الاثنين - 11 ربيع الآخر 1446 هـ - 14 أكتوبر 2024 م

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٌ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} [النساء:59].

يقول الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله: «إذا صح عن بعض الصحابة [مذهب] في حكم من الأحكام فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل أوضح من دليله، ولا يجب على المجتهدين تقليدُ الصحابة في مسائل الخلاف([1])، بل لا يحل لهم ذلك مع وضوح أدلتهم على أدلة الصحابة، لأن الله تعالى أمر باتباع الأدلة المنصوبة على أحكامه، ولم يوجب تقليدًا إلا على العامة الذين لا يعرفون أدلة الأحكام الشرعية»([2]).

ويقول ابن تيمية: «إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ومَن قبلهم ومَن بعدهم من المجتهدين قَولًا يُخالِف قول الأئمة الأربعة، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان القولُ الراجحُ هو القول الذي قام عليه الدليل»([3]).

ويقول: «‌وإذا ‌كان ‌في ‌كتاب ‌الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تَكَفَّلَ الله عز وجل بحفظهما كفاية عن كل مذهبٍ وَغَنَاء عن كل قائل؛ ففيها غَنَاءٌ وكفايةٌ عن المذاهب المشهورة وغيرها، ووجب مع هذا أَنْ ليس في الأقوال ما هو حق إلا ما وافق الكتاب والسنة، وكل إجماعٍ معصوم فهو موافق للكتاب والسنة، وما خالف الكتاب والسنة امتنع أن يكون إجماعًا صحيحًا؛ فالاعتبار بالكتاب والسنة»([4]).

غير أن بعض المتأخرين لم يسلكوا هذا المنهج السني في رد التنازع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند حصول الخلاف، فحكوا الإجماع على انحصار الحق في المذاهب الأربعة، وضللوا من خرج عنها إلى غيرها من مذاهب الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأعلنوا عليه النكير.

ومن أخطر العبارات في هذا قول الصاوي المالكي في حاشيته على تفسير الجلالين: «ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»([5]).

فانظر كيف حكم بهذه الأحكام الشديدة على من قلَّد غير المذاهب الأربعة، وركّب ما ذكره على ما ابتدعه السنوسي من القول بأن الأخذ بظواهر نصوص الكتاب والسنة من أصول الكفر.

وقد اغترَّ بقولِ الصاوي في ذلك خلقٌ لا يُحصى من المُتسمِّين باسم طلبة العلم ([6]).

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم، فالذي ينصره هو الضال المضل»([7]).

ومن التقريرات الخطيرة في ذلك أيضًا التي ركُّبت على خرافات المتصوّفة، مع ما جاء فيها من غلوّ في الحكم على المخالف: ما جاء في كلام لمسلم العرادي الداغستاني الشافعي، ردّ فيه على من أفتى باختيار شيخ الإسلام في مسألة طلاق الثلاث، حيث يقول: «وقالوا: إنه لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة إجماعًا، ولو كان الغير صحابيًّا عظيمَ القدر، لتقرُّر مذاهبهم بالتدوين، دون مذاهب غيرهم([8]).

وإن الإجماع مقدم على النص إذا تعارض في الأصول، وإنه بعد إجماعهم على شيء يحرم خرقه بمخالفتهم، لا وجه للافتاء بما يخالفهم، ولا العمل لنفسه فيما يناقضهم، بل يخاف الكفر على من يدعيه باعتقاد خطئهم، لأنه إنكار ما علم بالضرورة، وأجمع عليه الأئمة.

كيف لا؟ مع أن الأئمة الأربعة الذين هم أوتاد الأرض، وأركان الدين، وأمناء الشارع على شريعته أخذوا وقرروا مذاهبهم، مع اطلاعهم على مراد أقوالهم من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومع الكشف الصحيح، ومع اجتماع روح أحدهم بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسؤالهم عن كل شيء توقَّفوا عليه من الأدلة: هل هذا من قولك يا رسول الله أم لا؟ يقظةٍ ومشافهةً، بالشروط المعروفة بين أهل الكشف.

وكذلك كانوا يسألونه عن كل شيء فهموه من الكتاب والسنة قبل أن يدوِّنوه في كتبهم، ويدينوا الله به، ويقولون: يا رسول الله! قد فهمنا كذا من آية كذا، وفهمنا من قولك في الحديث الفلاني كذا، فهل ترتضيه أم لا؟ ويعملون بمقتضى قوله وإشارته، وهذا من جملةِ كرامات الأولياء بيقين، وإن لم تكن الأئمة المجتهدون أولياء، فما على وجه الأرض ولي أبدًا. انتهى من أوائل ميزان ولي الله الشعراني، فراجعه»([9]).

وفي هذا الكلام من الخرافة والضلال والابتداع ما لا يخفى على من تمسّك بعقائد السلف رضي الله عنهم.

ولما كان من مقاصد مركز سلف للبحوث والدراسات محاربة البدع والضلالات جاءت هذه الورقة لمعالجة مسألة تقليد غير الأئمة الأربعة باعتبارها مسألة من المسائل الاجتهادية، التي بحثها أهل العلم في كتب الفقه وأصوله، بعيدًا عن مسالك أهل الغلو والشطط.

وبالله التوفيق.

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

أولًا: عدم انحصار المذاهب الفقهية في المذاهب الأربعة:

لا يخفى أن «كتب أرباب المذاهب مشحونةٌ بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها، وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى.

والواحد من هؤلاء الأئمة جمع الآثار، وما استنبطه منها، فأضيف ذلك إليه، كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها، كالبخاري ومسلم وأبي داود، وكما تضاف القراءات إلى من اختارها كنافع وابن كثير.

وغالب ما يقوله الأئمة الأربعة منقول عمن قبلهم، وفي قول بعضهم ما ليس منقولًا عمن قبلَه لكنه استنبطه من تلك الأصول.

ثم قد جاء بعدَهُ من تعقَّب أقوالَه فبيَّن منها ما كان خطأ عندَه، كلُّ ذلك حفظًا لهذا الدين، حتى يكون أهلُه كما وصفهم الله به: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة: 71]، فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمدًا أنكره عليه غيرُه»([10]).

وهذه المكانة الجليلة العظيمة للأئمة الأربعة تخفى على من لا يعرف قدَرهم من أهل البدع، فيظنون أن مذاهبهم خارجة عن أقوال الصحابة.

كما أن هذه المكانة لا تُقلِّلُ من شأنِ سائر الأئمة الفقهاء، كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وقد قال بعض فقهاء الحنفية – كما سيأتي – : «المجتهدون الآخرون أيضًا بذلوا جهدهم مثل ما بذل الأئمة الأربعة، وإنكار هذا مكابرةٌ وسوء أدب».

إن المذاهب الفقهية لا تنحصر في مذاهب الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، بل لغيرهم من الأئمة مذاهب معروفة، ومنها ما دوّن، ومنها ما انتشر وكان له أتباع في حقبة من الزمان.

يقول القاضي عياض في سياق حديثه عن نشأة المذاهب الفقهية: «فكان المُقلَّدون المُقتَدَى بمذاهبهم أصحابُ الأتباع في سائر الأقطار والبقاع قبلُ كثرةً: مالك بن أنس بالمدينة، وأبو حنيفة والثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة على ما تقدُّم منه، والأوزاعي بالشام، والشافعي بمصر، وأحمدُ بن حنبل بعدَه ببغداد، وكان لأبي ثور هناك أيضًا أتباع.

ثم نشأ ببغداد أبو جعفر الطبري وداود الأصبهاني فألَّفَا الكتب، واختارا في المذاهب على رأي أهل الحديث، واطَّرَح داود منها القياس، وكان لكل واحد منهما أتباع.

وسرت جميع هذه المذاهب في الآفاق .. »([11]).

ويقول السيوطي في رسالته (الإعلام بحكم عيسى عليه السلام): «وإذا قلتم: إن عيسى عليه السلام يحكم بشرع نبينا فكيف طريق حكمه به أبمذهب من المذاهب الأربعة المقررة أو باجتهاد منه؟

هذا السؤال عجبٌ من سائله، وأشدُّ عجبًا منه قوله فيه: بمذهب من المذاهب الأربعة، فهل خطر ببال السائل أن المذاهب في هذه الملة الشريفة منحصرة في أربعة، والمجتهدون من الأمة لا يحصون كثرة، وكل له مذهب من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهلمَّ جرًا.

وقد كان في السنين الخوالي نحو عشرة مذاهب مُقلَّدَةٌ أربابها، ‌مُدوَّنَةٌ ‌كتبُها، وهي: الأربعة المشهورة، ومذهب سفيان الثوري، ومذهب الأوزاعي، ومذهب الليث بن سعد، ومذهب إسحاق بن راهويه، ومذهب ابن جرير، ومذهب داوود، وكان لكُلِّ من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويقضون، وإنما انقرضوا بعد الخمسمائة لموت العلماء وقصور الهمم، فالمذاهب كثيرة، فلأي شيء خصص السائل المذاهب الأربعة؟»([12]).

يقول الشيخ محمد بخيت المطيعي رحمه الله تعالى: «وقد ضُبطَت وسُبِرَت مذاهب جماعة من الأئمة المجتهدين سوى الأربعة، ولكل واحد منهم أصحاب ينتحلون مذهبه، وأتباع يعملون به.

فالخلفاء العبّاسيون كانوا يعملون بمذهب جدهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من غير نكير من العلماء، وقد جمع فتياه حفيدُ المأمون أمير المؤمنين أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب. قال في الهداية والكافي وغيرهما: والناس يعملون اليوم بمذهب ابن عباس رضي الله عنهما لأمر بنيه الخلفاء، فإنهم كتبوا المناشير أن يصلوا صلاة العيد بمذهب جدهم. وأما المذهب فقول ابن مسعود. اهـ.

ومن المذاهب المضبوطة: مذهب سفيان الثوري، وكان من أتباعه أبو نصر بشر بن الحارث المعروف بالحافي، كما نقله الحافظ الذهبي.

وفي الإحياء للغزالي: الفقهاء الذين هم زعماء الفقه، وقادة الخلق -أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب- خمسة. وعد منهم سفيان الثوري.

ومنها: مذهب أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، ومن أتباعه الحفاظ أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي، وسيد الصوفية الجنيد بن محمد البغدادي.

ومنها: مذهب داود بن علي الظاهري، ومن أتباعه أبو الحسن رويم بن محمد البغدادي من طبقة الجنيد، مات الاثنان في سنة ثلاث وثلاثمئة. ولا يزال لداود أتباع ومذهب مدوَّن إلى يومنا هذا.

ومنها: مذهب محمد بن جرير الطبري المفسر المؤرخ، ومن أتباعه: أبو الفرج معافى بن زكريا النهرواني، مات سنة تسعين وثلاثمئة.

ومنها: مذهب أبي بكر محمد بن خزيمة النيسابوي، ومن أتباعه: أبو محمد دعلج بن أحمد بن دعلج السجزي العدل، مات سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة.

ولغيرهم من العلماء مذاهب مستقلة اختاروها وعملوا بها»([13]).

وإذا علمنا عدم انحصار المذاهب الفقهية في المذاهب الأربعة، عَلِمْنَا أن حقيقة الإجماع لا تنطبق على إجماعهم وحدهم، بل ولا على إجماع من سبق تسميتهم معهم من فقهاء الأمصار دون غيرهم من المجتهدين، بحيث يكون من خالفهم مخالفًا للإجماع، وهذا مما يبين ضعف دعوى وقوع الإجماع على عدم جواز الخروج عن المذاهب الأربعة.

قال ابن تيمية: «قد اتفق العلماء على أنه ليس إجماع الفقهاء الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة أو الثمانية أو التسعة أو العشرة -كمالك والثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود بن علي ومحمد بن جرير- هو الإجماع المعصوم الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه»([14]).

ثانيًا: اختلاف العلماء في جواز الخروج عن المذاهب الأربعة:

بَيَّن جمع من الفقهاء والأصوليِّين أن جواز تقليد مجتهدٍ غير الأئمة الأربعة من المسائل الخلافية، وبينوا مآخذ الفريقين، المانعين والمجيزين.

يقول ابن تيمية: «الحق لا يخرج عن هذه المذاهب الأربعة في ‌عامة ‌الشريعة، ولكن تنازع العلماء: هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين»([15]).

وهذه المسألة قد تذكر في مبحث قول الصحابي من كتب أصول الفقه، كما فعل العلامة ابن السبكي في «جمع الجوامع».

قال ابن السبكي: «وفي تقليد الصحابي قولان، لارتفاع الثقة بمعرفة مذهبه إذ لم يدوّن»([16]).

ومن أشهر المانعين من تقليد غير الأربعة: الجويني وابن الصلاح، وينسب لهما حكاية الإجماع على ذلك، وسيأتي نقل كلامهما، ومناقشة ما فيه بإذن الله.  

وقد جعل ابن السبكي محل الخلاف في غير من كان له أتباع من المجتهدين، ممن تقدمت تسميتُهم في المبحث السابق، أما من كان له أتباع فإنه يجوز تقليدهم وفاقًا، قال بعد أن أورد كلامي الجويني وابن الصلاح: «فعلى هذا ينحصر التقليد في الأئمة الأربعة، والأوزاعي، وسفيان، وإسحاق، وداود – على خلاف في داود حكاه ابن الصلاح وغيره- لأن هؤلاء ذوو الأتباع، ولأبي ثور أتباع قليون جدًا»([17]).

وللخلاف في مسألة جواز تقليد غير الأئمة الأربعة من المجتهدين أسباب، يمكن أن نرجعها إلى اثنين:

السبب الأول: الخلاف في تطرُّق احتمالات لمذاهب غير الأئمة الأربعة من المجتهدين تمنع من جواز تقليدهم:

يقول ابن تيمية: «فمالك والليث بن سعد والأوزاعي والثوري: هؤلاء أئمة في زمانهم، وتقليد كل منهم كتقليد الآخر؛ لا يقول مسلم: إنه يجوز تقليد هذا دون هذا.

ولكن من منع من تقليد أحد هؤلاء في زماننا فإنما يمنعه لأحد شيئين:

أحدهما: اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذاهبهم. وتقليد الميت فيه نزاع مشهور، فمن منعه قال: هؤلاء موتى، ومن سوَّغَه قال: لا بد أن يكون في الأحيَاء من يعرِف قول الميت([18]).

والثاني: أن يقول: الإجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول»([19]).

فهذه الاحتمالات التي ذكرها المانعون منها ما يتعلق بصحة النقل، والضبط، ومنها ما يتعلق بما استقر عليه قول الأمة، أعني: هل انعقد إجماع على مخالفة ذلك القول المنقول عن أحد من الصحابة أم لم ينعقد؟

قال ابن الصلاح – وهو من أشهر المانعين لتقليد غير الأئمة الأربعة – : «التقليد يتعين للأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهبهم ‌انتشرت ‌وانبسطت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، وأما غيرهم فنُقِلَت عنهم الفتاوى مجردة، فلعل لها مُكمِّلًا أو مُقيِّدًا أو مُخصِّصًا لو انبسط كلام قائله لظهر خلاف ما يبدو منه، بخلاف هؤلاء الأربعة، فامتناع التقليد إذًا لتعذُّر نقلِ حقيقة مذهبهم»([20]).

وقال ابن رجب: «فإن قيل: نحن نُسلِّم منعَ عُموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يُفضي ذلك إِلَى أعظم الفساد، لكن لا نسلم منعَ تقليد إمامٍ مُتبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين.

قيل: ‌قد ‌نبَّهنا عَلَى علة المنع من ذلك، وهو أنَّ مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة»([21]).

ويقول ابن أمير حاج في بيان مآخذ المانعين: «وأيضًا – كما قال ابن المنير – يَتَطَرَّقُ إلى مذاهب الصحابة احتمالاتٌ لا يتمكَّنُ العامِّيُّ معها من التقليد، ثم قد يكون الإسناد إلى الصحابي لا على شروط الصحة، وقد يكون الإجماع انعقد بعد ذلك القول على قول آخر»([22]).

وقال عبد العليِّ اللكنوي: «الحق أنه إنما مُنِع من تقليد غيرهم لأنه لم تبق رواية مذهبهم محفوظة، حتى لو وَجَد روايةً صحيحةً من مجتهد آخر يجوز العمل بها، ألا ترى أن المتأخرين أفتوا بتحليف الشهود إقامةً له موقع التزكية على مذهب ابن أبي ليلى، فافهم»([23]).

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «والذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن هذه الاحتمالات التي عللوا بها تقليد غير الأربعة لا تصلح دليلًا على المنع مطلقًا؛ لجواز أن يحقق بعض الفتاوى تحقيقًا ظاهرًا لا لبس فيه»([24]).

ولو فُرِض أن مذهب الصحابي قد تحقق ثبوته عنه، فهل يبقى الخلاف قائمًا؟ أم أن المانعين يجيزون تقليده في تلك الحال؟

ذهب ابن السبكي – تبعًا للعز بن عبد السلام – إلى أن هذه الصورة محلُّ وِفاق، فقال بعد أن ذكر مذهب الجويني وابن الصلاح: «وذهب غيرهم إلى أنهم يُقلَّدُون، لأنهم قد نالوا مرتبة الاجتهاد، وهم بالصحبة يزدادون رفعة، وهذا هو الصواب عندي، غير أنني أدعي أنه لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقَّقَ ثبُوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليدُه وِفاقًا، وإلا فلا، لا لكونه لا يُقلَّد بل لأنَّ مذهبَه لم يثبت حق الثبوت»([25]).

قال أبو زرعة العراقي: «المراد بكونها لم تثبت حق الثبوت أنه قد يكون للقول شرط لم نعرفه، أو محمول على حالة، وإن ثبت أصل القول»([26]).

وتعقب الزركشي كلام ابن السبكي بقوله: «الخلاف يتحقق من وجهٍ آخر، ذكره ابن برهان بالأوسط فقال ..»([27]). ثم أورد كلامه في تفرع الخلاف في المسألة على جواز الانتقال بين المذاهب وعدمه، وهو موضع بحثنا في النقطة الآتية.

السبب الثاني: الخلاف في جواز الانتقال بين المذاهب:

الخلاف في هذه المسألة – بعد التحقق من نسبة القول إلى قائله من المجتهدين – مبني على الخلاف في جواز الانتقال بين المذاهب.

قال ابن بَرهان في الأوسط: «تقليد الصحابة يتخرج على جواز الانتقال في المذاهب فمَن منَعَه لأن مذاهب الصحابة لم تكثُر فروعها، حتى يمكن لمقلد الاكتفاء به طول عمره»([28]).

قال الزركشي: «والمأخذ الذي ذكره ابن بَرهان للمنع حسنٌ أيضًا»([29]).

وبَيَّن العلامة الحطاب المالكي أيضًا أن الخلاف في المسألة مبني على الخلاف في جواز الانتقال بين المذاهب([30]).

يقول اللقاني: «المسألة محل خلاف، وتقليدُ مذاهب الصحابة ونحوِهم ينبَنِي على جواز الانتقال في المذاهب، كما حُكِي عن ابن بَرهان في الأوسط؛ لأن مذاهبهم غير مدوَّنة، ولا مضبوطة، حتى يمكن المقلد الاكتفاء بها، فيؤديه ذلك إلى الانتقال.

فمن جوّزه -كالزناتي والعز بن عبد السلام- جوّز تقليدهم، بل قال العز بناء على مذهبه: إذا صح عن عصر الصحابة مذهب في حكم لا يعدل عنه إلا لدليل أوضح من دليله.

ومن منعَه -كالقرافي والمازري- منع تقليدهم»([31]).

وقال السمهودي: «وإن تحقق ذلك المذهب (يعني نسبته للإمام المجتهد) فالمنع (أي المنع من الأخذ به) يتفرع على إيجاب التمذهب بمذهب معين في جميع المسائل، ومنع الانتقال عنه، إذ لا يعم مذهب الصحابي كل المسائل.

ثم رأيت في كلام ابن بَرهان التصريح به فإنه قال: تقليدُ الصحابةِ رضي الله عنهم يتخرَّجُ على جوازِ الانتقالِ في المذاهبِ: فمَنْ مَنَعَه قال: مذاهبُ الصحابةِ لم يكثرْ فروعها حتى لا يمكنُ الاكتفاءُ بها، فيؤديه ذلك إِلى الانتقالِ، وهو ممنوعٌ، ومذاهبُ ‌المتأخرين ‌تمهدتْ، فيكفي المذهبُ الواحدُ المكلَّفَ طولَ عمرِه»([32]).

وقال المسناوي الدلائي المالكي بعد أن أورد كلام من أجاز من الأصوليين الانتقال بين المذاهب: «تنبيه: ظاهر النقول السابقة: أن من صح عنده مذهب إمام من الأئمة المجتهدين في مسألة، فله أن يقلده فيها كائنًا من كان، صحابيًّا أو غيره، من الأئمة الأربعة أو غيرهم، إذا الكل على هدى من ربهم، والمذاهب – كما قال غير واحد من الأئمة – كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى السعادة، فمن سلك منها طريقًا وصّله»([33]).

تنبيه: ليس سببُ الخلاف في مسألة تقليد الصحابي الخلافَ في حجّية قوله، بحيث يلزم من القول بعدم حجيّة قول الصحابي أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة إلى مذهب أحد الصحابة رضوان الله عليهم.

وقد بين ابن السبكي وغيره من الأصوليين عدم التلازم بين مسألتي حجية قول الصحابي وتقليده، قال: «لا يلزم من كون قول الصحابي غير حجة أن لا يُقلَّد»([34]).

قال الشيخ أبو شامة المقدسي رحمه الله تعالى في بيانه أخطاء بعض المقلدين: «ومن العَجَب أن كثيرًا منهم إذا أورد على مذهبهم أثرٌ عن بعض أكابر الصحابة يقول مبادرًا بلا حياء ولا حشمة: مذهبُ الشافعي الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة!

وإنما طريقة هذا تأويله وتخريجه والاعتذار عنه بدون هذه العبارة الرديئة التي رام أن يردَّ بها قول مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهم لتصحيح مذهبه.

وإذا أُورِد لهذا المُعجَب بمذهبه، القليلِ الحياء في عبارته حديثٌ صحيحٌ على خلاف ما سطّره له الشيخان: أبو إسحاق والغزالي أو أحدهما لا يرى الانقياد له، ومذهب الشافعي رحمه الله اتِّبَاعُ الحديث وترك قوله المخالف، فيرى ردَّ قولَ الصحابي بقول إمامه كما زعم، ولا يرد ردَّ قول من صنَّف على مذهبه من المتأخرين بقول النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الشافعي رضي الله عنه أذن في هذا وأمر بأن يترك نصّه هو في نفسه، فما الظنُّ بنصِّ بعض متأخري مقلديه؟!»([35]).

ثم قال: «ومما لا يعجبني من تصرُّفات كثير من المصنِّفين أنهم يذكرون مذهبهم في مسألة ثم يقولون: وقال فلان كذا، أي بخلاف ذلك، ويذكرون واحدًا من أكابر الصحابة.

وإنما الواجب أن تُقابل المذاهب بعضها ببعض، وأقوال الصحابة بعضها ببعض، من غير إزراء بشيء منها ويرجح الراجح منها بطريقه، فيقال: مذهب أبي بكر كذا، ومذهب ابن مسعود كذا، أو يقال: مذهب الشافعي كذا، وهو قول زيد بن ثابت، وقال ابن مسعود كذا»([36]).

ثالثًا: ثبوت تدوين مذاهب السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم:

تُعدُّ قضية عدم التدوين قطب رحى حجج المانعين من تقليد غير الأئمة الأربعة، سواء حَكَوُا الإجماع على ذلك أم لم يحكوه.

وذلك أن عدم التدوين هو منشأ تلك الاحتمالات المتعلقة بعدم ضبط تلك المذاهب، كوجود مقيد أو مخصص أو مكمِّل يؤدي إلى تغير المراد.

ومن لوازم عدم التدوين: الانتقالُ بين المذاهب، كما تقدم في قول اللقاني: «لأن مذاهبهم غير مدوَّنة، ولا مضبوطة، حتى يمكن المقلد الاكتفاء بها، فيؤديه ذلك إلى الانتقال»([37]).

قال ابن السبكي: «فإن قلت: قد صَحَّت أقاويل خلائق من الصحابة؟

قلت: إمام الحرمين لا ينكر ذلك، ولكن يقول: لمّا لم يدوّن عنهم، ولم يكن لهم أتباع يحررون قولهم حقَّ التحرير، لم تحصل الطمأنينة به»([38]).

ولذلك جعل المطيعي مبنى الخلاف في جواز الخروج عن المذاهب الأربعة وعدمه هو مسألة التدوين وعدمه([39]).

قال ابن الصلاح: «وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة، وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلم، وأعلى درجة ممن بعدهم، لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، وليس لأحد منهم مذهبٌ مُهذَّبٌ مُحرَّرٌ مُقرَّرٌ، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما»([40]).

ونقل عنه ابن السبكي قوله: «ولا يقلد التابعيَّ أيضًا، ولا غيره ممن لم يدوَّن مذهبه، وإنما يقلد الذين دوِّنت مذاهبهم»([41]).

وقال ابن حمدان الحنبلي مماشيًا ابن الصلاح: «وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة وحده، أو غيرهم من السلف دون غيره، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم -مع أن قول الصحابة عندنا حجة في أصح الروايتين([42])-؛ لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، وليس لأحدهم مذهب مهذب محرر مقرر مستوعب، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها، ومعرفة الوفاق والخلاف، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأمثالهم، فإن اتفاقهم نعمة تامة، واختلافهم رحمة عامة»([43]).

وقال تقي الدين السبكي: «ومِنْ هنا -والله أعلم- قال مَنْ قال: إِنَّ ‌مثل ‌هذه ‌المذاهب القديمة لا يجوز للعامي تقليدها، وليس ذلك لأمرٍ يرجع إلى أصحابها -حاشى لله-، بل هم أئمة الهدى وينابيع العلم، ولكنه لم يُعتنَ بجمع أقوال قائليها وتدوينها اعتناءً تامًّا حتى يستدل ببعضها على بعض، وبِبَيِّنِهَا على مجملها، وبخاصِّها على عامها، ومقيَّدِها على مطلقها، كما فعل أتباع المذاهب المشهورة، وتناقلوها نقلًا مستفيضًا بحيث صار يحصل لكثيرٍ من المتمذهبين الظنُّ القوي بأنَّ تلك الأحكام هي قول إمامه ومذهبه، وتناقلها المرجِّحُونَ لها قرنًا بعد قرن، عددًا يبلغ حد التواتر في معظم المسائل والقواعد من لدن زمن إمامه إليه، لا لفتيا مطلقة تُنقل عن إمامٍ لا يُدرى ما أراد بها، وهل اقترن بها مقتضى ذلك أم لا.

فكنَّا نودُّ لو دُوِّنَت تلك المذاهب كما دُوِّنَت هذه، ولكن في كتاب الله وسنة رسوله التي تكفَّل الله بحفظهما بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] كفايةٌ عن كل مذهبٍ، وغَناءٌ عن كل قائل»([44]).

وقال ابن حجر الهيتمي: «وقد ذكَر الأئمَّة أنَّه لا يجوزُ لمفتٍ ولا لقاضٍ تقليدُ غير الأئمَّة الأربعة، قالوا: لا لنقصهم؛ لأنَّ الصحابة وتابِعِيهم ساداتُ الأمَّة، وإنما هو لارتفاع الثقة بشُروط مَذاهبهم وتحقيقاتها وصُورها، فإنها أقوالٌ فِي جُزئيَّات مُتعدِّدة، ولم يعلمْ لهم قواعدُ يُرجَع إليها، ولا شروطٌ وتقييداتٌ يُعوَّل عليها، وارتفعت الثِّقة بها لأنَّها لم تُحرَّر وتُدوَّن بخلاف المذاهب الأربعة؛ فإنها حُرِّرتْ ودُوِّنت وتعاقَبتها الآراء، ومَحَّصَتْها كَوامِلُ العقول حتى نقَّحتها وحرَّرتها، ولم يقلْ منها مسألة إلا وعلم مَغزاها ودَليلها ومَعناها، فوثقت بها النُّفوس، واطمأنَّت إليها القلوب، بخِلاف بقيَّة المذاهب الخارجة عنها»([45]).

وقال: «أما في زمننا: فقال بعض أئمتنا: لا يجوز ‌تقليد غير الأئمة ‌الأربعة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد ابن حنبل رضوان اللَّه تعالى عليهم؛ لأن هؤلاء قد عُرفتْ قواعد مذاهبهم، واستقرت أحكامها، وخدمها تابعوهم وحرروها فرعًا فرعًا، وحكمًا حكمًا، فعزَّ أن يوجد حكمٌ إلا وهو منصوصٌ لهم إجمالًا أو تفصيلًا، بخلاف غيرهم؛ فإن مذاهبهم لم تحرر وتدوَّن كذلك، فلا تعرف لها قواعد تتخرج عليها أحكامها، فلم يجز تقليدهم فيما حفظ عنهم منها؛ لأنه قد يكون مشترطًا بشروطٍ أخرى وكلوها إلى فهمها من قواعدهم، فَقَلَّتِ الثقةُ بخلو ما حفظ عنهم من قيدٍ أو شرطٍ، فلم يجز التقليد حينئذ»([46]).

وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية الجواب عن هذا التعليل الذي ذكره ابن الصلاح وتَبِعه السبكي وابن حجر الهيتمي، وذلك في ردّه على السبكي في مسألة تعليق الطلاق.

ويمكن تلخيص الجواب عن دعوى عدم تدوين مذاهب السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم من وجوه:

الوجه الأول: ثبوت تدوين الأئمة لأقوال الصحابة والتابعين في مصنّفاتهم:

قال ابن تيمية في ردّه على السبكي: «جميع أئمة المسلمين ‌كانوا ‌يدوّنون ألفاظ الصحابة والتابعين في العلم وينقلونها، بل هذا كان هو العلم عندهم بعد ألفاظ القرآن والحديث، وكانت الكتب المصنفة -مثل: موطأ مالك بن أنس، ومصنف ابن جريج، وسعيد ابن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وسفيان الثوري، ومن بعدهم مثل: ابن المبارك، وابن وهب، وعبد الرزاق، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن منصور وغيرهم، ومن بعدهم مثل: كتب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومحمد بن نصر- مملوءة بأقوالهم.

وكذلك كتب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن مملوءة بأقوال السلف من الصحابة والتابعين»([47]).

قال: «فإنَّ هذا الباب قد ‌أمعن العلماء فيه، ومصنفات السلف كلها كانت من هذا الباب مثل: موطأ مالك، وجامع سفيان، ومصنف ابن جريج، وحماد بن سلمة، وسعيد بن أبي عروبة، ثم مصنفات عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح، وهشيم بن بشير، وعبد الرحمن بن مهدي وأمثال هؤلاء، ثم مصنف عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبة، ثم مصنفات الشافعي، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وأصحاب أحمد مثل: الأثرم، وحرب الكرماني، وصالح وعبد الله ابني أحمد، وأبي بكر المروذي وأمثال هؤلاء.

لكن منهم مَنْ يُجَرِّدُ الآثار؛ فيذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لا يخلط بشيء من الكلام والبحث، ومنهم مَنْ يخلطها بشيء من ذلك.

وأما تصنيف أقوال العلماء من غير آثار تُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، فهذا مما أحدثه المتأخرون، لم يكن شيء منه في عهد السلف»([48]).

وهذه الآثار عن الصحابة والتابعين مروية بالأسانيد، ومن العجيب نفي بعض متأخري الشافعية ذلك، كما قال علوي بن أحمد السقاف صاحب الترشيح: «فقد صَرَّح جمعٌ من أصحابنا بأنه لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة، وعَلَّلُوا ذلك بعدم الثقة بنسبتها إلى أربابها، لعدم الأسانيد المانعة من التحريف والتبديل، بخلافِ المذاهب الأربعة؛ فإن أئمَّتَها بذلوا أنفسهم في تحرير الأقوال وبيان ما ثبت عن قائله وما لم يثبت، فأَمِنَ أهلُها من كل تغيير وتحريف»([49]).

الوجه الثاني: طريقة نقل كثير من مذاهب الصحابة والتابعين كطريقة نقل مذاهب الأئمة الأربعة، بل قد تكون أوثق:

يلاحظ في جواب ابن تيمية اعتمادُه مسلكَ المقارنة بين طريقة نقل مذاهب الصحابة والتابعين، وطريقة نقل المذاهب الأربعة، ليبين أن طريقة نقل مذاهب الصحابة والتابعين كثيرًا ما تكون أوثق من طريقة نقل مذاهب الأئمة الأربعة.

قال: «كثيرٌ من مذاهب الصحابة والتابعين تكون منقولة في الأمة خلفًا بعد سلف، بل تكون منقولة بالتواتر أعظم من تواتر نقلِ كثيرٍ من مذاهب الأئمة المشهورين.

فقول زيد رضي الله عنه في الفرائض أشهر عند الأمة مِنْ قول أَحَدِ الأئمة الأربعة في الفرائض، بل قول عمر رضي الله عنه في العول أشهر عند الأمة من أكثر مذاهب الأئمة عند أتباعهم، وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في العول يعرفه عامة العلماء، وهو متواتر بينهم -وإِنْ كان جمهورهم لا يقولون به- أكثر من تواتر كثير من مذاهب الأئمة عند أصحابها، بل قوله في المتعة والصرف أشهر من كثير من أقوال المتبوعين من العلماء مع أنه قول مرجوح مخالفٌ للنص، وجمهور الأمة على خلافه.

فإذا كان قول الواحد من الصحابة مع ضعفه قد تداولته الأمة خلفًا عن سلف وتواتر بينهم؛ فكيف بأقوالهم القوية التي اتبعها جمهورهم؟!»([50]).

قال: «قد دُوِّنَتْ -ولله الحمد- ألفاظُ مذاهب السلف بأعيانها في غير مصنف كما دونت ألفاظ الأئمة، وَمَنْ نُقِلَ لَفْظُهُ على وجهه كان أبلغ من أن ينقل قوله بالتصرف الذي يقع فيه خطأ كثير، كما نقل الخراسانيون مذهب الشافعي بتصرفهم، فيخطئون كثيرًا فيما ينقلونه، بخلاف مَنْ يَنقل ألفاظه كالعراقيين.

فنقل مذاهب السلف المنقولة ألفاظها على وجهها أَصَحُّ مِنْ نقل طائفة من مذاهب الأئمة المشهورين»([51]).

وقال: «يذكر المصنّفون في كتبهم في الخلاف ما يعرف به مذهب غيرهم، ويذكرون من الأقوال ما يعرف به مذاهب الصحابة والتابعين، وما زال العلماء يتداولون نقل مذاهب السلف ويذكرونها في كتبهم.

وإذا قُدِّر غلط في بعض ذلك أو خفاء أقوالهم في بعض ذلك؛ فالمذهب المشهور الذي تَرَبَّى الإنسان على معرفته يَغلطُ كثيرًا في نقل مسائله، ويخفى عليه كثير منه؛ فالغلطُ في بعضِ الأمور لا يوجبُ الغلطَ فيما ضبطوه، والجهل بما خفي لا يوجب الجهل بما علم»([52]).

يقول الشيخ المطيعي حيث قال: «وقد اعترضوا على ما في البرهان([53]) وما ماثله بأن ما ذكره لا يُوجِب تقليدَ الأربعة لا غير؛ لأن من عداهم سبر أيضًا، ووضع، ودَوَّن كما دونوا، إن لم يكن أكثر، فكيف لا يجوز اتباعهم إذا نقلت مذاهبهم بطريق صحيح؟!»([54]).

وهذه المسلك في المقارنة سلكه ابن تيمية أيضًا في الجواب عن حجج أخرى احتج بها المانعون من تقليد غير الأئمة الأربعة، فمن حججهم: «أن العوام لو كُلِّفُوا تقليدَ الصحابي لكان فيه من المشقة عليهم من تعطيل معايشهم وغير ذلك ما لا يخفى»([55]).

وهذا يمكن أن يدّعى في حقّ الأئمة الأربعة أيضًا، يقول ابن تيمية: «العامي المجرَّد لا يعرف المراد بألفاظ القرآن والحديث إن لم يكن له مَنْ يجمع له بين ناسخها ومنسوخها، ومجملها ومفسرها؛ فكيف يمكنه وحده معرفة قول بعض السلف؟! ولكن العالم هو الذي يعرف كثيرًا من أقوالهم.

وحينئذٍ؛ فإذا أخبره العالم بقول الثوري والأوزاعي فهو كما لو أخبره بقول مالك وأبي حنيفة»([56]).

الوجه الثالث: بيان اللوازم الفاسد للقول بأنه لا يمكن معرفة أقوال السلف لعدم تدوينها:

لهذا القول عدد من اللوازم الفاسدة، يتبين بها بطلانه منها:

اللازم الأول: تضليل الأئمة الذين نقلوا تلك الأقوال، وتلقوا منها العلم، بمن فيهم أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم، يقول ابن تيمية: «فإنْ كانت مذاهبهم لا تُعرف من أقوالهم، فقد أجمع أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أخذ العلم من أقوالٍ لا تفيد العلم بمراد أصحابها!»([57]).

اللازم الثاني: مشابهة قول الملاحدة في أن ألفاظ الوحي لا تدلُّ على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن تيمية: «وما أشبه هذا بقول مَنْ يقول مِن الملاحدة: إنَّ ألفاظ القرآن والحديث لا تدل على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك مَنْ قال: ألفاظ الصحابة والتابعين وتابعيهم لا يُعرف منها مرادهم!»([58]).

اللازم الثالث: عدم جواز نقل أقوال السلف، وهو خلاف الإجماع.

وقد أشار القرافي إلى هذا اللازم وأجاب عنه فقال: «على هذا التقدير يتعذَّرُ علينا نقلُ مذاهبهم في أي مسألة حاولنا ذلك، بل نلزم أحد الأمرين: إما عدم جواز النقل عنهم لمذاهبهم لعدم انضباطها، أو جواز النقل للضبط مع جواز التقليد، أما منع التقليد لتوهم عدم ضبط شروط تلك المسائل، فذلك بعينه يمنع النقل عنهم، فلعل ما ننقله عنهم لو جمعت شروطه صار موافقًا لما نجعله مخالفًا له.

ويمكن الجواب عنه: بأن أمر النقل خفيف بالنسبة إلى العمل؛ فإنه قد يكون المقصود منه الاطلاع على وجوه الفقه، والتنبيه للمدارك، وعدم الوفاق، فيُوجِبُ ذلك التوقف عن أمور، والحث على أمور»([59]).

قال اللقاني عقبه: «كما قالوه في الأقوال الضعيفة»([60]).

وهذه الفوائد تجعل نقل أقوال السلف لأمور ثانوية خارجة عن أصل عملية التفقّه وما يتبعه من الاتباع والعمل عند رجحان القول، وهذا كان المقصود الأول لناقلي تلك الأقوال من الأئمة في مصنّفاتهم.

وقد أحسن بعض متأخري الشافعية حين قال: «وأي فائدة لذكر اختيارات الأئمة إذا لم يصح تقليدهم فيها!»([61]).

اللازم الرابع: انسداد باب معرفة الإجماع والخلاف: فالقول بأن مذاهب السلف لا يمكن أن تعلم يؤدي إلى انسداد باب معرفة الإجماع والخلاف الذي يُبنَى عليه الحكم على القول بالشذوذ، فإن ما خالف إجماع الصحابة يكون قولًا شاذًّا، ينكر على قائله.

يقول ابن تيمية: «فإنْ كانت مذاهب السلف لا تُعلَم، فلا يجوز الاحتجاج بإجماعهم، لا بإجماع الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، وإنما يحتج بإجماع أهل المذاهب المصنفة التي صُنِّفَت فيها، فيمتنع مع هذا أن يحتج أحدٌ بإجماع، فإنه من المعلوم أنَّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين إجماعهم حجة قاطعة ليس هم أربعة ولا خمسة ولا عشرة ولا اثنا عشر.

وأيضًا؛ فقد اتفق العلماء على أنه ليس إجماع الفقهاء الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة أو الثمانية أو التسعة أو العشرة -كمالك والثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود بن علي ومحمد بن جرير- هو الإجماع المعصوم الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه.

فما ذكره خلاف إجماع المسلمين الأولين والآخرين، فلم يَقُلْ أَحَدٌ: إنه لا يجوز الاحتجاج بإجماع الصحابة ولا إجماع التابعين وتابعيهم ممن يقول الإجماع حجة، بل كُلُّ من يقول الإجماع حجة يقول: أَعْظَمُ الإجماعِ إجماعُ الصحابةِ»([62]).

ثالثًا: مَن نُسِبت إليه حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد غير الأربعة:

أشهر من نُسِب إليه حكاية الإجماع في هذه المسألة عالمان من علماء الشافعية، هما: إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، والشيخ أبو عمر ابن الصلاح.

أما كلام الجويني فهو قوله في البرهان: «أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يَتَعلَّقُوا بمذاهب أعيان ‌الصحابة رضي الله عنهم، بل عليهم أن يَتَّبِعوا مذاهب الأئمة ..»([63]).

وهذا النصّ لا يصح أن يُفهم منه أن الجويني جعل المسألة إجماعية، وإنما مراده اختيار القول بعدم جواز تقليد أعيان الصحابة، مع نسبة ذلك إلى المحققين.

ولذلك فإن جمعًا من الأصوليين ممن جاء بعده كشرّاح جمع الجوامع والمحشّين عليه فهموا من كلامه اختياره هذا القول ونسبته للمحققين فحسب، دون أن يفهموا منه حكايته للإجماع([64]).

قال أبو زرعة العراقي: «وإذا فرّعنا على أن قول الصحابي ليس بحجة، فهل يجوز لغير المجتهد تقليدُه؟ فيه خلافٌ حكاه إمام الحرمين، وقال: إن المحققين على الامتناع»([65]). فصرح بحكاية إمام الحرمين للخلاف.

قال عبد العلي اللكنوي: «وقوله: (أجمع المحققون) لا يُفهم منه الإجماع الذي هو الحجة، بل الذي يكون مختارًا عند أحد ويكون الجماعة متفقين عليه يقال: أجمع المحققون على كذا»([66]).

وأما ابن الصلاح فلم أجد له نصًّا صريحًا في حكاية الإجماع، لا في كتاب أدب المفتي والمستفتي، ولا في ما نقله ابن السبكي والزركشي والقرافي ومن في طبقتهم من الأصوليين، وإنما ذكر ذلك من بعدَهم.

قال الشيخ زكريا الأنصاري: «قال السبكي: يجوز للشخص التقليدُ في العمل في حقِّ نفسِه، وأما في الفتوى والحكم فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز، يعني تقليد غير الأربعة»([67]).

وجاء في فتاوى بُغية المسترشدين: «صرح أئمتنا أنه لا يجوز العمل – أي فضلًا عن القضاء والإفتاء = بخلاف ما رجّحه الأئمة الأربعة، بل نقل ابن الصلاح الإجماع على ذلك»([68]).

وممن نقل عنه حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد غير الأربعة: ابن هبيرة، قال ابن مفلح: «وفي الإفصاح: الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم»([69]).

تنبيه: الإمام ابن رجب الحنبلي من المانعين من تقليد غير الأربعة، وصنف في ذلك رسالة الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة، غير أنه لم يدعي الإجماع على ما اختاره، والدليل على ذلك قوله في تلك الرسالة: «فإن قيل: ‌الفرقُ ‌بين ‌جمع الناس عَلَى حرفٍ واحد من الحروف السبعة من أحرف القرآن وبين جمعهم عَلَى أقوال فقهاء أربعة، أنَّ تلك الحروف السبعة كانت يُقال: معناها واحد أو متقارب، والمعنى حاصل بهذا الحرف، وهذا بخلاف قول الفقهاء الأربعة؛ فإنه يجوز أن يتفقوا عَلَى شيء ويكون الحق خارجًا عنهم.

قيل: هذا قد منعه طائفةٌ من العُلَمَاء، وقالوا: إِنَّ الله لم يكن ليجمع هذه الأمة عَلَى ضلالة. وفي ذلك أحاديث متعددة تعضُد ذلك»([70]).

فتأمل قوله: «هذا قد منعه طائفةٌ من العُلَمَاء»، حيث نسب المنع إلى طائفة من العلماء ولم يحك الإجماع على ذلك.

رابعًا: تعامُل فقهاء المذاهب مع دعوى الإجماع على عدم جواز الخروج عن المذاهب الأربعة:

ناقش جمع من الفقهاء والأصوليين من أتباع المذاهب الأربعة هذين الإجماعين المنسوبين للجويني وابن الصلاح، فمنهم من ردّهما ومنع التعليل المذكور في كل منهما، كصاحب مُسلَّم الثُّبوت والمطيعي من الحنفية، ومنهم من قيد كلامهما، وهو المسلك الشائع عند متأخري الشافعية.

1- انتقاد متأخري الحنفية لإجماع الجويني وتعليلِه:

قال محب الله بن عبد الشكور البهاري في «مُسلَّم الثُّبُوت»: «قال الإمام (الجويني): أجمع المحققون على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة؛ بل عليهم اتباع الذين سبروا، وبوَّبوا، فهذَّبوا، ونقحوا، وفرَّقوا، وعلَّلُوا، وفَصَّلُوا.

وعليه بنى ابن الصلاح منع تقليد غير الأربعة؛ لأن ذلك لم يُدرَ في غيرهم، وفيه ما فيه».

وفصّلَ البهاري في حاشيته على «مُسلَّم الثُّبُوت» مجمل الانتقاد الذي ذكره بقوله: «وفيه ما فيه» فقال: «قال القرافي([71]): انعقد ‌الإجماع على أنَّ من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حَجْرٍ، وأجمع الصحابة -رضوان الله عليهم- على أنَّ من استفتى أبا بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما وقلَّدهما فله أن يستفتي أبا هريرةَ ومعاذَ بنَ جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكيرٍ. فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل»([72]).

قال شارحه عبد العلي اللكنوي: «فقد بَطَل بهذين الإجماعين قول الإمام.

وقوله: (أجمع المحققون) لا يفهم منه الإجماع الذي هو الحجة حتى يقال: يلزم تعارض الإجماعين، بل الذي يكون مختارًا عند أحد ويكون الجماعة متفقين عليه يقال: أجمع المحققون على كذا.

ثم في كلامه خلل آخر، وهو أن التبويب([73]) لا دخل له في التقليد، وكذا التفصيل؛ فإن المُقلِّد إن فهم مراد الصحابي عمل، وإلا سأل عن مجتهد آخر، فافهم.

وبطل بهذا قول ابن الصلاح أيضًا.

ثم في قوله خلل آخر؛ إذ المجتهدون الآخرون أيضًا بذلوا جهدهم مثل ما بذل الأئمة الأربعة، وإنكار هذا مكابرةٌ وسوء أدب»([74]).

وعندما احتج بعضهم بنقل المحقق ابن الهُمام إجماعَيْ الجويني وابن الصلاح؛ أجاب الشيخ محمد بخيت المطيعي على ذلك جوابًا محرَّرًا فقال: «وأما ما نقله بعضهم عن كتاب (تحرير الأصول) من أنه انعقد الإجماع على عدم العمل بمذهب مخالف للمذاهب الأربعة فهو نقل غير صحيح، فإن المذكور في التحرير هو ما نقله عن كتاب البرهان لأبي المعالي الجويني: أن إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة؛ بل يلزم أن يقلدوا من بعدهم الذين سبروا ووضعوا ودونوا.

ثم قال: وعلى هذا فما ذكره بعض المتأخرين -يعني ابن الصلاح- من منع تقليد غير الأربعة لانضباط مذاهبهم، وتقييد مسائلهم، وتخصيص عمومها، ولم يدر مثلها في غيرهم لانقراض أتباعهم. اهـ.

قال ابن أمير حاج في شرحه عليه([75]): وحاصل هذا أنه امتنع تقليد غير هؤلاء الأئمة؛ لتعذر نقل حقيقة مذهبهم، وعدم ثبوته حق الثبوت، لا لأنه لا يُقَلَّد، ومن ثمة قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقًا، وإلا فلا. وقال أيضًا: إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله. اهـ.

فانظر إلى هذا الناقل عن التحرير كيف افترى عليه، ونقل عنه ما ليس فيه، وادعى انعقاد الإجماع، وحمله على الإجماع الشرعي، الذي هو أحد الأدلة الأربعة، ثم نسبه إلى ابن الهمام!

وكيف يُعقَل حصول الإجماع على ما ذكر مع أن الإجماع لا يكون إلا من المجتهدين؟! والواجب على كل منهم أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده ولو خالف مذاهب الأئمة الأربعة، فكيف يجمعون على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة؟!

كيف وقد اعترضوا على ما في البرهان وما ماثله بأن ما ذكره لا يوجب تقليد الأربعة لا غير؛ لأن من عداهم سبر أيضًا، ووضع، ودون كما دونوا، إن لم يكن أكثر، فكيف لا يجوز اتباعهم إذا نقلت مذاهبهم بطريق صحيح؟!

والحق أن هذه النقول غير صحيحة؛ لما مر من الأدلة وتصريحات الأئمة أنفسهم، فكيف تصح هذه الدعوى؟! وكيف وقع الإجماع الذي ادعاه الناقل؟!

بل الإجماع انعقد على خلافه: من أن الاجتهاد فريضة قائمة إلى قيام الساعة، وأن الواجب على كل مجتهد أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده، وعلى من قلده أيضًا.

وقد قال ابن الهمام نفسه في «فتح القدير»([76]): لا دليل على وجوب اتباع المجتهد المعين بإلزامه نفسه ذلك قولا أو نية شرعًا، بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما احتاج إليه لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة، وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عليه عمله به.

والغالب أن مثل هذا -يعني منع الانتقال- إلزامات منهم لكفِّ الناس عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي ‌في ‌كل ‌مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه.

وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل؟! فكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته. اهـ»([77]).

واحتجاج الشيخ المطيعي بكلام ابن الهمام في تجويز الانتقال يؤكّد ما تقّدم من أن مبنى الخلاف في المسألة بعد التأكد من نسبة القول إلى المجتهد: هو الخلاف في جواز الانتقال بين المذاهب، وبناء على ذلك: فتجويز ابن الهمام للانتقال دليل على تجويزه تقليد غير الأربعة، والله أعلم.

2- تعقّب الأبياري المالكي شارح البرهان لكلام الجويني:

ممن تعقّب إمام الحرمين في تعليله الذي ذكر لمنع تقليد الصحابة: العلامة علي بن إسماعيل الأبياري المالكي في شرحه على البرهان.

قال الجويني: «أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يَتَعلَّقُوا بمذاهب أعيان ‌الصحابة رضي الله عنهم، بل عليهم أن يَتَّبِعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوَّبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين.

والسبب فيه أن الذين درجوا -وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين- فإنهم لم يفتَنُّوا بتهذيب مسالك الاجتهاد، وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال، ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب ‌الصحابة، فكان العامي مأمورًا باتباع مذاهب السابرين»([78]).

قال الأبياري في شرح هذا الموضع : «هذا الذي ذكره الإمام ممنوع من حيث الجملة والتفصيل:

أما مصيره إلى أن المتأخرَ أقدرُ على التفصيل والتهذيب، فغير صحيح مُطلقًا، وكيف يمكن دعوى ذلك على العموم، وقد صودف الوجود على خلاف ذلك؟ والذين سبقوا إلى وضع العلوم من الهندسة والطب، كبقراط وغيرِه من الحكماء اعترَف بعدهم بالعجز عما وضعه الأولون.

وهذا سيبويه رحمه الله أول من صنف كتابًا مبسوطًا في العربية، وكلُّ من جاء بعدَه حذا حذوَه، وسلك مسلكه، واعترفوا بالعجز عن بلوغه فيما وضعه وأسسه.

وكيف يُنكَر ذلك، والتصنيف على قدر قوة العلم؟ وإنما أضرب الأولون من الصحابة والتابعين عن التصنيف، ولو صنفوا، لم ينته إليهم وضع المتأخرين، إذ الوضع على حسب العلم.

وأما ما مثل به من الحرف والصناعات: فهذه أمور تختلف باختلاف الأغراض، فقد يحدث لقوم من الغرض، ويستحسنون ما لا يحسن عند غيرهم فلا يجعل الثاني أولى بالاقتداء به من الأول.

وكيف تمكن المنازعة في أن من سبق أعلم؟ أم كيف تمكن المنازعة في أن التصنيف يتفاضل بحسب تفاضل علم الواضعين؟ هذا بَيِّنٌ لا شك فيه.

ولم يضرب الأولون عن تلفيق العبارات، لقصورهم عنها، ولكن لانشغالهم بما هو أهم، ولفَهْمِ بعضهم عن بعض الأمر بالإشارة العربية، والعبارة المختصرة.

فهذا هو سبب قلة كلامهم، فاعتنى المتأخرون بتهذيب العبارات، إذ لم يبق لهم شيء يفعلونه سواها»([79]).

ولهذا فإن القرافي بعد أن ذكر كلام ابن الصلاح قال: «وهذا توجيه حسن، فيه من الأدب ما ليس في كلام إمام الحرمين»([80]).

وما ذكره القرافي ملحظٌ مهم، فإن قول الجويني في وصف الصحابة يفهم منه قصورهم، وأنهم لم يبذلوا من الجهد ما بذله الأربعة، كما بينه الأبياري آنفًا وتعقبه.

وأما قول ابن الصلاح فليس فيه إرجاع القصور إليهم، وإنما كلامه في احتمالات واقعية (بحسب اجتهاده وقد تقدّمت مناقشتها) تطرقت لمذاهبهم ولم تتطرق لمذاهب الأربعة، كوجود قيد أو تكميل أو تخصيص لا نعلمه، ولهذا فضّل القرافي تعليل ابن الصلاح على تعليل الجويني، وسبق أيضًا انتقاد عبد العلي اللكنوي لكلام الجويني من جهة الأدب.

3- ما حمل عليه متأخِّرُو الشافعية إجماعَ ابن الصلاح:

ذكر ابن حجر الهيتمي هذه المسألة في مواضع عديدة من كتبه كـ«التحفة» و«الفتاوى» و«كف الرعاع» و«الفتح المبين»، وصَرَّح في بعضها بجواز تقليد غير الأئمة الأربعة في أفراد المسائل في عمل النفس خاصة كما قاله التقي السبكي، وحمل ما نُقل عن ابن الصلاح من عدم الجواز على الإفتاء والقضاء.

‌قال في شرح خطبة المنهاج: «وأَجْرَى ‌السبكي ‌ذلك – أي: منع التقليد في القضاء والإفتاء دون عمل نفسِه – وتَبِعُوه في العمل بخلاف المذاهب الأربعة، أي: مما عُلِمَت نسبَتُه لمن يجوز تقليده، وجميع شُرُوطه عنده.

وحُمِل على ذلك قولُ ابن الصلاح: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة، أي: في قضاءٍ أو إفتاءٍ»([81]).

وقال في كتاب القضاء: «يجوزُ تقليد كل من الأئمة الأربعة، وكذا من عداهم ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة ودوّن حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته، فالإجماع الذي نقله غير واحد على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد فيه شرط من ذلك».

ثم قال: «هذا بالنسبة لعمل نفسه لا لإفتاء أو قضاء فيَمتَنِع تقليد غير الأربعة فيه إجماعًا؛ لأنه محض تشهٍّ وتغريرٍ.

ومن ثم قال السبكي: إذا قصد به([82]) المفتي مصلحةً دينية جاز، أي: مع تبيينِهِ للمستفتي قائلَ ذلك»([83]).

وقال في فتاويه: «‌الذي ‌تحرر أن تقليدَ غيرِ الأئمة الأربعة – رضي الله تعالى عنهم – لا يجوزُ في الإفتاء ولا في القضاء، وأمَّا في عمل الإنسان لنفسِه فيجُوز تقليدُه لغير الأربعة ممن يجوزُ تقليدُه، لا كالشيعة وبعض الظاهرية»([84]).

قال المدابغي في حاشيته على الفتح المبين: «قوله: (لا يجوز ‌تقليد غير الأئمة ‌الأربعة) حتى أكابر الصحابة؛ لما قاله من أن مذاهبهم لم تدوَّن ولم تضبط، لكن حمله السبكي وغيره على الإفتاء والقضاء، أما في عمل الإنسان لنفسه فما عُلمت نسبته لذلك المجتهد إذا جمع شروطه عنده»([85]).

وجرى على ذلك العلامة الرملي في «النهاية»([86]).

وكذلك تابع السبكيَّ وابنَ حجر على ما ذهب إليه من التفريق بين عمل النفس وبين الإفتاء والقضاء: المناوي وابن علان الصديقي ومحمد بن عثمان الأحسائي وغيرهم من متأخري الشافعية، مثل محمد بن عبد الله باسودان، فإنه جعل ذلك أول شروط التقليد، وعلوي بن أحمد السقاف صاحب الترشيح([87])، بل تابعهم عليه بعض المالكية، حيث وصفه اللقاني بأنه تحريرٌ مُهمٌّ، واستفاده منه النفراوي([88]).

وثمّة من الشافعية من أعاد النظر في هذا التقرير، فإذا لم نلحَظ فرقًا مؤثرًا بين عمل النفس وبين القضاء والإفتاء، فلِم يجوز تقليد غير الأربعة في المجال الأول دون المجالين الأخيرين؟

وهذا ما لاحظه العلامة ابن قاسم العبادي، حيث استشكل عدم جواز تقليد غير الأربعة في الإفتاء والقضاء إذا عُرِف مذهب الغير ودوّن وحفظ، فقال: «قد يشكل مع فرض علم النسبة وجميع الشروط الفرق بين المذاهب الأربعة وغيرها في تقييد غيرها بغير القضاء والإفتاء»([89]).

قال ابن الجمال الأنصاري معلقًا: «وهو واضح، وقوله في التحفة: (لأنه محضُ تشهٍّ وتغرير) لا يصح أن يكون دافعًا له -يعني لاستشكال ابن قاسم العبادي- بل هو مشكلٌ أيضًا»([90]).

وقد عد الشيخ محمد بن سليمان الكردي الشافعي «تجويزَ تقليد الأقوال والأوجه الضعيفة والأئمة المجتهدين غير الأربعة من التسهيل في الملة الحنيفية السهلة»([91]).

ومال الشيخ فضل بن عبد الرحمن بافضل من المعاصرين إلى عدم التفريق بين عمل النفس وبين القضاء والإفتاء، فقال مؤيدًا ما ذهب إليه ابن قاسم العبادي: «إذ كل الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم، سواء كان من الأربعة أو من غيرهم، كما قال صاحب (الزُّبَد):

وغيرهم من سائر الأئمة … على هدى والاختلاف رحمة»([92]).

والخلاصة: أن ابن حجر تبعًا للسبكي حمل الإجماع المدعى في المسألة على ما كان في الإفتاء والقضاء، دون ما كان في عمل النفس بشرطه، مع تجويزه الإفتاء بما خالف المذاهب الأربعة بشرطه إذا كان فيه مصلحة دينية، واستشكل التفريقَ بين القضاء والإفتاء وبين عمل النفس ابنُ قاسم العبادي ومن تبعه، وعليه: إذا تحققت في القول الشروط جاز الأخذ به في عمل النفس والإفتاء والقضاء دون تفريق.

وقد قيَّد ابن حجر جواز تقليد غير الأربعة في عمل النفس بشروط كما تُعلم من كلامه في «التحفة» وحاصلها:

– علم نسبة ذلك إلى من يجوز تقليده من المجتهدين.

– ومعرفة المقلِّد (بكسر اللام) شروطَ المسألة، وجميع معتبراتها عند المقلَّد (بفتحها).

– وأن يدوَّن مذهبه، ويحفظ حتى تعرف شروطه عنده.

– وألا يكون مما يُنقَضُ فيه قضاء القاضي، بأن خالف النصَّ، أو الإجماع، أو القياس الجلي، أو القواعد الكلية.

– وألا يتتبع الرخص.

– وألا يلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة لا يقول بها كل من القائلين.

– وزاد بعضهم: أن تكون هناك مشقة لا تحتمل عادة في ترك التقليد([93]).

قال ابن حجر: «إنَّ كثيرين من المجتهِدين الخارجين عن الأئمَّة الأربعة لا يجوزُ تقليدهم كما هو مُقرَّر فِي كتب الفقه والأصول، ألا ترى إلى ما جاء عن عطاء فِي إباحة إعارة الجواري للوطء([94])، وعن آخَرين فِي تحليل المطلقة ثلاثًا، وَعَن الأعمش فِي الأكْل فِي رمضان بعد الفجر وقبل طُلوع الشمس([95])، ونحو ذلك من مذاهب المجتهِدين الشاذَّة التي كاد الإجماع أنْ ينعقد على خِلافها، فهذه كلُّها لا يجوز تقليد أربابها، ومَن قلَّدهم فهو آثِمٌ فاسق يحدُّ ويُعزَّر إجماعًا بموجب فعله»([96]).

غير أننا لا نجد السبكي ومن تبعه -كابن حجر- قد تعقَّبًا ابنَ الصلاح في تعليله، المتعلق بتدوين مذاهب غير الأربعة وضبطها، بل استندا إليه وأقرّاه كما تقدّم، بالرغم من تضييقهما لنطاق الإجماع الذي حكاه، وقد تقدّم تعقب ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية مفصَّلًا.

4- اتجاه الشيخ مرعي الكرمي المتعلق بإجماع ابن هبيرة، وموافقة الرحيباني له:

وبعد أن ذكرنا مناقشة جمع من علماء الحنفية والمالكية والشافعية للإجماع المنسوب للجويني وابن الصلاح، نختم بذكر نقاش بعض علماء الحنابلة للإجماع الذي حكاه ابن هُبيرة في نفس المسألة، وهو ما ذكره الشيخ مرعي الكرمي في كتابه «غاية المنتهى».

قال رحمه الله: «وفي الإفصاح: الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم([97]).

ويتجه: وفيه نظر، بل يجوز حيث لا تحتمل المسألة قيدًا([98])، كمقلد داود في حل شحم الخنزير، وابن حزم في اللبث بمسجد للجنب، وابن تيمية وغيره في أن الطلاق الثلاث دفعة لا يقع غير واحدة، وفي: (عليَّ الطلاق) لا يقع، فإن احتمل التقييد امتنع التقليد؛ كمُقَلِّد سعيد بن المسيب في حل المطلقة ثلاثًا بمُجرَّد العقد مع الحيلة، ومُقلِّد نافع وابن عمر في الوطء في الدبر حالة الحيض لاحتمال أنهما لا يريان ذلك حينئذ»([99]).

قال الرحيباني في شرحه: «(ويتجه: وفيه) أي: كلام الإفصاح (نظرٌ، بل يجوز) تقليد غيرهم من الثقات؛ (حيث لا تحتمل المسألة قيدًا؛ كمُقلِّد داود) الظاهري (في حِلِّ شحم الخنزير، و)مقلد (ابن حزم في اللبث بمسجد للجنب، و)مقلد (ابن تيمية) وابن القيم (وغيرهـ)ـما ممن يفتي (في أن الطلاق الثلاث) إذا كان (دفعة)؛ كأنت طالق ثلاثًا ونحوه، (لا يقع غير واحدة، وفي: عليَّ الطلاق) لأفعلنَّ كذا، ولم يفعله (لا يقع) شيء، (فإن احتمل التقييد امتنع التقليد كمقلد سعيد بن المسيب في حل المطلقة ثلاثًا بمجرد العقد مع الحيلة)؛ لأن الحِيَل لا تجُوز في شيء من أمور الدين، (ومقلد نافع وابن عمر في الوطء في الدُّبُر حالة الحيض) وأمثال هذا؛ (لاحتمال أنهما لا يريان ذلك حينئذ)، ولانفرادهما بهذه المسألة دون غيرهما، وقد أنكر عليهما معاصروهما فمن بعدَهُم، وقالوا: ليس لهما في ذلك دليل من كتاب ولا سنة.

بخلاف مسألة داود؛ فإن ظاهر الآية لا يأباها. وبخلاف مسألة ابن حزم؛ فإن بعض العلماء قد قال بها. وبخلاف مسألة ابن تيمية؛ فإن القائلين بها كثيرون من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين، وقد أنهينا الكلام عليها في باب ما يختلف به عدد الطلاق.

فمن وقف على هذه الأقوال وثبت عنده صحة نسبتها لهؤلاء الرجال يجوز له العمل بمقتضاها عند الاحتياج إليه؛ خصوصًا إذا دعته الضرورة إليه، وهو متجه»([100]).

وقد كان لما ذكره الشيخ مرعي أثر لدى الحنابلة في الأزمنة الحاضرة، حيث ذهب مفتي الحنابلة بدمشق الشيخ محمد جميل الشطي في كلام طويل عن شيخه محمد جمال الدين القاسمي إلى تأييد ما ذهب إليه من الأخذ بقول ابن تيمية في مسألة طلاق الثلاث، وتصنيفه كتابًا في ذلك هو «الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس»، يقول في ذلك: «وأما المعتدلون فأولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، وهم أفراد قلائل يرجعون إلى القول، وينظرون في الدلائل، وكان في مقدمة هؤلاء أحد أساتذتنا رحمه الله… وقد نشأ بحّاثًا عن المشكلات، نقّابًا عن المعضلات، ولا سيما إن كان هناك مصلحة مرسلة أو حاجة داعية، ملتمسًا الرحمة لهذه الأمة من علم أولئك الأئمة، ما دام الدليل خفيًّا والخلاف مأثورًا، فإذا حدث أمر يتعلق بالدين وتتوقف عليه مصالح المسلمين عرضه على ميزان الشرع والعقل، ونظر فيه بالحق والعدل، فتكلم بما أفضى إليه علمه وفهمه، وطالما حقق المسائل، وألف فيها الكتب والرسائل، ونشرها في المعالم والمجاهل، ولم نعلم أن أحدًا ضاهاه، مع أن أكثرهم لغا فيه وجفاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فمنها: مسألة الطلاق اعتدادًا بالثلاث منه واحدة، وفروع لذلك شتى، وهي مسألة شيخ الإسلام ابن تيمية الشهيرة، فإنه لما تحقق عموم البلوى به، وتلبس العامة بوصمته، رأى تخلصهم من هذه الوصمة الكبرى والورطة العظمى؛ ليصح لهم النكاح، وتسلم أنسابهم من السفاح، وما أحلى تسميتها: الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس»([101]).

ومن المعلوم أن اختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة في وقتنا قد شاع وذاع، وأخذت به المحاكم في كثير من البلدان، وأيَّدَه عدد من أهل العلم المعاصرين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) العز بن عبد السلام من القائلين بجواز تقليد غير الأربعة، غير أن كلامه هنا في صورة يكون فيها المجتهد قد اطلع على دليل مخالف لمذهب الصحابي، لا أنه أراد الانتصار للقول بعدم جواز الخروج عن المذاهب الأربعة.

([2]) نقله البرزلي في نوازله (1/69)، وعنه الحطاب في مواهب الجليل (1/31)، والمسناوي في نصرة القبض والرد على من أنكر مشروعيته في صلاة الفرض (ص: 54-55).

([3]) منهاج السنة (3/ 412).

([4]) الرد على السبكي (2/ 615).

([5]) حاشية العلامة الصاوي على تفسير الجلالين ط. دار تحقيق الكتاب (4/137).

([6]) أضواء البيان (7/466).

([7]) أضواء البيان (7/467).

([8]) هذه الحجة هي عمدة المانعين من تقليد غير الأربعة، وقد استقاها العرادي من كلام من تقَدَّمه، وسيأتي الجواب عنها مفصّلًا.

([9]) مجموعة فتاوى أهل التحقيق في مسألة جمع الثلاث من التطليق (ص: 69-70)، وينظر: الميزان الكبرى للشعراني (1/221-222) فإن العرادي اعتمد عليه كما أشار إلى ذلك في آخر كلامه. والمجموعة المذكورة تضم فتاوى لبعض الشافعية من داغستان في القرن الماضي تضمنت ردًا على من تابع الشيخ صالح بن مهدي المقبلي اليمني في مسألة طلاق الثلاث.

([10]) هذه المقدمة مقتبسة من جواب شيخ الإسلام على دعوى ابن المطهِّر الحِلِّي على أهل السنة أنهم (أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته، وأهملوا أقاويل الصحابة). منهاج السنة (3/ 410-411).

([11]) ترتيب المدارك (1/64-65).

([12]) الحاوي للفتاوي (2/189).

([13]) رسالة في بيان الكتب التي يعول عليها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا (ص: 48-49).  

([14]) الرد على السبكي (2/ 763).

([15]) مجموع الفتاوى (20/ 474).

([16]) جمع الجوامع  (ص: 140).

([17]) منع الموانع (ص: 441-442). هذه طريقة ابن السبكي في شرح مذهب المانعين، ولم أجد هذا التفصيل لوالده، ولا للعلامة ابن حجر، فإنه وضع شروطًا للخروج عن المذاهب الأربعة في عمل النفس، ولم يفرق بين مذاهب المتبوعين وغيرهم.

([18]) ذكر الشيخ هذا التعليل أيضًا في رده على السبكي (2/ 762).

([19]) مجموع الفتاوى (20/ 474).

([20]) كذا نقله عنه القرافي في نفائس الأصول (9/ 3966-3967)، ونقله الزركشي في تشنيف المسامع (3/ 623) بنفس الألفاظ وعزاه لكتاب الفتيا لابن الصلاح.

([21]) الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص: 32).

([22]) التقرير والتحبير (3/ 345).

([23]) فواتح الرحموت شرح مُسلَّم الثبوت (2/ 439)، ونقله المطيعي في سلم الوصول (4/ 630-631)، والباني في عمدة التحقيق (ص: 172-174).

([24]) نثر الورود (2/ 687).

([25]) منع الموانع (ص: 450-451)، وانظر كلام العز في البحر المحيط (8/340).

([26]) الغيث الهامع (ص: 652).

([27]) تشنيف المسامع (3/633)، ونقله الشيخ زكريا في حاشيته على شرح المحلي (4/33).

([28]) نقله الحَطَّاب في مواهب الجليل (1/30)، ونحوه في تشنيف المسامع (3/633). وقد طبعت قطعة من كتاب الأوسط لابن برهان، غير أنها ناقصة، لم يرد فيها مبحث التقليد.

([29]) تشنيف المسامع (3/633).

([30]) نقله الخطاب في مواهب الجليل (1/31). 

([31]) عمدة المريد شرح جوهرة التوحيد (3/ 1152). وانظر فتوى المازري في نوازل البرزلي (1/85-86)، وقد نقلها الحطاب في مواهب الجليل (1/31). 

([32]) العقد الفريد في أحكام التقليد (ص: 155).

([33]) نصرة القبض والرد على من أنكر مشروعيته في صلاة الفرض (ص: 54).

([34]) منع الموانع (ص: 439).

([35]) خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، ضمن ثلاث رسائل للعلامة أبي شامة المقدسي (ص: 183-184). وقد عاش أبو شامة في القرن السابع الهجري، وكان الاعتماد على كتب أبي حامد الغزالي وأبي إسحاق الشيرازي، بحيث تجد لقب الشيخين يطلق عليهما، كما تجده في كتاب الإقليد للفركاح، ثم صار الاعتماد على كتب الرافعي والنووي – تلميذ أبي شامة -، وصار لقب الشيخين يطلق عليهما.

([36]) خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، ضمن ثلاث رسائل للعلامة أبي شامة المقدسي (ص: 186-187). 

([37]) عمدة المريد شرح جوهرة التوحيد (3/ 1152).

([38]) منع الموانع (ص: 451)

([39]) ينظر: سلم الوصول (4/ 630).

([40]) أدب المفتي والمستفتي (ص: 162-163).

([41]) منع الموانع (ص: 441)، ونقله الزركشي في تشنيف المسامع (3/632).

([42]) تقدم أن مسألة حجية قول الصحابي منفكة عن مسألة جواز تقليده.

([43]) صفة المفتي والمستفتي (ص: 281).

([44]) التحقيق في مسألة التعليق، كما في الرد على السبكي (2/ 613-614).

([45]) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع (ص: 144)، ونقله الكردي في الفوائد المدنية وعنه باسودان في المقاصد السنية (ص: 99). 

([46]) الفتح المبين في شرح الأربعين (ص: 474).

([47]) الرد على السبكي (2/ 765-766).

([48]) الرد على السبكي (2/ 772-773).

([49]) مختصر الفوائد المكّية (ص: 38).

([50]) الرد على السبكي (2/ 768-769).

([51]) الرد على السبكي (2/ 769-770).

([52]) الرد على السبكي (2/ 766-767).

([53]) أي: كتاب البرهان للجويني، وسيأتي كلامه في ذلك واعتراضات الحنفية وغيرهم عليه.   

([54]) رسالة في بيان الكتب التي يعول عليها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا (ص: 47).  

([55]) التقرير والتحبير (3/ 345).

([56]) الرد على السبكي لابن تيمية (2/ 766)، وانظر: عمدة التحقيق للباني (ص: 174).

([57]) الرد على السبكي (2/ 766).

([58]) الرد على السبكي (2/ 765-766).

([59]) نفائس الأصول (9/ 3967). وصوبت بعض الكلمات من عمدة المريد.

([60]) عمدة المريد (3/ 1153-1154). وانظر في فوائد نقل الأقوال الضعيفة عند المالكية: نثر الورود للشنقيطي (2/ 590-593).

([61]) المقاصد السنية إلى الموارد الهنية (ص: 100). والكلمة لعمر بن عبد الرحمن البار باعلوي المتوفى سنة 1212هـ

([62]) الرد على السبكي (2/ 762-763).

([63]) البرهان (2/ 177).

([64]) انظر مثلًا: لمع اللوامع (2/239)، حاشية الشيخ زكريا على شرح المحلي (4/33)، غاية الوصول (ص: 663)، البدر الطالع (2/376).

([65]) الغيث الهامع (ص: 652).

([66]) فواتح الرحموت شرح مُسلَّم الثبوت (2/ 439).

([67]) عماد الرضا ببيان آداب القضا (ص: 29)، وأصل كلام السبكي في فتاواه (2/ 12).

([68]) بغية المسترشدين (2/718).

([69]) الفروع (11/103)، وانظر: غاية المنتهى (2/ 565).

([70]) الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص: 30).

([71]) أصله للعز بن عبد السلام كما في نفائس الأصول (9/ 3963-3964)، ونقله عنه القرافي في شرح تنقيح الفصول (ص: 826) دون أن يسميه، وعزي خطأ للعراقي في فواتح الرحموت شرح مُسلَّم الثبوت (2/ 439)، وفي عمدة التحقيق (ص: 173).

([72]) مُسلَّم الثبوت (2/ 669).

([73]) يعني: تبويب الأبواب الذي جعله الجويني علة لتقليد مذاهب الأربعة دون الصحابة.

([74]) فواتح الرحموت شرح مُسلَّم الثبوت (2/ 439)، ونقله المطيعي في سلم الوصول (4/ 630-631)، والباني في عمدة التحقيق (ص: 172-174).

([75]) التقرير والتحبير (3/ 345).

([76]) (7/ 258).

([77]) رسالة في بيان الكتب التي يعول عليها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا (ص: 47 – 48).

([78]) البرهان (2/ 177). ولإمام الحرمين كلام قريب منه في الغياثي (ص : 485)، وتكلم بكلام أبسط في ذلك في مغيث الخلق (ص: 17 – 22)، ولتلميذ أبي المعالي أبو حامد الغزالي كلام قريب منه في بعض في جواب له على سؤال لتلميذه ابن العربي المالكي. انظر نوازل البرزلي (1/66-68). 

([79]) التحقيق والبيان في شرح البرهان (4/217-219).

([80]) نفائس الأصول (9/ 3967).  

([81]) تحفة المحتاج ط. دار الضياء (1/227).

([82]) أي: بالإفتاء بمذهب غير الأربعة، بل غير إمامه. من حاشية الكردي على تحفة المحتاج ط. دار الضياء (10/ 210).

([83]) تحفة المحتاج (10/ 209-210)، وانظر: مجموعة فتاوى أهل التحقيق في مسألة جمع الثلاث من التطليق (ص: 57).

([84]) الفتاوى الفقهية الكبرى (4/325).

([85]) الفتح المبين (ص: 474).

([86]) نهاية المحتاج (1/ 47).

([87]) انظر: فيض القدير للمناوي (1/272)، ودليل الفالحين لابن علان (1/415)، والفواكه العديدة للمنقور (2/ 144-157)، والمقاصد السنية إلى الموارد الهنية لباسودان (ص: 98)، ومختصر الفوائد المكّية للسقاف (ص: 39).  

([88]) انظر: عمدة المريد شرح جوهرة التوحيد (3/ 1154)، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/356).

([89]) تحفة المحتاج مع الحواشي (1/ 47).

([90]) فتح المجيد في أحكام التقليد (ص: 132-133).

([91]) الفوائد المدنية في من يفتى بقوله من أئمة الشافعية (ص: 332).

([92]) مناهل العرفان من فتاوى فضل بن عبد الرحمن (ص: 386). وصاحبُ الزُّبَد: هو العلامة ابن رسلان الرملي الشافعي رحمه الله تعالى.

([93]) كذا لخصها في مناهل العرفان من فتاوى فضل بن عبد الرحمن (ص: 384).

([94]) يقول الشيخ محمد سعيد الباني في هذ القول: وهو أيضًا مردود، لأنه غير معهود في الإسلام عند المسلمين، بل الذي عليه علماء الشريعة أنه يحتاط في مسائل الفروج أكثر من غيرها. عمدة التحقيق في مسألة التقليد والتلفيق (ص: 178-179).

([95]) ذكر هذه الأمثلة الثلاثة الشيخ محمد سعيد الباني في عمدة التحقيق في مسألة التقليد والتلفيق (ص: 178-179).

([96]) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع (ص: 134).

([97]) ينظر: المسودة لآل تيمية (ص: 540).

([98]) انظر عمدة التحقيق في مسألة التقليد والتلفيق (ص: 175).

([99]) غاية المنتهى (2/ 565).

([100]) مطالب أولي النهى (13/ 423-424).

([101]) الوسيط بين الإفراط والتفريط (ص: 11-12). وانظر: عمدة التحقيق للباني (ص: 176-178).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية في الإسلام

  إنَّ حريةَ الاعتقاد في الإسلام تميَّزت بتفاصيل كثيرة واضحة، وهي تعني أن كلَّ شخص حرّ في اختيار ما يؤمن به وما يدين به، ولا يجب على أحدٍ أن يُكرهَه على اعتقاده، كما تعني الاحترامَ لحرية الآخرين في اختياراتهم الدينية والمعتقدات الشخصية. موقفُ الإسلام من الحرية الدينية: الأصلُ عدمُ الإجبار على الإسلام، ولا يُكره أحد […]

دفع إشكال في مذهب الحنابلة في مسألة حَلِّ السِّحر بالسحر

  في هذا العصر -عصر التقدم المادي- تزداد ظاهرة السحر نفوذًا وانتشارًا، فأكثر شعوب العالم تقدّمًا مادّيًّا -كأمريكا وفرنسا وألمانيا- تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال. […]

الفكر الغنوصي في “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي وموقف فقهاء ومتصوفة الغرب الإسلامي منه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم لا تخفى المكانة التي حظي بها كتاب إحياء علوم الدين عند المتصوفة في المغرب والأندلس، فكتب التراجم والمناقب المتصوفة المغربية المشهورة، شاهدة على حضور معرفي مؤثر ظاهر لهذا الكتاب في تشكيل العقل المتصوف وتوجيه ممارسته، وأول ما يثير الانتباه فيه، هو التأكيد على الأثر المشرقي […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017