الثلاثاء - 26 ذو الحجة 1445 هـ - 02 يوليو 2024 م

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

A A

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي.

وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ منَ الله لتوجيههم وإرشادهم، فالبشَرُ لديهم منَ البدائل الصالحة -كالعقل والضمير- ما يُمكِن أنْ يُحقِّقوا به المصالح التي يدَّعي المؤمنون بالنُّبوة أنَّها لا تتحقَّق إلا بها.

وهي شُبهة قديمةٌ جدًّا، ومن أقدم مَنِ ادَّعاها بعض البراهِمة، فقد نقَل عنهم عددٌ منَ المؤرِّخين والمُصنِّفين في المقالات القدحَ في النُّبوات باستغناء العقول عنها، ثم تكرَّرت هذه الدعوى بصورة أُخرى مع عصر التنوير الأوروبي؛ فإنَّ حركة التنوير كلَّها تقوم على تأليهِ عقلِ الإنسان، وجَعْلِه الحَكَمَ الذي لا مُعَقِّبَ لحُكمه، والقاضيَ الذي لا نَقضَ لقَضائه، والميزانَ الذي لا جوْرَ ولا انحرافَ في موازينه.

والجواب عن هذه الشبهة تفصيلًا من وجوه([1]):

أولًا: المقصد الأساسي للنُّبوة ليس إرشادَ الناس إلى ما يُمكِنهم إدراكُه بعقولهم، ومجال النُّبوة يتجاوَز القَدْر الذي يُمكِن للعقل الإنساني البلوغُ إليه بنَفْسه:

فإنَّ الأنبياء لم يأتوا ليدُلّوا الناس على ما يُمكِنهم معرفتُه، وإنَّما أتَوْا ليُرشِدوهم إلى أمور جليلة عظيمة لا يُمكِنهمُ البلوغُ إليها إلا عن طريق الخبر منَ الله تعالى؛ فإنَّ من أعظم وظائف الأنبياء تعريفَ الناس بصفات خالقهم وكماله وأسمائه، وتعريفَهم بالأعمال التي تَضبِط عَلاقتهم مع الله، وتجعَلها في أحسنِ حال وأكملِ صورة، فيُبيِّنون للناس ما يُحبُّه الله ويرضاه منَ الأقوال والأعمال والأفعال الظاهرة والباطنة، وما يكرَهه منها.

فالنُّبوة إذًا تتعلَّق من حيث الأساسُ بمجالات لا يُمكِن الوصولُ إليها على وجه الكمال إلا عن طريق النُّبوة فقط، وتَلِج في قضايا مُغلَقة أمام كل الطرُق إلا طريقَها، فلا غنى للبشَر عنها بحال، ولا يُمكِنهمُ الاكتفاءُ بما لديهم من قُدرات البتَّةَ.

فالقول بأنَّ العقل الإنسانيَّ يكفي عنِ النُّبوة قولٌ ساقطٌ، فمع تسليمنا بأنَّ النُّبوة لا تُخالِف ما تُقرِّره العقولُ السليمة، إلا أنَّ مجالَها يَتجاوَز القَدْر الذي يُمكِن للعقل الإنساني البلوغُ إليه بنَفْسه، فهي تُخبِر عنِ الغيوب المُتعلِّقة بإرادة الله، ومحبَّته، ومشيئته، وأفعاله، وما يُعِدُّ الله سبحانه منَ الثواب للطائعين والعقاب للعاصين، وهذه الغيوب لا يُمكِن للعقل الإنساني الوصولُ إليها بنَفْسه أبدًا.

ولا يعني هذا الأمرُ القدحَ في دَلالة العقل وقُدْراته، ولكنَّ غاية ما يَعني أنَّ العقل له حدود لا يُمكِن أنْ يتجاوَزها؛ فإنَّ مَن يُريد أنْ يوزَنَ بالعقل كلُّ شيء، حالُه كحال مَن رأى الميزان الذي يوزَنُ به الذهبُ، فطمِع أنْ يَزِن به الجبالَ.

ثانيًا: تحصيل المصالح المادية والاجتماعية والمدنية ليس هو الهدف الأهم والوحيد من إرسال الرسل، حتى يقال بالاكتفاء بالبدائل الأخرى عنهم:

فتهذيب الأخلاق الاجتماعية وإقامة المصالح العامة من جُمْلة غايات الشريعة ومقاصدها التي يحبها الله، لكن لا يجوز اختزالها فيها وقَصْرها عليها، فقد جاء في الوحي بيانُ الحِكْمة الأساس من خَلْق الإنسان، وهي عبادة الله تعالى وحده، وهي مسألة عائدة أصالة إلى المصالح الأخروية، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].

وجاء في الوحي بيانُ المحور الأساس من دعوة الأنبياء، وحِكْمة الله تعالى من إرسال الرسل، وهي إرشاد الخلق إلى حِكْمة الرَّب من خَلْقِهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130].

وجاء ما يؤكد على أن الدنيا إنما هي موضوعة لأجل الابتلاء والاختبار، والآخرة هي دار الجزاء، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4].

بل جاء في القرآن ما يؤكد أن التمكين في الشأن الدنيوي يجب أن يُتَّخذ وسيلة للتمكين لأحكام الشريعة من السريان في الواقع، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].

وجاء في القرآن ما يدلّ على الاحْتِفَاءِ بالمنْجَزات الأخروية في مقابل المنْجَزات الدنيوية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

وجاء ذمُّ مَن قَلَب المعادلة فقَدَّم العاجلة على الآخرة فقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19].

ولا يفهم من هذا الحطُّ من المصالح الدنيوية؛ بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وإنما المقصود التأكيد على وجود مفهوم المصالح الأخروية أولًا، والتأكيد على تقدّمها في الرتبة والمنزلة ثانيًا.

وهذا ما عبّر عنه أبو المعالي الجويني بقوله: (الدنيا إنما تُرعَى من حيث يستمدّ استمرار قواعد الدين منها، فهي مَرعيَّةٌ على سبيل التبعِيَّة، ولولا مسيسُ الحاجة إليها على هذه القضية لكانت الدنيا الدنية حَريَّةً بأن نضرب عنها بالكلية)([2]).

وبهذا يتبين أن النبوّات لا يمكن القول بالاستغناء عنها إلا مع القول بانعدام الحاجة إلى معرفة المصالح الأخروية، وهو ما التزمه كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، حيث تبنّوا القول بالإلحاد، وإنكار اليوم الآخر وما اشتمل عليه من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس المقصودُ بالدين الحق مُجرَّدَ المصلحةِ الدنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيوية؛ كما يقوله طوائف من المتفلسفة في مقصود النواميس والنبوات أن المُراد بها مُجرَّد وضعِ ما يحتاج إليه معاشهم في الدنيا من القانون العدلي الذي ينتَظِمُ به معاشهم. لكن هذا قد يكُون المقصودَ في أديان من لم يؤمن بالله ورسوله من أتباع الملوك المُتفلسفة ونحوِهم مثل قوم نوحٍ ونمرودٍ وجنكيزخان وغيرهم، فإنَّ كُلَّ طائفةٍ من بني آدم مُحتاجُون إلى التزام واجبات وترك محرمات، يقوم بها معاشُهم وحياتهم الدنيوية، وربما جعلوا مع ذلك ما به يستولُون به على غيرهم من الأصناف ويقهرُونه؛ كفعل الملوك الظالمين مثل جنكيزخان. فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلبَ المنفعَة في الحياة الدنيا ودفعَ المضرة فيها؛ فليسَ لهؤلاء في الآخرة من خلاق)([3]).

ثم قال: (وهؤلاءِ المُتفلسِفَة الصابئة المُبتدِعَة من المشَّائين، ومن سلَكَ مسلَكَهُم من المُنتسبين إلى الملل في المسلمين واليهود والنصارى يجعلون الشرائع والنواميس والديانات من هذا الجنس لوضع قانونٍ تتمُّ به مصلحةُ الحياة الدنيا، ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد وهو عبادة الله وحدَه، ولا بالعمل للدار الآخرة، ولا ينهون فيها عن الشرك، بل يأمُرُون فيها بالعدل والصدق والوفاء بالعهد ونحو ذلك من الأمور التي لا تتم مصلحة الحياة الدنيا إلا بها، ويشرعون التأله للمخلصين والمشركين)([4]).

ثالثًا: العقلُ لا يُدرِك جميع التفاصيل المُتعلِّقة بما ينفَعه وما يضُرُّه:

إن للعقل مجالًا في إثبات صفاتِ الباري سُبحانه وتعالى على جهة التفصيل: فبالعقل يُثبِت أهل السُّنة لله تعالى جنس صفاتِ الكلام، والسمع، والبصر، والحكمة.

 غيرَ أنَّ العقل لا يستقِلُّ بمعرفة جميع التفاصيل المُتعلِّقة بصفات الله تعالى، وإنَّما يُرجَع في ذلك إلى الوحي، فما أخبرَت به الرسُل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلَمُه الناس بعقولهم، وإنْ كانوا قد يعلَمون بعقُولهم جُمَل ذلك.

يقول الإمام ابن القيم: (فالفِطَر مركوز فيها معرفته ومحبته والإخلاص له، والإقرار بشرعه، وإيثاره على غيره، فهي تعرف ذلك وتشعر به مجملًا ومفصّلًا بعض التفصيل، فجاءت الرسل تذكّرها بذلك، وتنبّهها عليه، وتفصّله لها وتبيّنه، وتعرّفها الأسباب المعارضة لموجِب الفطرة، المانعة من اقتضائها أثرها.

وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل، فإنها أَمْر بمعروف، ونَهْي عن منكر، وإباحة طيّب، وتحريم خبيث، وأَمْر بعدل، ونَهْي عن ظلم. وهذا كله مركوز في الفطرة، وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل.

وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات، فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه، ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل، وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقرّ في فِطَر الخلائق، خلافًا لمن قال من المتكلمين: إنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص، وإنما عُلِم بالإجماع)([5]).

كما أنَّ العقل يُدرِك حُسن الأمور وقُبحها إدراكًا إجماليًّا، ولا يبلُغ إلى معرفة التفاصيل، ويبقى الإنسان في حاجة إلى معرفتها، وضوابطِ تطبيقها في الواقع، فيأتي الوحي بتوضيح تلك التفاصيل من عند الخالق الحكيم، فيكون تفصيلُه الأكملَ لجنس الإنسان، والأفضلَ لحاله.

وما أحسن قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لولا الرسالةُ لم يهتدِ العقلُ إلى تفاصيلِ النَّافِع والضارِّ في المعاش والمعادِ، فمِن أعظَم نعمِ الله على عباده وأشرفِ منه عليهم: أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالًا منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومَن ردَّها وخرج عَنهَا فهو من شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم)([6]).

ويقول الإمام ابن القيم: (غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله. وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد.

وكذلك يَعْجَزُ عن إدراك حُسْن كلِّ فعلٍ وقُبحه إلى أن تأتي الشرائعُ بتفصيل ذلك وتبيينه، وما أدركه العقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشرائعُ بتقريره، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتد العقلُ لوقت حُسْنِه مِنْ وقتِ قُبحِه أتت الشرائعُ بالأمر به في وقتِ حُسْنِه، وبالنهي عنه في وقتِ قُبحِه.

وكذلك الفعلُ يكون مشتملًا على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تَعْلَمُ العقولُ مفسدتَه أرجحَ أم مصلحتَه. فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمُر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة.

وكذلك الفعلُ يكون مصلحةً لشخصٍ مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يُدْرِكُ ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمُر به من هو مَصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مفسدةٌ في حقِّه.

وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظَّاهر، وفي ضِمْنه مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشَّرع، كالجهاد والقَتل في الله. ويكونُ في الظاهر مصلحةً، وفي ضمنه مفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائعُ ببيان ما في ضِمْنه من المصلحة والمفسدة الرَّاجحة.

هذا مع أنَّ ما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه مِن حُسْن الأفعال وقُبحها ليس بدون ما تُدْرِكُه من ذلك.

فالحاجةُ إلى الرُّسل ضروريَّة، بل هي فوق كلِّ حاجة، فليس العالَمُ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى المرسَلين -صلواتُ الله وسلامه عليهم أجمعين-، ولهذا يذكِّرُ سبحانه عبادَه نِعَمَه عليهم برسوله، ويَعُدُّ ذلك عليهم من أعظم المِنَن؛ لشدَّة حاجتهم إليه، ولتوقُّف مصالحهم الجزئيَّة والكليَّة عليه، وأنه لا سعادةَ لهم ولا فلاحَ ولا قيامَ إلا بالرُّسل.

فإذا كان العقلُ قد أدرك حُسْنَ بعض الأفعال وقُبحَها، فمِن أين له معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وآلائه التي تَعَرَّفَ بها الله إلى عباده على ألسنة رسله؟! ومِن أين له معرفةُ تفاصيل شرعِه ودينه الذي شرعه لعباده؟! ومِن أين له تفاصيلُ مواقع محبته ورضاه وسَخَطه وكراهته؟! ومِن أين له معرفةُ تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدَّ لأوليائه وما أعدَّ لأعدائه، ومقادير الثَّواب والعقاب، وكيفيَّتهما، ودرجاتهما؟! ومِن أين له معرفةُ الغيب الذي لم يُظْهِر الله عليه أحدًا مِن خلقه إلا من ارتضاه من رسله؟! إلى غير ذلك مما جاءت به الرُّسلُ وبلَّغته عن الله، وليس في العقل طريقٌ إلى معرفته. فكيف يكون معرفةُ حُسْن بعض الأفعال وقُبحِها بالعقل مُغْنِيًا عمَّا جاءت به الرُّسل؟!)([7]).

رابعًا: الاعتماد الخالص على العقل منفَكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة في الدنيا:

وقديمًا أشار شيخ الإسلام إلى أن الاعتماد الخالص على العقل منفَكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة بقوله: (فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلب المنفعَة في الحياة الدنيا ودفع المضرة فيها؛ فليسَ لهؤلاء في الآخرة من خلاق. ثم إن كان مع ذلك جعلوه ليَستولُوا به على غيرهم من بني آدم ويقهرونهم كفعل فرعون وجنكيزخان ونحوهما فهؤلاء من أعظم الناس عذابًا في الآخرة، كما قال تعالى: {‌نَتْلُواْ ‌عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِۦ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [القصص: 3، 4])([8]).

ومن أظهَر الشواهد التاريخيَّة على أن الاعتماد الخالص على العقل منفكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة: أنَّ أتباع نَزعة التنوير في الفكر الغربي طفِقوا يُبشِّرون الناس بأنهم إذا تخلَّوْا عنِ الأديان المُنزَّلة، واعتمَدوا على عقولهم في بناء حياتهم وتشييد أنظمتهم سيَصِلون حتمًا إلى النعيم المُقيم والحياة الفاضلة التي لا كدَرَ فيها ولا نصَبَ.

وفي حقيقة الحالِ فإن نزعة التنويرِ أدخلتِ العقلَ الغربيَّ في فوضى عارمة منَ الانقسامات الفِكريَّة والتشظِّي المعرفي، ولم تُحقِّق للإنسانيَّة الحياةَ الرغيدةَ التي وعَدوا بها، بل ازدادتِ المشاكل المُحيطة بالإنسان، وتعقَّدت الأمور فيها، وانتهى الأمر بكثير منَ التيَّارات المؤثِّرة إلى اتِّخاذ مواقفَ تؤدِّي بالحياة الإنسانيَّة إلى الفساد والدمار.

وحين رأى بعضُ فلاسِفَة الغرب -مثل جان جاك روسو- الآثارَ المُدمِّرة التي يُمكِن أنْ تترتَّب على الدعوة إلى الاعتماد الخالص على العقل؛ حاوَل أنْ يأتيَ بمصدر جديد يتخلَّص به من تلك الآثار، فابتَكَر مفهوم الضمير!

ولكنَّ روسو لم يُبيِّن لنا حقيقة المقصود بالضمير، ولم يُحدِّد معالِمَه وقوانينَه، ولم يكشف عن مُنطلَقاته ومُستنَداته، فهو في الحقيقة لم يأتِ ببديل جديد مُختلِف في قُدراته، ومصادره، وطبيعته عنِ العقل، فحُكمُ البديل الذي أتى به حُكمُ العقل، ولا فَرقَ.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: «ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث» د. سلطان العميري (2/ 321-327).

([2]) «الغياثي» (ص: 307).

([3]) «قاعدة في المحبة» (ص: 109).

([4]) «قاعدة في المحبة» (ص: 110).

([5]) «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» (2/ 448-449).

([6]) «مجموع الفتاوى» (19/ 100).

([7]) «مفتاح دار السعادة» (2/ 117-118).

([8]) «قاعدة في المحبة» (ص: 109).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017