الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية
لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفئِۡٔدَة مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
فلم تزل الأفئدة متعلقةً به مريدة له، ولولا تبعيض إبراهيم لدعوته لحجه اليهود والنصارى كما ورد عن ابن عباس([1]).
ولئن حُرِم اليهود والنصارى حبَّه، فقد عادوا بنصيبهم من ذلك على كل منتسب للحنيفية السمحة، فتعلق جميع أهل القبلة به، وأعملوا المطيّ، وقطعوا الفيافي والقفار إليه، وأتوه رجالا وعلى كل ضامر، ومن رأى حال الناس وإقبالهم مع كثرة عددهم وضيق المكان ومحدودية الموارد علم يقينا أن هذا الأمر لا يمكن أن يُترك سدى، وأنه لا بد من ضبط الناس في فتاويهم وزيارتهم وتأمينهم وتوفير ما أمكن من الراحة لضيوف الرحمن، وحتى لا يقع الحاج في الإضرار بالناس والإلحاد في الحرم من حيث لا يشعر، فمن حرم عليه قتل صيد البر لا يباح له الإضرار بأهل الشهادة، وقد اتفق العقلاء من العرب قبل الإسلام على تقديم ساكنة مكة على غيرهم لأن الضيافة تقع على عواتقهم، فعظّموهم وأذعنوا لهم وسلموهم ما بأيديهم من الأسلحة، وتركوا ثأرهم تعظيما للبيت وسدنته. ثم جاء الإسلام فما زاد البيت إلا تشريفا وتعظيما، ولم تختلف كلمة الفقهاء والأمراء على التسليم لكل فعل يرفع الخلاف عن الحجاج، وييسّر عليهم أمر دينهم، فتوارث أجلاء الأمة كرسيَّ الإفتاء ولم يترك لمن هبّ ودبّ، فقد قال سُلَيْمَانَ بْنَ أَحْمَدَ: “سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَتِ الْحَلْقَةُ فِي الْفُتْيَا بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ”([2]).
ولا شك أن ضبط الفتيا وما يسع في الخلاف ليس بأولى من ضبط المناسك والزائرين، ورفع الضرر عنهم، حتى لا ينتقل حرم الله إلى مكان لإراقة الدماء والفوضى ونشر البدع، وهنا لزم بيان أمور يستدلّ بها على أهمية التزام أنظمة الحج المقترحة من طرف الهيئات المعنيّة بتنظيم الحجيج:
أولا: لا يختلف اثنان أن الحجاج من مشارب شتى، ومذاهب شتى، وفيهم المريدون للإلحاد في الحرم لأغراض مذهبية وسياسية، ويسعون لإفشال تنظيم الحج، وإضعاف أداء الجهات القائمة عليه. وهذا يستلزم أنظمة إجرائية تجمع بين ضبط أمن الحجاج وعدم صد أهل الشهادتين مهما غلظت بدعتهم عن المسجد الحرام.
ثانيا: الحرم مكان محدود المساحة معروف الابتداء والانتهاء، فمن المعلوم أنه لا يمكن استيعاب المساحة لكل راغب في الحج من أمة يبلغ تعدادها ألف ألف مليون ونصف ألف ألف مليون، ولا سبيل لذلك إلا بجعل الحج مقصورا على عدد محدود من الناس تتمكن الجهات من ضبطه وتسييره.
ثالثا: الإمكانيات المخصّصة لتنظيم الحج رغم أنها هائلة وكبيرة ولله الحمد؛ لكنها تبقى محدودة، ولا يمكن أن تستوعب كل الوافدين، فلزم مراعاتها. والمقصود بالإمكانات هنا الإمكانات الأمنية والصحية وكل ما يتعلق براحة الحجيج.
هذه أمور مع غيرها -مما نعلم ومما يخفى علينا ولا يمكننا استقصاؤه- كلها تدعو إلى ضرورة تنظيم الحج وتحديد قنوات رسمية له، والتي من أهمها التصاريح التي تضمن عدم مجاوزة الأعداد الطاقة الاستيعابية للأماكن المقدسة، ولقدرات الجهات المنظمة، وأي دعوة لتجاوزها خاصة إذا كانت مرسلة وفضائية لا بد لصاحبها أن يضمن أن لا تترتب أي آثار شرعية على فتواه من دخول متسلّلين غير نظاميّين، وخروجٍ للأمور عن السيطرة ومضايقة الحجاج الرسميين في السكن والطرقات، وما ينتج عن الكثرة من تدافع وموت جماعي، وازدحام للجسور والأنفاق، وهو أمر طالما وقع ولم يحدّ منه إلا هذه النظم الحديثة التي استحدثت لتفادي هذا الخلل، ومن ثم فإن اشتراط التصريح في الحج ملزم شرعًا لكل مسلم؛ وذلك لأمور منها:
- أنه من قبيل تقييد المأذون فيه شرعًا الذي يجوز للسلطان فعله للمصلحة؛ فالفعل العام الظاهر يجوز للسلطان أن يلزم الناس فيه بسياسة ينضبط فيها أمرهم ولا ترفع وجوبه، ولا تسقط أداءه، وذلك مثل ضبط الجمعات وأوقاتها وأماكنها والعيدين وغير ذلك من الشرائع التي يرجع إلى السلطان بعض التقدير في أدائها. ويدخل في ذلك تحديد المدة بين الحجتين، وبين العمرتين، والأولى بالحج عند ازدحام المستحقين وتقارب حظوظهم.
- أن الاستحسان المتعارف عليه عند الفقهاء منطبق عليه؛ فالاستحسان يشمل أمورا منها: “ترك الدَّلِيل للْمصْلحَة، وَمِنْه ترك الدَّلِيل للْعُرْف، وَمِنْه ترك الدَّلِيل لإِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَمِنْه ترك الدَّلِيل للتيسير لرفع الْمَشَقَّة وإيثار التَّوسعَة على الْخلق”([3]). فرفع المشقة والتيسير على الناس مطلب شرعي.
- أن السلف قد فعلوا نظير هذا، فقد ورد في مصنف ابن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: قُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: نَهَى عُمَرُ عَنِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَالَ: نَهَى عُثْمَانُ عَنْهَا([4]).
وقد بين عمر رضي الله عنه مستنده في المنع، ففي صحيح مسلم عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوَيْدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النُّسُكِ بَعْدُ، حَتَّى لَقِيَهُ بَعْدُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَهُ وَأَصْحَابُهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعْرِسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاكِ، ثُمَّ يَرُوحُونَ فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ([5]).
فقد كره عمر رضي الله عنه التمتع لما يقتضيه من التحلّل والتمتع بالنساء إلى حين الخروج إلى عرفات، فما بالك بالمنع حفظا لدماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم؟!
- ومنها موافقته لقواعد الشرع العامة من جلب المصالح ودرء المفاسد.
- ومنها كذلك أن التصريح يدخل ضمن ما يسمى عند الفقهاء بتخلية الطريق الذي هو من شروط الاستطاعة كما نص عليه فقهاء المذاهب، فالمالكية يرونها من فروع الاستطاعة([6]). وجعلها الشافعية من الشروط، قال الروياني: “ثم اعلم أن هذه الشرائط على ثلاثة أضرب: ضربٌ يمنع الوجوب والصحّة، وهو الإسلام والعقل، وضربٌ هو شرط في الوجُوب دون الإجزاء، وهو الاستطاعة وتخليه الطريق، وإمكان المسير”([7]). ومثله للحنابلة([8]). وقد بين شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي معنى تخلية الطريق عندهم فقال: “معنى تخلية الطريق: أن يكون آمنا مما يخاف في النفس والبضع والمال، سالما من خفارة وإن كانت يسيرة، اختاره القاضي وغيره، حذارا من الرشوة في العبادة. وعن ابن حامد: يجب بذل الخفارة اليسيرة، هذا نقل أبي البركات، وأبي محمد في الكافي، وفي المقنع والمغني والتلخيص: إن لم يجحف بماله لزمه البذل، لأن ذلك مما يتسامح بمثله”([9]).
فإذا تبين أن المسألة مبناها على المصلحة الشرعية وجب على المسلم الالتزام بها في نفسه وأهله، والوفاء للمسلمين بشروطهم، وإن هو خالف فإنه معرَّض للإثم والإلحاد في الحرم، ضامن بتفريطه لكل ما ينجم فعله من مفسدة، فقد فسر العلماء الإلحاد في الحرم بكل عمل سيئ حتى أدخلوا فيه احتكار الطعام، قال مجاهد: “احتِكارُ الطَّعامِ بمَكَّةَ إلحادٌ، وليس الجالبُ كالمُقيمِ”. وهو مروي عن حبيب بن ثابت([10]).
أما بطلان الحج بدون تصريح فهذا مبحث منفرد لسنا بصدَد بيانه؛ وإنما غرضنا بيان حرمة تجاوز الأنظمة التي شرعت للمصلحة لما فيها من التعاون على البر والتقوى، وتعظيم شعائر الله.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) المحصول لابن العربي (ص: 131).
([4]) مصنف ابن أبي شيبة (13035).
([6]) الذخيرة للقرافي (3/ 179).
([8]) ينظر: المغني (3/ 331) والشرح الكبير (3/ 315).