مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج.
أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير ذلك يختلف بحسب اختلاف أقوال الأئمة الفقهاء في حكم صيام يوم السبت، فإن منهم من يرى كراهَتَه بقيود كما سيأتي، ومنهم من يرى جوازَ صيامِ يوم السبت مطلقًا، وكلا القولين ذكرهما العلامة المرداوي في هذه المسألة.
قال المرداوي: (يُكره إفراد يوم السبت بالصوم، وهو المذهب، وعليه الأصحاب.
واختار الشيخُ تقي الدين، أنه لا يُكره صيامه مفردًا، وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأن الحديث شاذٌّ أو منسوخ.
وقال: (هذه طريقة قدماء أصحاب الإمام أحمد الذين صحبوه؛ كالأثرم، وأبى داود، وأن أكثر أصحابنا فهم من كلام الإمام أحمد الأخذ بالحديث). انتهى.
ولم يذكر الآجُري كراهة غير صوم يوم الجمعة، فظاهره، لا يُكرَه غيرُه) ([2]).
وكل قول من هذين القولين يقول أصحابه باستحباب صيام يوم السبت إذا وافق يوم عرفة، وبيان ذلك كما يأتي:
- استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت عند القائلين بكراهية إفراد يوم السبت بالصيام:
هذا القول هو معتمد الحنابلة، كما نص عليه المرداوي في ما تقدّم.
قال ابن النجار في (شرح المنتهى) في الصوم المكروه: ((و) إفراد يوم (السبت بصوم)، لما روى عبدالله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم). قال الترمذي: هذا حديث حسن.
قال الأثرم: قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت يتفرد به فقد جاء فيه (حديث الصماء)، والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية)([3]).
وقال الشيخ منصور البهوتي في (كشاف القناع): ((و) يُكره تعمُّدُ (إفراد يوم السبت) بصوم؛ لحديث عبد الله بن بُسر، عن أخته الصمَّاء: (لا تَصُومُوا يومَ السبتِ إلا فيما افتُرِضَ عليكم) رواه أحمد بإسناد جيد، والحاكم، وقال: على شرط البخاري.
ولأنه يومٌ تعظِّمه اليهود، ففي إفراده تَشبُّه بهم)([4]).
ووافق الحنابلة على هذا القول كثير من فقهاء الشافعية والحنفية، فهو مُعتَمَد هذه المذاهب الثلاثة.
قال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله: ((أو) إفراد (السبت) أو الأحد (بالصوم) لخبر: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ولأن اليهود تُعظِّم يوم السبت والنصارى يوم الأحد، وخرج بإفراد كل من الثلاثة جمعه مع غيره، فلا يكره جمع السبت مع الأحد، لأن المجموع لم يعظمه أحد)([5]).
وقال ابن حجر الهيتمي في الصوم المكروه: ((وإفراد السبت) بغير ما ذكر في الجمعة للخبر المذكور، وعلته أن الصوم إمساك، وتخصيصه بالإمساك أي: عن الاشتغال والكسب من عادة اليهود، أو تعظيم، فيشبه تعظيم اليهود له، ولو بالفطر.
ومن ثم كره له إفراد الأحد إلا لسبب أيضًا؛ لأن النصارى تعظمه بخلاف ما لو جمعهما؛ لأن أحدًا لم يقل بتعظيم المجموع)([6]).
وقال العلامة الملا علي القاري: (وكذا يكره إفراد يوم السبت بالصوم لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة ، أو عود شجرة فليمضغه). رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي) ([7]).
وقال الشرنبلالي في شرح نور الإيضاح: ((وكُره إفراد يوم السبت) به لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فيمضغه). رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي)([8]).
ودليل أصحاب هذا القول -كما تقدم في كلام أكثرهم – حديث الصمّاء رضي الله عنها، وهو ما رواه عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن النبي صَلى الله عَليه وسَلم قال: (لا يصومن أحدكم يوم السبت، إلا في فريضة، وإن لم يجد إلا لحاء شجرة، فليفطر عليه).
وفي رواية: عن عبد الله بن بسر، عن أخته، أن رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب، أو لحاء شجرة فليمضغها)([9]).
قال الإمام أحمد: (أما صيام يوم السبت يفترد به فقد جاء فيه حديث الصماء، وكان يحيى بن سعيد يتقيه، أي: أن يحدثني به، وسمعته من أبي عاصم)([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث، وحمله على الإفراد، فإنه سئل عن عين الحكم، فأجاب بالحديث، وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه.
وما ذكره عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة، وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم، عملا بهذا الحديث، لجودة إسناده، وذلك موجب للعمل به، وحملوه على الإفراد كصوم يوم الجمعة، وشهر رجب.
وقد روى أحمد في المسند من حديث ابن لهيعة، حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي -يعني الصماء – أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت هو يتغدى، فقال: تعالي تغدي. فقالت: (إني صائمة) فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: (كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك)([11]).
وهذا وإن كان إسناده ضعيفًا لكن تدل عليه سائر الأحاديث.
وعلى هذا فيكون قوله: (لا تصوموا يوم السبت) أي: لا تقصدوا صيامَه بعينِه إلا في الفرض، فإنَّ الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده.
وأيضًا: فقصده بعينه في الفرض لا يُكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره، ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمُزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضًا، لا للمقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة ونحو ذلك.
وقد يقال: الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة، وأخرج الباقي بالدليل)([12]).
وهنا جملة من الملحوظات:
الملحوظة الأولى: أن القائلين بهذا القول صححوا حديث الصمّاء، فلا يلزم من تصحيح الحديث القول بتحريم صيام يوم السبت حتى لو وافق يوم عرفة، بل يمكن القول بتصحيح الحديث دون التزام قول المحرمين لصيامه من المعاصرين، يوضح ذلك:
الملحوظة الثانية: أن القائلين بهذا القول فهموا دلالة النهي في الحديث على الكراهة لا على التحريم، فالحديث كان معروفًا لديهم غير مهجور، ومعمولًا به، ولم يكن نسيًا منسيًا، كما يقول الشيخ الألباني رحمه الله([13])، لكن لا يلزم من العمل به أن يُقال إن النهيَ فيه محمول على التحريم لا على الكراهة.
الملحوظة الثالثة: أن القائلين بهذا القول خصصوا النهي بمخصصات متصلة ومنفصلة، فمن المخصصات المتصلة ما جاء في الحديث من استثناء الصيام المفروض، ومن المخصصات المنفصلة حديث جويرية، وحديث صيام داود، وحديث صيام يوم عرفة، وحديث صيام يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر.
قال العلامة الرملي عند قول الإمام النووي في الصيام المكروه: (وإفراد السبت)، قال: (أو الأحد بالصوم كذلك، بجامع أن اليهود تعظم الأول والنصارى تعظم الثاني فقصد الشارع بذلك مخالفتهم، ومحل ما تقرر إذا لم يوافق إفراد كل يوم من الأيام الثلاثة عادة له وإلا كأن كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، أو يصوم عاشوراء، أو عرفة فوافق يوم صومه؛ فلا كراهة كما في صوم يوم الشك) ([14]).
فهذا وجه آخر من الاختلاف مع من قال من المعاصرين بتحريم صيام يوم السبت، فإن القائل بالتحريم لم يخصص من تلك الصور إلا صيامه لمن صام يوم الجمعة قبله، ثم أدخل هذه الصورة في الاستثناء المتصل، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا فيما افترض عليكم)!!
القول الثاني: استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت عند القائلين بجواز إفراد يوم السبت بالصيام:
وهو قول الإمام مالك وجماعة من السلف مثل الإمام الزهري وغيره، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ونسبه لمتقدّمي الحنابلة، وأكثر أهل العلم.
قال أبو بكر الأثرم: (جاء هذا الحديث ثم خالفَتْه الأحاديثُ كلُّها)، وذكر الأحاديثَ في صوم المحرَّمِ وشعبان، وفيهما السبت، والأحاديث في إتباع رمضان بستٍّ من شوال، وقد يكون فيها السبت، وصوم عاشوراء وصوم عرفة، وقد يوافق السبت، وأشياء كثيرة توافق هذه الأحاديث([15]).
قال شيخ الإسلام: (فهذا الأثرم، فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة، وذكر أن الإمام في علل الحديث يحيى بن سعيد كان يتقيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة، على صوم يوم السبت، ولا يقال: يحمل النهي على إفراده؛ لأن لفظه: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضي أن الحديث عم صومه على كل وجه، وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده.
وعلى هذا؛ فيكون الحديث: إمَّا شاذًّا غير محفوظ، وإمَّا منسوخًا، وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم، وأبي داود.
وقال أبو داود: (هذا حديث منسوخ). وذكر أبو داود بإسناده، عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت.
يقول ابن شهاب: (هذا حديث حمصي). وعن الأوزاعي قال: (ما زلتُ له كاتمًا حتى رأيته انتشر بعد) يعني حديث ابن بسر في صوم يوم السبت.
قال أبو داود: قال مالك: (هذا كذب).
وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة)([16]).
وهذا القول نصره الحافظ ابن حجر، حيث قال: (الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيدًا)([17]).
والقول بجواز صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت ظاهر على هذا القول، لأن أصحابه يجوزون صيام يوم السبت مطلقًا، فالإطلاق يتناوله إذا وافق يوم عرفة أو لم يوافقه.
وخلاصة القول:
ثبوت استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت، سواء قلنا بكراهة صيامه بالقيود التي ذكرها القائلون بالكراهة، ومنها: أن لا يوافق عادةً له، كصيام يوم عرفة، أو قلنا بجواز صيامه مطلقًا.
وسواء قلنا بصحة حديث الصمّاء، أو إعلاله، لأننا مع تصحيحه نحمله على الكراهة أولًا، ثم نحمله بمخصصات منفصلة على صور لا يدخل فيها يوم عرفة.
وبعبارة أخرى: فإن استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت ثابت سواء سلكنا مسلك الجمع، فقلنا بحمل حديث الصماء على صورٍ لا يدخل فيها صوم يوم عرفة، أو سلكنا مسلك الترجيح بإعلاله وتقديم حديث صيام يوم عرفة عليه.
والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) «الإنصاف» (7/532-533)، وانظر «الفروع» (5/104-105)، وكلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» وسيأتي بحروفه. وقد استفاده ابن القيم في«تهذيب سنن أبي داود» (2/113-119).
([3]) «شرح منتهى الإرادات» (3/429-430).
([4]) «كشاف القناع» (5/333-334).
([7]) «فتح باب العناية» (1/581-582).
([9]) أخرجه أحمد (27615) و(27617) والدَّارِمي (1877) وابن ماجة (1726) وأَبو داود (2421) والتِّرمِذي (744) والنَّسَائي في «الكبرى» (2775) و(2776) و(2777) وابن خزيمة (2163) من طرق عن ثور بن يزيد ولقمان بن عامر عن خالد بن مَعدان، عن عبد الله بن بسر. وهذا الطريق هو الذي رجّحه الإمام الدارقطني في «العلل» (4059)، وللحديث طرق أخرى عورض بها هذا الطريق، لا نطول بذكرها، لكن الحاصل أن الحديث أُعل بالاضطراب، انظر: «التلخيص الحبير» للحافظ (3/1487). وقوله صلى الله عليه وسلم: (لحاء الشجرة): هو قشرها.
([11]) أخرجه أحمد (27614، 27616).
([12]) «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/76-77).
([13]) «سلسلة الهدى والنور» الشريط (366).
([14]) «نهاية المحتاج» (3/209).
([15]) «ناسخ الحديث ومنسوخه» للأثرم (ص201-203). وانظر«شرح العمدة» لابن تيمية (3/540-541).