شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي.
ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم من حديث زيد بن أَرقمَ رضي الله عنه مرفوعًا: «أيُّها النَّاسُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ يوشِك أنْ يأتيَ رسولُ ربي فأُجيبَ، وأنا تاركٌ فيكم ثَقلَينِ: أوَّلهما: كتابُ الله، فيه الهُدى والنُّور؛ فخُذوا بكتابِ الله، واستمسِكوا به»، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: «وأهل بَيتي، أُذكِّركم الله في أهْل بيتي، أُذكِّركم اللهَ في أهل بيْتي، أُذكِّركم اللهَ في أهْل بيتي»([1]).
ورُوي أيضًا باللفظ المُشتهر: «كتاب الله وسنتي» أو «كتاب الله وسنة نبيه» عن عددٍ من الصحابة وبطرقٍ كثيرة، منها الضعيف والضعيف جدًّا، والجيد الذي يحتجّ به. وقد صححه الحاكم([2]) وابن حزم([3]) وابن العربي([4])، وجوَّد طريقَه ابنُ الملقِّن([5])، وصحَّح إسنادَه ابنُ القيِّم([6])، وقال الحافظ ابن عبد البر: “محفوظٌ، معروفٌ، مشهورٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند أهل العِلم شهرةً يكاد يُستغنَى بها عن الإسناد”([7]).
ولسنا هنا في مقام المفاضلة بين الروايتين، وإنما المقام هو ردّ الفهم الخاطئ لحديث الثقلين الذي فهمه الشيعة على غير وجهه، والذي قد أشكل أيضًا على بعض عوام أهل السُنة ممن لم ترسخ قدمه في العلوم الشرعية.
وقد رد على هذه الشبهة كثير من أهل العلم بنوع إجمال، وبيَّنوا الفهم الصحيح للحديث، ومع ذلك فإن تلك الشبهة تحتاج إلى مزيد من التفصيل والتوضيح، وذلك لأن مثير هذه الشبهة له مرادٌ معين ومعروف، وهو أن أهل السنة قد أهملوا أهل البيت الكرام على مرِّ العصور ولم يتمسَّكوا بهم -حسب دعواه-، وقلدوا أئمة المذاهب الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ بينما ظاهر حديث الثقلين هو اتِّباع العترة دون اتِّباع غيرهم؛ وعليه فلن يقنع المخالف بمجرَّد توجيه الحديث والرد المجمل، بل لا بد من تفصيل تلك الشبهة بما يتناسب مع مآلاتها، وهذا ما سنقوم به إن شاء الله في هذه الورقة العلمية.
وعليه فسوف ينتظم حديثنا في المحاور التالية:
أولًا: فساد فهم المخالف ومخالفته للضروريات العقلية.
ثانيًا: بيان الفهم الصحيح لحديث الثقلين.
ثالثًا: هل لأهل البيت مذهبٌ خاص انفردوا به عن مذهب أهل السنة؟
رابعًا: علاقة أئمة الحديث بعلماء آل البيت النبوي بعد القرن الثالث الهجري.
خامسًا: موافقة العترة لعقيدة أهل الحديث.
مركز سلف للبحوث والدراسات
*****
أولًا: فساد فهم المخالف ومخالفته للضروريات العقلية:
بادئ ذي بدء وقبل بيان المعنى الصحيح للحديث ينبغي التنبيه إلى فساد فهم المخالف، ومخالفته للضروريات العقلية والحِسيَّة، وذلك من وجهين:
الوجه الأول:
أنَّ ما فهمه المخالف من الحديث ممتنع من حيث الحس والتاريخ، ويكفي في بطلانه مجرَّد تصوره؛ لأن الأسرة العلوية بعد القرن الثالث الهجري افترقوا شيعًا وأحزابًا، فمنهم السني ومنهم الزيدي ومنهم الإمامي، وكان أهل البيت من الإمامية يذمون أهل البيت من الزيدية، والعكس صحيح.
ومن ذلك ما نقله الصفدي والحافظ ابن حجر: قال أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: دخلت على إلكيا أبي الحسين يحيى بن الحسين العلوي الزيدي وكان من نبلاء أهل البيت، ومن المحمودين في صناعة الحديث وغيره من الأصول والفروع، فذُكر بين يديه يومًا الإمامية، فذكرهم أقبح ذكر وقال: لو كانوا من الدواب لكانوا الحمير، ولو كانوا من الطيور لكانوا الرخم. وأطنب في ذمهم، وبعد مدة دخلت على المرتضى [الشريف المرتضى] وجرى ذكر الزيدية والصالحية أيهما خير، فقال: يا أبا الفضل، تقول: أيهما خير ولا تقول: أيهما شر؟! فتعجبتُ من إماميِ الشيعة في وقتهما ومن قول كل واحد منهما في مذهب الآخر، فقلت: لقد كفيتما أهل السنة الوقيعة فيكما”([8]).
والشاهد: أن الشريف المرتضى ذم الزيدية، ويحيى بن الحسين الزيدي ذم الإمامية، وكلاهما من أئمة العترة في القرن الرابع الهجري، فالحِس والواقع التاريخي يدفعان الفهم الشيعي للحديث: أن الكتاب والعترة (أولاد علي) لن يفترقا حتى يردا عليه صلى الله عليه وسلم الحوض، فإنهم قد افترقا حسًّا وواقعًا، فتأمل.
وسوف نذكر بعض النماذج من أئمة العترة الذين بقوا على مذهب أهل السنة في تلك القرون وعلاقة أهل الحديث بهم، وذلك في المحور الأخير من الرد -إن شاء الله-.
الوجه الثاني:
أنَّ أصحاب القراءات العشر -بما فيهم أصحاب الوجوه في القراءة- الذين نُقلت قراءاتهم ليسوا من العترة النبوية، مع أنهم كانوا يعاصرون أحفاد علي بن أبي طالب، وقد كان الإمام نافع -إمام القراءة- يؤم أهل المدينة وفيهم من أحفاد علي آنذاك، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
فماذا لو جاء اليوم من يلقي باللوم على أهل السنة والجماعة لأنهم ضيَّعوا وصية رسول الله بالتمسك بالعترة، بعدم نقلهم القراءات السبع أو العشر عن أهل البيت؟!
نقول: إن فساد هذا معلوم بضرورة العقل والشرع معًا، بل يؤول بصاحبه إلى الكفر والزندقة؛ وذلك لأن القرآن الكريم محفوظٌ بحفظ الله عز وجل، فقد تولى حفظ القرآن وإقراءه، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17].
والحجة هنا: إذا كان القرآن الكريم -وهو أشرف العلم، بل هو ذروة سنام العلوم جميعها- قد شاء الله تبارك وتعالى أن يُنقل قراءاته، وإقراؤه وضبطه وتجويده، وتفسيره من أناسٍ ليسوا من أهل البيت بل أكثرهم من العجم، فما الذي يمنع عقلًا وشرعًا حصول مثل ذلك في السنة النبوية أيضًا، بأن ينقلها أناسٌ قد شرَّفهم الله وأعلاهم بالعلم، سواء كانوا من أهل البيت أم ليسوا منهم.
إن الإسلام ليس فيه كهنوتية، أو عائلة مقدسة معينة، أو جماعة مخصوصة يؤخذ منها العلم دون غيرها كما عند الأديان الأخرى، فالعلم الشريف ليس حكرًا على أحد، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثانيًا: بيان الفهم الصحيح لحديث الثقلين:
1- إنَّ الرواية الصحيحة لحديث الثقلين هي التي في صحيح الإمام مسلم، ولم يرد فيها اتباع العترة، وإنما فيها الوصية بالعترة فقط.
ولفظ الحديث: «أيُّها النَّاسُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ يوشِك أنْ يأتيَ رسولُ ربي فأُجيبَ، وأنا تاركٌ فيكم ثَقلَينِ: أوَّلهما: كتابُ الله، فيه الهُدى والنُّور؛ فخُذوا بكتابِ الله، واستمسِكوا به»، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: «وأهل بَيتي، أُذكِّركم الله في أهْل بيتي، أُذكِّركم اللهَ في أهل بيْتي، أُذكِّركم اللهَ في أهْل بيتي»([9]).
وقوله: (ثم قال: «وأهل بيتي…») (ثم) تفيد التراخي؛ بمعنى أنه لم يقلهما معًا، بل تكلم أولًا عن الترغيب في القرآن، ثم بعد ذلك وصَّى بحسن معاملة أهل بيته، وسمُّوا بالثقلين لأنهما أمران مهمّان يُريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي بهما قبل موته.
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ: “وقوله: «وأهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي» ثلاثًا؛ هذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يَقتضي وجوبَ احترام آل النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأهل بيته، وإبرارَهم، وتوقيرهم، ومحبَّتهم وجوبَ الفروض المؤكَّدة، التي لا عُذرَ لأحد في التخلُّف عنها. هذا مع ما عُلِم من خصوصيتهم بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبأنهم جزءٌ منه؛ فإنَّهم أصولُه التي نشأ منها، وفروعُه التي تنشأ عنه”([10]).
ولذلك سمي أهل البيت بـ(وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو الفهم السليم والمعقول للحديث، ولا يصح فهم آخر للحديث، كالفهم العجيب من الشيعة أن العترة لن تفترق مع القرآن حتى قيام الساعة؛ لأنه منتفٍ عقلًا وحسًّا وتاريخًا -وسيأتي بيانه-، أو حتى من يريد التمسك بفقه العترة بدلًا من فقه أبي حنيفة ومالك الشافعي وأحمد كما يقوله البسطاء من أهل السنة؛ فهذا أيضًا منتفٍ عقلًا -وسيأتي بيانه-.
2- اتباع الكتاب والسنة هو أصل عظيم من أصول الإسلام، فالسنة النبوية هي المصدر الثاني في التشريع بإجماع المسلمين، نص على ذلك القرآن في آياتٍ عديدة، ونص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج الأمر إلى الموازنة بين روايات ظنية صحت أو لم تصح.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال أيضًا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد جاء في الحديث: «ألَا إنِّي أوتيتُ الكِتابَ ومثلَهُ معهُ»([11]).
وجاء أيضًا: «فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي، فلَيسَ منِّي»([12]).
وجاء في الحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي…»([13]).
والأحاديث في ذلك كثيرة ومعروفة لا مجال لحصرها.
فنقول لصاحب الشبهة: إنَّ السنة النبوية كمصدر ثانٍ للتشريع لا تحتاج إلى أن يثبت حديث الثقلين بلفظ: (وسنتي)؛ لأنَّ السنة النبوية ثابتة مُستقرة بنصوصٍ كثيرة بوجهٍ قطعي الثبوت والدلالة، والسنة حاكمة على المسلمين بما فيهم أهل البيت النبوي.
فلو قال: المقصود هو فهم العترة للسنة النبوية أو فقه العترة، سيكون بذلك قد نقض قوله الأول الذي يُفاضل فيه بين السنة والعترة، والذي يوهم أن العترة مصدر ثانٍ للتشريع بعد القرآن، ويكون قد رجع لقولنا: إن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن.
فإذا سلَّم بذلك ستبقى المناقشة في الأخذ بفقه العترة، وهو ما سوف نناقشه في بقية محاور هذا البحث، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
3- ورد في الحديث الأمر بالأخذ بسنة الخلفاء الراشدين من بعده: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي…»([14])، والتمسك بهذا الحديث وأمثاله ليس بأدنى من التمسك بحديث الثقلين، فقائلهما واحد، وإهمال أحدهما أو التعسف في تأويله من التحكم الذي لا دليل عليه.
وإن من المبادئ العلمية عند أهل العلم -بل عند صحيحي العقول- أن الجمع بين الأدلة أولى من طرح بعضها، وأن الإعمال خيرٌ من الإهمال، أي: إعمال النصوص جميعًا خيرٌ من إهمال بعضها.
ولذلك وَهم من ظن أنَّ أئمة أهل السنة قد أهملوا وتنكَّبوا حديث الثقلين غضًّا من قدر العترة النبوية -وحاشاهم من ذلك- بل علِموه، وهو مع علمهم إياه قد علموا غيره أيضًا، وأعملوا النصوص كلها في إطارٍ واحد.
فإن أهل السنة ينظرون إلى الإسلام نظرة كليَّة لا نظرةً جزئية، ويعملون بجميع النصوص، فليسوا كالخوارج الذين يتمسّكون بأحاديث الوعيد ويتركون أحاديث الوعد، أو المرجئة الذين يأخذون بنصوص الوعد ويتركون نصوص الوعيد، فأهل السنة لا ينحصرون أمام رواية واحدة ثم يتوقفون عندها، بل يتعاملون معها وفق منظومة علمية متكاملة.
ومن طرق إعمال النصوص ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن إجماع أهل البيت حجة استنادًا لحديث الثقلين، قال رحمه الله: “إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال عن عِترته: إنَّها والكتاب لن يَفترِقَا حتى يرِدَا عليه الحوضَ، وهو الصادقُ المصدوق؛ فيدلُّ على أنَّ إجماع العِترة حُجَّة، وهذا قولُ طائفةٍ من أصحابنا، وذكره القاضي في المعتمَد، لكن العترة هم بنو هاشم كلهم: ولد العبَّاس، وولد عليٍّ، وولد الحارث بن عبد المُطَّلب، وسائر بني أبي طالب وغيرُهم، وعليٌّ وحده ليس هو العِترة، وسيِّد العِترة هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم”([15]).
4- لا نُسلِّم أن أهل البيت ينحصرون في أولاد سيدنا علي، فضلًا عن انحصارهم في فرعٍ واحدٍ من أولاد جعفر الصادق كما يعتقد الإمامية.
فأولًا: إن سياق الآيات التي ورد فيها ذكر أهل البيت كانت عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نصٌّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة، قال تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ…} إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـرًا} [الأحزاب: 32، 33].
وثانيًا: قد ورد في حديث الثقلين الذي يحتجّ به المعترض أن أهل البيت هم: آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب.
جاء ذلك فيما رواه الإمام أحمد عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ…» إلى أن قال: فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟! قَالَ: إِنَّ نِسَاءَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ([16]).
وهذا فهم من روى الحديث، والصحابة هم أولى الناس بشرح كلامه صلى الله عليه وسلم. ومما يدل أن هذا ليس اجتهادًا من زيد بن أرقم أنه ثبت من كلام النبي ما يُفيد ذلك، فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ»([17]).
وأهل السنة أخذوا بفقه أهل البيت، فإن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس من المكثرين في رواية الحديث الشريف، وأقواله وفقهه مبثوث في كتب التفاسير لعلها تبلغ الثلث أو يزيد، وكذلك أزواج النبي كانوا أعلم الناس بأحواله الخاصة، وحفظوا للمسلمين أمورًا خاصة من أحواله وشؤونه التي لا يمكن أن يرويها غيرهن.
5- لو سلَّمنا بفهم المخالف أن معنى حديث الثقلين الأخذ من أهل البيت العلويين فقط؛ فإن تراثهم مبثوث أيضًا في دواوين أهل السنة فقهًا وحديثًا، وبيان ذلك كما يلي:
ففي مسند الإمام أحمد -وهو من أضخم الموسوعات- بلغت روايات علي بن أبي طالب: (819) رواية، بينما أحاديث الخلفاء الثلاثة -أبي بكر وعمر وعثمان- بلغت (561) رواية.
وهذا يعني أن روايات علي بن أبي طالب أكثر من روايات الخلفاء الثلاثة مجتمعين.
وكذلك الأمر في الكتب الستة -الصحيحان والسنن الأربعة-، أحاديث علي فيها أكثر من أحاديث أبي بكر وعمر وعثمان مجتمعين.
وسلف أهل البيت الأوائل من العلويين لهم حضور في دواوين السنة كأمثال علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق والحسن المثنى وغيرهم، فإنهم من جملة أئمة الإسلام، ورواياتهم مبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد وكتب التفسير.
ومن ذلك مثلًا: ما رواه الإمام مسلم من رواية جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن جابر في وصف حجة الوداع، وهو الحديث الوحيد في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم بشكلٍ تفصيلي، وهو حديث طويل قد يقع في كراس.
وعليه فإن أهل السنة يحجّون كلَّ عام اعتمادًا على رواية جعفر الصادق عن محمد الباقر، والحج ركنٌ من أركان الإسلام، وهو ما يعني أن الصادق والباقر بروايتهما داخلان ضمن المنظومة الفقهية السُنية في باب الحج، في كل كتب الفقه.
ولجعفر الصادق عددٌ كبير من الأحاديث مبثوثة في دواوين السنة، وقد روى له مسلم في صحيحه وأحمد وأصحاب السنن، ورووا لغيره من العلويين أيضًا.
وذَكَر مُصعب الزبيري عن مالك قال: “اخْتَلَفْتُ إلى جعفر بن محمد زمانا، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مُصَلّ، وإما صائم يقرأ القرآن، وما رأيته يُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، وكان لا يتكلّم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء العُباد الزهاد الذين يخشون الله”([18]).
وقد احتج شيخ الإسلام الإسلام ابن تيمية برجلين من العترة النبوية وهما علي زين العابدين والحسن المثنى، وتترَّس بهما في مسألة تحرّي القبر بالدعاء([19]).
أما بالنسبة لقول المعترض أن البخاري لم يروِ عن جعفر الصادق، فنقول: ولم يروِ البخاري عن الإمام الشافعي -وهو من هو-، ولا روى عن أبي حنيفة أيضًا ولا عن كثيرٍ من أئمة أهل العلم، وليس هذا غضًّا من حقهم، ولكنَّ سبب ذلك شروط وضعَها، واعتبارات حديثية، ومن ذلك على سبيل المثال: طلب علوّ الإسناد، فقد يقع له الحديث من طريق جعفر بنزول، ويقع له من طريق غيره بعلو، فيرويه بعلو الإسناد، بل لم يروِ البخاري عن الإمام أحمد إلا حديثًا واحدًا مع أنه من جملة شيوخه؛ وذلك لأنه لقي كثيرًا من مشايخ أحمد بن حنبل.
ثالثًا: هل لأهل البيت مذهبٌ خاصّ انفردوا به عن مذهب أهل السنة؟
وجواب ذلك من وجوه:
الوجه الأول:
قد سُئل علي بن أبي طالب: أَخَصَّكُمْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بشَيءٍ؟ فَقالَ: ما خَصَّنَا رَسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بشَيءٍ لَمْ يَعُمَّ به النَّاسَ كَافَّةً، إلَّا ما كانَ في قِرَابِ سَيْفِي هذا، قالَ: فأخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: «لَعَنَ اللَّهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَن سَرَقَ مَنَارَ الأرْضِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَن لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَن آوَى مُحْدِثًا»([20]).
فقول عليّ أنهم كغيرهم من الصحابة ولم يخصَّهم بشيءٍ زائدٍ من العلم المبثوث في سائر الصحابة إلا أن يكون كتب أحاديث سمعها من النبي، شأنه في ذلك كشأن غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
فلذلك نبَّه عليه علي رضي الله عنه وأخرج من قراب سيفه صحيفة كتب فيها ثلاثة أحاديث سمعها واحتفظ بها لئلا ينساها. وهذه الأحاديث الثلاثة مروية في كتب السُّنة عن عليٍ وعن غيره.
والقصد مما سبق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصَّ أهل البيت بعلمٍ زائد -بشهادةِ عليٍّ نفسه-، بل هم كغيرهم من أهل العلم من الصحابة الكرام.
الوجه الثاني:
ليس لأهل البيت مذهب مستقلّ، بل كانوا قبل القرون الثلاثة على طريقة الاجتهاد كأئمة أهل الحديث سواءً بسواء، وكلهم استفاد من الآخر ورووا عن بعضهم البعض.
وبعد انقضاء القرون الثلاثة واستقرار المدوَّنات الفقهية اقتبسوا من مدونات أهل السنة في الأصول والفروع، بل كان العلويون -من الشيعة- عالة على فقه أهل السنة في تلك الأعصار.
ومن تأمل مصنفات الشريف الرضي (409هـ) -وهو رأس العلويين في وقته وصاحب كتاب نهج البلاغة- سيجد أنَّ شيخه الأوحـد في الفقه هو أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي الحنفي([21]) وهو من علماء أهل السنة والجماعة، وترجم له الذهبي ترجمةً حافلة، وقال: “تخرج به فقهاء بغداد”([22]).
وقد كان الشريف الرضي يستدل به في كتبه كثيرًا.
ومن ذلك: قول الشريف الرضي: “علَّقت عن شيخنا أبي بكر محمد بن موسى الخوارزمي عند قراءتي عليه مختصر أبي جعفر الطحاوي، وبلوغي إلى هذه المسألة من كتاب النكاح الحجاج على الشافعي في جواز النكاح بشهادة رجل وامرأتين”([23]).
والشريف الرضي وغيره من العلويين -في تلك الأزمنة- إذا أتوا على مسألة فقهية استدلوا بمذاهب الفقه المعروفة كغيرهم من المسلمين، وفي علم العربية يستدلون بالخليل بن أحمد والكسائي وسيبويه والأخفش والأزهري، وفي القراءات يستدلون بعاصم ونافع وابن عامر وغيرهم، وهكذا في كل فنٍّ من الفنون؛ وذلك لأن أهل البيت ليس لهم مذهب خاصّ يتميَّزون به.
أما الشيعة الزيدية: فكتبهم الفقهية متأثرة بالفقه الحنفي بل مستقاة منه؛ وذلك لأن متقدميهم كيحيى بن الحسين الهادي تتلمذ على أئمة المعتزلة كالقاسم البلخي وغيره، وكانت المعتزلة آنذاك حنفية، فأخذوا منهم الفقه والأصول. وكذا عامة علوم الإسلام كالعربية وأصول الفقه: هم فيها عالة على أهل السنة.
ولذلك احتجَّ عالم آل البيت ابن الوزير اليماني الحسني على شيخه الزيدي قائلًا: “وأما كتُبهم في العربية وغيرها فالسيد [يعني: شيخه] لا يزال مُكِبًّا عليها ملقيًا لها كالحاجبية (مختصر ابن الحاجب) وشروحها وهو من جملة من شرحها، وكتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل لأبي حيان، وكتاب التلخيص وكتاب المنتهى وشروحه، وكتاب الجوهرة وغير ذلك”([24]).
وقال أيضًا: “ألا ترى أن المعتمد في الحديث في التحليل والتحريم في كتب الزيدية هو أصولُ الأحكام للإمام المتوكِّل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام، وقد ذكر في خطبته أنَّه نقل فيهِ من كتاب البخاري، وكتاب المزني، وكتاب الطحاوي… -إلى أن قال:- وأما كتبُ القراءات فما زال الناس معتمدين على كتاب الشاطبية، آخذين بما وجدوا فيها ممَّا ليس بمتواترٍ. وأما كتبُ العربية فلم يزل النحاة من الزيدية يقرؤون مقدمة طاهر وشرحه، وكذلك كتبُ ابن الحاجب في النحو والتصريف، مع ما اشتملت عليه من رواية اللغة والإعراب. وأما المعاني والبيان فالمعتمدُ عليه في هذه الأزمان الأخيرة كتاب التلخيص في ديار الزيدية وغيرها، وهو من رواية الأشعرية. وبعدُ، فهذه خزائنُ الأئمة مشحونة بكتب المخالفين في الحديث والفقه والتفسير والسِّيرِ والتواريخ، مشيرة إلى نقلهم عنها، واستنادهم إليها، ومنهم مصرحٌ بذلك في مصنفاته، وتكرر منه كالمنصور بالله عليه السلام، والسيد أبي طالب، والمؤيَّد باللهِ”([25]).
وأما مرويات الزيدية وكتبهم في الحديث: فمن تأمل كتب الحديث عند الزيدية سيجد أن عامة النصوص موجودة بنصِّها في كتب أهل السنة.
وفي ذلك يقول ابن الوزير: “أول كتابٍ صُنِّفَ في تجريد أدلة الأحكام من الحديث للزيدية فهو كتاب (علوم آل محمد) تأليف محمد بن منصور المرادي، وهو المعروف بأمالي أحمد بن عيسى، وهو يروي فيه عن محمد بن إسماعيل البخاري، وعن رجال الصِّحاح، وعمَّن دونهم، بل صرَّح فيه بما يقتضي قبول المجاهيل، وبعده كتاب (أصول الأحكام) للإمام المتوكل أحمد بن سليمان عليه السلام، وقد قال في خطبته: إنه نقل من (البخاري) وغيره من كتب الفقهاء، مثل كتاب الطحاوي الحنفي، وكتاب المُزني صاحب الشافعي، وكتاب محمد بن الحسن الشيباني، وكتاب الإمام هذا قد خلط الذي رُوِيَ عنهم بالذي رُوِيَ عن أهل البيت عليهم السلام من غير تمييزٍ لأحدهما عن الآخر بصريح لفظ ولا رمزٍ في خطٍّ ولا قاعدةٍ ذكرها في خطبة الكتاب، والزيدية مجمعون على الرجوع إليه، والمجتهدون منهم معتمدون في معرفة أدلة الأحكام عليه في قدر أربعمئة سنةٍ، ما أنكر ذلك منكرٌ”([26]).
وقال في موضعٍ آخر: “فإنَّ أبا طالب يروي في أماليه عن شيخه في الحديثِ الحافظِ الكبير أبي أحمد عبدِ الله بن عدي، يُعرف بابن عدي وبابنِ القطان أيضًا، وهو صاحبُ كتاب (الكامل) في الجرح والتعديل، وأحد أئمة الحديث في الاعتقاد والانتقاد، وتراه إذا روى عنه، وصفه بالحافظ دونَ غيره… وكذلك شيخُ المؤيَّدِ بالله في الحديث هو الحافظُ الكبير محمد بن إبراهيم الشهير بابن المقرئ، وعامةُ رواية المؤيَّد بالله للحديث في (شرح التجريد) عنه عن الطحاوي الحنفي، وكذلك أبو العباس الحسني قد روى عن إمامِ المحدثين وابن إمامهم صاحب (الجرح والتعديل) عبد الرحمن بن أبي حاتم”([27]).
ثم أخذ ابن الوزير يُعدِّد أئمتهم العلويين الذين تتلمذوا على أهل الحديث ونقلوا عنهم، بل ونصوا على النقل عنهم.
ثناؤهم على فقهاء أهل السنة:
ومن ذلك ما يرويه السيد أبو طالب العلوي -وهو من علماء الزيدية (424هـ)- في أوائل (أماليه): “عن أبي العباس أحمد إبراهيم الحسني، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن سلام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن منصور، قال: كنتُ عند القاسم بن إبراهيم([28]) بالقريتين، فجرى ذكر الشافعي، فأثنى عليه خيرًا، فقلنا له: رأيته؟ فقال: كان صديقي والمختص بي، وما رأيتُ في إخواننا الفقهاء أشد تحقيقًا منه”([29]).
وينقل ابن الوزير ثناء الإمام المنصور بالله العلوي على أئمة المذاهب الأربعة قائلًا: “وقد أثنى الإمام المنصور بالله على أحمد بن حنبل في (المجموع المنصوري)، وفي الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان، وعلى سائر أئمة الفقهاء الأربعة، وصرح الإمام المنصور فيها بصحة موالاتهم لأهل البيت عليهم السلام”([30]).
رابعًا: علاقة أئمة الحديث بعلماء آل البيت النبوي بعد القرن الثالث الهجري:
في هذا المقام يحسن أن نذكر نماذج من أئمة آل البيت من أهل السنة بعد القرون الثلاثة، وقد أهملت أهل القرون الثلاثة الأولى -كعلي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وزيد بن علي والحسن المثنى وغيرهم- وذلك لأنه لا شك عندنا في كون المتقدمين من أئمة أهل السنة، كما أن جميع الفرق الإسلامية تتنازعهم، وتعتزي إليهم.
وحسبك بتوثيق أهل الحديث للمتقدمين، وقد خالطوهم وأخذوا عنهم، وأهل الحديث لا يُحابون أحدًا، ولو علموا عنهم مذهب الرفض أو الاعتزال أو غير ذلك لذكروه في كتب الجرح والتعديل، ولا يُظنُّ بأهل الحديث أنهم حابوهم من أجل القرابة، فإنَّ المحدثين ما كانوا يُحابون أحدًا حتى أولادهم وآباءهم؛ فإن من أئمة أهل الحديث من قد ضعَّف ولده وأباه، وقد ضعفوا آحاد العلويين أيضًا من جهة الحفظ، شأنهم في ذلك شأن رواة الحديث.
وقد آثرتُ في هذا المقام أن أذكر نماذج من العلويين من أهل السنة في القرن الرابع الهجري وما بعده، أي: بعد انقضاء القرون الأولى واستقرار الفِرق والمذاهب؛ وذلك حتى لا يشك المُخالف في صحة انتسابهم إلى أهل السنة من كتب التراجم، ولأدلل أيضًا أن أئمة الحديث كانوا مخالطين لأئمة أهل البيت ولم يهملوا الأخذ عنهم، وأنَّ من العلويين في العصور الوسيطة من كان مستمسكًا بطريقة آبائه وأجداده:
1- الحسن بن داود بن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي النيسابوري (355هـ).
قال الحاكم في ترجمته: “شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان، وكان من أكثر الناس صلة ومحبة وصدقة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره، صَحِبته برهة من الدهر، فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد، وبكى، وما سمعته يذكر عائشة إلا قال: الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب رسول الله، وبكى. وسمع: جعفر بن أحمد الحافظ، وابن شيرويه، وابن خزيمة”([31]).
2- ظفر بن محمد بن أحمد بن محمد بن زبارة بن عبد الله بن حسن بن علي بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب (410هـ) من شيوخ الحاكم، السيد المسند، الرئيس المجاهد، أبو منصور، العلوي الحسيني النيسابوري، البيهقي الغازي.
سمع عمه أبا علي بن زبارة، وأبا العباس الأصم، ومحمد بن علي بن دحيم الشيباني، وأبا بكر النجاد، وعلي بن عيسى بن ماتي، وخلف بن محمد البخاري الخيام، وأبا زكريا العنبري، وعدة، وانتقى عليه الحاكم، وحدَّث عنه أبو بكر البيهقي([32]).
3- أَبُو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ دَاوُدَ بن عَلِيٍّ العَلَوِيُّ، الحسنِيُّ، النَّيْسَابُوْرِيُّ، الإِمَامُ، السَّيِّدُ، المُحَدِّثُ، الصَّدُوْقُ، مُسند خُرَاسَان، الحَسيبُ، رَئِيْس السَّادَة. حَدَّثَ عَنْهُ: الحَاكِمُ، وَأَبُو بَكْرٍ البَيْهَقِيُّ([33]).
4- أبو القاسم علي بن أبي يعلى المظفر بن حمْزَة بن زَيْدٍ العَلَوِيُّ، الحُسَيْنِيُّ، الشَّافِعِيُّ، الدَّبوسِيُ.
قال الذهبي: “وَقَدِمَ بَغْدَاد لِتَدْرِيْس النَّظَامِيَة فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، فَدرَّس، وَأَملَى مَجَالِس. قَالَ السَّقَطِيُّ: أَبُو القَاسِمِ هُوَ إِمَامُ الشَّافعيَةِ، قَرَأَ القُرْآنَ وَالفِقْهَ وَالحَدِيْثَ وَالأُصُوْلَ وَاللُّغَةَ وَالعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ فَطِنًا فِي الاجْتِهَاد، وَلَهُ التَّوسعُ فِي الكَلاَمِ وَالفَصَاحَة فِي الجِدَال وَالخِصَام، أَقومُ النَّاسِ بِالمنَاظرَة، وَتحقيقِ الدّروس، وَكَانَ مُوَفَّقًا فِي الفَتْوَى”([34]).
5- محمد بن حمزة الحسني العلوي (533هــ) كان مقربًا من أهل الحديث، ومن أصحاب الإمام السلفي: قوام السُنة الأصبهاني صاحب كتاب (الحجة في بيان المحجة) ويُعظمه إذا حدَّث عنه.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي القاسم التيمي قوام السُنة الأصبهاني: “قال أبو المناقب: محمد بن حمزة العلوي: حدثنا الإمام الكبير بديع وقته وقريع دهره أبو القاسم إسماعيل بن محمد…” فذكر حديثًا([35]).
وجاء في ترجمته للقفطي:
“أنشدنا أبو المناقب محمد بن حمزة الحسني لنفسه بهمذان:
عليكم بأصحاب الحديث فإنما محبّتهم فرضٌ لذي الدين والعقل
رُعاة حديث المصطفى ورواته لحفظهم الإسناد بالضبط والنقل
وإثباتُهم ذكرَ النبيّ محمد عليه سلامُ الله في الكتب بالعقل
وكلّ حديث لم يكن فيه مُسندٌ إلى مسند كالخلّ ذاك وكالبقل([36])
6- أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي زَيْدٍ العَلَوِيُّ، الحَسَنِيُّ، البَصْرِيُّ (560هـ)، أحد رواة سنن أبي داود، واستقدمه الوزير ابن هبيرة الحنبلي للتحديث بالسنن.
قال الحافظ الذهبي: “أَبُو طَالِبٍ… العَلَوِيُّ، الحَسَنِيُّ، البَصْرِيُّ، نَقيب الطَّالبيين بِبلده، سَمِعَ مِنْ: أَبِي عَلِيٍّ عَلِيّ بن أَحْمَدَ التُّسْتَرِيّ، فَحَدث عَنْهُ بِسُنَن أَبِي دَاوُدٍ. اسْتَقدمه الوَزِيْر ابْن هُبَيْرَةَ، وَسَمِعَ مِنْهُ (السُّنَن) لأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ: الحَافِظُ أَبُو الفُتُوْحِ نَصْر بن الحُصْرِيِّ بِالسَّمَاع المُتَّصِل”([37]).
فهؤلاء نماذج من أئمة العترة الذين هم من أهل السُّنة والحديث، وليس الغرض التتبع والاستقصاء، ومن أراد التوسع فعليه بكتب التراجم.
خامسًا: موافقة العترة لعقيدة أهل الحديث:
إنَّ عقيدة المتقدمين من العترة النبوية رضي الله عنهم توافق عقيدة أهل السنة والجماعة، فهم من جملة السلف الصالح.
ولقد ائتم الإمام أحمد بن حنبل بقول جعفر الصادق عن القرآن: “ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله”([38]). وهذا الأثر رواه أجلة أهل الحديث.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد استفاض عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن: أخالق هو أم مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله، وهذا مما اقتدى به الإمام أحمد في المحنة؛ فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة“([39]).
ولقد ناقش ابن الوزير اليماني شيخه في هذه المسألة وغيرها من المسائل التي طعن بها على أهل الحديث؛ كالرؤية والقدر والقرآن والصفات، وأثبت ابن الوزير أن القول المنقول عن أكثر العترة المتقدمين ومن جاء بعدهم يوافق قول أهل الحديث، ودعَّم قوله بآثارٍ كثيرة من كتب الزيدية.
ومن ذلك ما يقوله ابن الوزير: “فإن قيل: هذا الكلام خلاف إجماع أهل البيت عليهم السلام؛ لأنهم قد أجمعوا على أنه مخلوق -يعني القرآن-، فصرحوا بذلك، وردوا على من ادعى خلافه.
فالجواب: أن هذا غير صحيح على الإطلاق؛ لأن أهل البيت عليهم السلام متقدمون ومتأخرون. فأما الصدر الأول من المتقدمين فمنهم من صرح بمثل مذهب أهل الأثر، ومنهم من لم يُنقل عنه في ذلك نفيٌ ولا إثبات. وأما المتأخرون منهم فقد صار في كل فرقةٍ وقطر من فرق الإسلام وأقطاره منهم طائفة فيهم العلم ووراثة النبوة، كما يعرف ذلك من طالع تواريخ الرجال. وقد تقدَّم في هذا الكتاب طرفٌ صالح من ذكر بعضهم في الكلام على سهولة الاجتهاد وتعسّره، وتقدَّم كلام الإمامين المنصور بالله والمؤيد بالله يحيى بن حمزة في تعذُّر معرفة إجماعهم، على أن الإجماع بعد الخلاف -لا سيما الكثير- لا يصح، كما هو مقررٌ في الأصول. وأنا أورد ما يُثلج الصدر ويقطع الريب في ذلك من نصوصهم من كتبهم الشهيرة الموجودة في خزائن أئمتهم…”([40]).
وينقل من كتب الزيدية فيقول: “وفي الجامع الكافي: إن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، وقال ذلك من أئمة العترة: زيد بن علي، وجعفر الصادق، وعبد الله بن موسى، والحسن بن يحيى وغيرهم ممن حكاه عنهم محمد بن منصورٍ، وأبو عبد الله الحسني العلوي مصنِّف (الجامع الكافي) على مذهب الزيدية، كما مرَّ تحقيقه، فلم يحتمل استخراج الكفر لأحدٍ منهم”([41]).
وفي كتب الإمامية: عن الحسين بن خالد، قال: قلت للرضا علي بن موسى عليهما السلام: يا ابن رسول الله، أخبرني عن القرآن أخالق أو مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله عز وجل([42]).
وفي (بحار الأنوار) للمجلسي: “عن اليقطيني قال: قال الرضا عليه السلام: للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه”([43]).
وما قاله عليّ الرضا رحمه الله هو نفسه عقيدة أهل السنة، وهو مما يدل على أن المتقدمين من علماء أهل البيت من جملة السلف الصالح، وليس فيهم مبتدعة.
وما ذكره الشهرستاني عن زيد بن علي من أنه تتلمذ على واصل بن عطاء أو تذاكر معه لا يصح عن زيد، فهي حكاية بلا مصدر، ولعله نقلها من بعض الزيدية الذين يريدون “شرعنة” ما هم عليه من اعتزال، واعتمد على تلك المعلومة كثير من الكتاب والصحفيين -بل والشيوخ- دون تحقيق؛ كالشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن (زيد بن علي).
وكيف يصح هذا وقد نشأ زيد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عن أجلة أهل البيت كأبيه علي زين العابدين وغيره، وعن أجلة التابعين كسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ونافع، ثم يأخذ عن مبتدع مقطوع العلم؟! كما أن أئمة أهل الحديث وكتب الرجال لم يذكروا عنه هذا المذهب.
ومما يدل على خطأ نسبة هذا المذهب إليه: أنه قد جاء رجل إلى زيد بن علي فقال له: أنت الذي تزعم أن الله تعالى أراد أن يُعصى؟ فقال زيد بن علي: أفيعصى عنوة؟!([44]).
وهذا صريح مذهب أهل السنة، وهو مما يُبرئ زيدا من بدعة الاعتزال.
وقد رفض ابن الوزير كلام الشهرستاني من أن زيدًا قد أخذ مذهب الاعتزال، أو أنه كانت بينه وبين أخيه محمد الباقر مناظرات في ذلك.
يقول العلامة ابن الوزير: “فهذا من الأباطيل بغير شك، ولعله من أكاذيب الروافض، ولم يورد له الشهرستاني سندا ولا شاهدا من رواية الزيدية القدماء، ولا من رواية علماء التاريخ، ولا الشهرستاني ممن يوثق به في النقل، وكم قد روى في كتابه هذا من الأباطيل المعلوم بطلانها عند أئمة الشأن… ولو كان الشهرستاني كامل المعرفة والإنصاف لذكر مع ما ذكره ما هو أشهر منه في كتب الرجال، وتواريخ العلماء، وأئمة السنة، وفي (الجامع الكافي)، ثم ذكر الراجح بين النقلين، وقواه بوجوه الترجيح.. ومما يدل على عدم تحقيقه في معرفة الرجال أنه عد زيد بن علي من أتباع المعتزلة، ثم ذكر بعد ذكر الإمامية جماعة جلّة من أئمة السنة ورواة الصحاح، وعدهم من أتباع زيد بن علي، وسماهم زيدية، بل عدهم من مصنفي كتب الزيدية منهم: شعبة، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومنصور الأسود، وهارون بن سعد العجلي، وعبيد الله بن موسى، والفضل بن دكين، وعلي بن صالح، ويزيد بن هارون، والعلاء بن راشد، وهيثم بن بشير، والعوام بن حوشب، ومستلم بن سعيد، وجعلهم كلهم مثل أبي خالد الواسطي في الدعاء إلى مذهب الزيدية، والتأليف فيه.. فكيف يصح هذا مع كون مذهب زيد والزيدية هو مذهب المعتزلة، وفي هؤلاء رؤوس خصوم المعتزلة لولا عدم معرفته وتحقيقه في أحوال الرجال؟!”([45]).
هذا آخرُ ما تيسَّر ذكره من وجوه الرد، ونسأل الله التوفيق والسداد.
وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) المستدرك على الصحيحين (324).
([3]) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 251).
([8]) الوافي بالوفيات (20/ 232)، لسان الميزان (8/ 429).
([9]) أخرجه مسلم (2408) من حديث زيد بن أَرقمَ رضي الله عنه.
([10]) المفهِم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم (20/ 51).
([11]) أخرجه أبو داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (17213). وصحَّحه الألباني.
([12]) أخرجه البخاريُّ (5063)، ومسلم (1401)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([13]) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذيُّ (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17184)، من حديث العِرباض بن ساريةَ رضي الله عنه. قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيح.
([15]) منهاج السنة النبوية (7/ 393-397).
([18]) ينظر: تهذيب التهذيب، الحافظ ابن حجر (1/ 575).
([19]) مجموع الفتاوى (27/ 122).
([21]) ذكر الدكتور الشيعي محمد هادي الأميني مشيخة الشريف الرضي في مقدمة كتابه: خصائص الأئمة عليهم السلام (ص: 3)، ولم يذكر له شيخًا غيره في الفقه.
([22]) سير أعلاء النبلاء (17/ 235).
([23]) حقائق للشريف الرضي (ص: 86).
([24]) العواصم والقواصم (2/ 85).
([25]) العواصم والقواصم (2/ 335-337).
([26]) العواصم والقواصم (5/ 67).
([27]) العواصم والقواصم (2/ 335-337).
([28]) هو القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
([29]) ينظر: العواصم والقواصم (3/ 134).
([30]) العواصم والقواصم (2/ 268).
([31]) تاريخ الإسلام (26/ 122).
([32]) سير أعلام النبلاء (17/ 263).
([33]) سير أعلام النبلاء (17/ 98).
([34]) سير أعلام النبلاء (19/ 93).
([35]) سير أعلام النبلاء (20/ 83).
([36]) المحمدون من الشعراء، للقفطي (ص: 193).
([37]) سير أعلام النبلاء (20/ 424).
([38]) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 151).
([40]) العواصم والقواصم (1/ 123).
([41]) العواصم والقواصم (5/ 67).
([42]) التوحيد، للصدوق (ص: 223).
([44]) ينظر: تاريخ الإسلام (8/ 107)، تذهيب التهذيب (3/ 257).