الثلاثاء - 28 شوّال 1445 هـ - 07 مايو 2024 م

اليهود والغدر

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

اليهود تكلّم عنهم القرآن كثيرا، وقد عاشوا بين المسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعايشهم وخبرهم، والسنة والسيرة مليئة بالأحداث التي حصلت مع اليهود، وحين نتأمل في تاريخ هذه الأمة نجد فيها كل الصفات التي ذكرها الله عنها في كتابه العزيز، فقد كان اليهود وراء فساد الأديان، وفساد الأخلاق، وفساد الأفكار، وفساد الصحافة والإعلام؛ وهو ما لا يخفى على أحد، وقد وصفهم الله في القرآن بكثير من الصفات.

فقد وصفهم بالجبن فقال تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].

ووصفهم بعبادة الدنيا والحرص عليها فقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].

ووصفهم بأنهم سمَّاعون للكذب محرفون لكلام الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

كما وصفهم بأكل المال الحرام فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].

ووصفهم بالجرأة على الله ووصفه بما لا يليق، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]، كما ذكر أنهم يشعلون الحروب، ويسعون في الأرض فسادا، قال: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64].

ومن أكثر صفاتهم التي عُرفوا بها ومارسوها ونراها في واقعهم: الغدر والخيانة، وقد ذكرها الله في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155]، وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: 13]. فصفة الغدر والخيانة ونقض المواثيق من الصفات المتجذرة في الأمة اليهودية.

ومن أعظم الخيانات: خيانتهم لأنفسهم في اتباع الحق، فقد ذكر الله عنهم كيف أنهم كانوا ينتظرون مبعث رسولٍ من الله، فلما بُعث من غير أمتهم وبالرغم من أنهم عرفوه بأوصافه كفروا به، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، يقول الطبري (ت: 310هـ): “عن ابن عباس: أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته! فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله -جل ثناؤه- في ذلك من قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}”([1]).

ولا يتعلق الأمر بخيانة أنفسهم، بل هي صفة لطالما ظهرت في تاريخهم إلى يومنا هذا، ومن ذلك:

اليهود مع موسى عليه السلام:

أرسل الله موسى عليه السلام إلى اليهود، وطوال فترة بقائه عندهم كان اليهود ينقضون العهد مرة بعد الأخرى، فبعد أن نجَّاهم الله من الهلاك والغرق وأنعم عليهم وفجر لهم الماء ماذا كان قولهم؟ قال الله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: 138-141].

فانظر عِظَم غدرهم واستهانتهم بما أنعم الله به عليهم، وبالمعجزات التي رأوها، وكيف غدرهم بمن أنعم عليهم فنجاهم من الغرق، ونجاهم من فرعون ثم ذهبوا يطالبون بآلهة أخرى! يقول السعدي (ت: 1376هـ): “{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} بعد ما أنجاهم الله من عدوهم فرعون وقومه، وأهلكهم الله، وبنوا إسرائيل ينظرون. {فَأَتَوُا} أي: مروا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} أي: يقيمون عندها ويتبركون بها، ويعبدونها. فـ{قَالُوا} من جهلهم وسفههم لنبيهم موسى بعدما أراهم الله من الآيات ما أراهم: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أي: اشرع لنا أن نتخذ أصناما آلهة كما اتخذها هؤلاء”([2]).

ومهما رأوا من الآيات والمعجزات لا يعتبرون، بل يعودون لطبعهم، فبعد أن رأوا الآيات وطلبوا أن يعبدوا آلهة أخرى وبيّن لهم موسى عليه السلام فساد قولهم وطلبهم؛ تمَّم الله نعمته على بني إسرائيل، فطلب من موسى عليه السلام الذهاب إلى ربه أربعين ليلة، فماذا حصل في هذه الليالي؟

قوم رأوا كل الآيات والمعجزات، وذهب نبيهم يأتي بكتاب من الله، لكنهم في غيابه نقضوا العهد مرة أخرى، وذهبوا يبحثون عن آلهة أخرى! لا يفتؤون يبحثون عن آلهة يعبدونها من دون الله، والله هو المنعم عليهم والمتفضل عليهم ومنجيهم! وقد حكى الله ذلك في كتابه فقال: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 148، 149].

والمتأمل في أحوالهم يجد أنهم كلما وقعوا في ضيق ومصيبة التجؤوا إلى الله، وكلما خرجوا منها بحثوا عن آلهة أخرى أو تمردوا على نبي الله موسى عليه السلام، كما حصل حين طُلب منهم القتال كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 20-24].

فمهما رأوا من الآيات والمعجزات يبقى الطبع متجذّرا فيهم، ومهما أنعم الله عليهم وأكرمهم ينقلبون على أعقابهم سريعًا، وليس هذا إلا صفة من صفاتهم الذميمة، وغدرا وخيانة لمن أخرجهم ومكّنهم، وقد طلب الله منهم طلبا فقال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58]، لكن ماذا كان ردهم؟ قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59].

فلما أبوا وبدّلوا وحرفوا عاقبهم الله بأن رفع فوقهم الطور، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63]، “عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا: حطة، فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجَّدا على شقّ، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم”([3]).

ثم كيف كان التصرف منهم؟ قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، يقول ابن كثير (ت: 774هـ): “وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكَّد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه، {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: توبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة”([4]). فنقضوا العهد والميثاق، وهو دأبهم.

غدرهم بالأنبياء:

ولم تكن هذه الصفة مع موسى عليه السلام فقط، بل أخبر الله عن بني إسرائيل أن عهدهم وصفتهم هو قتل الأنبياء والغدر بهم، وقد ذكر الله ذلك عنهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155].

غدرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم:

عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية كان لليهود في المدينة قوة ومنعة، وكان منهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة بتنظيم أمور المسلمين، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ومن جملة ما فعله للحِفاظ على أمن المدينة المنورة وجمع كلمة أهلها: أنه أشرك اليهود في عملية البناء الكبيرة للدولة في المدينة المنورة، وذلك عن طريق تنظيم العلاقات بطريقة رسمية بين أهل المدينة وبين اليهود، فكُتبت العهود بين المسلمين واليهود، يقول ابن هشام (ت: 213هـ): “قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم”، وفيه: “وإنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم؛ فإنه لا يوتغ([5]) إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بن عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف… وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”([6]).

إلا أن اليهود لم يكونوا مؤتمنين يوما على مثل هذه العهود، ومع أن الإسلام حرم نقض المواثيق والعهود، كما أن المسلمين قد أوفوا لهم ما عاهدوهم عليه، إلا أن أنياب الخيانة والغدر قد ظهرت منهم في مواقف كثيرة، فكلما ضعف المسلمون أظهروا غدرهم الدفين، وسنرى كيف غدروا بالمسلمين في مرات كثيرة كان المسلمون فيها في ضعف وانكشاف، فاستغل اليهود كعادتهم هذا الوقت حتى يغدروا بالمسلمين ويطعنوهم في ظهورهم.

ولم يغدر اليهود بالمسلمين فحسب، بل غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عدة حوادث، منها:

1- محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء الصخرة عليه، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية قتيل، فأرادوا قتله عليه الصلاة والسلام، يقول ابن كثير (ت: 774هـ): “قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحِلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به”([7]).

فلا شك أن هذا غدر وخيانة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبينهم وبين المسلمين العهود والمواثيق، وقد جاءهم وهو مستأمن لهم لأجل هذه العهود.

2- تسميم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر وحاصرهم على ما سيأتي ذكره، فلما عرضوا عليه الصلح قبله، وفي هذا الوقت قدّموا للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا إليّ من كان هاهنا من يهود» فجُمعوا له، فقال: «إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟» فقالوا: نعم، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟» قالوا: فلان، فقال: «كذبتم، بل أبوكم فلان»، قالوا: صدقت، قال: «فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألت عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: «من أهل النار؟» قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا»، ثم قال: «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: «هل جعلتم في هذه الشاة سما؟» قالوا: نعم، قال: «ما حملكم على ذلك؟» قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيا لم يضرك([8]).

وهكذا كان غدرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم قتله، وقد نقضوا العهود وغدروا بالمسلمين وخانوا ما كان بينهم وبين المسلمين من عهد في أحلك الظروف، وهو ما سنعرفه في النقطة الآتية.

غدرهم بالمسلمين:

إن كان المسلمون قد أوفوا لليهود عهودهم فإن اليهود لم يفعلوا ذلك، بل تحينوا الفرص للقضاء على المسلمين في أحلك الظروف وفي أحرج الأوقات، وأخافوا المسلمين في ذراريهم ونسائهم، ومن تلك المواطن التي غدروا فيها بالمسلمين:

1- يهود بني قينقاع:

كان يهود بني قينقاع أول من غدروا بالمسلمين وخانوا العهود، وكان ذلك بين غزوة بدر وأحد، فقد كانوا يظهرون الاستعلاء والاستكبار على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فبعد انتصار المسلمين في غزوة بدر ارتفع غليان حقدهم على المسلمين، وأظهروا ما أخفَوه من تكبر واستعلاء ومجاهرة بالعداء، يقول ابن إسحاق (ت: 151هـ): “وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوق بني قينقاع فقال لهم: «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم»، قالوا: يا محمد، إنك ترانا كقومك، يغرك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة! إنا والله لو حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس”([9]).

ثم استبدّ الطغيان والسفاهة في بني قينقاع فلم يعودوا يأبهون بجانب المسلمين أو يحترمون معاهدتهم معهم، بحيث بلغ بهم الاستهتار أن اعتدوا على حرمات المسلمين، وكان أمر ذلك كما قاله ابن هشام (ت: 213هـ): “إن من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بن قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع”([10]). فحينئذ حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم، يقول المباركفوري (1427هـ): “وحينئذ عيل صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب -الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذف في قلوبهم- فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا.

وحينئذ قام عبد الله بن أبيّ ابن سلول بدوره النفاقي، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم عفوًا، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ -وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج- فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرر ابن أبيّ مقالته، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلني»، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُلَلا، ثم قال: «ويحك، أرسلني»، ولكن المنافق مضى على إصراره، وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر.

وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المنافق -الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب- عامله بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام”([11]).

2- بنو النضير:

بنو النضير مثل غيرهم من اليهود الذين غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وخانوا العهود، وقد مرّ بنا الحديث عن محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاولوا ذلك رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قال ابن كثير (ت: 774هـ): “قال الواقدي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمي حيي بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود. فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم. قال الواقدي: فحاصروهم خمس عشرة ليلة… وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟!

قال: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبيّ ووديعة ومالك وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم.

فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة”([12]).

فهذه صفحة أخرى من صفحات الغدر اليهودي بالمسلمين وبالنبي صلى الله عليه وسلم.

3- بنو قريظة:

من أبرز الخيانات والغدر الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما كان من بني قريظة، فقد كان في وقت عصيب يمرّ به المسلمون، فقد نقض بنو قريظة العهد في الوقت الذي أحاط فيه المشركون بالمسلمين من كل الجهات، وكان غدر اليهود من الداخل، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمن جانبهم للعهود والمواثيق التي بينه وبينهم، لكنهم جبلوا على الغدر والخيانة ونقض المواثيق، وقد كان النقض هذه المرة ببراعة وخبث شديدين، وقد اختصر لنا القصة ابن سيد الناس (ت: 734هـ) فقال: “خرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحُيي أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حُيي: ويحك يا كعب، افتح لي. قال: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلا تخوفا على جشيشتك أن آكل معك منها، فأحفَظَ الرجل ففتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزّ الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وغطفان حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه… فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام الخبر وإلى المسلمين بعث رسول الله عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير… [فأبلغوا النبي بخيانتهم] وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين”([13]).

هذه كانت قصة الحرب والقتال منهم، فلما انقضت غزوة الخندق سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما عند ابن هشام (ت: 213هـ): “قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعا الى المدينة والمسلمين ووضعوا السلاح… فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما حدثني الزهري- معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقَد وضعتَ السلاح يا رسول الله؟! قال: «نعم»، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعدُ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك -يا محمد- بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذِّنا، فأذن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة»، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه كعب بن أسد ينصح قومه، فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا”([14]). فعرض عليهم الإسلام أو القتال أو النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه، فحكَّم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وذلك أن ما قام به هؤلاء ليس مجرد نقض للعهد، بل هو غدر وحرب.

وأخيرا:

من خلال استرشادنا بالقرآن الكريم والسيرة النبوية ندرك أن اليهود أمة غدر ونقض للعهود، والإسلام لا يظلم أحدًا، فمن أحسن منهم فهو محسن، لكن القرآن الكريم قد فضح جِبِلّة الغدر التي تنطوي عليها النفسية اليهودية في علاقتها مع الآخر غير اليهودي، ورأينا مصداق ذلك في السيرة النبوية، ثم على مر التاريخ الإسلامي، وقد خلّد الله تعالى صفتهم في آية تتلى إلى يوم القيامة، فقال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]، يقول الطبري (ت: 310هـ): “وأما العهد فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملُنّ بما في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم -جل ذكره- بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان -جل ذكره- أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أَوَكلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا نبذه فريق منهم فتركه ونقضه؟!”([15]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) تفسير الطبري (2/ 333).

([2]) تفسير السعدي (ص: 302).

([3]) تفسير الطبري (2/ 159).

([4]) تفسير ابن كثير (1/ 288).

([5]) أي: يهلك.

([6]) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 31-35).

([7]) السيرة النبوية لابن كثير (3/ 145-146).

([8]) أخرجه البخاري (3169).

([9]) سيرة ابن إسحاق (ص: 313-314).

([10]) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 314).

([11]) الرحيق المختوم (ص: 216-217).

([12]) السيرة النبوية لابن كثير (3/ 146-147).

([13]) عيون الأثر (2/ 88).

([14]) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 192-198).

([15]) تفسير الطبري (2/ 400).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟

  خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! […]

حديث: «جئتكم بالذبح» بين تشنيع الملاحدة واستغلال المتطرفين

الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم. والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال. ومن […]

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017