الاثنين - 23 ربيع الأول 1447 هـ - 15 سبتمبر 2025 م

هل الإيمان بالمُعجِزات يُؤَدي إلى تحطيم العَقْل والمنطق؟

A A

 

هذه الشُّبْهةُ مما استنَد إليه مُنكِرو المُعجِزات منذ القديم، وقد أَرَّخ مَقالَتهم تلك ابنُ خطيب الريّ في كتابه (المطالب العالية من العلم الإلهي)، فعقد فصلًا في (حكاية شبهات من يقول: القول بخرق العادات محال)، وذكر أن الفلاسفة أطبقوا على إنكار خوارق العادات، وأما المعتزلة فكلامهم في هذا الباب مضطرب، فتارة يجوّزون خوارق العادات، وأخرى يمنعون منه، وليس لهم بين البابين قانون معلوم وطريق مضبوط([1]).

 كما أنها أُثِيرت في العصر الحديث بسبب تنامي النزعة العلموية التي رسّخت في أذهان منكري المعجزات وعقلياتهم ضرورة إنكار الأمور الغيبية، وحملهم على تأويل آيات المعجزات، كتأويل الشيخ محمد عبده لانفلاق البحر والطير الأبابيل، وتشكيكه في القصص القرآني، وتأويل الشيخ محمد رشيد رضا لانشقاق القمر.

وقد جرّأتهم تلك النزعة على سوء الظن بكتب الحديث والسيرة والطعن في أمانة الرواة والمحدّثين، حيث أنكر الشيخ محمود شلتوت كثيرًا من المعجزات الحسية الواردة في السنة؛ مثل حنين الجذع وأخبار الدجال([2])، وذهب محمد حسين هيكل في كتابه (عبقرية محمد) إلى أن القرآن الكريم هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وذهب محمد فريد وجدي إلى إنكار المعجزات عمومًا([3]).

غير أن دعوى أن العلمَ الحديث ينكر المعجزات دعوى باطلة؛ لأمور:

[1] لأن منكري المعجزات توهموا أن العلم ينكرها، مع أنه لا ينكرها ولا يثبتها، بل يسكت عنها.

[2] ولأن سكوته عنها لا يعني أنها غير ثابتة، حيث إن العلوم غير منحصرة في العلم المادّي، فإذا لم يثبتها ذلك العلم فإن هناك علومًا أخرى تثبتها.

[3] ولأنه لو كان ينكرها فعلا فإنه لا يعتدُّ بإنكاره؛ لأن ليس له الحق في إنكارها، حيث إن المعجزات من الأمور الغيبية التي لا تدخل في مجال عمله وخصائصه([4]).

ومناقشة هذه الدعوى تفصيلًا لها محلٌّ آخر، وسنتناول في هذه المقالة جواب سؤال: (هل الإيمان بالمُعجِزات يُؤَدي إلى تحطيم العَقْل والمنطق؟)، وذلك في المحاول ثلاثة الآتية:

المحور الأوّل: الأُسس التي ينبني عليها الإيمان بالمعجزات الحسّية:

نبين في ما يأتي الأسس الإيمانية التي ينبني عليها الإيمان بالمعجزات وهي:

1- الإيمان بوجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته: فلا شك أن الذي فطر السماوات والأرض لا يصعب عليه أن يرسل إلى بني آدم الذين هو خالقهم أيضًا رسولًا منهم، فيوحي إليه ما يشاء، وأن يظهر على يديه خارقة من خوارق العادات، كخلق ثعبان من العصا، وهو خالق العصا والثعبان وجميع العالم من عدم.

يقول وليم ستانلي جيفونس (William Stanley Jevons)‏ وهو من كبار المنطقيين الإنجليز: (القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شيء منه، أو إضافة شيء إليه).

وحكمُ الملاحدة باستحالَة المعجزات مبنيّ على اعتقادهم أن العالم قد أوجد نفسَه بنفسه، وأن نظامه المشهود نظام اتّفاقي محض، لا دخل فيه لصنع الله وتدبيره، ولو كانوا يقرون بوجود الله، وبأنه موجد هذا العالم، وواضع نظامه بقدرته واختياره لكان من الضروري لديهم أن يقدر على تغييره إذا شاء ذلك، ككل واضعي الأنظمة والقوانين، حيث يقدرون على تغيير ما وضعوه عند اللزوم.

فبعد التسليم بوجود الله يكون كل شيء سهلًا، ولا داعي إلى القول باستحالَتِها في العقل؛ لأنَّهُ إذا كان الله هو خالق الإنسان، وخالق الحيوانات والنباتات بجميع أنواعها، فمن السهل عليه أن يخلق ثعبانًا من عصا موسى عليه السلام، ولا مانع منه أصلًا في نظر العقل بعد تسليمه بوجود الله([5]).

2- الإيمان بالنبوَّات: فنبوات الأنبياء تنهار بانهيار المعجزات، لاشتراكها في المخالفة في سنة الكون، التي جعلها منكرو المعجزات حجةً في إنكارها، فإنكار المعجزات ليس إلا رمزًا لإنكار النبوّات.

وبناء على شدة الاتصال بين إنكار المعجزات وإنكار النبوة نرى الذين يكتبون عن الأنبياء عليهم السلام من غير تعرض لمعجزاتهم يصورونهم ويترجمون عن حياتهم كأنهم لا يمتازون عن الناس إلا بما يمتاز به العظماء والحكماء الأماثل، من دون أن يكون لهم صلة خصوصية بالله تعالى غير فطرتهم التي فطرهم على أن يكونوا عظماء.

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حاجة ماسة إلى المعجزات؛ ليستندوا إليها في دعوى نبوّتهم، وفي دعوة الناس أن يثقوا بهدايتهم([6]).

3- الإيمان بالقرآن العظيم وما جاء فيه من أخبار عن المعجزات الحسيّة للرسل والأنبياء: فإن المعجزات الحسية قد أخبر القرآن بوقوعها، ومنها ناقة صالح، ومعجزات موسى عليه السلام، وأهمها العصا واليد وانفلاق البحر، ومعجزات سليمان عليه السلام، ومن أهمّها تعليمه منطق الطير وسائر الحيوانات، وتسخير الجن والريح له، ومعجزات عيسى عليه السلام والتي أهمّها إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

والمنكرون للمعجزات كان طريقهم إلى رفضه تأويل معناه، لاعبين بعقول القرّاء الغافلين، وغير مبالين بما يتعدّون في تأويلاتهم من حدود مراد الله، ولو نظروا إلى القرآن وهم مستحضرون أنه كلام الله تعالى لالتزموا بعض التحوّط، وخشوا بعض الخشية أن يكونوا مخطئين في التأويل، لكن مبدأ التحول العصري من البنوة إلى عبقرية يحل جميع هذه المشكلات، ويفتح أمام المؤول أوسع باب([7]).

4- الإيمان بالسنة النبوية وما جاء فيها من إخبار عن معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها مما ثبتت صحته: وذلك مثل تكثير الطعام، ونَبْع الماء من بين يدَيْه الشريفتَيْن، وحَنين الجِذع، وردِّه عَين قَتادة بن النُّعْمان، وغيرها.

يقول الإمام البيهقي رحمه الله في: (‌‌باب القول في إثبات نبوة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم): (ودلائل ‌النبوة كثيرة، والأخبار بظهور المعجزات ناطقة، وهي وإن كانت في آحاد أعيانها غير متواترة، ففي جنسها متواترة متظاهرة من طريق المعنى؛ لأن كل شيء منها مُشاكل لصاحبِه في أنه أمر مزعج للخواطر ناقض للعادات)([8]).

فالمنكرون للمُعجزات يَستسهِلون على أنفسهم المخالفة لمرويات كتب الحديث فيما لا يوافق أهواءهم طعنًا في ثبوت تلك الروايات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أن أهل النقد من علماء الحديث وجَدُوا فيها أحاديث موضوعةً، فيرتَقُون بهذه المرتبة من النَّقدِ الخاصِّ لبعضِ الأحاديث إلى الطعن في جملتها باحتمال الكذب في الإسناد، حتى أصبحت السنة من بين الأدلة الشرعية مُلغَاة عندهم، ساقطةً من حيز الاعتداد والاعتماد، ولم يبالوا باحتمال الصدق القائم الغالب في غير ما تكلم فيه علماء الحديث المُختصِّصُون في التعليل، بل فيما صرّحوا فيه بالتصحيح أيضًا([9]).

المحور الثاني: إبطال دعوى أن الإيمان بالمعجزات يؤدي إلى تحطيم العقل والمنطق([10]):

1 – المعجزات خرق للعادة لا خرق للضروريات العقلية:

إن الضروريات العقلية -مثل كون الكل أكبر من الجزء، وامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما- ليس في المعجزات ما يضادها.

فالمعجزات ليست مستحيلة عقلًا، بل إن العقل يقضي بإمكان وقوعها، فضلًا عن أنها واقعة فعلًا، ولو كانت مما يستحيل وقوعه للزم منه أن يكون القرآن كاذبًا فيما قصّه علينا من أنباء المعجزات، ومَعْنِيًّا بأساطير غير واقعة.

كما أن القول بأن المعجزات تخالف العقل غلط ناشئٌ من عدم التمييز بين (خارق العادة الممكن) أو (خارق سنة الكون الممكن) وبين (خارق العقل المستحيل).

فمنكرو المعجزات خلطوا بين الأمرين، فظنوا أنَّ خارقَ العادة وسُنة الكون خارقٌ للعقل أيضًا، ومناوئٌ له، ومنشأ هذا الظنّ هو أنّهم يرون استحالة خرق سنة الكون اتّباعًا في ذلك للملاحدة الماديين.

ولو أنّهم آمنوا بالله سبحانه وبكمال قدرته حقّ الإيمان، وآمنوا بالنبوّة والمعجزة على حقيقتيهما لقالوا بإمكان خرق سنن الكون من الله سبحانه الذي هو خالق ذلك الكون وواضع سننه، فما دام أنه خلق الكون وما فيه، ووضع قوانينه وسننه، فإنه بلا شك قادر على تغيير نظامه متى اقتضت حكمته ذلك.

ولكنّهم من غفلتهم يقيسون الإمكان والاستحالة بمقياس قدرة الإنسان، وينسون كمال قدرة الله تعالى وعظمتها.

فإن معنى عموم قدرة الله تعالى على كل شيء أنه قادر على كل شيء ممكن إمكانًا عقليًّا، لكن نطاق هذا الإمكان أوسع بكثير مما يظنه منكرو المعجزات، فيدخل في الممكن كل ما ليس بمحال عقلي، ولا مستلزم للمحال، كجمع النقيضين، ورفعهما، والدور، وتسلسل العلل الفاعلة.

ومَنشَأُ إنكار المُعجزات واستبعادِ وقُوعِها هو اعتقادُ المنكر بأنَّ نظامَ الكَون إنما هو من طبيعةِ الأشياء التي لا يقبَلُ الانفكاك عنها، وليس بجعلٍ اختياريٍّ من الله، إذ لا بد -إذا كان الله جاعِلَ نظام الكون، وكان مُختارًا في جعله- أن يقدِرَ على تغييره متى شاء ذلك، فالله تعالى في عقيدة المؤمنين إذا شاء فإنه يسلب الأشياء ما جرَت سُنَّتُه فيها، ويكون هذا السلب خرقًا منه للعادة، لا خرقًا للعقل حتى يكون محالًا.

فكما تكون إماتة الأحياء من القَتَلة بإذن الله تعالى، يكون إحياء الموتى من أنبياء الله أيضًا بإذنه، كما كانت معجزة عيسى عليه السلام، ولا فرق بين الحالين إلا بكثرة وقوع الأول، وقلة وقوع الثاني، مع تساويهما في الإمكان بالنسبة إلى قدرة الله تعالى([11]).

أما مخالفة المعجزات لسنة الكون فنحن نعترف به، ولا ندّعي أن المعجزات من الأفعال الطبيعية، وأنها تنطبق مع سنة الكون التي هي سنة الله العامة، وإنما هي منطبقة مع سنة الله الاستثنائية.

ونحن لا نقبل القول بأن مخالفة المعجزات لسنة الكون مانعة من وقوعها، بل إن هذه المخالفة لازمة مطلوبة، لتكون المعجزة معجزة([12]).

2- تجويز انخرام قوانين الكون عند المؤمنين بالنُّبُوَّة ليس أمرًا عَبَثيًّا ولا فَوضَويًّا:

فالمؤمنون بالنُّبُوَّة لا يقولون بأنَّ انحراف السُّنَن يَتحَقَّق بلا قَيْد ولا شَرْط ولا ضابط؛ بل إنهم مِن أَشَدِّ الناس إيمانًا بالنظام الكوني وانضباطه وصرامته.

ولا أدل على ذلك من أن المؤمنين بالنبوة يستدلون بإحكام الكون، وإتقان صنعه على خالق عليم.

 ومع ذلك فإنهم يقولون: إن الله الخالق للكون والواضع لقوانينه لا يُعجِزه أن يَخرِق بعضها إذا شاء بحكمته وإرادته، فهو أَعلَم بها، وأَقدَر عليها.

وأَمْر انخرام قوانين الكون إنما هو أَمْرٌ محكوم بإرادة الله وحكمته وعِلمه ورحمته، وهو محكوم أيضًا بالبقاء على الأصل، وليس هو الغالب، ولا الأكثر.

فحقيقة ما يقوله المؤمنون بالنُّبُوَّة: أنَّ الكون محكوم بقوانين تَضبِط أحداثه، وتَحكُم مَشاهِده، وأنَّ ذلك هو الأصل المُطَّرِد فيه، ولكنَّ الله قد يُحدِث انخرامًا في بعض تلك القوانين إذا اقتَضَتْ حكمته وإرادته ذلك.

فلا يصح إذًا تصوير مسألة المعجزات على أنها إيمان بانخرام دائم مطَّرد للكون في هذه الحياة الدنيا، وتصوير المؤمنين بها على أن حالهم يشبه حال المجانين والخرافيين، فهذا فيه حطّ من شأن المؤمنين بالأنبياء ومعجزاتهم، واحتقار لهم، كأنه لم يؤمن بهم وبمعجزاتهم إلا المغفَّلون السُّذَّج، دون أصحاب العقول الراجحة، مع أن رجحان العقل وخفّته يجب أن يوزن بميزان الإيمان بالنبي الحق وآياته التي هي آيات الله والإعراض عنه. فمن آمن فهو أعقل الناس، ومن كفر فهو أغباهم وأجهلهم([13]).

3- آيات الأنبياء تَتَّصِف بالظهور والقطعية والجَلاء، وليست أمورًا ظنية احتمالية:

فخروج الماء مِن بَيْن أصابع النبي صلى الله عليه وسلم أَمْر ظاهِر مُدرَك بالضرورة الحسية لمن أحس بها وحضرها، والحس يفيد اليقين والقطع، وكذلك الحال في تكثير الطعام، وتحريك الأشجار، وشفاء المريض، وحنين الجِذع، فكُلُّ هذه الأمور منقولة بالتواتر، ودليل التواتر مركّب من الدليلين الحسّي والعقلي.

والمؤمنون لا يَقبَلون كُلَّ دَعْوَى في انخرام السُّنَن الكونية، ولا يُدخِلون في ضِمْن أدلتهم على النُّبُوَّة إلا ما كان ظاهرًا على حقيقته، قطعيًّا في تَحقُّق انخرام السُّنَن فيه، فلا يَصِحُّ أن يقال مع ذلك بأنَّ المُعجِزات أمور ظنية تُعارِض أمورًا قطعية.

4- دَعْوَى إفساد العَقْل الإنساني والمعرفة الإنسانية مُنقَلِبة على الناقدين للنُّبُوَّة:

فإن كثيرًا منهم تَبَنَّى آراء ومواقف تُؤَدي بالضرورة إلى إحداث أضرار بالغة بالمنظومة المَعرِفية، وتُدخِل العَقْل الإنساني في متاهات من الشكوك، وأصناف من الاضطرابات المَعرِفية، وتَتسَبَّب في دخول ألوان من الغموض والقلق إلى ساحات المعرفة.

فكثير من أتباع التيار الإلحادي صَرَّح بإنكار المبادئ الفِطرِيَّة البَدَهيَّة، وانتهى إلى أنَّ المعرفة الإنسانية نِسبِيَّة في كُلِّ مجالاتها، وقَرَّر بأنها لا تَقُوم على أصول كُليَّة مُطلَقة، وهذه الرؤية تُؤَدي -بالضرورة- بالمعرفة الإنسانية إلى الوقوع في متاهات السَّفسَطة القاتلة، وتُدخِل العَقْل الإنساني في أمواج من الشكوك العاتية؛ بل إنها فضلًا عن ذلك تُغلِق الباب أمام نَقْد مَوقِف المؤمنين من المُعجِزات، وتُوقِع أتباعها في التناقض المنهجي الصارِخ؛ إذ كيف يُمكِن لمن يُؤمِن بنِسبِيَّة الحقيقة أن يَدَّعِي أنَّ قول المخالفين له باطِلٌ مُخالِفٌ للعَقْل؟!

وأما أَتْباع التيار الرُّبوبِي فحالُهم لا يَختَلِف كثيرًا عن حال أَتْباع التيار الإلحادي، فإنهم وقعوا في أصنافٍ من المُغالَطات المنطقية، فإنهم في إنكارهم للمُعجِزات وقعوا في مُغالَطة (الانقلاب الإقراري)، حيث إنهم سَلَّموا بخَلْق الله للكون، وقدرته على إحداثه مِن بعد العدم، ثم اعتقدوا أنه لا يُمكِن إحداث انخرام جزئيٍّ في بعض قوانين الكون التي وضعها الله ابتداءً، وسَلَّموا بخِلْق الله للكون، ثم طَفِقوا يَتشَكَّكون في كمال حكمته وقدرته وعلمه، وكُلُّ ذلك اضطراب يُوقِع العَقْل الإنساني في صُنوف من القلق والحَيرة والغُموض.

وخلاصة القول: أن تجويز انخرام قوانين الكون عند المؤمنين بالنُّبُوَّة ليس أمرًا عَبَثيًّا ولا فَوضَويًّا، فالمؤمنون بالنُّبُوَّة لا يقولون بأنَّ انخراق السُّنَن يَتحَقَّق بلا قَيْد ولا شَرْط ولا ضابط، وآيات الأنبياء تَتَّصِف بالظهور والقطعية والجَلاء، وليست أمورًا ظنية احتمالية، ودَعْوَى إفساد العَقْل الإنساني والمعرفة الإنسانية مُنقَلِبة على الناقدين للنُّبُوَّة، ممن جعلوا الحقائق نسبية.

المحور الثالث: إنكار المعجزات ليس فيه ترغيب لعقلاء الغرب بالإسلام:

إن منكري المعجزات حين جرّدوا حياة نبينا عليه الصلاة والسلام من المعجزات الكونية وأثاروا في سبيل هذا التجريد الشك في قيمة السنة في الإسلام، إنما جنحوا إلى هذا الشذوذ الخطير المُحدَث، ورَكِبُوا متنَ هذا الشطط والإسراف لدافعٍ حسنٍ في نفسه، وهو ترغيبُ المستشرقين وعقلاء الغرب في الإسلام، وتحبيبُه إلى قلوبهم، وتقريبُه من عقولهم، كأنَّ المعجزات الكونية والروايات عنها في كتب الحديث والسيرة أصبحت عيبًا في الإسلام وفي حياة نبيِّه عليه الصلاة والسلام.

ولكن هذا ليس فيه أدنى فائدة في استمالةِ الناقدين أعداء الإسلام إلى الإسلام، وفي التخفيف من غلواء تعصبهم عليه لعدة أمور:

أولًا: لأنهم يعرِفُون كتُبَ الحديث والسير وما فيها، ومَا بُذل في تمحيص رواياتها من المساعي الجبَّارة، ولهذا لا يقبلون تبرُّؤ المُتبرِّئين من المسلمين منها على أنه تبرُّؤ الإسلام نفسِه، بل يعدُّونه مُصانعةً وتكتمًا وضعفًا ناشئًا من الضَّعف في نفس الإسلام.

ثانيًا: لأنَّ القرآن مهما حُبِّب إليهم وأُعجبوا به فلا يبلغُ تقديرُهم وإعجابُهم مبلغ اعتباره معجزة تُثبِت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يطمع منهم أن يَعدُّوه أفضل كتابٍ في الدنيا وضعه البشر، أما أنه كلام الله أنزله على خاتم أنبيائه ليكون له معجزة النبوة فأمر خارق لسنة الكون، لن يقبله منكرو المعجزات والخوارق.

ثالثًا: لأنَّ أولئك المستشرقين إمَّا ملاحدة ماديُّون، وإما نصارى مُتعصِّبُون لدينهم؛ فإن كانوا ملاحدة فلا يُرضِيهم التنازلُ عن معجزات نبيِّنَا غيرِ القرآن، بحُجَّة أنها معجزاتٌ كونية ولم يرد ذكرُها في القرآن؛ رجاءَ أن يعتَرِفوا بمُعجِزة القرآن.

وإن كانوا نصارى فكيفَ يَعترِضُون على معجزات محمد صلى الله عليه وسلم الكونية، ويعدُّون الأحاديث المروية عنها عارًا على الإسلام لأجل كونها مخالفةً لسُنَّةِ الكون، في حين إنَّ معجزاتِ سيدنا المسيح كلّها كونيَّةٌ مخالفةٌ لسنة الكون.

رابعًا: ولأنَّ الغربَ الراقي الذي هو محل غِبطةِ المُثقّفِين العصريِّين، والذي يسعى سعيًا حثيثًا إلى أن يُخرج الشرق الإسلامي من دينه، ويُعادي المسلمين لعقيدتهم وقرآنهم، لا يرضيه أن يتنازل المسلم الغافِلُ عن شطرِ دينِه ومعجزات نبيِّهِ تزلُّفًا إليه، بل لا يُرضيه إلا التنازل عن الشطر الباقي أيضًا، والاستمرار في مناوأة الإسلام ومكافحته([14]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) «المطالب العالية من العلم الإلهي» (8/ 36-37).

([2]) انظر الرد عليه ومناقشته في كتاب: «إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام»، ضمن «مجموع مؤلفات الشيخ عبد الله بن يابس» (1/ 102-113). وأما فتواه في نزول عيسى عليه السلام فقد أثارت جدالًا واسعًا، وكثرت الردود عليها.

([3]) تصدّى الشيخ مصطفى صبري التوقادي للرد على رجال المدرسة العقلية الحديثة في مسألة المعجزات في كتابه: «القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون». ثم ضمَّن ذلك الكتاب في المجلد الرابع من كتاب: «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعبادة المرسلين»، وهو المورد الرئيس في هذه المقالة، وقد اعتمدت في العزو على كتاب: «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد»، وهو رسالة علمية للدكتور مفرح بن سليمان القوسي، إذ أحسن فيه في تحويل كلام الشيخ الذي جاء في قالب مناقشة وأخذٍ وردٍّ إلى قالب منهجي منظّم.

([4]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 450).

([5]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 439).

([6]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 431-432).

([7]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 431-432).

([8]) «الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد» (ص: 341).

([9]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 438).

([10]) مستفاد بتصرف وزيادة من «ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث» د. سلطان العميري (2/ 358-360).

([11]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 446-449).

([12]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 451).

([13]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 450-451).

([14]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 440-441).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

التطبيقات الخاطئة لنصوص الشريعة وأثرها على قضايا الاعتقاد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأمور المقرَّرة عند أهل العلم أنه ليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل، سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية، وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبيٌّ يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة […]

الصحابة في كتاب (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي (581هـ) -وصف وتحليل-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يحرص مركز سلف للبحوث والدراسات على توفية “السلف” من الصحابة ومنِ اتبعهم بإحسان في القرون الأولى حقَّهم من الدراسات والأبحاث الجادة والعميقة الهادفة، وينال الصحابةَ من ذلك حظٌّ يناسب مقامهم وقدرهم، ومن ذلك هذه الورقة العلمية المتعلقة بالصحابة في (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي رحمه الله، ولهذه […]

معنى الكرسي ورد الشبهات حوله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدُّ كرسيُّ الله تعالى من القضايا العقدية العظيمة التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نال اهتمام العلماء والمفسرين نظرًا لما يترتب عليه من دلالات تتعلّق بجلال الله سبحانه وكمال صفاته. فقد جاء ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} […]

لماذا لا يُبيح الإسلامُ تعدُّد الأزواج كما يُبيح تعدُّد الزوجات؟

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنَّ النِّكَاحَ فِي الجاهلية كان على أربع أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ: يَخْطُبُ الرجل إلى الرجل وليته أوابنته، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ ‌فَاسْتَبْضِعِي ‌مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي […]

مركزية السنة النبوية في دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الدعوةَ الإصلاحية السلفيَّة الحديثة ترتكِز على عدّة أسُس بُنيت عليها، ومن أبرز هذه الأسُس السنةُ النبوية التي كانت هدفًا ووسيلة في آنٍ واحد، حيث إن دعوةَ الإصلاح تهدف إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف من التزام الهدي النبوي من جهة، وإلى تقرير أن السنة النبوية الصحيحة […]

الحكم على عقيدة الأشاعرة بالفساد هل يلزم منه التكفير؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا شك أن الحكم على الناس فيما اختلفوا فيه يُعَدّ من الأمور العظيمة التي يتهيَّبها أهل الديانة ويحذرها أهل المروءة؛ لما في ذلك من تتبع الزلات، والخوض أحيانا في أمور لا تعني الإنسانَ، وويل ثم ويل لمن خاض في ذلك وهو لا يقصد صيانة دين، ولا تعليم شرع، […]

ترجمة الشيخ شرف الشريف (1361-1447هـ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشيخ شرف الشريف([1]) اسمه ونسبه:    هو شرف بن علي بن سلطان بن جعفر بن سلطان العبدلي الشريف. يتَّصل نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. نشأته ودراسته وشيوخه: ولد رحمه الله عام 1361هـ في محافظة تربة في العلاوة، وقد بدأ تعليمه الأوّلي في مدرسة […]

وهم التعارض بين آيات القرآن وعلم الكَونِيّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يمتاز التصوُّرُ الإسلامي بقدرته الفريدة على الجمع بين مصادر المعرفة المختلفة: الحسّ، العقل، والخبر الصادق، دون أن يجعل أحدها في تعارض مع الآخر. فالوحي مصدر هداية، والعقل أداة فهم، والحسّ مدخل المعرفة، والتجربة طريق التحقُّق. وكل هذه المسالك تتكامل في المنهج الإسلامي، دون تصادم أو تعارض؛ لأنها جميعًا […]

لا يفتي أهلُ الدثور لأهل الثغور -تحليل ودراسة-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: في خِضَم الأحداث المتتالية والمؤلمة التي تمرُّ بها أمة الإسلام، وكان لها أثر ظاهر على استقرارها، ومسَّت جوانبَ أساسيّة من أمنها وأمانها في حياتها، برزت حقيقةٌ شرعيّة بحاجة لدراسة وتمييز، ورغم قيام العلماء من فجر الإسلام بواجبهم الشرعيّ في البيان وعدم الكتمان، إلا أنَّ ارتباطَ هذه الحقيقة بأحداث […]

مؤلفات مطبوعة في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (عرض ووصف)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: “السيد الحليم“، هكذا وُصف الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وقد كان سيِّدًا في المسلمين، حليمًا ذكيًّا ثقِفًا، يحسن إيراد الأمور وتصديرها، جعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتبًا من كتاب الوحي القرآني؛ لأمانته وفقهه، وقد صح في فضله أحاديث، ومهما وقع منه ومن معه […]

جواب الاعتراضات على القدر المشترك (الجزء الأول)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: كنا كتبنا ورقةً علمية بمركز سلف للبحوث والدراسات حول مفهوم القدر المشترك، ووضّحناه وقربناه للعامة، وبقِيَت اعتراضات يوردها بعضهم عليه، وقد تُلبس على العامة دينَهم، وهذه الاعتراضات مثاراتُ الغلط فيها أكثرُ من أن تحصى، وأوسعُ من أن تحصَر، وبعضها ناتج عن عُجمة في اللسان، وبعضها أنشأه أصحابه على […]

ترجمة الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس (1349-1447هـ / 1931-2025م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الأرض تحيا إذا ما عاش عالمُها *** متى يمت عالمٌ منها يمُت طرَف كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلّ بها *** وإن أبى عاد في أكنافها التلَف قال العلامةُ ابن القيم رحمه الله: “إن الإحـاطـة بـتراجم أعـيـان الأمـة مطلوبـة، ولـذوي الـمعـارف مـحبوبـة، فـفـي مـدارسـة أخـبـارهم شـفـاء للعليل، وفي مطالعة […]

‏‏ترجمة الشَّيخ محمد بن سليمان العُلَيِّط (1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشَّيخ أبو عمر محمد بن سليمان بن عبد الكريم بن حمد العُلَيِّط. ويبدو أن اشتقاق اسم الأسرة (العُلَيِّط) من أعلاط الإبل، وهي من أعرق الأسر القصيمية الثريَّة وتحديدا في مدينة بريدة، والتي خرج من رَحِمها الشيخ العابد الزاهد الوَرِع التقيّ محمد العُلَيِّط([2]). مولده: كان مسقط رأسه […]

الأوراد الصوفية المشتهرة في الميزان

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الذكرَ من أعظم العبادات القلبية واللفظية التي شرعها الله لعباده، ورتَّب عليها الأجور العظيمة، كما قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]، وقال سبحانه: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. وقد داوم النبي صلى الله عليه وسلم على الأذكار الشرعية، وعلَّمها أصحابَه، وكان يرشِدهم إلى أذكار الصباح […]

مناقشة دعوى الرازي: “عدم هداية القرآن إلى العلم بالله وأنبيائه”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا جرم أن الله أنزل علينا قرآنا بدأه بوصفه: {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} من إنس وجان، وتولَّى بنفسه حفظه لفظًا ومعنًى، وبَيَّنَه أتم بيان، وجعله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وحرَّر وفنَّد الشبهات التي ترِد على الفؤاد قبل أن ينطق بها لسان، فجلُّ ما استطاعه من […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017