تكفير الإنسانية بين الفجور في الخصومة وإنكار أسماء الشرع
لا يشكّ معتنقٌ لأيّ دين من الأديان أنّ ثمةَ أصولا تعدّ حواجزَ بين الإيمان بهذا الدين وبين الكفر به، وهذا أصل متَّفق عليه بين معتنقي الديانات؛ لكن مع موجة العلمانية الجديدة وأَنسنة الحياة الدينية والثقافية ظهر مشترَك بين البشرية يُراد له أن يعلوَ فوق كلّ سماء وأن يحكم على كلّ شرع، وصار المتديِّن يُدان حين يقسّم البشرية إلى مؤمنين وكفار وأشقياء وسعداء، وهذا الطرح يحاول مدافعة واقع لا محيص عنه، ويدعو لشيء لا يمكن تمثُّله؛ لأن قائله منكر لقول غيره، وهم بشر مثله، سيحكم عليهم بالخطأ والمصادرة، وهو ما ينقض أصله ويرجع عليه بالبطلان.
وللرد على هذه الفكرة نبين الآتي:
أولا: اتفاق العقلاء على وجود الحسن والقبح:
فقد عُلم بالعَقل وجود الحسن والقبح في الأشياء، وأن ثمّة أفعالًا تصدُر عن الإنسان يتّفق أهل العقول السليمة على وصفها بالقبح مثل الكذب المحض، والقتل ظلما عدوانا، والحكم بقبح هذه الأشياء لا يتوقّف على دليل شرعيّ، وإنما الذي يتوقّف على الدليل هو ثبوت العقاب أو الثواب([1]).
فمطالبة الإنسان بإلغاء عقله لصالح مفهوم الإنسانية ازدراءٌ للعقل وللإنسانية، ودليل ذلك أن هؤلاء لا بد أن يحكموا على الأفعال بأن فيها ما لا يليق بالإنسانية، بل ويناقضها ويخرج بها إلى البهيمية، إلا أنهم يخطئون في المثال، فيجعلون زواجر الشرع من عقوبات وأسماء وأحكام مخالفة للإنسانية، بينما الشذوذ والمثلية والتحوّل الجنسي والتصرّف في الجسد ببيع بعض الأعضاء وإبقاء بعضها مما هو مناقض حقيقة لطبيعة البشرية والآدمية لا يستقبحونه ولا يستنكرونه، وهذا يدلك -أيها المبارك- على حجم تحكّم الهوى في عقول هؤلاء، وهذا الملمح يكفي لإبطال شرائع هؤلاء ودعواهم.
ثانيا: اللوازم الباطلة لهذه الدعوى:
مما يناقض هذه الدعوى أنه يلزم منها التسوية بين البشرية في مطلق الإنسانية وجعل مجرد الإنسانية صفة كمال، وهو أمر مدفوع بالواقع؛ إذ الإنسانية لا تُكسب صاحبها ميزة بمجرد أنه خلِق على هيئة الإنسان ما لم يُضف إليها ما هو كمال في الإنسان من العقل والعلم والدين، ومن لا يعتبر هذه أوصاف كمالًا في النفس البشرية فحسبه رأيه في إدانته، وقد ثبت لنا بصريح العقل وصحيح النقل أن ميزة الإنسان هي العلم -أي: حقيقته أو قابليته- وأن أفعاله توصف بالحسن والقبح لهذا المعنى، ولو لم يكن موجودا فيه لكانت أفعاله من جنس أفعال البهائم، لا توصف بحسن ولا بقبح؛ لأن غياب العلم والعقل ينفيان الحسن والقبح عن الفعل؛ لأن إضافتهما إلى صاحب الفعل لا تكسبه مدحًا ولا ذمًّا؛ لأن العقل يُجوِّز عليه الفعلين بالتساوي، فلم يكلّف الله غير العاقل، ولم يحاسب غير العالم؛ ولهذا فسر العلماء الأمانة بالتعلم في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. قال الراغب الأصفهاني: “هو حروف التهجّي وما تركّب منها من الأسماء التي كانت قد علمها وما انتتج منها من العلوم الحقيقة والأعمال الفاضلة، فإنّ أصل الإيمان العلومُ الصادقة والأعمال الصالحة، فمن الحروف تتركب مفردات الألفاظ، نحو: زيد، عمرو، وذهب، خرج، من، عن ومن المفردات تركّب المقدمات المفردة، نحو: زيد خارج، وعمرو ذاهب، ومن المقدمات تتركب الأدلة والأخبار المؤلفة، ومن الأدلة المفردة الصادقة يتوصّل إلى حقائق العلوم، وبحقائق العلوم يتوصل إلى الأعمال الصالحة، وبمجموعها يحصل الإيمان الذي يتحقّقه، ويصير الإنسان تامّ التوبة متطهّرًا من النقيصة، محبوبًا لرب العزة”([2]).
فإذا اعتبرنا مجرد البشرية دون نظر إلى كمالاتها التي هي سرّ تفضيلها من عقل وعلم وغنى ومال وجاه وغير ذلك؛ فإننا نزري بالبشرية، ونجعل لها معيارا عائما لا فرق فيه بين العاقل والغافل، ولا بين المستور والعريان، وهو أمر وإن رضيته النفوس لغلبة الشهوة، فإن العقول تأنفه وتستكبر عنه حين يرد إليها الأمر.
ثالثا: موقف الشرع من هذه الدعوة وبيان مناقضتها لطبيعة الخلقة ومقاصدها:
من نظر في نصوص الشرع وتفحَّصها وجد أنها لا تعطي كبير قدر للإنسان إذا خلا من صفة الإيمان وكمال الخلق، بل إن فناءه في هذه الحالة يعد نعمة على بقية البشرية التي حجبها وجود هذا النوع من البشر عن الحقيقة، وأزعج بعضها بالصدّ عن سبيل الله، فتأتي الشرائع مشيّدة بالسنن الكونية التي كانت سببا في تدمير هذا الإنسان وما صنع، قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] أي: “وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العِمارات والمزارع، {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} يقول: وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخرَّبنا جميع ذلك”([3]).
وقال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29]، قال البغوي: “وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده، ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه”([4]).
والقرآن يتحدّث كثيرا عن ثنائية الخير والشر في البشر، ويبين أنها مصاحبة لخلقتهم، فتارة يعبر عن الخير بالخير وعن الشر بالشر، وتارة بنظيرهما من الاصطلاحات الشرعية مثل الكفر والإيمان والهداية والضلال، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2]، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون فرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
ولم يختلف العقلاء أن الخير والشرّ مستقلان عن ذات الإنسان، ولا ينضبطان به، بل هما معنيان قد يقوم أحدهما بالإنسان ويخلو من ضده، وقد يجتمعان فيه باعتبارات مختلفة، والعبرة في ذلك بقواطع العقول وظواهر النصوص كما اتفق أهل الملة على أن الكفر هو أقبح ذنب يأتي به العبد ربه، وصاحبُه موصوفٌ بكل نقيصة، قال تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِين} [التوبة: 2]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 60].
وقد نصت آيات كثيرة على أن الاستحسان البشري الذي مستندُه الشهوة ودافعُه الجهل لا عبرةَ به لا في العقائد ولا في الأحكام، قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66]، وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، وقال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
فالحق ضدّ الضلال، والوحي ضد الهوى، والكفر ضد الإيمان، والعقل ضد الجنون، والبشرية خلقت للامتحان، وحملت الأمانة لأجل الجزاء، والإنسان العالم خير من الجاهل وإن اشتركا في الإنسانية، كما أن العاقل غير من الغافل، والشخص العامل لا يمكن مقارنته بالكسول، فكذلك المؤمن لا يستوي مع الكافر، لا في أحكام الدنيا ولا في الجزاء عند الله، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
فشرع الله لا يسوّي بين هؤلاء وهؤلاء، والعقول السليمة كذلك لا تسوي بينهم، والاشتراك في الخلقة لو اعتبر معيارًا في الفضل للزم التساوي، والتساوي رافع للتكليف؛ لأن الكمال عزيز، فلم يبق إلا التساوي في النقص، وقد قضت حكمة الله بتفاوت البشرية في كل شيء، والمعتبر منه في المدح هو الدين والعقل، فمتى ما وجدا لم يضر معهما نقص، ومتى ما فقدا فقد الكمال.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1]) ينظر في عرض هذه المسألة ومآخذها: درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح (ص: 86)، ومجموع الفتاوى (8/ 434)، والفتاوى الكبرى (6/ 611).
[2]) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 161).
[3]) تفسير الطبري (13/ 78).
[4]) تفسير البغوي (4/ 178).