الثلاثاء - 19 ربيع الآخر 1446 هـ - 22 أكتوبر 2024 م

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

A A

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي.

وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ منَ الله لتوجيههم وإرشادهم، فالبشَرُ لديهم منَ البدائل الصالحة -كالعقل والضمير- ما يُمكِن أنْ يُحقِّقوا به المصالح التي يدَّعي المؤمنون بالنُّبوة أنَّها لا تتحقَّق إلا بها.

وهي شُبهة قديمةٌ جدًّا، ومن أقدم مَنِ ادَّعاها بعض البراهِمة، فقد نقَل عنهم عددٌ منَ المؤرِّخين والمُصنِّفين في المقالات القدحَ في النُّبوات باستغناء العقول عنها، ثم تكرَّرت هذه الدعوى بصورة أُخرى مع عصر التنوير الأوروبي؛ فإنَّ حركة التنوير كلَّها تقوم على تأليهِ عقلِ الإنسان، وجَعْلِه الحَكَمَ الذي لا مُعَقِّبَ لحُكمه، والقاضيَ الذي لا نَقضَ لقَضائه، والميزانَ الذي لا جوْرَ ولا انحرافَ في موازينه.

والجواب عن هذه الشبهة تفصيلًا من وجوه([1]):

أولًا: المقصد الأساسي للنُّبوة ليس إرشادَ الناس إلى ما يُمكِنهم إدراكُه بعقولهم، ومجال النُّبوة يتجاوَز القَدْر الذي يُمكِن للعقل الإنساني البلوغُ إليه بنَفْسه:

فإنَّ الأنبياء لم يأتوا ليدُلّوا الناس على ما يُمكِنهم معرفتُه، وإنَّما أتَوْا ليُرشِدوهم إلى أمور جليلة عظيمة لا يُمكِنهمُ البلوغُ إليها إلا عن طريق الخبر منَ الله تعالى؛ فإنَّ من أعظم وظائف الأنبياء تعريفَ الناس بصفات خالقهم وكماله وأسمائه، وتعريفَهم بالأعمال التي تَضبِط عَلاقتهم مع الله، وتجعَلها في أحسنِ حال وأكملِ صورة، فيُبيِّنون للناس ما يُحبُّه الله ويرضاه منَ الأقوال والأعمال والأفعال الظاهرة والباطنة، وما يكرَهه منها.

فالنُّبوة إذًا تتعلَّق من حيث الأساسُ بمجالات لا يُمكِن الوصولُ إليها على وجه الكمال إلا عن طريق النُّبوة فقط، وتَلِج في قضايا مُغلَقة أمام كل الطرُق إلا طريقَها، فلا غنى للبشَر عنها بحال، ولا يُمكِنهمُ الاكتفاءُ بما لديهم من قُدرات البتَّةَ.

فالقول بأنَّ العقل الإنسانيَّ يكفي عنِ النُّبوة قولٌ ساقطٌ، فمع تسليمنا بأنَّ النُّبوة لا تُخالِف ما تُقرِّره العقولُ السليمة، إلا أنَّ مجالَها يَتجاوَز القَدْر الذي يُمكِن للعقل الإنساني البلوغُ إليه بنَفْسه، فهي تُخبِر عنِ الغيوب المُتعلِّقة بإرادة الله، ومحبَّته، ومشيئته، وأفعاله، وما يُعِدُّ الله سبحانه منَ الثواب للطائعين والعقاب للعاصين، وهذه الغيوب لا يُمكِن للعقل الإنساني الوصولُ إليها بنَفْسه أبدًا.

ولا يعني هذا الأمرُ القدحَ في دَلالة العقل وقُدْراته، ولكنَّ غاية ما يَعني أنَّ العقل له حدود لا يُمكِن أنْ يتجاوَزها؛ فإنَّ مَن يُريد أنْ يوزَنَ بالعقل كلُّ شيء، حالُه كحال مَن رأى الميزان الذي يوزَنُ به الذهبُ، فطمِع أنْ يَزِن به الجبالَ.

ثانيًا: تحصيل المصالح المادية والاجتماعية والمدنية ليس هو الهدف الأهم والوحيد من إرسال الرسل، حتى يقال بالاكتفاء بالبدائل الأخرى عنهم:

فتهذيب الأخلاق الاجتماعية وإقامة المصالح العامة من جُمْلة غايات الشريعة ومقاصدها التي يحبها الله، لكن لا يجوز اختزالها فيها وقَصْرها عليها، فقد جاء في الوحي بيانُ الحِكْمة الأساس من خَلْق الإنسان، وهي عبادة الله تعالى وحده، وهي مسألة عائدة أصالة إلى المصالح الأخروية، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].

وجاء في الوحي بيانُ المحور الأساس من دعوة الأنبياء، وحِكْمة الله تعالى من إرسال الرسل، وهي إرشاد الخلق إلى حِكْمة الرَّب من خَلْقِهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130].

وجاء ما يؤكد على أن الدنيا إنما هي موضوعة لأجل الابتلاء والاختبار، والآخرة هي دار الجزاء، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4].

بل جاء في القرآن ما يؤكد أن التمكين في الشأن الدنيوي يجب أن يُتَّخذ وسيلة للتمكين لأحكام الشريعة من السريان في الواقع، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].

وجاء في القرآن ما يدلّ على الاحْتِفَاءِ بالمنْجَزات الأخروية في مقابل المنْجَزات الدنيوية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

وجاء ذمُّ مَن قَلَب المعادلة فقَدَّم العاجلة على الآخرة فقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19].

ولا يفهم من هذا الحطُّ من المصالح الدنيوية؛ بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وإنما المقصود التأكيد على وجود مفهوم المصالح الأخروية أولًا، والتأكيد على تقدّمها في الرتبة والمنزلة ثانيًا.

وهذا ما عبّر عنه أبو المعالي الجويني بقوله: (الدنيا إنما تُرعَى من حيث يستمدّ استمرار قواعد الدين منها، فهي مَرعيَّةٌ على سبيل التبعِيَّة، ولولا مسيسُ الحاجة إليها على هذه القضية لكانت الدنيا الدنية حَريَّةً بأن نضرب عنها بالكلية)([2]).

وبهذا يتبين أن النبوّات لا يمكن القول بالاستغناء عنها إلا مع القول بانعدام الحاجة إلى معرفة المصالح الأخروية، وهو ما التزمه كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، حيث تبنّوا القول بالإلحاد، وإنكار اليوم الآخر وما اشتمل عليه من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس المقصودُ بالدين الحق مُجرَّدَ المصلحةِ الدنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيوية؛ كما يقوله طوائف من المتفلسفة في مقصود النواميس والنبوات أن المُراد بها مُجرَّد وضعِ ما يحتاج إليه معاشهم في الدنيا من القانون العدلي الذي ينتَظِمُ به معاشهم. لكن هذا قد يكُون المقصودَ في أديان من لم يؤمن بالله ورسوله من أتباع الملوك المُتفلسفة ونحوِهم مثل قوم نوحٍ ونمرودٍ وجنكيزخان وغيرهم، فإنَّ كُلَّ طائفةٍ من بني آدم مُحتاجُون إلى التزام واجبات وترك محرمات، يقوم بها معاشُهم وحياتهم الدنيوية، وربما جعلوا مع ذلك ما به يستولُون به على غيرهم من الأصناف ويقهرُونه؛ كفعل الملوك الظالمين مثل جنكيزخان. فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلبَ المنفعَة في الحياة الدنيا ودفعَ المضرة فيها؛ فليسَ لهؤلاء في الآخرة من خلاق)([3]).

ثم قال: (وهؤلاءِ المُتفلسِفَة الصابئة المُبتدِعَة من المشَّائين، ومن سلَكَ مسلَكَهُم من المُنتسبين إلى الملل في المسلمين واليهود والنصارى يجعلون الشرائع والنواميس والديانات من هذا الجنس لوضع قانونٍ تتمُّ به مصلحةُ الحياة الدنيا، ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد وهو عبادة الله وحدَه، ولا بالعمل للدار الآخرة، ولا ينهون فيها عن الشرك، بل يأمُرُون فيها بالعدل والصدق والوفاء بالعهد ونحو ذلك من الأمور التي لا تتم مصلحة الحياة الدنيا إلا بها، ويشرعون التأله للمخلصين والمشركين)([4]).

ثالثًا: العقلُ لا يُدرِك جميع التفاصيل المُتعلِّقة بما ينفَعه وما يضُرُّه:

إن للعقل مجالًا في إثبات صفاتِ الباري سُبحانه وتعالى على جهة التفصيل: فبالعقل يُثبِت أهل السُّنة لله تعالى جنس صفاتِ الكلام، والسمع، والبصر، والحكمة.

 غيرَ أنَّ العقل لا يستقِلُّ بمعرفة جميع التفاصيل المُتعلِّقة بصفات الله تعالى، وإنَّما يُرجَع في ذلك إلى الوحي، فما أخبرَت به الرسُل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلَمُه الناس بعقولهم، وإنْ كانوا قد يعلَمون بعقُولهم جُمَل ذلك.

يقول الإمام ابن القيم: (فالفِطَر مركوز فيها معرفته ومحبته والإخلاص له، والإقرار بشرعه، وإيثاره على غيره، فهي تعرف ذلك وتشعر به مجملًا ومفصّلًا بعض التفصيل، فجاءت الرسل تذكّرها بذلك، وتنبّهها عليه، وتفصّله لها وتبيّنه، وتعرّفها الأسباب المعارضة لموجِب الفطرة، المانعة من اقتضائها أثرها.

وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل، فإنها أَمْر بمعروف، ونَهْي عن منكر، وإباحة طيّب، وتحريم خبيث، وأَمْر بعدل، ونَهْي عن ظلم. وهذا كله مركوز في الفطرة، وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل.

وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات، فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه، ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل، وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقرّ في فِطَر الخلائق، خلافًا لمن قال من المتكلمين: إنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص، وإنما عُلِم بالإجماع)([5]).

كما أنَّ العقل يُدرِك حُسن الأمور وقُبحها إدراكًا إجماليًّا، ولا يبلُغ إلى معرفة التفاصيل، ويبقى الإنسان في حاجة إلى معرفتها، وضوابطِ تطبيقها في الواقع، فيأتي الوحي بتوضيح تلك التفاصيل من عند الخالق الحكيم، فيكون تفصيلُه الأكملَ لجنس الإنسان، والأفضلَ لحاله.

وما أحسن قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لولا الرسالةُ لم يهتدِ العقلُ إلى تفاصيلِ النَّافِع والضارِّ في المعاش والمعادِ، فمِن أعظَم نعمِ الله على عباده وأشرفِ منه عليهم: أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالًا منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومَن ردَّها وخرج عَنهَا فهو من شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم)([6]).

ويقول الإمام ابن القيم: (غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله. وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد.

وكذلك يَعْجَزُ عن إدراك حُسْن كلِّ فعلٍ وقُبحه إلى أن تأتي الشرائعُ بتفصيل ذلك وتبيينه، وما أدركه العقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشرائعُ بتقريره، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتد العقلُ لوقت حُسْنِه مِنْ وقتِ قُبحِه أتت الشرائعُ بالأمر به في وقتِ حُسْنِه، وبالنهي عنه في وقتِ قُبحِه.

وكذلك الفعلُ يكون مشتملًا على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تَعْلَمُ العقولُ مفسدتَه أرجحَ أم مصلحتَه. فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمُر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة.

وكذلك الفعلُ يكون مصلحةً لشخصٍ مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يُدْرِكُ ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمُر به من هو مَصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مفسدةٌ في حقِّه.

وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظَّاهر، وفي ضِمْنه مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشَّرع، كالجهاد والقَتل في الله. ويكونُ في الظاهر مصلحةً، وفي ضمنه مفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائعُ ببيان ما في ضِمْنه من المصلحة والمفسدة الرَّاجحة.

هذا مع أنَّ ما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه مِن حُسْن الأفعال وقُبحها ليس بدون ما تُدْرِكُه من ذلك.

فالحاجةُ إلى الرُّسل ضروريَّة، بل هي فوق كلِّ حاجة، فليس العالَمُ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى المرسَلين -صلواتُ الله وسلامه عليهم أجمعين-، ولهذا يذكِّرُ سبحانه عبادَه نِعَمَه عليهم برسوله، ويَعُدُّ ذلك عليهم من أعظم المِنَن؛ لشدَّة حاجتهم إليه، ولتوقُّف مصالحهم الجزئيَّة والكليَّة عليه، وأنه لا سعادةَ لهم ولا فلاحَ ولا قيامَ إلا بالرُّسل.

فإذا كان العقلُ قد أدرك حُسْنَ بعض الأفعال وقُبحَها، فمِن أين له معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وآلائه التي تَعَرَّفَ بها الله إلى عباده على ألسنة رسله؟! ومِن أين له معرفةُ تفاصيل شرعِه ودينه الذي شرعه لعباده؟! ومِن أين له تفاصيلُ مواقع محبته ورضاه وسَخَطه وكراهته؟! ومِن أين له معرفةُ تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدَّ لأوليائه وما أعدَّ لأعدائه، ومقادير الثَّواب والعقاب، وكيفيَّتهما، ودرجاتهما؟! ومِن أين له معرفةُ الغيب الذي لم يُظْهِر الله عليه أحدًا مِن خلقه إلا من ارتضاه من رسله؟! إلى غير ذلك مما جاءت به الرُّسلُ وبلَّغته عن الله، وليس في العقل طريقٌ إلى معرفته. فكيف يكون معرفةُ حُسْن بعض الأفعال وقُبحِها بالعقل مُغْنِيًا عمَّا جاءت به الرُّسل؟!)([7]).

رابعًا: الاعتماد الخالص على العقل منفَكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة في الدنيا:

وقديمًا أشار شيخ الإسلام إلى أن الاعتماد الخالص على العقل منفَكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة بقوله: (فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلب المنفعَة في الحياة الدنيا ودفع المضرة فيها؛ فليسَ لهؤلاء في الآخرة من خلاق. ثم إن كان مع ذلك جعلوه ليَستولُوا به على غيرهم من بني آدم ويقهرونهم كفعل فرعون وجنكيزخان ونحوهما فهؤلاء من أعظم الناس عذابًا في الآخرة، كما قال تعالى: {‌نَتْلُواْ ‌عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِۦ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [القصص: 3، 4])([8]).

ومن أظهَر الشواهد التاريخيَّة على أن الاعتماد الخالص على العقل منفكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة: أنَّ أتباع نَزعة التنوير في الفكر الغربي طفِقوا يُبشِّرون الناس بأنهم إذا تخلَّوْا عنِ الأديان المُنزَّلة، واعتمَدوا على عقولهم في بناء حياتهم وتشييد أنظمتهم سيَصِلون حتمًا إلى النعيم المُقيم والحياة الفاضلة التي لا كدَرَ فيها ولا نصَبَ.

وفي حقيقة الحالِ فإن نزعة التنويرِ أدخلتِ العقلَ الغربيَّ في فوضى عارمة منَ الانقسامات الفِكريَّة والتشظِّي المعرفي، ولم تُحقِّق للإنسانيَّة الحياةَ الرغيدةَ التي وعَدوا بها، بل ازدادتِ المشاكل المُحيطة بالإنسان، وتعقَّدت الأمور فيها، وانتهى الأمر بكثير منَ التيَّارات المؤثِّرة إلى اتِّخاذ مواقفَ تؤدِّي بالحياة الإنسانيَّة إلى الفساد والدمار.

وحين رأى بعضُ فلاسِفَة الغرب -مثل جان جاك روسو- الآثارَ المُدمِّرة التي يُمكِن أنْ تترتَّب على الدعوة إلى الاعتماد الخالص على العقل؛ حاوَل أنْ يأتيَ بمصدر جديد يتخلَّص به من تلك الآثار، فابتَكَر مفهوم الضمير!

ولكنَّ روسو لم يُبيِّن لنا حقيقة المقصود بالضمير، ولم يُحدِّد معالِمَه وقوانينَه، ولم يكشف عن مُنطلَقاته ومُستنَداته، فهو في الحقيقة لم يأتِ ببديل جديد مُختلِف في قُدراته، ومصادره، وطبيعته عنِ العقل، فحُكمُ البديل الذي أتى به حُكمُ العقل، ولا فَرقَ.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: «ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث» د. سلطان العميري (2/ 321-327).

([2]) «الغياثي» (ص: 307).

([3]) «قاعدة في المحبة» (ص: 109).

([4]) «قاعدة في المحبة» (ص: 110).

([5]) «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» (2/ 448-449).

([6]) «مجموع الفتاوى» (19/ 100).

([7]) «مفتاح دار السعادة» (2/ 117-118).

([8]) «قاعدة في المحبة» (ص: 109).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017