الأربعاء - 30 ربيع الآخر 1447 هـ - 22 أكتوبر 2025 م

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية الخضوع؛ باعتقاد ربوبية المخضوع له، واستقلاله بالخلق والتأثير، فإن انتفى ذلك لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شركًا في كثير ولا قليل بحسب ما يزعمون.

جواب الشبهة:

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه([1]):

الوجه الأول: أن هذا مخالفٌ لما جاء في نصوص كثيرة من أن المشركين السابقين كانوا مقرّين بوحدانية الله تعالى في الخلق، وأن له ملك السموات والأرض، وأنه مدبّر الأمر وحده، وأن الأصنام التي كانوا يعبدونها لم تكن عندهم سوى شفعاء يشفعون لهم عند الله، ولم يكن لها من الملك والتدبير شيء.

وقد تنوّعت الدلالات في كتاب الله في تقرير هذا المعنى، ومن ذلك:

أولًا: الإخبار عن جواب المشركين الصريح حين يُسألون عن خالق السموات والأرض ومدبر الأمر ومالك السمع والأبصار بأنه الله تعالى وحده، مما يدل على أن اعتقادهم قائم على إفراد الله تعالى بهذه المعاني، ومع ذلك سمّى الله تعالى ما يصرفونه للأصنام والأوثان عبادة منهم لها.

ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89].

وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61-63].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي دالة على إقرار المشركين بتفرّد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، وأنهم لم يكونوا يعتقدون استقلال أصنامهم في التأثير، ومع ذلك سماهم الله تعالى مشركين.

ثانيًا: الإخبار بتصريح المشركين أن عبادتهم لما اتخذوه من دون الله أولياء إنما هو لطلب القربى والزلفى عند الله تعالى، وأنهم شفعاء لهم عند الله، وأنهم وسائط لهم في قضاء حوائجهم، مما يدلّ على أن عبادتهم لها لم يصاحبها اعتقاد استقلال بالتأثير والتدبير في تلك المعبودات.

ومن أدلَّة ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28].

فأيُّ فرق بين المشركين المتقدّمين الذين حكى الله عنهم ذلك وبين من وقع في الشرك أهل زماننا؟! فأولئك ما أثبتوا لهم الضر والنفع استقلالا، بل أثبتوه لهم بالتبع، ومع كل ذلك سماهم الله مشركين، والواقعون في الشرك من أهل زماننا يقولون: نحن نعلم أنهم لا يملكون ذلك لنا استقلالًا، بل تبعًا.

فإن قيل: إن أولئك ما شهدوا لمحمد بالرسالة، وإن شهدوا لله بالوحدانية، وأما أهل زماننا فهم يشهدون للرسول بالرسالة كما شهدوا لله بالوحدانية.

فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة»([2]).

وأهل زماننا من الواقعين في الشرك وإن قالوا: (لا إله إلا الله) لم يخلصوا فيها؛ لأن الإخلاص فيها هو أن تعتقد أنه لا يجلب الخير ولا يكشف الضر -لا بالاستقلال ولا بالتبع- إلا الله وحده([3]).

ومن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بكلّ ما أتى به، ومما أتى به: أن لا يُسأل الميت ما لا يقدر عليه إلا الله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا ‌لما ‌نُبِّهَ من نُبِّهَ من فُضَلَائِهِم على ذلك تنبَّهُوا، وعلِمُوا أنَّ ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام)([4]).

ثالثًا: الإخبار عن لجوء المشركين في الدعاء حال الضراء إلى الله تعالى وحده، ونبذهم كل ما كانوا يعبدون من دونه؛ مما يدل على ما تقرر في قلوبهم من تفرد الله تعالى وحده بالنفع والضر، وأن تلك الآلهة التي كانوا يعبدون ما كانت إلا وسائط جعلوها وسيلة لحصول مطلوبهم عند ربهم.

والأدلة على ذلك كثيرةٌ، منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22].

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 67-69].

وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].

الوجه الثاني: أن القول بأن مناط الشرك في مسألة الاستغاثة هو اعتقاد الربوبية في المستغاث به يلزم عليه لوازم فاسدة كثيرة، فمن تلك اللوازم:

أولًا: أن يكون قوم موسى لما اتخذوا العجل، وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، أنهم يعتقدون أن هذا العجل خالق رازق مستقل بالتدبير، وكذلك لما طلبوا إلها كما قص الله تعالى عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] أنهم يريدون من يعتقدون فيه الخلق والتدبير غير الله تعالى، وقد حاجهم الله تعالى بما يعلمونه يقينًا من حال العجل فقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].

ثانيًا: أن ذلك يقتضي ألا يكون هناك أقوال ولا أعمال شركية مكفّرة، ولا يحكم على أحد بشرك إن اقترفه ما لم يظهر ما يضمره من اعتقاد استقلال الخلق والتدبير في مَن يصرف إليه أقواله وأعماله التي هي من أعمال المشركين وأقوالهم!

فدعاء غير الله تعالى والسجود له والركوع له والذبح والنذر له على هذا ليست من الشرك في شيء، ولا يكفر فاعلها!

وهذا اللازم يخالف ما في مدونات الفقهاء من التكفير بهذه الأفعال، ونذكر أقوال بعض فقهاء الشافعية نموذجًا على ذلك.

قال إمام الحرمين الجويني: (الأفعال إذا دلت على الكفر كانت كالأقوال، وذلك إذا رأينا من كنا نعرفه مسلمًا في بيت الأصنام، وهو يتواضع لها تواضعَ العبادة، فهذه عبادة كفر، وقد يُجري الأصوليون الأفعال المتضمنة استهانة عظيمة مجرى عبادة الأصنام، كطرح المصحف في الأماكن القذرة، وما في معناه، والقول في ذلك يطول، وهو من صناعة الأصول)([5]).

وقال الغزالي: (وأما نفس الردة فهو نطق بكلمة الكفر استهزاء أو اعتقادا أو عنادا، ومن الأفعال عبادة الصنم والسجود للشمس، وكذلك إلقاء المصحف في القاذورات، وكل فعل هو صريح في الاستهزاء بالدين، وكذلك الساحر يقتل إن كان ما سحر به كفرا، بأن كان فيه عبادة شمس، أو ما يضاهيه)([6]).

وقال: (الردة وهي: عبارة عن قطع الإسلام من مكلف، إما بفعل كالسجود للصنم، وعبادة الشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، وكل فعل صريح في الاستهزاء)([7]).

وقال النووي في كتاب الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم، أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها)([8]).

وقال: (والفعل المكفر ما تعمده استهزاء صريحا بالدين، أو جحودا له، كإلقاء مصحف بقاذورة، وسجود لصنم أو شمس)([9]).

وقال الشيخ زكريا الأنصاري: (الردة هي: قطع من يصح طلاقه الإسلام بكفر عزما، أو قولا، أو فعلا، استهزاء، أو عنادا، أو اعتقادا، كنفي الصانع (الخالق)، أو نبي، أو تكذيبه، أو جحد مجمعٍ عليه معلوم من الدين ضرورة بلا عذر، أو تردد في كفر، أو إلقاء مصحف بقاذورة، أو سجود لمخلوق)([10]).

وقال في شرح قوله: (أو سجود لمخلوق): (كصنم وشمس، فتعبيري بمخلوق أعم من قوله -أي: النووي في المنهاج-: لصنم، أو شمس)([11]).

وقال ابن المقري: (الردة: كفر مسلم مكلف بنية، أو فعل، أو قول، باعتقاد، أو عناد، أو استهزاء ظاهر، كطرح مصحف بقذر، وسجود لمخلوق)، قال ابن حجر في شرحه: (ولو نبِيًّا، وإن أنكر الاستحقاق، أو لم يطابق قلبه جوارحه؛ لأن ظاهر حاله يكذبه)([12]).

ونقل الرافعي في (الشرح الكبير) عن الحنفية كفر من (عظم الصنم بالسجود له، أو التقرب إليه بالذبح باسمه). وأقره النووي([13]).

ونقل النووي عن (الشفا) للقاضي عياض قوله: (وكذا نكفر من فعل فعلا أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله، كالسجود للصليب أو النار)([14]).

وما سبق هي أمثلة لبعض الفقهاء ممن يعظمه مثيرو هذه الشبهة، ولها نظائر في كتب المذاهب الأخرى، ممن ذكروا الوقوع في الكفر بمجرد السجود للصنم دون اشتراط اعتقاد فاعله استقلال الصنم بالربوبية.

ويُوضِحُ ذلِك:

الوجه الثالث: وهو أن اعتقاد الربوبية في غير الله تعالى هو شرك في نفسه، سواء صاحَبَه قول أو عمل أم لا، فمن لم يقر لله تعالى بوحدانيته في ربوبيته فهو مشرك ضال، حتى لو لم يَصرِفْ شيئًا من العبادات لغير الله تعالى.

وعليه فحمل النصوص وكلام أهل العلم الدال على التكفير ببعض الأقوال والأفعال على ذلك الاعتقاد فيه تعطيل ما تعلق بتلك الأقوال والأفعال من حكم، وصار ذكرها وعدمه سواء؛ إذ لا أثر لها في الحكم، بل يكفي أن يُنَصَّ على التكفير باعتقاد الربوبية والاستقلال بالتأثير.

الوجه الرابع: أن كثيرًا منهم وإن زعموا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا توسُّلًا وتشفُّعًا عند الله تعالى، دون أن يكون في بواطنهم اعتقاد التدبير والتصرُّف في الكون في هؤلاء الأموات وغيرهم، فلم يصدُقُوا في ذلك.

فمع ما تقدّم من بيان بطلان هذا القيد الذي جعلوه في تعريفهم للعبادة، فلا يسلم لهم الأمر على ما يريدون؛ فقد نطقت أحوال وأقوال كثير ممن يدعون الأموات، ويستغيثون بهم بما يكنونه في صدورهم من تقرير أن هؤلاء الأموات لهم تصرف في الكون وتدبير لأموره، بل لهم القدرة على الإحياء والإماتة والإفقار والإغناء، ونحو ذلك من الأمور التي هي من أفعال الله تعالى وحده، ومن معاني ربوبيته عز وجل، حتى صار منهم من يعتقد أن من الأولياء من يعطَى كلمة التصريف (كن فيكون)، وهذا يدُلُّ أن الإخلال في توحيد الألوهية يؤدي إلى الإخلال بتوحيد الربوبية.

ومن تأمل كتب المبتدعة وأمثالهم يجد هذا الأمر تنطق به ألسنتهم، وتحكيه أحوالهم، حتى جعلوا للأولياء مراتب يقتسمون فيها التأثير والتصرف في هذا الكون، كل بحسب رتبته([15]).

ومن نماذج ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه قال: «وحُكي أن الشيخ عبد الله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: ظهر لي ثلاث: أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء: كن فيكون، وأعرف ما سيكون، فقال الشيخ عبد الله: نرجو فيك أكثر من هذا»([16]).

وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب “النور السافر”([17]) عنه: «يقول للشيء: كن فيكون بإذن الله».

قال صاحب “تذكير الناس”: «قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال -والحاضرون يسمعون-: شف نحنا نبغي ولدًا لفاطمة عبوده بنت عبد الله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل، فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش».

وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم، ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقرًّا لها، وحامد المحضار من كبارهم أيضًا، وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة، وأقره من حضر من الأكابر، إذًا هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.

فإذا كان هذا نطق به من هم يعدّون أهل نظر وعلم فيهم، فكيف بعوامّهم الذين هم في عماية جهلهم غارقون؟! ولذلك تراهم كلما ازدادت بهم شدة وضاقت عليهم حال زاد توجههم إلى أولئك الأولياء، وما ذاك إلا بدافع ما يعتقدونه فيهم من جلب النفع ودفع الضر وكشف الكرب، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى؛ إذ كانوا يعتقدون في آلهتهم مجرد الواسطة والشفاعة دون التصرف في الكون، وأن ذلك بيد الله تعالى وحده؛ فلذلك إذا أصابهم الضر لجؤوا إلى من يعتقدون أن بيده تصريف الأمور وتدبيرها وحده، وهو الله سبحانه وتعالى.

والخلاصة:

أن مناط الشرك أو الكفر للمستغيث بغير الله تعالى ليس اعتقاده ربوبية المستغاث به واستقلاله بالتأثير، بل هذا الاعتقاد كفر مستقل، ولو انحصر التكفير به لما كان لذكر الفقهاء للمكفرات القولية والعملية معنى.

وقبل ذلك فإنه قول مناقض للقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم دل على كفر أقوام عبدوا غير الله تعالى مع عدم اعتقادهم ذلك الاعتقاد (الاستقلال بالتأثير) في من يعبدونه.

وعلى التسليم الجدلي بأن اعتقاد الربوبية هو مناط التكفير في المسألة؛ فإننا لا نسلم لصاحب الدعوى بأن القبورية -الذين غُيِّرَ المناطُ الشرعي في المسألة من أجل الدفاع عنهم وتبرئتهم من الكفر- لا نسلم له أنهم لا يعتقدون فيمن يستغيثون به التصرف في الكون وغير ذلك من معاني الربوبية.

وصلى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) معظم ما ذكرناه في جواب هذه الشبهة مستفاد من كتاب: شبهات المبتدعة في توحيد العبادة، للدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل.

([2]) أخرجه أحمد (22484)، والطبراني في الكبير (63)، وصححه ابن حبان (812)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 470): (إسناد أحمد ثلاثي، وهو صحيح على شرط الشيخين).

([3]) انظر: الرد على الشيخ يوسف الدجوي، للشيخ محمد بن حسين بن سليمان الفقيه (ص: 74-75).

([4]) الاستغاثة (ص: 248).

([5]) نهاية المطلب (17/ 162).

([6]) الوسيط (6/ 425).

([7]) ينظر: العزيز في شرح الوجيز، للرافعي (11/ 97).

([8]) الروضة (10/ 64).

([9]) منهاج الطالبين (ص: 293).

([10]) منهج الطلاب (ص: 158).

([11]) فتح الوهاب (2/ 188).

([12]) فتح الجواد (3/ 353).

([13]) الروضة (10/ 65).

([14]) الروضة (10/ 71).

([15]) انظر: القبورية في اليمن لأحمد بن حسن المعلم، وتنبيه الساهي إلى ما في الخرافة من الدواعي لأحمد بن برعود.

([16]) المشرع (2/ 211).

([17]) (ص: 281)، وانظر: الغرر (ص: 372).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

بين المعجزة والتكامل المعرفي.. الإيمان بالمعجزة وأثره على تكامل المعرفة الإنسانية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لقد جاء القرآن الكريم شاهدًا على صدق نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى صدق الأنبياء كلهم من قبله؛ مصدقًا لما معهم من الكتب، وشاهدا لما جاؤوا به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات. وهذا وجه من أوجه التكامل المعرفي الإسلامي؛ فالقرآن مادّة غزيرة للمصدر الخبري، وهو […]

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثالث- (أخطاء المخالفين في محل الإجماع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثالث: أخطاء المخالفين في محل الإجماع: ذكر الرازي ومن تبعه أن إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وبمعنى الكمال والنقصان محلّ إجماع بينهم وبين المعتزلة، كما تقدّم كلامه. فأما الإطلاق الأول وهو كون الشيء ملائمًا للطبع أو منافرًا: فقد مثَّلُوا لذلك بإنقاذِ الغَرقى واتهامِ الأبرياء، وبحسن الشيء الحلو […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثاني- (أخطاء المخالفين في محل النزاع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثاني: أخطاء المخالفين في محل النزاع: ابتكر الفخر الرازيُّ تحريرًا لمحل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسألة فقال في (المحصل): “مسألة: الحُسنُ والقبح‌ قد يُراد بهما ملاءمةُ الطبع ومنافرَتُه، وكون‌ُ الشي‌ء صفةَ كمال أو نقصان، وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يُراد بهما كونُ الفعل موجبًا للثوابِ والعقابِ والمدحِ […]

ترجمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (1362  – 1447هـ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه([1]): هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مولده ونشأته: وُلِد سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ رحمه الله بمدينة مكة المكرمة في الثالث من شهر ذي الحجة عام 1362هـ. وقد […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الأول- (تحرير القول في مسألة)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ مسألةَ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الجليلة التي اختلفت فيها الأنظار، وتنازعت فيها الفرق على ممرّ الأعصار، وكان لكل طائفةٍ من الصواب والزلل بقدر ما كُتب لها. ولهذه المسألة تعلّق كبير بمسائلَ وأصولٍ عقدية، فهي فرع عن مسألة التعليل والحكمة، ومسألة التعليل والحكمة فرع عن إثبات الصفات […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

وصفُ القرآنِ بالقدم عند الحنابلة.. قراءة تحليلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعدّ مصطلح (القِدَم) من أكثر الألفاظ التي أثارت جدلًا بين المتكلمين والفلاسفة من جهة، وبين طوائف من أهل الحديث والحنابلة من جهة أخرى، لا سيما عند الحديث عن كلام الله تعالى، وكون القرآن غير مخلوق. وقد أطلق بعض متأخري الحنابلة -في سياق الرد على المعتزلة والجهمية- وصف (القديم) […]

التطبيقات الخاطئة لنصوص الشريعة وأثرها على قضايا الاعتقاد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأمور المقرَّرة عند أهل العلم أنه ليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل، سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية، وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبيٌّ يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة […]

الصحابة في كتاب (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي (581هـ) -وصف وتحليل-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يحرص مركز سلف للبحوث والدراسات على توفية “السلف” من الصحابة ومنِ اتبعهم بإحسان في القرون الأولى حقَّهم من الدراسات والأبحاث الجادة والعميقة الهادفة، وينال الصحابةَ من ذلك حظٌّ يناسب مقامهم وقدرهم، ومن ذلك هذه الورقة العلمية المتعلقة بالصحابة في (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي رحمه الله، ولهذه […]

معنى الكرسي ورد الشبهات حوله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدُّ كرسيُّ الله تعالى من القضايا العقدية العظيمة التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نال اهتمام العلماء والمفسرين نظرًا لما يترتب عليه من دلالات تتعلّق بجلال الله سبحانه وكمال صفاته. فقد جاء ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} […]

لماذا لا يُبيح الإسلامُ تعدُّد الأزواج كما يُبيح تعدُّد الزوجات؟

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنَّ النِّكَاحَ فِي الجاهلية كان على أربع أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ: يَخْطُبُ الرجل إلى الرجل وليته أوابنته، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ ‌فَاسْتَبْضِعِي ‌مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي […]

مركزية السنة النبوية في دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الدعوةَ الإصلاحية السلفيَّة الحديثة ترتكِز على عدّة أسُس بُنيت عليها، ومن أبرز هذه الأسُس السنةُ النبوية التي كانت هدفًا ووسيلة في آنٍ واحد، حيث إن دعوةَ الإصلاح تهدف إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف من التزام الهدي النبوي من جهة، وإلى تقرير أن السنة النبوية الصحيحة […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017