ذم البدعة الإضافية والذِّكْر الجماعي هل هو من خصوصيات الشاطبي وابن الحاج؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
موضوع البدعة من أهم الموضوعات حضورًا في تاريخنا الإسلامي وفي الفكر المعاصر، وقد شكَّلت قضية البدعة الإضافية أزمةً معاصرة في الرواق العلمي في الآونة الأخيرة لعدم ضبط المسألة وبيان مواردها، وبسبب حيرة بعض المعاصرين وتقصيرهم في تحقيق المسألة جعلوها من قضايا الخلاف السائغ التي لا يصح الإنكار فيها! وأنكروا على العلماء السلفيين تماشيًا مع الأوضاع المعاصرة، حتى زعم أحد الشيوخ الأفاضل أن ذم البدعة التي تندرج تحت أصلٍ عام هو من شذوذ الإمام الشاطبي وابن الحاج المالكي! وفات هذا الشيخ أن يذكر أبا شامة والطرطوشي وابن تيمية وعامة المالكية ضمن من زعم أنهم شذوا!
ولا يشك من استقرى المسألة تمام الاستقراء أن ذم البدع الإضافية ليست من خصوصيات هؤلاء العلماء السالف ذكرهم، بل لو قلنا: إن ذم البدع الإضافية هو قول جمهور العلماء لم يكن ذلك مبالغة منا، فالخلاف الوارد عنهم هو في آحاد تلك البدع، لا في أصل البدع الإضافية -وسيأتي بيان ذلك-. بل إن ابن تيمية ينقل اتفاق المسلمين ويقول: “وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين، ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التى يتقرب بها إلى الله”([1]).
ولعل ما سبَّب إشكالًا واضطرابًا في المسألة هو التداخل الحاصل فيها بسبب:
1- المبالغة في تقديس كلام متأخري المذاهب، لا سيما في الآونة الأخيرة، كردّ فعل للتوسع الحاصل لما يسمَّى بفقه الدليل.
2- الظن أن تقسيم بعض العلماء البدعة إلى حسنة ومذمومة أو حتى إلى الأحكام الخمسة هو بمثابة إباحةٍ منهم للبدعة الإضافية، وليس ذلك بلازم، فهو تقسيم اصطلاحي.
3- اختلاف العلماء حول آحاد المسائل -التي مرجعها الحديث النبوي-، فيظن الظان أنهم يجوّزون البدع بالاستحسان، والأمر ليس كذلك.
4- زلات بعض العلماء، كإباحة الغزالي وابن الصلاح صلاة الرغائب، وقد ردّ عليهم جموع غفيرة من أهل العلم -كما سيأتي-.
والحاصل أنه بسبب هذه الأمور السابقة وغيرها حصل تداخل في المسألة بما جعل بعض المعاصرين يضطرب فيها.
ولعل أجمع تعربف للبدعة يمنع التداخل فيها هو ما ذكره الشاطبي بقوله: “طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه”([2]).
وقوله (تضاهي الشرعية) أي: تشبه الطريقة الشرعية، لكنها في الحقيقة مضادة لها، وقد مثل الشاطبي للبدعة بقوله: ومنها: التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شبعان وقيام ليلته. انتهى.
شبهة نقل بعض المتأخرين الإجماع على الجهر بالذكر جماعيًّا:
إن أعظم ما يستدلّ به الخصوم هو كلام بعض الفقهاء في القرون المتأخرة، ومنه قول الطحطاوي في حاشيته: “وأجمع العلماء سلفًا وخلفًا على استحباب ذكر الله تعالى جماعة في المساجد وغيرها من غير نكير، إلا أن يشوش جهرهم بالذكر على نائم أو مصلّ أو قارئ قرآن”([3]).
وما نقله الطحطاوي من الإجماع باطل لا يُلتفت إليه، وينقضه ما قاله ابن بطال: “إن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير”([4]). فنقل ابن بطال إجماعًا يخالف ما نقله الطحطاوي.
ومعلوم خلاف المالكية في المسألة، بل الإجماع الذي نقله الطحطاوي منقوض حتى من أهل مذهبه الحنفي، قال الإمام الكاساني الحنفي: “رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل، لأنه ذكر. والسنة في الأذكار المخافتة؛ لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، ولقوله: (خَير الدعاء الخفي). ولذا فإنه أقرب إلى التضرع والأدب، وأبعد عن الرياء، فلا يترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص”([5]).
وجاء في الفتاوى الخانية في الفقه الحنفي: “أنه -أي: الأذان- ليس لغير المكتوبات، وأنه خمس عشرة كلمة، وآخره عندنا: لا إله إلا الله، وما يذكر بعده أو قبله كله من المستحدثات المبتدعة، ابتدعت للتلحين لا لشيء آخر، ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين، ولا عبرة بقول من قال: إن شيئًا من ذلك بدعة حسنة؛ لأن كل بدعة في العبادات على هذا النحو فهي سيئة”([6]).
والشيخ الطحطاوي رحمه الله من علماء القرن الثالث عشر الهجري، أي: من طبقة متأخري المتأخرين، وهذه الطبقة من مشايخ المذاهب لهم عجائب تخالف حتى أهل مذهبهم من طبقات المتقدمين والمتوسطين.
فهذا الشيخ الباجوري يقول في حاشيته: “ويُكره تقبيل القبر واستلامه، ومثله التابوت الذي يجعل فوقه، وكذلك تقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، إلا إن قصد به التبرك بهم فلا يُكره، وإذا عجز عن ذلك لازدحام ونحوه -كاختلاط الرجال بالنساء كما يقع في زيارة سيدي أحمد البدوي- وقف في مكان يتمكن فيه من الوقوف بلا مشقة، وقرأ ما تيسر، وأشار بيده أو نحوها ثم قبَّل ذلك؛ فقد صرحوا بأنه إذا عجز عن استلام الحجر الأسود يسنّ له أن يشير بيده أو عصا ثم يقبلها”([7]).
فالشيخ الباجوري قرر المذهب أولًا، ثم غيَّر مساره بتأويل يوافق بدع أهل زمانه، وقلب حكم تقبيل القبر واستلامه إلى الإباحة إذا قُصد التبرك، فليت شعري، فهل كان هناك غرض من اللمس والتقبيل إلا التبرك! وقياس الباجوري تقبيل قبر البدوي على تقبيل الحجر الأسود فيه ما فيه.
والمقصود أن طبقة “متأخري المتأخرين” قد سايروا البدع التي انتشرت في أهل زمانهم، وأوَّلوا كلام متقدّميهم تعسُّفًا، ظنًّا منهم أن الأوضاع التي عايشوها صحيحة، ولا تخالف ما درسوه في الكتب. وإنه لمن الخطأ البيِّن عند طالب علم نبيه -فضلًا عن عالم- أن يعتمد على هؤلاء المتأخرين في كبريات القضايا المتنازع فيها، وإلا لذهبت جهود المُجدّدين وعلماء الإصلاح في القرن الماضي سدى.
لكن ثمة شبهة يدندن حولها المخالفون دائمًا، ومحصّلها أن علماء المتأخرين هم الذين لهم الحق في تفسير كلام الأئمة؛ إذ عليهم مدار معتمد المذهب.
ويُرد على ذلك: بأن هذا الكلام قد يُقبل تجوّزًا في المسائل الفقهية التي ليس فيها اجتهاد بين أهل العلم، ولم يختلفوا فيها بين سُنة وبدعة وحق وباطل، أما إن انتصب جماعة من العلماء -لا سيما من فحول المُحققين من داخل المذهب وخارجه- لإثبات أنها من بدع المتأخرين، وإقامة الدلائل على ذلك، فلا يصح أن يُقال: إن أهل المذهب أعلم بمذهب إمامهم، لا سيما وأن ظاهر كلام إمامهم يُخالفهم أساسًا، بل لا بد والحال كذلك من رد الخلاف إلى الله ورسوله، لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
وإلا فبنفس المنطق سيُقال: إن متأخري الشافعية أعلم بمذهب إمامهم في مسائل الأسماء والصفات وفي الإيمان وغير ذلك، ولا يُقال: إن العقيدة تختلف عن الفقه، فالأصل أن الشريعة كلٌّ لا يتجزأ.
أهم أدلة المخالفين والجواب عنها:
أولًا: قولهم: إن الأصل في الأشياء الإباحة:
وهو قولٌ صحيح، لكنهم خلطوا بين الأشياء والعبادات، فالأصل في الأشياء الإباحة، لكن الأصل في العبادات التوقيف.
يقول السرخسي في أصوله: “ولا مدخل للرأي في معرفة ما هو طاعة لله؛ ولهذا لا يجوز إثبات أصل العبادة بالرأي؛ وهذا لأن الطاعة في إظهار العبودية والانقياد، وما كان التعبد مبنيًّا على قضية الرأي بل طريقه طريق الابتلاء”([8]).
وقال ابن دقيق العيد: “الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف”([9]).
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية اتفاق السلف وعلماء الحديث أن الأصل في العبادات المنع، قال رحمه الله: “فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يُحكم عليه بأنه عبادة؟! وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟! ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]”([10]).
وقال ابن القيم: “فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم”([11]).
وقال ابن حجر العسقلاني: “الأصل في العبادة التوقف”([12])، وقال في موضع آخر: “التقرير في العبادة إنما يؤخذ عن توقيف”([13]).
وقال الصنعاني: “لا شك أن لنا أصلًا متَّفقًا عليه، وهو أنه لا يثبت حكم من الأحكام إلا بدليل يثمر علمًا أو أمارة تثمر ظنًّا، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء قاطبة”([14]).
ثانيًا: استدلالهم بإدراج البدع تحت أصلٍ عام:
كأن يُستدل بأن الشرع جاء باستحباب مطلق الذكر أو مطلق الصلاة ونحو ذلك، فيستدلون على مشروعية ذكرٍ مخصوص بهيئة مخصوصة في زمان مخصوص بالنصوص العامة الآمرة بالذكر المرغبة فيه.
نقول: نعم، هي أمور جاءت بها عموم الشريعة، لكن تخصيصها وجعلها عادة راتبة هو الممنوع؛ لأنه يوهم بأنها من الشعائر.
يقول ابن دقيق العيد: “وكذلك الاجتماع وإقامة شعار في وقت مخصوص على شيء مخصوص لم يثبت شرعًا، وقريب من ذلك أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجهٍ مخصوص، فيُريد بعض الناس أن يُحدث فيها أمرًا آخر لم يرد به الشرع، زاعمًا أنه يدرجه تحت العموم، فهذا لا يستقيم؛ لأن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف”([15]).
إلى أن قال: “وقد تباين الناس في هذا الباب تباينًا شديدًا، حتى بلغني أن بعض المالكية مرَّ في ليلة من إحدى ليلتي الرغائب -أعني التي في رجب أو التي في شعبان- بقومٍ يصلونها، وقوم عاكفين على مُحرم أو ما يُشبهه أو ما يُقاربه، فحسَّن حال العاكفين على مُحرَّم على حال المُصلين لتلك الصلاة، وعلل ذلك بأن العاكفين على المحرم عالمون بارتكاب المعصية، فيُرجى لهم الاستغفار والتوبة، والمصلون لتلك الصلاة مع امتناعها عنده معتقدون أنهم في طاعة، فلا يتوبون ولا يستغفرون. والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه، وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات، أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص، وميل المالكية إلى هذا الثاني، وقد ورد عن السلف الصالح ما يؤيده”([16]). ثم شرع في ذكر الآثار التي تدل على بطلان البدع الإضافية -أي: التي تندرج تحت دليل عام- ومال إلى هذا المسلك.
ورد السبكي على دليل العموم في معرض رده على ابن الصلاح في صلاة الرغائب فقال: “لم يرد فيه إلا مطلق طلب الصلاة، وأنها خير موضوع، فلا يطلب منه شيء بخصوصه، فمتى خص شيئا بزمان أو مكان أو نحو ذلك دخل في قسم البدع“([17]).
قال ابن تيمية: “شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للعمل بوصف العموم الإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد”([18]).
ويقول الشاطبي في دليل العموم: “إذ لو كان دليلًا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضي هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل، فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كاف… فإنّ هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك؛ إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، وحادوا عن فهمها، وهذا الأخير هو الصواب؛ إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيّا على أن هؤلاء في استدلالاتهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة”([19]).
ويقول أبو شامة المقدسي الشافعي رحمه الله: “لا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الزمان، ليس لبعضها على بعض فضل، إلا ما فضله الشرع وخصه بنوعه من العبادة”([20]).
وقال خليل المالكي: “ما حده الشارع وقفنا عنده، وما أطلقه ولم يخصّه بسبب أطلقناه، وما تركه السلف تركناه وإن كان أصله مشهودًا له بالمشروعية؛ فإنه دستور للتمسك بالسنة وقاعدة مالك”([21]).
وقال الدردير في معنى البدعة: “تخصيصه في حكم الشرع ما لا أصل له ولا نص ولا إجماع، وهذه سمة البدعة”([22]).
ثالثًا: استدلالهم بزيادة الصحابي: (ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماوات).
روى البخاري عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «مَنِ المُتَكَلِّمُ؟» قَالَ: أَنَا، قَالَ: «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ»([23]).
والجواب عن ذلك: أن الدعاء المطلق بما يفتح الله على الإنسان من أدعية أمرٌ يفعله جميع المسلمين كل يوم، فالمؤمنون يدعون الله بما يخطر على ألسنتهم بأدعية جديدة، دون ترتيب مُسبق، ولا يكون هذا بدعة إلا إذا اتُّخذ عادة راتبة، وكذلك يُقال في جميع العبادات التي لها أصل: إذا لم يكن عادة متكررة بتكرر الأيام بحيث لا تكون عادة راتبة، فليس هذا ببدعة؛ لأنه هذا لا يُضاهي الشرعية، ولا يوهم أنه من الشرع، وكثيرًا ما يخلط المخالفون في هذا الباب، وكثير من السلفيين أيضًا لا يُفرقون بين المقامين.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب، وأما اتخاذ ورد غير شرعي، واستنان ذكر غير شرعي، فهذا مما ينهى عنه”([24]).
ويقول أيضًا في كلامٍ نفيس: “إذا استحب التطوع المطلق في وقت معين، وجوز التطوع في جماعة، لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة، ففرقٌ بين البابين، وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع، أو استماع قرآن، أو ذكر الله، ونحو ذلك، إذا كان يفعل أحيانًا، فهذا حسن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى التطوع في جماعة أحيانًا، وخرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم يستمع، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا يقرأ وهم يستمعون… -إلى أن قال:- فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع، أو الشهور، أو الأعوام، غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس، وللجمعة، وللعيدين، وللحج، وذلك هو المبتدع المحدث، ففرق بين ما يتّخذ سنة وعادة، فإن ذلك يضاهي المشروع، وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة”([25]).
ويقول الشاطبي في هذا المعنى: “إِذَا غَلَبَ الْوَصْفُ عَلَى الْعَمَلِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْفَسَادِ، وَإِذَا لَمْ يَغْلِبْ لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ، وَبَقِيَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ، فَيَدْخُلُ هَا هُنَا نَظَرُ الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ إِذَا صَارَ الْعَمَلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ”([26]).
رابعًا: استدلالهم بقول ابن عباس:
استدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُه([27]).
والجواب: أن رفع الصوت مسألة مختلفة عن بدعة الذكر الجماعي بصوتٍ واحد، فالمسألة الأولى صورتها أن كل رجل يتمتم ويسبح أو يدعو الله، كلٌّ على حدة، فمع كثرة الناس كان يسمع ابن عباس صوتهم، ولا يعني ذلك أنهم يذكرون الله بصوت واحد بالضرورة.
وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية استحباب رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، ونقل البهوتي عن شيخ الإسلام ابن تيمية استحباب الجهر فقال: “(قال الشيخ [أي: ابن تيمية]: ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة”([28]).
وسئل العلامة العثيمين رحمه الله عن حكم المسألة فأجاب: “الجهر بالذكر بعد الصلوات المكتوبة سنة، دل عليها ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم”([29]).
والقصد أن هذه المسألة خارج محل النزاع أساسًا مع السلفيين؛ فلا وجه للاستدلال بهذا الدليل لأنهم قائلون به.
لكن يبقى نزاع الصوفية المعاصرين مع الإمام النووي، فهو من نقل الاتفاق على عدم رفع الصوت بالذكر، ونقل عن الشافعي المنع أيضًا.
فقال النووي رحمه الله: “ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير، وحمل الشافعي رحمه الله هذا الحديث -أي: حديث ابن عباس- على أنه جهر وقتا يسيرا حتى يعلِّمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائما. قال: فاختار للإمام والمأموم أن يذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إماما يريد أن يُتَعلَّم منه فيجهر حتى يعلَم أنه قد تُعلِّم منه، ثمّ يسرّ، وحمل الحديث على هذا، وقوله: (كنت أعلم إذا انصرفوا) ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات لصغره”([30]).
خامسًا: استدلالهم بقول عمر بن الخطاب في صلاة التراويح:
قال عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: “نعمت البدعة هذه” رواه البخاري([31]).
والجواب عن ذلك: أن مقصود عمر المعنى اللغوي للبدعة، فهو يقصد أنها أمر جديد على الناس، وإن كان في أصله سُنة. قال ابن رجب: “وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية”([32]).
ومعلوم أن صلاة التراويح سُنة، كان قد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها الناس، ثم خشيَ أن تُفرض عليهم، وظل الناس يصلون التراويح فرادى في الزمن النبوي وزمن أبي بكر الصديق، حتى جمع عمر بن الخطاب عليها الناس مرة أخرى، فكانت بدعة أي: أمرًا جديدًا على الناس، ومن حيث كونها لم توجد عند سلفه ردحًا من الزمن، وإن كانت هي سُنة في أصلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما قول عمر: (نعمت البدعة هذه) فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكمًا بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا: قول الصاحب ليس بحجةٍ! فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله؟! ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث. فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب”([33]).
سادسًا: ما احتجوا به من كلام الشافعي في البدعة الحسنة:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم”. واحتج بقول عمر في قيام رمضان: “نعمت البدعة هذه”([34]).
والجواب عن ذلك من نفس سياق كلامه: (فما وافق السُنة فهو محمود)، يعني أنها سُنة وليست بدعة على الحقيقة (بدعة شرعية)، وإنما سُمِّيت بدعة تجاوزًا من حيث اللغة، كمن يقوم بإحياء سنن قد أماتها الناس، فهو قد ابتدع طريقًا لم يكن معروفًا عند سلفه، وإن كان هو سُنة في أصله وحقيقته.
قال ابن رجب الحنبلي في توجيه كلام الشافعي: “ومراد الشافعي رضي الله عنه ما ذكرناه من قبل أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة، يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة”([35]).
وقال أيضًا: “وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية”([36]).
ويدخل في ذلك ما فعله عبد الله بن الزبير من رد الكعبة إلى قواعد إبراهيم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم»، قال عروة: فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه، قال يزيد: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر”([37]).
سابعًا: ما احتجوا به من كلام النووي:
قال النووي: “لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين؛ بل هي مستحبَّةٌ، وكذا الإدارة”([38]).
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن البدعة تكون في تخصيص العبادة واتخاذها عادة راتبة، وهو ما لم يتكلم عنه النووي في هذا الموضع، يقول ابن تيمية: “الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن إذا لم يُتَّخذ سنة راتبة، ولا اقترن به منكر من بدعة”([39]).
كما أن قراءة القرآن قراءة جماعية هي من المسائل التي اختلف فيها العلماء، وقد نقل ابن تيمية فيها الخلاف، فبعضهم يراه بدعة، وبعضهم يراه أمرًا مستحسنًا، والعمدة عندهم هو النص (أي: الحديث) لا استحسان البدع كما ظن المعاصرون، فاعتمد النووي على ظاهر الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم([40]).
وقد اختار الشيخ ابن عثيمين الجواز أيضًا، يقول ابن عثيمين: “قراءة القرآن بصوت واحد مع جماعة هذا جائز إذا لم يتضمن محظورًا، فما المحظور؟ أن يحصل به تشويش على من حولهم فيمنع عن ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة، فقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة» أو قال: «في القرآن». ومنها أيضًا -أي: من المحاذير- أن يتخذ هذا على سبيل الطرب وهز الظهور، وما أشبه ذلك مما يفعله بعض الناس أصحاب الطرق”([41]).
وقد اعترض النووي على الإمام مالك قائلًا: “فهذا الإنكار منهما -أي: مالك والضحاك بن عبد الرحمن- مخالف لما عليه السلف والخلف، ولما يقتضيه الدليل، فهو متروك، والاعتماد على ما تقدم من استحبابها، لكن القراءة في حال الاجتماع لها شروط قدمناها، ينبغي أن يعتنى بها”([42]).
والتحقيق أن الخلاف لفظي -والله أعلم-، فما أنكره مالك وغيره من السلف يحتمل أنه قصد اتخاذ ذلك عادة راتبة -كما سبق من كلام ابن تيمية-، وهو ما لا يقصده النووي بالضرورة. فحصل بذلك أن اعتراض النووي على مالك لا وجه له، كما أن تهميش إمام عَلَم في حجم الإمام مالك وأصحابه عن مسائل الاتفاق ليس بالأمر الهين، لا سيما وأنهم نقلوا ما عرفوه من أبناء الصحابة وعمل أهل المدينة.
الوجه الثاني: أن الخلاف في قراءة القرآن يختلف عن الخلاف في الجهر بالذكر، فالنووي رحمه الله يرى عدم الجهر بالذكر، قال النووي: “يندب الذكر والدعاء عقيب كل صلاة ويُسر به، فإذا كان إمامًا يريد أن يعلمهم جهر، فإذا تعلَّموا أسر”([43]).
وقد نقلنا فيما سبق قول النووي: “ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير، وحمل الشافعي رحمه الله هذا الحديث على أنه جهر وقتا يسيرا حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائما. قال: فاختار للإمام والمأموم أن يذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إماما يريد أن يُتَعلَّم منه، فيجهر حتى يَعلم أنه قد تُعلم منه، ثم يسر، وحمل الحديث على هذا، وقوله: (كنت أعلم إذا انصرفوا) ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات لصغره”([44]).
فإذا كان النووي لا يرى جواز رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، فمنعه من الذكر الجماعي من باب أولى، فتدبر.
وللجمع بين كلام النووي أن كلامه الأول الذي استدل به المخالفون كان عن القراءة -أي: قراءة القرآن-، فرأى النووي أن الاجتماع على القراءة بصوتٍ واحد جائز، لاحتمال التعليم وإتقان القراءة ونحوهما.
ووجه التفرقة بين القرآن والذكر المبتدع هو ورود الحديث في استحباب الاجتماع على القرآن دون الدعاء والأذكار كما سبق بيانه، واحتمالية التعلم والمدارسة، فقراءة القرآن بصوت واحد أدعى لنطقه بشكلٍ صحيح للعامة، وهو ما لا يوجد في الذكر الجماعي بصوتٍ واحد، لا سيما إذا كان الذكر مبتدعًا، والإمام النووي يُرخص في قراءة القرآن لوجود داعي التعلُّم، ولا يرخص في الذكر، فالصيغة المعاصرة للذكر بعد الصلاة جهرًا -والتي يُراد فرضها على الناس- هي ممنوعة عند النووي وغيره.
والحاصل: أن المعاصرين الذين يستدلون بكلام النووي في الاجتماع بالقرآن ينبغي أن يأخذوا بمذهبه كاملًا، لا أن يستدلوا به في قراءة القرآن ثم يسحبونها على جميع البدع الإضافية!
لكن المخالف دائمًا يمشي بمبدأ: ما دام العالم أجاز بدعة إضافية معينة، إذن هو يجيز جميع البدع! وليس هذا بلازم.
يقول أبو بكر الطرطوشي المالكي في التفريق بين مُدارسة القرآن وقراءته بصوت واحد: “هذه الآثار تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له، والتعلُّم والمذاكرة، وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم، أو يقرأ المُعَلِّم على المُتَعَلِّم، أو يتساويا في العلم؛ فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة، هكذا يكون التعليم والتعلُّم، دون القراءة معًا”([45]).
وتواردت نصوص المالكية على بدعية القراءة أو الذكر الجماعيَّيْن؛ جاء في مواهب الجليل للحطاب: “لم يختلف قول مالك أن القراءة جماعة والذكر جماعة من البدع المكروهة”([46]).
هل اختلاف العلماء في آحاد البدع معناه إباحة البدع الإضافية مُطلقًا؟
هنا ينبغي التنبيه إلى أمرٍ مهم عنه يغفل المعاصرون، وهو: أن اختلاف العلماء في بعض البدع الإضافية لا ينفي ذم جنس البدع الإضافية والنهي عنها، فالإمام النووي الذي أجاز الاجتماع للقرآن بصوتٍ واحد لعلةٍ خاصة وهي ظاهر الحديث هو نفسه من منع الذكر الجماعي جهرًا كما تقدّم، ومنع أيضًا من صلاة الرغائب وقال: (قبَّح الله واضعها)([47])، مع أن صلاة الرغائب تدخل تحت مطلق النوافل.
والعز ابن عبد السلام الذي قسم البدعة إلى الأقسام الخمسة هو نفسه الذي رد على ابن الصلاح في إباحته صلاة الرغائب([48]).
لذلك لا يصح الاحتجاج بخلاف العلماء حول بعض البدع لإباحة الجميع بحجة أن المسألة لا ضابط لها، فهذا أصوليًّا لم يُجوِّزه أحد، بل هذا من جنس من يستدلّ بأن العلماء اختلفوا في الفقه الإسلامي ليُبرر لنفسه ركوب المحرمات. ومن جنس من يستدل بخلاف العلماء في شروط الزواج مثل شرط الولي للثيِّب دون البكر، والخلاف في قيمة الصداق ونحو ذلك ليبيح لنفسه الزنا وإسقاط جميع شروط الزواج، وهي نقطة مهمة يغفل عنها بعض المعاصرين، حيث يبيحون جنس البدع الإضافية بحجة اختلاف العلماء في آحادها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء. وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار. أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس. والصواب الذي عليه الأئمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها”([49]).
تحقيق مذهب السلف في البدعة الإضافية:
أولًا: أقوال السلف في ذم البدع كلها لا بعضها:
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة”([50]).
وقال الإمام مالك: “من ابتَدَعَ في الإسلامِ بِدعةً يَراها حَسنةً فقد زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا خانَ الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ يَقولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يَكُن يومَئِذٍ دينًا فلا يَكونُ اليَومَ دينًا”([51]).
وقال الإمام أحمَدُ: “أصولُ السُّنَّة عِندَنا: التمَسُّكُ بما كان عليه أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والاقتِداءُ بهم، وتَركُ البِدَعِ، وكُلُّ بدعةٍ فهيَ ضَلالةٌ، وتَركُ الخُصوماتِ في الدِّينِ”([52]).
فالنصوص السابقة فيها التشديد على أن الدين ليس فيه بدعة حسنة، حتى ولو استحسنها الناس، بل كل بدعة فهي ضلالة. وهذه النصوص ونحوها لا تخالف ما قاله الإمام الشافعي كما سبق بيانه من توجيه ابن رجب.
والخلاف في ذلك لفظيّ كما بيَّنا، بل لا خلاف، ومن غير الجائز أن تكون أصول السُنة عند الإمام أحمد -والتي ذكر أن مخالفها مبتدع- تخالف أصول الإمام الشافعي، كما لا يمكن أن أصول الشافعي تخالف أصول الإمام مالك؛ وذلك لأن الجميع تجمعهم صحة المنهجية.
وإنما أراد الإمام الشافعي تخريج كلام عمر بن الخطاب في قوله عن صلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه)، ومعلوم أن الصحابة يتكلمون باللغة العربية، ولم تكن ظهرت مصطلحات الأصوليين بعدُ.
فعمر رضي الله عنه قصد البدعة في اللغة، أي: ما ليس على مثالٍ سابق، حتى وإن كان لها أصل قديم في الزمن النبوي، إلا أنها لم تكن في زمن أبي بكر الصديق، ولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين. فهي في الشرع سُنة لا بدعة.
ثانيًا: ذم السلف للبدع الإضافية (التي تدخل تحت عموم الشريعة):
أخرج عبد الرزاق في مصنفه([53])، والدارمي([54]) والبيهقي في السنن الكبرى([55]): أن سعيد بن المسيب رحمه الله رأى رجلًا يكرر الركوع بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد، أيعذبني الله على الصلاة؟! قال: “لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة”([56]). وقال الذهبي: إسناده قوي([57]).
وعن نافع مولى ابنِ عُمرَ: أنَّ رجلًا عطَسَ إلى جَنْبِ ابنِ عُمرَ، فقال الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، قال ابنُ عمرَ: وأنا أقولُ: الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وليسَ هكذا عَلَّمَنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، علَّمَنَا أن نقولَ: الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ([58]).
وفي هذا الأثر أن العاطس أتى بالمندوب وهو (الحمد لله) ثم زاد عليه التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر مُرغَّب فيه على وجه الإجمال، لكن ما أنكره ابن عمر هو تخصيص ذلك بوقت وهيئة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: “رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل؛ لأنه ذكر، والسنة في الأذكار المخافتة”([59]).
وعن الزبير بن بكار قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة؛ من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد، فقال: لا تفعل. قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة هذه؟! إنما هي أميال أزيدها، قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]([60]).
قال ابن مفلح ناقلًا مذهب الإمام أحمد: “ولو اجتمع القوم لقراءة ودعاء وذِكر؛ فعنه: وأي شيء أحسن منه؟! كما قالت الأنصار. وعنه: لا بأس. وعنه: مُحدث. ونقل ابن منصور: ما أكرهه إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا، قال ابن منصور: يعني يتخذوه عادة. وكرهه مالك، قال -ابن عقيل- في الفنون: أبرأ إلى الله من جموع أهل وقتنا في المساجد والمشاهد، ليالي يسمونها إحياء”([61]).
وقوله: (يعني يتخذوه عادة) أي: سنة راتبة، وهو الذي عليه أحمد وغيره من الأئمة، يقول شيخ الإسلام: “فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع، أو الشهور، أو الأعوام، غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس، وللجمعة، وللعيدين، وللحج، وذلك هو المبتدع المُحدث، ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة، فإن ذلك يضاهي المشروع، وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة”([62]).
سبب الاضطراب في البدع الإضافية:
قبل الولوج في ذكر سبب ذلك لا بد من توضيح أن البدع ليست على درجة واحدة، بل هي درجات متعددة، فمنها ما فيها خلافٌ قريب سائغ، ومنها ما فيها خلافٌ بعيد غير سائغ، فكلما كانت المسألة مردها النصوص الشرعية لا الاستحسان كان الخلاف قريبًا، وكانت أهون من غيرها، ولذلك يوجد من الأمور ما هو قريب أو مُشتبه وقد يختلف فيه العلماء، مثل رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة التي اختارها ابن تيمية ومنع منها النووي وغيره، وكمسألة قراءة القرآن بصوتٍ واحد من باب المدارسة التي أجازها النووي وابن تيمية وابن عثيمين ومنع منها الإمام مالك وغيره، وكمسألة التسبيح بالمسبحة، ونحو ذلك مما تحتمله النصوص الشرعية.
ويقرر ذلك ابن دقيق العيد قائلًا: “ما ذكرناه من المنع فتارة يكون منع تحريم، وتارة منع كراهة، ولعل ذلك يختلف بحسب ما يُفهم من نفس الشرع من التشديد في الابتداع بالنسبة إلى الجنس أو التخفيف، ألا ترى أنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأمور الدنيا لم تساو البدع المتعلقة بأمور الأحكام الفرعية، وإذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بالأحكام الفرعية لم تكن مساوية للبدع المتعلقة بأصول العقائد، فهذا ما أمكن ذكره في هذا الموضع مع كونه من المشكلات القوية لعدم ضبطه بقوانين تقدم ذكرها للسابقين”([63]).
والبدع الإضافية على مراتب:
المرتبة الأولى: عبادة ليس لها أصل في الهيئة والتخصيص؛ مثل أعياد الرافضة وطقوسهم، وأذكار الصوفية مع الرقص، أو تحديد أوراد معينة للمشايخ تُقال في أوقات مخصوصة ويُعتقد فضلها، كأوراد الصوفية ونحوها.
المرتبة الثانية: عبادة لها أصل في الهيئة، لكن تُخالف من حيث التخصيص، وهذا الصنف يُنازع فيه أكثر من يرى استحسان البدع من المتصوفة: مثل قراءة سورة يس أربعين مرة لتفريج الكربة، وعلى روح الميت في يوم الأربعين، وصلاة الرغائب التي هي ثنتا عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، قال النووي رحمه الله: (قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة)([64])، ويدخل في ذلك: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، أو ذكر ختام الصلاة بأسلوب جماعي بصوت واحد.
وهذا الصنف أنكره أكثر الفقهاء، لكن لا ضابط له عندهم؛ لأنه داخل تحت أصل عام من حيث مطلق الذكر، فكثير من الفقهاء يرون بدعية صلاة الرغائب مثل النووي وغيره، وبعضهم يرى حُسنها مثل الإمام الغزالي وابن الصلاح، وكذلك زيادة الصلاة على النبي بعد الأذان والصلاة بصوت واحد.
وبسبب ذلك اعترف ابن دقيق العيد بصعوبة الباب قائلًا: “مع كونه من المشكلات القوية لعدم الضبط فيه بقوانين تقدّم ذكرها للسابقين”([65]).
وأما من لا يرون تقسيم البدع إلى حسنة ومذمومة -كابن تيمية والشاطبي وأبي شامة والطرطوشي ونحوهم- فقد اتفقت كلمتهم على بدعية هذه الأمور كلها من أجل أنه تخصيص بما لا مُخصص له.
المرتبة الثالثة: ما يسوغ فيه الخلاف: وهي أن تكون العبادة (النافلة) لها أصل وهيئتها صحيحة ووقتها صحيح، لكن يُحدد لها عددًا مُعينًا، مثل تحديد عدد الركعات في قيام الليل، ففي هذه الحالة: هيئة العبادة صحيحة ومنقولة في الشرع، والزيادة في النوافل أمرٌ ممدوح، لكن تأتي البدعة في تحديد عددها، مثل أن يُصليها مائة ركعة ويداوم على ذلك، ومثل ترديد أحد الأدعية المأثورة مثل: (يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث). وهو من الأذكار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح، وهيئته صحيحة، ووقتته صحيح، لكن قد يرى البعض البدعة من حيث تحديد العدد.
وفي ذلك قد يتساهل بعض أهل العلم من باب التجربة، فقد نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية فقال: “وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي ياقيوم لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث؛ حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه”([66]). وهذا النقل هو الوحيد الذي يحفظه المخالفون عن ابن تيمية.
وينبغي أن نوضّح أولًا أن هذا الذكر مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: «مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»([67]).
لكن يبقى الإشكال في تحديد العدد، فيرى الإمام الشاطبي بدعية تحديد العدد، فيقول الشاطبي رحمه الله: “كَمَا يُحْكَى عَنِ الْكَتَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ: قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ مَرَّةً: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ عَلَى اللُّزُومِ اسْتَقَامَ”([68]).
وقد سبَّب هذا النوع شبهة عند المعاصرين، فبعض طلبة العلم لما وجد تساهلًا عند بعض القدماء في هذا الصنف ظنَّ أن البدع الإضافية مباحة مُطلقًا، بل نسبوا إباحة البدع الإضافية إلى شيخ الإسلام ابن تيمية بسبب هذا النص، وهو خطأ محضٌ عليه، ونصوص ابن تيمية لا تسعفهم في ذلك، بل إن كتاب (الرد على الشاذلي) لابن تيمية مبنيٌ أصالةً على إبطال تخصيص عبادة، وإبطال الاستدلال بدليل العموم، فنسبة إباحة البدع الإضافية لابن تيمية لا يصدر ممن له خبرة بكتب الشيخ رحمه الله.
وأما توجيه ما نقله ابن القيم عن ابن تيمية فيحتمل أن ابن تيمية لم يداوم دائمًا وأبدًا على العدد، بل يزيد أحيانًا وينقص أحيانًا، أو يكون ابن تيمية في أول أمره كان يرى جواز تحديد العدد إذا كان الدعاء مأثورًا.
والتحقيق أن المسألة فيها تفصيل، فمن كان يُحدد العدد لسبب معين وليس اعتقادًا في أفضلية العدد، فهذا لا بأس به، كأن تكون طاقة الرجل أن يُصلي مائة ركعة في الليلة من أجل تنظيم وقته، ولو استطاع أكثر لزاد عن ذلك، فهذا لا شيء فيه.
وقد يدخل في ذلك: من يُحددون يومًا في الأسبوع ليقرؤوا كتابًا في التزكية ثم يصلون قيام الليل جماعة، لأن هذا اليوم هو المتاح وليس لديهم فيه أشغال، فنسَّقوا فيما بينهم هذا اليوم، فهذا اختيار تنظيمي لا شيء فيه؛ لأنه لو قُدِّر أنهم انشغلوا في ذلك اليوم لحددوا يومًا آخر، وهكذا. فهذا دليل على أنه أمر تنظيمي لا شرعي. فهذه الأمور وأمثالها القابلة للتعديل لا شيء فيها -على الراجح-، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلة في ذلك أنها لا تُتخذ عادة راتبة ولا توهم اختراع طريقة في الدين.
واللبس الحاصل عند طلبة العلم أنهم يجعلون كل المسائل في مرتبة واحدة، فلو رأوا عن أحد العلماء الترخص فيما هو مأثور ظنوا أن جميع البدع الإضافية مُباحة، والأمر ليس كذلك.
أمثلة لرد المتأخرين بعض البدع الإضافية:
يقول ابن حجر الهيتمي: “قد أحدث المؤذنون الصلاة والسلام عقب الأذان للفرائض الخمس إلا الصبح.. ولقد استفتي مشايخنا وغيرهم في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد الأذان على الكيفية التي يفعلها المؤذنون، فأفتوا بأن الأصل سنة والكيفية بدعة، وهو ظاهر”([69]).
ومما يُلاحظ هنا أن هذا رأي ابن حجر الهيتمي ومشايخه من الشافعية من أهل هذه الطبقة كشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيره.
ويقول ملا علي القاري: “فما يفعله المؤذّنون الآن عقب الأذان من الإعلان بالصلاة والسلام مرارًا أصله سنة والكيفية بدعة؛ لأن رفع الصوت في المسجد ولو بالذكر فيه كراهة، سيما في المسجد الحرام لتشويشه على الطائفين والمصلين والمعتكفين”([70]).
ويقول ابن الحاج المالكي: “وكذلك ينبغي أن ينهاهم -أي: المؤذنين- عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر، وإن كانت الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر العبادات وأجلِّها، فينبغي أن يسلك بها مسلكها، فلا توضع إلا في مواضعها التي جعلت لها. ألا ترى أن قراءة القرآن من أعظم العبادات، ومع ذلك لا يجوز للمكلف أن يقرأه في الركوع ولا في السجود ولا في الجلوس -أعني الجلوس في الصلاة- لأن ذلك ليس بمحل للتلاوة؟! فالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم أحدثوها في أربعة مواضع لم تكن تفعل فيها في عهد من مضى، والخير كله في الاتباع لهم رضي الله عنهم.. والصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك مسلم أنها من أكبر العبادات وأجلها، وإن كان ذكر الله تعالى والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حسنًا سرًّا وعلنًا، لكن ليس لنا أن نضع العبادات إلا في مواضعها التي وضعها الشارع فيها، ومضى عليها سلف الأمة”([71]).
وجاء في الفتاوى الخانية في الفقه الحنفي: “أنه -أي: الأذان- ليس لغير المكتوبات، وأنه خمس عشرة كلمة، وآخره عندنا: لا إله إلا الله، وما يذكر بعده أو قبله كله من المستحدثات المبتدعة، ابتدعت للتلحين لا لشيء آخر، ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين، ولا عبرة بقول من قال: إن شيئًا من ذلك بدعة حسنة؛ لأن كل بدعة في العبادات على هذا النحو فهي سيئة”([72]).
استقرار عمل المسلمين على إنكار البدع الإضافية:
ذم البدع الإضافية -وإن كان فيه خلافٌ قديم في آحاد المسائل- إلا أنه استقر أمر فقهاء المسلمين من علماء الأزهر وغيرهم على ذم تلك البدع، فقد أخذ الأزهر على عاتقه في القرن الماضي تصحيح المناهج الإسلامية وترجيح الآراء المتوافقة مع روح الشريعة الإسلامية، ولذلك صنف العلامة علي محفوظ كتابه (الإبداع في مضار الابتداع) بيَّن فيه المسألة أحسن بيان، وقد قرظه هيئة كبار العلماء في الأزهر، وكان منهم الشيخ يوسف الدجوي المالكي، ومعلوم أن الشيخ يوسف الدجوي كان شيخ الأشاعرة في وقته. وممن قرظه أيضا الشيخ دسوقي العربي المالكي، والشيخ الديناري الشافعي، والشيخ محمد العناني المالكي، والشيخ إبراهيم صقر الميهي الشافعي.
وكتب السيد محمد رشيد رضا في (مجلة المنار) تقريظًا للكتاب قال فيه: “كتاب جديد صنفه أخونا الأستاذ الشيخ على محفوظ من تلاميذ الأستاذ الإمام، وقد ذكر في آخر الطبعة الثانية سبب إعادة طبعه فقال: لما ولي حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر الشيح محمد مصطفى المراغى مشيخة الجامع الأزهر الشريف ورياسة مجلسه الأعلى كان من باكورة أعماله الحكيمة أن وجه -حفظه الله- عنايته إلى إصلاح قسم الوعظ والخطابة ومناهجه إصلاحًا يكفل للطلاب النبوغ في هذا الفن، ويتناسب مع روح العصر الحاضر، فأدخل تعديلًا رشيدًا في مواد الدراسة، وأضاف إلى مادة البدع والعادات زيادات ذات شأن، وقد عرض على مجلس الأزهر الأعلى مذكرة بشأن هذا الإصلاح، فوافق عليه في جلسة يوم الثلاثاء ١٣ ربيع الأول سنة ١٣٤٧هـ، وقد طبع هذا الكتاب للمرة الثانية في ذي الحجة من السنة المذكورة، وهي تمتاز عن الطبعة الأولى بتنقيحات مفيدة مع تلك الزيادات التي أقرها المجلس الأعلى في الجلسة المذكورة”([73]).
ومن الجدير بالذكر أن هذا ليس موقف علماء مصر فقط، بل امتد أثر الإصلاح شرقًا وغربًا، فهذا العلامة محمد عبد الحي اللكنوي يقول: “اختلف العلماءُ في هذا الباب على قولين: الأول: أن حديث «كل بِدعة ضلالة» عام مخصوص، والمراد به البِدعة السيِّئة، وقسَّموا البِدعة إلى واجبة، ومندوبة، ومكروهة، ومحرَّمة، ومباحة.. والقول الثاني وهو الأصح بالنظر الدقيق: أن حديث «كل بِدعة ضلالة» باقٍ على عمومه، وأنَّ المراد به البِدعة الشرعيَّة”([74]).
ويقول العلامة المباركفوري: “اعلم أن الحنفية في هذا الزمان يواظبون على رفع الأيدي في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب، فكأنهم يرونه واجبًا، ولذلك ينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم قام ولم يدع ولم يرفع يديه. وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم الإمام أبي حنيفة، وأيضًا مخالف لما في كتبهم المعتمدة”([75]).
ويقول الشيخ سيد سابق: “الجهر بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان غير مشروع، بل هو محدث مكروه”([76]).
ومما سبق يتبيَّن أن جمهور علماء المسلمين على مر العصور ذموا جنس البدع الإضافية -وإن اختلفوا في آحادها، إما اجتهادًا تارة، أو خطأ تارة أخرى-، وقد استقر علماء المسلمين بشتى مشاربهم بعد ذلك على ضبط المسألة بعد انتشار كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وغيرهما، رحم الله الجميع.
وصلِّ اللهم على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) حاشية الطحطاوي (ص: 318).
([4]) نقله النووي عن ابن بطال، انظر: المجموع (5/ 84).
([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (١/ ١٩٦).
([6]) ينظر: الإبداع في مضار الابتداع، علي محفوظ (ص: 175).
([7]) حاشية إبراهيم الباجوري على شرح الغزي على متن أبي شجاع (ص: 488).
([9]) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ص: 129).
([10]) الفتاوى الكبرى (4/ 12-13).
([11]) أعلام الموقعين (1/ 267).
([12]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (4/ 67).
([13]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (3/ 70).
([14]) إرشاد النقاد بتيسير الاجتهاد (ص: 42).
([15]) إحكام الأحكام (1/ 129).
([16]) إحكام الأحكام (1/ 130).
([17]) ينظر: الفتاوى الكبرى للهيتمي (2/ 38). نقلًا عن تقي الدين السبكي.
([18]) مجموع الفتاوى (11/ 88).
([19]) الموافقات (2/ 45) وما بعدها.
([20]) البدع والحوادث (ص: 48).
([21]) التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 4).
([22]) الشرح الكبير مع حاشيته للدسوقي (2/ 668).
([24]) مجموع الفتاوى (13/ 249).
([25]) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 280).
([27]) صحيح البخاري (841)، وصحيح مسلم (583).
([29]) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (13/ 247، 261).
([30]) انظر: المجموع شرح المهذب (5/ 84).
([32]) جامع العلوم والحكم (ص: 233).
([33]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 95).
([34]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 113).
([35]) جامع العلوم والحكم (ص: 267).
([36]) جامع العلوم والحكم (ص: 233).
([37]) أخرجه البخاري (1584)، ومسلم (401).
([38]) المجموع شرح المهذب (1/ 108).
([39]) مجموع الفتاوى (13/ 254).
([41]) فتاوى نور على الدرب (شريط 22).
([43]) كتاب التحقيق (٢١٩)، كما في كتاب مسك الختام (ص: ١٣٧-١٤١).
([44]) المجموع شرح المهذب (5/ 84).
([45]) البدع والحوادث (ص: 133).
([46]) مواهب الجليل شرح مختصر خليل (7/ 620).
([48]) وقد نُشر رد العز بن عبد السلام بعنوان: (مساجلة علمية بين الإمامين العز بن عبد السلام وابن الصلاح). طبعة المكتب الإسلامي.
([49]) بيان الدليل على بطلان التحليل (ص: 210-211).
([50]) ينظر: الإبانة لابن بطة (1/ 339).
([51]) رواه الدارمي (141)، والشاطبي في الاعتصام (1/ 28).
([52]) أصول السنة للإمام أحمد (ص: 26). ونقله اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (1/ 90).
([53]) مصنف عبد الرزاق (3/ 333).
([56]) الأجوبة المرضية للسخاوي (1/ 156). وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 236).
([57]) نقله السخاوي عنه في الأجوبة المرضية (1/ 156). وانظر أيضًا: الفتاوى الحديثية للسخاوي (ص: 176).
([58]) أخرجه الترمذي (2738) واللفظ له، والطبراني في الأوسط (5698)، والحاكم (7691). وقال الترمذي: “هذا حديث غريب”.
([59]) ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (١/ ١٩٦).
([60]) ينظر: الحلية لأبي نعيم (6/ 326)، الاعتصام للشاطبي (ص: 132).
([62]) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 280).
([63]) إحكام الأحكام (1/ 129).
([65]) إحكام الأحكام (1/ 130).
([66]) مدارج السالكين شرح منازل السائرين (1/ 334).
([67]) رواه النسائي في الكبرى (10405). وحسنه الألباني.
([69]) الفتاوى الكبرى الفقهية (1/ 131).
([70]) مرقاة المفاتيح (2/ 350).
([72]) ينظر: الإبداع في مضار الابتداع (ص: 175).
([73]) مجلة المنار، العدد 31، (ص: 391).
([74]) تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار (ص: 123).