مجتزأة، لا سيما المسائل التاريخية التي يكثر فيها الأقاويل وصعوبة تمييز القول الصحيح من بين ركام الباطل، ولما كانت الشبهات حول تاريخ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب كثيرة ومُتشعبة رأيت أن أضع قواعد عامة […]

تَعرِيف بكِتَاب (مجموعة الرَّسائل العقديَّة للعلامة الشَّيخ محمد عبد الظَّاهر أبو السَّمح)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المعلومات الفنية للكتاب: عنوان الكتاب: مجموعة الرَّسائل العقديَّة للعلامة الشَّيخ محمد عبد الظَّاهر أبو السَّمح. اسم المؤلف: أ. د. عبد الله بن عمر الدميجي، أستاذ العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى. رقم الطبعة وتاريخها: الطبعة الأولى في دار الهدي النبوي بمصر ودار الفضيلة بالرياض، عام 1436هـ/ 2015م. […]

الحالة السلفية عند أوائل الصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعدَّدت وجوه العلماء في تقسيم الفرق والمذاهب، فتباينت تحريراتهم كمًّا وكيفًا، ولم يسلم اعتبار من تلك الاعتبارات من نقدٍ وملاحظة، ولعلّ أسلمَ طريقة اعتبارُ التقسيم الزمني، وقد جرِّب هذا في كثير من المباحث فكانت نتائج ذلك محكمة، بل يستطيع الباحث أن يحاكم الاعتبارات كلها به، وهو تقسيم […]

إعادة قراءة النص الشرعي عند النسوية الإسلامية.. الأدوات والقضايا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تشكّل النسوية الإسلامية اتجاهًا فكريًّا معاصرًا يسعى إلى إعادة قراءة النصوص الدينية المتعلّقة بقضايا المرأة بهدف تقديم فهمٍ جديد يعزّز حقوقها التي يريدونها لا التي شرعها الله، والفكر النسوي الغربي حين استورده بعض المسلمين إلى بلاد الإسلام رأوا أنه لا يمكن أن يتلاءم بشكل تام مع الفكر الإسلامي، […]

اختلاف أهل الحديث في إطلاق الحدوث والقدم على القرآن الكريم -قراءة تحليلية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدّ مبحث الحدوث والقدم من القضايا المركزية في الخلاف العقدي، لما له من أثر مباشر في تقرير مسائل صفات الله تعالى، وبخاصة صفة الكلام. غير أنّ النظر في تراث الحنابلة يكشف عن تباينٍ ظاهر في عباراتهم ومواقفهم من هذه القضية، حيث منع جمهور السلف إطلاق لفظ المحدث على […]

وقفة تاريخية حول استدلال الأشاعرة بصلاح الدين ومحمد الفاتح وغيرهما

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يتكرر في الخطاب العقدي المعاصر استدعاء الأعلام التاريخيين والحركات الجهادية لتثبيت الانتماءات المذهبية، فيُستدلّ بانتماء بعض القادة والعلماء إلى الأشعرية أو التصوف لإثبات صحة هذه الاتجاهات العقدية، أو لترسيخ التصور القائل بأن غالب أهل العلم والجهاد عبر التاريخ كانوا على هذا المذهب أو ذاك. غير أن هذا النمط […]

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الثاني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة خامسًا: الاستدلال بإباحة التوسل وشدّ الرحل لقبور الصالحين: استدلّ المخالفون بما أجازه جمهور المتأخرين من التوسّل بالصالحين، أو إباحة تحرّي دعاء الله عند قبور الصالحين، ونحو ذلك، وهاتان المسألتان لا يعتبرهما السلفيون من الشّرك، وإنما يختارون أنها من البدع؛ لأنّ الداعي إنما يدعو الله تعالى متوسلًا بالصالح، أو عند […]

الاستدلال بتساهل الفقهاء المتأخرين في بعض بدع القبور (الجزء الأول)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من المعلوم أن مسائل التوحيد والشرك من أخطر القضايا التي يجب ضبطها وفقَ الأدلة الشرعية والفهم الصحيح للكتاب والسنة، إلا أنه قد درج بعض المنتسبين إلى العلم على الاستدلال بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين لتبرير ممارساتهم، ظنًّا منهم أن تلك الأقوال تؤيد ما هم عليه تحت ستار “الخلاف الفقهي”، […]

ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ

أحد عشر ممن يقال: أساء المسلمون لهم في التاريخ. مما يتكرر كثيراً ذكرُ المستشرقين والعلمانيين ومن شايعهم أساميَ عدد ممن عُذِّب أو اضطهد أو قتل في التاريخ الإسلامي بأسباب فكرية وينسبون هذا النكال أو القتل إلى الدين ،مشنعين على من اضطهدهم أو قتلهم ؛واصفين كل أهل التدين بالغلظة وعدم التسامح في أمورٍ يؤكد كما يزعمون […]

كيفَ نُثبِّتُ السُّنة النبويَّة ونحتَجُّ بها وَقَد تأخَّر تدوِينُها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ إثارةَ الشكوك حول حجّيّة السنة النبوية المشرَّفة بسبب تأخُّر تدوينها من الشبهات الشهيرة المثارة ضدَّ السنة النبوية، وهي شبهة قديمة حديثة؛ فإننا نجدها في كلام الجهمي الذي ردّ عليه الإمامُ عثمانُ بن سعيد الدَّارِميُّ (ت 280هـ) رحمه الله -وهو من أئمَّة الحديث المتقدمين-، كما نجدها في كلام […]

نقد القراءة الدنيوية للبدع والانحرافات الفكرية

مقدمة: يناقش هذا المقال لونا جديدًا منَ الانحرافات المعاصرة في التعامل مع البدع بطريقةٍ مُحدثة يكون فيها تقييم البدعة على أساس دنيويّ سياسيّ، وليس على الأساس الدينيّ الفكري الذي عرفته الأمّة، وينتهي أصحاب هذا الرأي إلى التشويش على مبدأ محاربة البدع والتقليل من شأنه واتهام القائمين عليه، والأهم من ذلك إعادة ترتيب البدَع على أساسٍ […]

كشف الالتباس عما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى في حق الرسل عليهم السلام: (وظنوا أنهم قد كُذبوا)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن ابن عباس رضي الله عنهما هو حبر الأمة وترجمان القرآن، ولا تخفى مكانة أقواله في التفسير عند جميع الأمة. وقد جاء عنه في قول الله تعالى: (وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ) (يوسف: 110) ما يوهم مخالفة العصمة، واستدركت عليه عائشة رضي الله عنها لما بلغها تفسيره. والمفسرون منهم […]

تعريف بكتاب “نقض دعوى انتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة بدلالة الكِتابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقَـدّمَـــة: في المشهد العقدي المعاصر ارتفع صوت الطائفة الأشعرية حتى غلب في بعض الميادين، وتوسعت دائرة دعواها الانتساب إلى أهل السنة والجماعة. وتواترُ هذه الدعوى وتكرارها أدّى إلى اضطراب في تحديد مدلول هذا اللقب لقب أهل السنة؛ حتى كاد يفقد حدَّه الفاصل بين منهج السلف ومنهج المتكلمين الذي ظلّ […]

علم الكلام السلفي الأصول والآليات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اختلف العلماء في الموقف من علم الكلام، فمنهم المادح الممارس، ومنهم الذامّ المحترس، ومنهم المتوسّط الذي يرى أن علم الكلام نوعان: نوع مذموم وآخر محمود، فما حقيقة علم الكلام؟ وما الذي يفصِل بين النوعين؟ وهل يمكن أن يكون هناك علم كلام سلفيّ؟ وللجواب عن هذه الأسئلة وغيرها رأى […]

بين المعجزة والتكامل المعرفي.. الإيمان بالمعجزة وأثره على تكامل المعرفة الإنسانية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لقد جاء القرآن الكريم شاهدًا على صدق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى صدق الأنبياء كلهم من قبله؛ مصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات. وهذا وجه من أوجه التكامل المعرفي الإسلامي؛ فالقرآن مادّة غزيرة للمصدر الخبري، وهو […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017