ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟
خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! وجعل يُرغي ويُزبد ويسبُّ علماء الإسلام، مدَّعيًا أنهم يكذِبون حينما يقولون: إن تارك الصلاة يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، وادعى أن هذه فتوى إجراميَّة، ومن قالها فهو مجرم و(داعشي)!
وحينما تنتشر هذه الأباطيل بين فئام من الخلق ممن لا يميّزون بين الحق والباطل؛ لزم البيان والتنبيه.
فالجواب على هذا الباطل من وجوهٍ:
الأول: أنّ الدليل الشرعيَّ لا ينحصر في النصّ القطعيّ من القرآن، بل يشمل السنة النبوية الصحيحة وإجماع العلماء والقياس الصحيح، فضلا عن الأدلة المختلف في حجيتها كقول الصحابي والاستصلاح والاستحسان وعمل أهل المدينة وغيرها من الأدلة الشرعية التي تُذكر في كتب الأصول.
ومن المعلوم أن القرآن قد دلّ على حجية السنة والإجماع والقياس، وبسط ذلك في كتب الأصول[1] التي بيّنت الأدلة الشرعية وحجّيتها، وكيفية استنباط الحكم الشرعي من هذه الأدلة.
فالمطالبة بنصّ من القرآن فقط هو من صنيع القرآنيين الزنادقة الذين ينكرون السنة النبوية ولا يحتجُّون بها، ومن صنيع الجهال ممن يظنّون انحصارَ الدليل الشرعي في نصوص القرآن القطعية.
الثاني: أنّ قائل هذا الكلام لا يستطيع التزامه ولا طردَه، وإلا فنقول له: اذكر لنا نصًّا منَ القرآن على عقوبة من يُقَبِّل امرأةً في الطريق برضاها، أو عقوبة لمن يفعل اللواط، أو عقوبة لمن يبيع المخدِّرات، أو عقوبة على النصب والتزوير والغشّ في البياعات وأكل الربا. بل ما عقوبة من يشتم الناس -بغير القذف الذي يستوجِب الحد الشرعي- على مواقع التواصل، أو من يشتم الأوطان ويحرِّض على خرابها؟!
هل هناك عقوبة دنيوية محدَّدة في القرآن على ما سبق؟! الجواب: لا، فهل معنى هذا أننا لا نعاقب فاعل هذه الجرائم؟! لا يجرؤ عاقل -فضلًا عن طالب علم- على ادِّعاء ذلك.
وكذلك نقول: وأين في القرآن عقوبة تارك الزكاة في الدنيا؟ والجواب: لا يوجد عقوبة منصوص عليها، فهل معنى هذا أن الحاكم لا يعاقب تارك الزكاة؟! فإن قال: نعم، قلنا: خالفتَ السنة وإجماعَ المسلمين، فقد قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، ووافقه على ذلك الصحابة والمسلمون، وإن قال: يُعَاقَب؛ فقد نقض مقولته.
الثالث: أن العقوبات في الشرع على نوعين: حدود، وتعزيرات.
فالحدود: هي “عقوبات مقدَّرة شرعا تجب لحقِّ الله تعالى”[2]. وأما التعزير فهو: “التأديب على ذنوب لم يُشْرع فيها حدٌّ ولا كفارة. وهو عقوبة غير مُقدّرَة تختلف باختلاف الجناية وأحوال الناس، فتقدَّر بقدر الجناية ومقدار ما ينزجر به الجاني”[3].
فالحدّ مثل: حدّ الزنا، وحدّ القذف، وحدّ السرقة، وحدّ شرب الخمر.
وأما التعزير فهو مشروع في كلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفارة، كالنصب والتزوير، والتحرُّش بالنساء، والمجاهرة بالفطر في رمضان، أو غيرها من الذنوب والمعاصي التي سبق ذكر أمثلة منها.
ولو قلنا بعدم جواز التعزير على المعاصي التي لم يُنَصّ على عقوبتها في القرآن لبطلت كل سياسات الدول على طول التاريخ، ولكانت العقوبات على مخالفة القوانين النظامية كلّها باطلة ومحرمة واعتداء على الناس بغير حق، ومعلوم بطلان هذا الكلام.
والتعزير كذلك داخلٌ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالنهي عن المنكر يكون باليد واللسان والقلب، فتعزير الحاكم على الذنوب والمعاصي هو من باب النهي عن المنكر.
وعليه فكلّ أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أدلة من القرآن على عقوبة تارك الصلاة دنيويًّا.
الرابع: قوله: (إن العقوبة في القرآن جاءت في من يعتدي على الغير فقط كالسرقة والقتل) كلام باطل، وهو كلام العلمانيّين الغربيّين الذين يجعلون معيار التحريم والتحليل الرضا الشخصيّ، فاللواط والزنا عندهم مباح إذا كان برضا الطرفَين، وممنوع إذا كان بغير رضاهما، وهو مبني على غلوِّهم في الحرية الشخصية وتأليه الفَرد وكفرهم بالله والدين.
والله تعالى شرع عقوبة الزنا ولو كان برضا المرأة أو حتى طلبها، وَشَرَعَ عقوبة شارب الخمر ولو لم يضرّ غيرَه بذلك، وشرع عقوبة اللواط ولو كان برضا الطرفين، فليست الحدود مقتصِرة على ما فيه إضرار بالغير وفق المفهوم الغربي العلماني[4]، بل هي شاملة لكلّ معصية يتجاهر بها صاحبها، ولكن هناك عقوبة مقدَّرة لا يجوز التنازل فيها وهي (الحدود)، وعقوبة مرجعها لتقدير الحاكم وفق ما تقتضيه المصلحة الشرعية وهي (التعزيرات).
الخامس: قوله: (إن الله تعالى لا يجبر عبدَه على الصلاة، بل يريد من المسلم أن يصلّي بحب، ولو صلى خوفًا من العقوبة لكان منافقًا) من أفسدِ الكلام وأبطلِه.
ويكفي في إبطاله أن الله تعالى توعَّد الكفار بالعقاب العظيم والأليم في الدنيا والآخرة إن لم يسلِموا، فهل معنى ذلك أن الله تعالى يريد أن يجعلهم منافقين؟!
ثم إنه يقول بأن الآيات في عقاب تارك الصلاة هي في حقّ الكفار، فهل الله تعالى يريد من المسلم أن يصلّي حبًّا ويريد من الكافر أن يصلّي نفاقًا؟!
ويكفي في إبطاله قوله صلى الله عليه وسلم: «مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ، واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ»[5].
فهل بهذا الضرب والعقاب نربي أولادنا على النفاق كما يزعم هذا الضالُّ؟!
ثم إن الله تعالى ذكر في كتابه عقوبةَ تارك الزكاة، فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ﴾ [التوبة: 34، 35]، فهل ذِكْرُ هذه العقوبة سيجعل المسلم يؤدّي الزكاة نفاقًا وليس حبًّا لله؟!
وهل حينما يتوعَّد الله تعالى عباده بالعقاب الأليم على ترك طاعته كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَقُلۡ أَنذَرۡتُكُمۡ صَٰعِقَة مِّثۡلَ صَٰعِقَةِ عَاد وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13]، وقوله تعالى: ﴿فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَناۖ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيما﴾ [الفتح: 16]، وغيرهما من مئات الآيات التي يحذِّر فيها الله تعالى عبادَه من الإعراض عن طاعته، فهل معنى ذلك أن الله يجبر عباده على فعل الطاعة فيعملونها نفاقًا بغير حب؟!
ثم دعواه أن الله تعالى يريد أن تكون العبادة بحبٍّ لا بخوف هو كلام المرجئة الباطل الذي أجمع السلف على ذمه وردّه، ولهذا قال بعض السلف: “من عبد الله تعالى بالحبّ وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحبّ والخوف والرجاء فهو مؤمن”[6].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا وُجِد في المتأخرين من انبسَط في دعوى المحبّة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية”[7]، وقال ابن القيم رحمه الله: “وربما آل الأمر بمن عبده بالحبّ المجرد إلى استحلال المحرمات”[8]. فيا سبحان الله! ما أفقهَ السلفَ وأنصحَهم!
قال ابن القيم رحمه الله: “وقد جمع الله تعالى هذه المقاماتِ الثلاثةَ بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 35]، فابتغاءُ الوسيلة هو محبته الداعيةُ إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاءَ والخوفَ، فهذه طريقة عباده وأوليائه”[9].
فالمؤمن يعبُد الله ويصلِّي حبًّا في الله، وخوفًا من الله، ورجاء في رحمة الله، ولا تعارض بين هذه المقامات الثلاثةِ، بل هي في الحقيقة متلازمةٌ، فإنَّ من أحب شيئًا رجَا حصوله له، وخاف فواته.
السادس: قوله: (إن ما ورد في القرآن من عقوبة أخروية على ترك الصلاة فهي في حق الكفار، ولا تنطبق على المسلمين) كلام باطل من وجهين:
1- أن الله تعالى ذكر عقوبة ترك الصلاة لناس من المسلمين، فقال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيئًا﴾ [مريم: 59، 60]. فسَّرها ابن مسعود والقاسم بن مخيمرة وعمر بن عبد العزيز ومسروق: بأنهم أضاعوا مواقيتها، ولو تركوها بالكلية لكانوا كفارًا[10]. قال القرطبي: “وهو الصحيح”[11].
وذِكْرُ الإيمان بعد توبتهم لا يلزم منه أنهم كانوا كفّارًا، بل يراد به تحقيق الإيمان وتكميله، كما قال ابن كثير رحمه الله: “أي: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم”[12].
وقال تعالى: ﴿فَوَيۡل لِّلۡمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4، 5]، وقد فسرها سعد بن وقاص وابن عباس وابن أبزى ومسروق وأبو الضحى ومسلم بن صبيح ومجاهد وقتادة بالتهاون في أمر الصلاة وترك مواقيتها[13].
قال ابن جرير رحمه الله: “وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب بقوله: {سَاهُونَ}: لاهون يتغافلون عنها؛ وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحيانا، وتضييع وقتها أخرى. وإذا كان ذلك كذلك صحَّ بذلك قول من قال: عنى بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عنى به تركها، لما ذكرت من أن في السهو عنها المعاني التي ذكرت”[14].
فهذا وعيد للسّهو عن الصلاة بالويل والعذاب الشديد، وفي آية مريم بأنهم يَلقَون غيًّا، فكيف بمن يتركها بالكلية؟!
2- أنه لو كانت الآيات في عقوبة تارك الصلاة في حقّ الكفار، فإن الوعيد يشمل تارك الصلاة من المسلمين، فمثلا قوله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمۡ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّينَ * وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ﴾ [المدثر: 42-46] دليل على أنَّ تركهم الصلاة كان سببًا في زيادة عذابهم، وإلا لما كان لذكره فائدة، وكان ذكره عبثًا، فدلّ ذلك على أن ترك الصلاة من أسباب عذابهم المذكور، وهذا الوعيد يستحقه مَنْ ترك الصلاة من المسلمين، أو يكون نصيبه من الوعيد بحسب نصيبه من العمل، فمن كان مستجمعًا لجميع هذا الصفات استحقَّ كامل الجزاء، ومن كان متلبِّسًا ببعض هذه الصفات استحقَّ بعض هذا الجزاء. فالكافر يستحقُّه مخلَّدًا فيها، بخلاف المسلم فإنه لا يخلد في النار، ولكنه مستحقّ للعقاب.
وأما دلالة السنة على عقوبة تارك الصلاة في الآخرة ووصفه بالكفر والنفاق وحبوط عمله وعقوبة من ينام عن الصلاة المكتوبة وحشره مع أئمة الكفر فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف فمشهورةٌ معلومةٌ لا نطيل بذكرها[15]. وهو إن أنكرها كان منكرًا للسنة، وإن أقرها فلا معنى لجداله سوى السفسطة أو الزندقة وتهوين أمر الصلاة في نفوس العوام.
السابع: أن القرآن والسنة والإجماع دلّ على عقوبة تارك الصلاة عقوبة دنيوية:
أما القرآن فقال تعالى: ﴿فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَد فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ ﴾ [التوبة: 5]. فأمر بقتلهم حتى يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة فهم مستحقون للقتل[16]. وهذه من حجج الجمهور على قتل تارك الصلاة.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال له: اتّق الله لما استأذن خالد بن الوليد في قتله قَالَ: «لَا؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»[17]. قال ابن القيم رحمه الله: “فجعل النَّبِيُّ ﷺ المانع من قتله كونَه يصلِّي؛ فدلَّ على أنَّ مَن لم يصلِّ يُقتل”[18].
وقال النَّبيِّ ﷺ: «يُستعمَل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون؛ فمَن أنكر فقد بَرِئَ، ومن كَرِه فقد سَلِم، ولكن من رَضِي وتابع»، فقالوا: يا رسول الله، أَلَا نقاتلهم؟ فقال: «لا؛ ما صلَّوا»[19].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله ويقيموا الصَّلاة ويؤتُوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله»[20].
قال ابن القيم: “فوجْهُ الاستدلال به[21] من وجهين: أحدهما: أنَّه أمر بقتالهم إلى أنْ يقيموا الصَّلاة، الثَّاني: قوله: «إلَّا بحقِّها»، والصَّلاة من أعظم حقِّها”[22].
ومِن أعظم الأدلة على عقوبة تارك الصلاة في الدنيا قول أبي بكر رضي الله عنه: (وَاللَّهِ، لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)[23]. فاستدل على قتال مانعي الزكاة بقياسها على الصلاة؛ مما يدل على اتفاقهم على عقوبة تارك الصلاة.
وقد نقل الإجماع على ذلك ابن القيم رحمه الله فقال: “لا يختلف المسلمون أنَّ ترك الصَّلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذُّنُوب وأكبر الكبائر، وأنَّ إثمَه عند الله أعظمُ من إثم قتل النَّفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزِّنا والسَّرقة وشرب الخمر، وأنَّه متعرِّضٌ لعقوبة الله وسخطه وخِزْيه في الدُّنيا والآخرة”[24].
والعلماء الذين لم يقولوا بقتله -كأبي حنيفة وداود الظاهري وعمر بن عبد العزيز- لم يقولوا بأنه لا يعاقَب، بل قالوا: يحبس حتى يتوب ويصلّي أو يموت[25]، وهذا إجماع منهم على أنه مستحقٌّ للعقاب الدنيويّ[26] فضلا عن الأخروي.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
[1] انظر مثلا: المستصفى للغزالي، فصل أدلة الأحكام (ص: 80)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 194).
[2] الموسوعة الفقهية الكويتية (12/ 253-254).
[3] الموسوعة الفقهية (4/ 192-193).
[4] الحقيقة أنّ أي معصية يصلُ ضررها للغير بصورة أو بأخرى، فالتبرج مثلا يضرّ الرجالَ الذين يسيرون في الشوارع والطرقات ويستثير التبرج شهوتهم، والناس إذا رأت المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده، والمعاصي تمحق البركة وتستجلب سخطَ الرب، ويظهر بها الفساد في البر والبحر، وكلّ هذا إضرار بالغير في الحقيقة. ولكننا لم يشرع لنا التنقيب عن المعاصي المستترة، ولكن إذا ظهر المنكر أنكرناه بحسب الضوابط الشرعية.
[5] أخرجه أبو داود (495)، وهو صحيح.
[6] ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 81).
[7] رسالة العبودية (ص: 113).
[8] بدائع الفوائد (3/ 11).
[9] بدائع الفوائد (3/ 11).
[10] انظر: تفسير الطبري (15/ 567).
[11] تفسير القرطبي (11/ 122).
[12] تفسير ابن كثير (5/ 218).
[13] انظر: تفسير الطبري (24/ 569).
[14] تفسير الطبري (24/ 663).
[15] انظر: كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم رحمه الله.
[16] انظر: كتاب الصلاة، لابن القيم (ص: 8-9).
[17] أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064).
[18] الصلاة وحكم تاركها (ص: 9).
[19] أخرجه مسلم (1854).
[20] أخرجه البخاري (٢٥)، مسلم (٢٢).
[21] أي: على مذهب الجمهور بقتل تارك الصلاة.
[22] الصلاة وحكم تاركها (ص: 12).
[23] أخرجه البخاري (1400)، ومسلم (20).
[24] الصلاة وحكم تاركها (ص: 5).
[25] ينظر: الصلاة وحكم تاركها (ص: 7-8).
[26] وهذه العقوبة الدنيوية التي ذكرها العلماء إنما يقيمها الحاكم أو نائبه كسائر الحدود والتعزيرات، ولا يجوز الافتئات في ذلك بالإجماع. قال ابن قدامة في الكافي (4/ 106): “لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام أو نائبه؛ لأنه حق الله تعالى، ويفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف”. وينظر: بداية المجتهد لابن رشد (4/ 228)، وأحكام القرآن لابن العربي (3/ 334)، وتفسير القرطبي (12/ 161).