السبت - 18 شوّال 1445 هـ - 27 ابريل 2024 م

هل الإيمان بالمُعجِزات يُؤَدي إلى تحطيم العَقْل والمنطق؟

A A

 

هذه الشُّبْهةُ مما استنَد إليه مُنكِرو المُعجِزات منذ القديم، وقد أَرَّخ مَقالَتهم تلك ابنُ خطيب الريّ في كتابه (المطالب العالية من العلم الإلهي)، فعقد فصلًا في (حكاية شبهات من يقول: القول بخرق العادات محال)، وذكر أن الفلاسفة أطبقوا على إنكار خوارق العادات، وأما المعتزلة فكلامهم في هذا الباب مضطرب، فتارة يجوّزون خوارق العادات، وأخرى يمنعون منه، وليس لهم بين البابين قانون معلوم وطريق مضبوط([1]).

 كما أنها أُثِيرت في العصر الحديث بسبب تنامي النزعة العلموية التي رسّخت في أذهان منكري المعجزات وعقلياتهم ضرورة إنكار الأمور الغيبية، وحملهم على تأويل آيات المعجزات، كتأويل الشيخ محمد عبده لانفلاق البحر والطير الأبابيل، وتشكيكه في القصص القرآني، وتأويل الشيخ محمد رشيد رضا لانشقاق القمر.

وقد جرّأتهم تلك النزعة على سوء الظن بكتب الحديث والسيرة والطعن في أمانة الرواة والمحدّثين، حيث أنكر الشيخ محمود شلتوت كثيرًا من المعجزات الحسية الواردة في السنة؛ مثل حنين الجذع وأخبار الدجال([2])، وذهب محمد حسين هيكل في كتابه (عبقرية محمد) إلى أن القرآن الكريم هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وذهب محمد فريد وجدي إلى إنكار المعجزات عمومًا([3]).

غير أن دعوى أن العلمَ الحديث ينكر المعجزات دعوى باطلة؛ لأمور:

[1] لأن منكري المعجزات توهموا أن العلم ينكرها، مع أنه لا ينكرها ولا يثبتها، بل يسكت عنها.

[2] ولأن سكوته عنها لا يعني أنها غير ثابتة، حيث إن العلوم غير منحصرة في العلم المادّي، فإذا لم يثبتها ذلك العلم فإن هناك علومًا أخرى تثبتها.

[3] ولأنه لو كان ينكرها فعلا فإنه لا يعتدُّ بإنكاره؛ لأن ليس له الحق في إنكارها، حيث إن المعجزات من الأمور الغيبية التي لا تدخل في مجال عمله وخصائصه([4]).

ومناقشة هذه الدعوى تفصيلًا لها محلٌّ آخر، وسنتناول في هذه المقالة جواب سؤال: (هل الإيمان بالمُعجِزات يُؤَدي إلى تحطيم العَقْل والمنطق؟)، وذلك في المحاول ثلاثة الآتية:

المحور الأوّل: الأُسس التي ينبني عليها الإيمان بالمعجزات الحسّية:

نبين في ما يأتي الأسس الإيمانية التي ينبني عليها الإيمان بالمعجزات وهي:

1- الإيمان بوجود الله تعالى وكمال قدرته وحكمته: فلا شك أن الذي فطر السماوات والأرض لا يصعب عليه أن يرسل إلى بني آدم الذين هو خالقهم أيضًا رسولًا منهم، فيوحي إليه ما يشاء، وأن يظهر على يديه خارقة من خوارق العادات، كخلق ثعبان من العصا، وهو خالق العصا والثعبان وجميع العالم من عدم.

يقول وليم ستانلي جيفونس (William Stanley Jevons)‏ وهو من كبار المنطقيين الإنجليز: (القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شيء منه، أو إضافة شيء إليه).

وحكمُ الملاحدة باستحالَة المعجزات مبنيّ على اعتقادهم أن العالم قد أوجد نفسَه بنفسه، وأن نظامه المشهود نظام اتّفاقي محض، لا دخل فيه لصنع الله وتدبيره، ولو كانوا يقرون بوجود الله، وبأنه موجد هذا العالم، وواضع نظامه بقدرته واختياره لكان من الضروري لديهم أن يقدر على تغييره إذا شاء ذلك، ككل واضعي الأنظمة والقوانين، حيث يقدرون على تغيير ما وضعوه عند اللزوم.

فبعد التسليم بوجود الله يكون كل شيء سهلًا، ولا داعي إلى القول باستحالَتِها في العقل؛ لأنَّهُ إذا كان الله هو خالق الإنسان، وخالق الحيوانات والنباتات بجميع أنواعها، فمن السهل عليه أن يخلق ثعبانًا من عصا موسى عليه السلام، ولا مانع منه أصلًا في نظر العقل بعد تسليمه بوجود الله([5]).

2- الإيمان بالنبوَّات: فنبوات الأنبياء تنهار بانهيار المعجزات، لاشتراكها في المخالفة في سنة الكون، التي جعلها منكرو المعجزات حجةً في إنكارها، فإنكار المعجزات ليس إلا رمزًا لإنكار النبوّات.

وبناء على شدة الاتصال بين إنكار المعجزات وإنكار النبوة نرى الذين يكتبون عن الأنبياء عليهم السلام من غير تعرض لمعجزاتهم يصورونهم ويترجمون عن حياتهم كأنهم لا يمتازون عن الناس إلا بما يمتاز به العظماء والحكماء الأماثل، من دون أن يكون لهم صلة خصوصية بالله تعالى غير فطرتهم التي فطرهم على أن يكونوا عظماء.

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حاجة ماسة إلى المعجزات؛ ليستندوا إليها في دعوى نبوّتهم، وفي دعوة الناس أن يثقوا بهدايتهم([6]).

3- الإيمان بالقرآن العظيم وما جاء فيه من أخبار عن المعجزات الحسيّة للرسل والأنبياء: فإن المعجزات الحسية قد أخبر القرآن بوقوعها، ومنها ناقة صالح، ومعجزات موسى عليه السلام، وأهمها العصا واليد وانفلاق البحر، ومعجزات سليمان عليه السلام، ومن أهمّها تعليمه منطق الطير وسائر الحيوانات، وتسخير الجن والريح له، ومعجزات عيسى عليه السلام والتي أهمّها إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

والمنكرون للمعجزات كان طريقهم إلى رفضه تأويل معناه، لاعبين بعقول القرّاء الغافلين، وغير مبالين بما يتعدّون في تأويلاتهم من حدود مراد الله، ولو نظروا إلى القرآن وهم مستحضرون أنه كلام الله تعالى لالتزموا بعض التحوّط، وخشوا بعض الخشية أن يكونوا مخطئين في التأويل، لكن مبدأ التحول العصري من البنوة إلى عبقرية يحل جميع هذه المشكلات، ويفتح أمام المؤول أوسع باب([7]).

4- الإيمان بالسنة النبوية وما جاء فيها من إخبار عن معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها مما ثبتت صحته: وذلك مثل تكثير الطعام، ونَبْع الماء من بين يدَيْه الشريفتَيْن، وحَنين الجِذع، وردِّه عَين قَتادة بن النُّعْمان، وغيرها.

يقول الإمام البيهقي رحمه الله في: (‌‌باب القول في إثبات نبوة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم): (ودلائل ‌النبوة كثيرة، والأخبار بظهور المعجزات ناطقة، وهي وإن كانت في آحاد أعيانها غير متواترة، ففي جنسها متواترة متظاهرة من طريق المعنى؛ لأن كل شيء منها مُشاكل لصاحبِه في أنه أمر مزعج للخواطر ناقض للعادات)([8]).

فالمنكرون للمُعجزات يَستسهِلون على أنفسهم المخالفة لمرويات كتب الحديث فيما لا يوافق أهواءهم طعنًا في ثبوت تلك الروايات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أن أهل النقد من علماء الحديث وجَدُوا فيها أحاديث موضوعةً، فيرتَقُون بهذه المرتبة من النَّقدِ الخاصِّ لبعضِ الأحاديث إلى الطعن في جملتها باحتمال الكذب في الإسناد، حتى أصبحت السنة من بين الأدلة الشرعية مُلغَاة عندهم، ساقطةً من حيز الاعتداد والاعتماد، ولم يبالوا باحتمال الصدق القائم الغالب في غير ما تكلم فيه علماء الحديث المُختصِّصُون في التعليل، بل فيما صرّحوا فيه بالتصحيح أيضًا([9]).

المحور الثاني: إبطال دعوى أن الإيمان بالمعجزات يؤدي إلى تحطيم العقل والمنطق([10]):

1 – المعجزات خرق للعادة لا خرق للضروريات العقلية:

إن الضروريات العقلية -مثل كون الكل أكبر من الجزء، وامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما- ليس في المعجزات ما يضادها.

فالمعجزات ليست مستحيلة عقلًا، بل إن العقل يقضي بإمكان وقوعها، فضلًا عن أنها واقعة فعلًا، ولو كانت مما يستحيل وقوعه للزم منه أن يكون القرآن كاذبًا فيما قصّه علينا من أنباء المعجزات، ومَعْنِيًّا بأساطير غير واقعة.

كما أن القول بأن المعجزات تخالف العقل غلط ناشئٌ من عدم التمييز بين (خارق العادة الممكن) أو (خارق سنة الكون الممكن) وبين (خارق العقل المستحيل).

فمنكرو المعجزات خلطوا بين الأمرين، فظنوا أنَّ خارقَ العادة وسُنة الكون خارقٌ للعقل أيضًا، ومناوئٌ له، ومنشأ هذا الظنّ هو أنّهم يرون استحالة خرق سنة الكون اتّباعًا في ذلك للملاحدة الماديين.

ولو أنّهم آمنوا بالله سبحانه وبكمال قدرته حقّ الإيمان، وآمنوا بالنبوّة والمعجزة على حقيقتيهما لقالوا بإمكان خرق سنن الكون من الله سبحانه الذي هو خالق ذلك الكون وواضع سننه، فما دام أنه خلق الكون وما فيه، ووضع قوانينه وسننه، فإنه بلا شك قادر على تغيير نظامه متى اقتضت حكمته ذلك.

ولكنّهم من غفلتهم يقيسون الإمكان والاستحالة بمقياس قدرة الإنسان، وينسون كمال قدرة الله تعالى وعظمتها.

فإن معنى عموم قدرة الله تعالى على كل شيء أنه قادر على كل شيء ممكن إمكانًا عقليًّا، لكن نطاق هذا الإمكان أوسع بكثير مما يظنه منكرو المعجزات، فيدخل في الممكن كل ما ليس بمحال عقلي، ولا مستلزم للمحال، كجمع النقيضين، ورفعهما، والدور، وتسلسل العلل الفاعلة.

ومَنشَأُ إنكار المُعجزات واستبعادِ وقُوعِها هو اعتقادُ المنكر بأنَّ نظامَ الكَون إنما هو من طبيعةِ الأشياء التي لا يقبَلُ الانفكاك عنها، وليس بجعلٍ اختياريٍّ من الله، إذ لا بد -إذا كان الله جاعِلَ نظام الكون، وكان مُختارًا في جعله- أن يقدِرَ على تغييره متى شاء ذلك، فالله تعالى في عقيدة المؤمنين إذا شاء فإنه يسلب الأشياء ما جرَت سُنَّتُه فيها، ويكون هذا السلب خرقًا منه للعادة، لا خرقًا للعقل حتى يكون محالًا.

فكما تكون إماتة الأحياء من القَتَلة بإذن الله تعالى، يكون إحياء الموتى من أنبياء الله أيضًا بإذنه، كما كانت معجزة عيسى عليه السلام، ولا فرق بين الحالين إلا بكثرة وقوع الأول، وقلة وقوع الثاني، مع تساويهما في الإمكان بالنسبة إلى قدرة الله تعالى([11]).

أما مخالفة المعجزات لسنة الكون فنحن نعترف به، ولا ندّعي أن المعجزات من الأفعال الطبيعية، وأنها تنطبق مع سنة الكون التي هي سنة الله العامة، وإنما هي منطبقة مع سنة الله الاستثنائية.

ونحن لا نقبل القول بأن مخالفة المعجزات لسنة الكون مانعة من وقوعها، بل إن هذه المخالفة لازمة مطلوبة، لتكون المعجزة معجزة([12]).

2- تجويز انخرام قوانين الكون عند المؤمنين بالنُّبُوَّة ليس أمرًا عَبَثيًّا ولا فَوضَويًّا:

فالمؤمنون بالنُّبُوَّة لا يقولون بأنَّ انحراف السُّنَن يَتحَقَّق بلا قَيْد ولا شَرْط ولا ضابط؛ بل إنهم مِن أَشَدِّ الناس إيمانًا بالنظام الكوني وانضباطه وصرامته.

ولا أدل على ذلك من أن المؤمنين بالنبوة يستدلون بإحكام الكون، وإتقان صنعه على خالق عليم.

 ومع ذلك فإنهم يقولون: إن الله الخالق للكون والواضع لقوانينه لا يُعجِزه أن يَخرِق بعضها إذا شاء بحكمته وإرادته، فهو أَعلَم بها، وأَقدَر عليها.

وأَمْر انخرام قوانين الكون إنما هو أَمْرٌ محكوم بإرادة الله وحكمته وعِلمه ورحمته، وهو محكوم أيضًا بالبقاء على الأصل، وليس هو الغالب، ولا الأكثر.

فحقيقة ما يقوله المؤمنون بالنُّبُوَّة: أنَّ الكون محكوم بقوانين تَضبِط أحداثه، وتَحكُم مَشاهِده، وأنَّ ذلك هو الأصل المُطَّرِد فيه، ولكنَّ الله قد يُحدِث انخرامًا في بعض تلك القوانين إذا اقتَضَتْ حكمته وإرادته ذلك.

فلا يصح إذًا تصوير مسألة المعجزات على أنها إيمان بانخرام دائم مطَّرد للكون في هذه الحياة الدنيا، وتصوير المؤمنين بها على أن حالهم يشبه حال المجانين والخرافيين، فهذا فيه حطّ من شأن المؤمنين بالأنبياء ومعجزاتهم، واحتقار لهم، كأنه لم يؤمن بهم وبمعجزاتهم إلا المغفَّلون السُّذَّج، دون أصحاب العقول الراجحة، مع أن رجحان العقل وخفّته يجب أن يوزن بميزان الإيمان بالنبي الحق وآياته التي هي آيات الله والإعراض عنه. فمن آمن فهو أعقل الناس، ومن كفر فهو أغباهم وأجهلهم([13]).

3- آيات الأنبياء تَتَّصِف بالظهور والقطعية والجَلاء، وليست أمورًا ظنية احتمالية:

فخروج الماء مِن بَيْن أصابع النبي صلى الله عليه وسلم أَمْر ظاهِر مُدرَك بالضرورة الحسية لمن أحس بها وحضرها، والحس يفيد اليقين والقطع، وكذلك الحال في تكثير الطعام، وتحريك الأشجار، وشفاء المريض، وحنين الجِذع، فكُلُّ هذه الأمور منقولة بالتواتر، ودليل التواتر مركّب من الدليلين الحسّي والعقلي.

والمؤمنون لا يَقبَلون كُلَّ دَعْوَى في انخرام السُّنَن الكونية، ولا يُدخِلون في ضِمْن أدلتهم على النُّبُوَّة إلا ما كان ظاهرًا على حقيقته، قطعيًّا في تَحقُّق انخرام السُّنَن فيه، فلا يَصِحُّ أن يقال مع ذلك بأنَّ المُعجِزات أمور ظنية تُعارِض أمورًا قطعية.

4- دَعْوَى إفساد العَقْل الإنساني والمعرفة الإنسانية مُنقَلِبة على الناقدين للنُّبُوَّة:

فإن كثيرًا منهم تَبَنَّى آراء ومواقف تُؤَدي بالضرورة إلى إحداث أضرار بالغة بالمنظومة المَعرِفية، وتُدخِل العَقْل الإنساني في متاهات من الشكوك، وأصناف من الاضطرابات المَعرِفية، وتَتسَبَّب في دخول ألوان من الغموض والقلق إلى ساحات المعرفة.

فكثير من أتباع التيار الإلحادي صَرَّح بإنكار المبادئ الفِطرِيَّة البَدَهيَّة، وانتهى إلى أنَّ المعرفة الإنسانية نِسبِيَّة في كُلِّ مجالاتها، وقَرَّر بأنها لا تَقُوم على أصول كُليَّة مُطلَقة، وهذه الرؤية تُؤَدي -بالضرورة- بالمعرفة الإنسانية إلى الوقوع في متاهات السَّفسَطة القاتلة، وتُدخِل العَقْل الإنساني في أمواج من الشكوك العاتية؛ بل إنها فضلًا عن ذلك تُغلِق الباب أمام نَقْد مَوقِف المؤمنين من المُعجِزات، وتُوقِع أتباعها في التناقض المنهجي الصارِخ؛ إذ كيف يُمكِن لمن يُؤمِن بنِسبِيَّة الحقيقة أن يَدَّعِي أنَّ قول المخالفين له باطِلٌ مُخالِفٌ للعَقْل؟!

وأما أَتْباع التيار الرُّبوبِي فحالُهم لا يَختَلِف كثيرًا عن حال أَتْباع التيار الإلحادي، فإنهم وقعوا في أصنافٍ من المُغالَطات المنطقية، فإنهم في إنكارهم للمُعجِزات وقعوا في مُغالَطة (الانقلاب الإقراري)، حيث إنهم سَلَّموا بخَلْق الله للكون، وقدرته على إحداثه مِن بعد العدم، ثم اعتقدوا أنه لا يُمكِن إحداث انخرام جزئيٍّ في بعض قوانين الكون التي وضعها الله ابتداءً، وسَلَّموا بخِلْق الله للكون، ثم طَفِقوا يَتشَكَّكون في كمال حكمته وقدرته وعلمه، وكُلُّ ذلك اضطراب يُوقِع العَقْل الإنساني في صُنوف من القلق والحَيرة والغُموض.

وخلاصة القول: أن تجويز انخرام قوانين الكون عند المؤمنين بالنُّبُوَّة ليس أمرًا عَبَثيًّا ولا فَوضَويًّا، فالمؤمنون بالنُّبُوَّة لا يقولون بأنَّ انخراق السُّنَن يَتحَقَّق بلا قَيْد ولا شَرْط ولا ضابط، وآيات الأنبياء تَتَّصِف بالظهور والقطعية والجَلاء، وليست أمورًا ظنية احتمالية، ودَعْوَى إفساد العَقْل الإنساني والمعرفة الإنسانية مُنقَلِبة على الناقدين للنُّبُوَّة، ممن جعلوا الحقائق نسبية.

المحور الثالث: إنكار المعجزات ليس فيه ترغيب لعقلاء الغرب بالإسلام:

إن منكري المعجزات حين جرّدوا حياة نبينا عليه الصلاة والسلام من المعجزات الكونية وأثاروا في سبيل هذا التجريد الشك في قيمة السنة في الإسلام، إنما جنحوا إلى هذا الشذوذ الخطير المُحدَث، ورَكِبُوا متنَ هذا الشطط والإسراف لدافعٍ حسنٍ في نفسه، وهو ترغيبُ المستشرقين وعقلاء الغرب في الإسلام، وتحبيبُه إلى قلوبهم، وتقريبُه من عقولهم، كأنَّ المعجزات الكونية والروايات عنها في كتب الحديث والسيرة أصبحت عيبًا في الإسلام وفي حياة نبيِّه عليه الصلاة والسلام.

ولكن هذا ليس فيه أدنى فائدة في استمالةِ الناقدين أعداء الإسلام إلى الإسلام، وفي التخفيف من غلواء تعصبهم عليه لعدة أمور:

أولًا: لأنهم يعرِفُون كتُبَ الحديث والسير وما فيها، ومَا بُذل في تمحيص رواياتها من المساعي الجبَّارة، ولهذا لا يقبلون تبرُّؤ المُتبرِّئين من المسلمين منها على أنه تبرُّؤ الإسلام نفسِه، بل يعدُّونه مُصانعةً وتكتمًا وضعفًا ناشئًا من الضَّعف في نفس الإسلام.

ثانيًا: لأنَّ القرآن مهما حُبِّب إليهم وأُعجبوا به فلا يبلغُ تقديرُهم وإعجابُهم مبلغ اعتباره معجزة تُثبِت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يطمع منهم أن يَعدُّوه أفضل كتابٍ في الدنيا وضعه البشر، أما أنه كلام الله أنزله على خاتم أنبيائه ليكون له معجزة النبوة فأمر خارق لسنة الكون، لن يقبله منكرو المعجزات والخوارق.

ثالثًا: لأنَّ أولئك المستشرقين إمَّا ملاحدة ماديُّون، وإما نصارى مُتعصِّبُون لدينهم؛ فإن كانوا ملاحدة فلا يُرضِيهم التنازلُ عن معجزات نبيِّنَا غيرِ القرآن، بحُجَّة أنها معجزاتٌ كونية ولم يرد ذكرُها في القرآن؛ رجاءَ أن يعتَرِفوا بمُعجِزة القرآن.

وإن كانوا نصارى فكيفَ يَعترِضُون على معجزات محمد صلى الله عليه وسلم الكونية، ويعدُّون الأحاديث المروية عنها عارًا على الإسلام لأجل كونها مخالفةً لسُنَّةِ الكون، في حين إنَّ معجزاتِ سيدنا المسيح كلّها كونيَّةٌ مخالفةٌ لسنة الكون.

رابعًا: ولأنَّ الغربَ الراقي الذي هو محل غِبطةِ المُثقّفِين العصريِّين، والذي يسعى سعيًا حثيثًا إلى أن يُخرج الشرق الإسلامي من دينه، ويُعادي المسلمين لعقيدتهم وقرآنهم، لا يرضيه أن يتنازل المسلم الغافِلُ عن شطرِ دينِه ومعجزات نبيِّهِ تزلُّفًا إليه، بل لا يُرضيه إلا التنازل عن الشطر الباقي أيضًا، والاستمرار في مناوأة الإسلام ومكافحته([14]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) «المطالب العالية من العلم الإلهي» (8/ 36-37).

([2]) انظر الرد عليه ومناقشته في كتاب: «إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام»، ضمن «مجموع مؤلفات الشيخ عبد الله بن يابس» (1/ 102-113). وأما فتواه في نزول عيسى عليه السلام فقد أثارت جدالًا واسعًا، وكثرت الردود عليها.

([3]) تصدّى الشيخ مصطفى صبري التوقادي للرد على رجال المدرسة العقلية الحديثة في مسألة المعجزات في كتابه: «القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون». ثم ضمَّن ذلك الكتاب في المجلد الرابع من كتاب: «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعبادة المرسلين»، وهو المورد الرئيس في هذه المقالة، وقد اعتمدت في العزو على كتاب: «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد»، وهو رسالة علمية للدكتور مفرح بن سليمان القوسي، إذ أحسن فيه في تحويل كلام الشيخ الذي جاء في قالب مناقشة وأخذٍ وردٍّ إلى قالب منهجي منظّم.

([4]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 450).

([5]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 439).

([6]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 431-432).

([7]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 431-432).

([8]) «الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد» (ص: 341).

([9]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 438).

([10]) مستفاد بتصرف وزيادة من «ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث» د. سلطان العميري (2/ 358-360).

([11]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 446-449).

([12]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 451).

([13]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 450-451).

([14]) «الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد» (ص: 440-441).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017