التحقيق في موقف ابن الزَّمْلَكَاني من ابن تيّمِيَّة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
يُعتَبَر ابن الزَّمْلَكَاني الذي ولد سنة 667هـ مُتقاربًا في السنِّ مع شيخ الإسلام الذي ولد سنة 661هـ، ويكبره شيخ الإسلام بنحو ست سنوات فقط، وكلاهما نشأ في مدينة دمشق في العصر المملوكي، فمعرفة كلٍّ منهما بالآخر قديمة جِدًّا من فترة شبابهما، وكلاهما من كبار علماء مذهبِه وعلماء المسلمين.
كما أنهما عايشا نفسَ الظروف والأحداث التي مرّت بالمسلمين خاصَّتِهِم وعامَّتِهم في تلك الحقبة([1])، وكانت وفاتهما متقاربة حيث توفي ابن الزَّمْلَكَاني في شعبان سنة 727هـ، وتوفي ابن تيمية بعده بسنة وأشهر، في ذي القعدة سنة 728هـ.
وفي هذه الورقة نعرض موقفَ ابن الزَّمْلَكَاني من ابن تيمية، وسيكون ذلك في بندين:
البند الأول: التعريف بابن الزَّمْلَكَاني.
البند الثاني: عرض مَحَطّات في علاقة ابن الزَّمْلَكَاني بابن تيمية.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولًا: التعريف بابن الزَّمْلَكَاني:
- اسمه ونسبه ونسبَتُه:
هو كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي بن عبد الوحد الأنصاري السِّمَاكِي، المعروف بابن الزَّمْلَكَاني، نسبة إلى زملكا، وهي اليوم تتبع ريف دمشق.
أما نسبة (السِّمَاكِي) فلأنّ نسبَهُ ينتهي إلى الصحابي الجليل أبي دجانة سماك بن خرشة الأنصاري رضي الله عنه([2]).
- ثناء العلماء عليه:
ترجم الإمام الذهبي ابنَ الزَّمْلَكَاني في معجم شيوخه بقوله: (قاضي القضاة جمال الإسلام، علم السنة، شيخنا جمال الدين أبو المعالي الأنصاري الزَّمْلَكَاني الدمشقي الشافعي.
ولد سنة سبع وستين وست مائة.
وسمع من ابن علان والفخر علي وطائفة، وتفقه بالشيخ تاج الدين([3])، درس وأفتى وصنف، وتخرج به الأصحاب، وولي المناصب الكبار، ثم تحول إلى قضاء البلاد الحلبية([4]).
سمعت منه في الأنصاري والأربعين العالية له، وحدثت عنه بحضرته.
وكان ذكيًّا، مُجتهدًا، من أئمة السنة)([5]).
وترجمه في (المعجم المختص بالمحدثين)، ولقَّبه بـ(عالم العصر)، قال: (ونظر في الرجال والعلل شيئًا، وكان عذْبَ القراءة سريعَهَا، وكان من بقايا المجتهدين، ومن أذكياء أهل زمانه. دَرَّسَ، وأفتى، وصَنَّف، وتخرج به الأصحاب)([6]).
وقال العلامة ابن الوردي: (كان رحمه الله غزير العلم، كثير الفنون، مسدَّد الفتاوي، دقيق الذهن، صحيح البحث، حَسَن الخُلُق، جميل الوجه، طيب الصوت، بعيد الصيت، جيد الخط، سخي النفس، صحيح الاعتقاد، بليغ النظم والنثر. ولقد رأيتُ كبارَ مشايخِنَا لا يعدلون به عالمًا في زمانه، ولا يُشبِهُه عندهم أحد من أقرانه)([7]).
وقال الإمام ابن كثير -وهو من تلاميذه-: (وأما دروسه في المحافل فلم أسمع أحدًا من الناس درَّس أحسن منها، ولا أجلى من عبارته، وحسن تقريره، وجودة احترازاته، وصحة ذهنه، وقوة قريحته، وحسن نظمه، وقد درس بالشامية البرانية، والعذراوية، والظاهرية، والجوانية، والرواحية، والمسرورية، فكان يعطي كل واحدة منهنّ حقَّها، بحيث كان يكاد ينسخ بكل واحد من تلك الدروس ما قبلَه من حسنه وفصاحته، ولا يهوله تعداد الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمع أكثر والفضلاء أكبر كان الدرس أنضر وأنظر، وأجلى وأنصح وأفصح)([8]).
- مَسلَكُه في الاعتقاد والفقه والسلوك:
ينتمي ابن الزَّمْلَكَاني في أصول الدين للمدرسة الأشعرية، وقد اعتنى علماء ذلك العصر من الأشاعرة بكتُب الرازي غايةَ الاعتناء؛ ولذا نجد الصفدي في ترجمة ابن الزَّمْلَكَاني يذكر عنه أنه كان يحفظُ كتاب (المُحَصَّل في أصول الدين) للفخر الرازي([9]).
ويلاحَظُ تأثُّره بمنهجية الفخر الرازي في كتابه (تحقيق الأولى من أهل الرفيق الأعلى) حيث انطلق عند بحثه مسألة عصمةِ الأنبياء من كلام الرازي في (المحَصَّل)([10])، وهذا لا يعني أنه لم تكن له تحقيقات وأبحاث يستقلُّ بها.
ومما يدلّ على أشعريَّتِه ما جرى في المجلس الثالث من المناظرة في الواسطية، حيث نقل بعض الحضور (وهو الشيخ صدر الدين ابن الوكيل) كلامًا فيه تكفير من قال بخلق حروف القرآن، فأنكر ذلك الشيخُ كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني، وغضب غضبًا شديدًا، ورفعَ صوته، وقال: (هذا يُكفِّر أصحابَنَا المُتكَلِّمِين الأشعريَّة الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة، مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبِرُ على تكفير أصحابنا)([11]).
ومن القصص الطريفة التي تتعلق باشتغالات ابن الزَّمْلَكَاني العلمية ما ذكره صلاح الدين الصفدي بقوله: (حكى لي الشيخ نجم الدين الصفدي رحمه الله تعالى قال: قلتُ له: فرَّطت في المنطق! فقال: كان بدمشق أيام طلبي له شخص يعرف بالأفشنجي، وكنتُ قد تميزت ودرَّست -أو قال: وأفتيت-، فكنتُ أتردَّدُ إليه على كُرْهٍ مني، والعلمُ في نفسِهِ صعب، وعبارة الأفشنجي فيها عُجْمَة، فإذا أردتُ منه زيادةَ بيانٍ أو قلت له: ما ظهر، قال: جاء، وأدار وجهه عني، فأنفتُ من تلك الحالة، وبطلت الاشتغال، أو كما قال).
قال الصلاح الصفدي معلقًا: (أغناه ذهنُه الثاقب وفكرُه الصائب. على أنه كان يعرف منه ما يحتاج إليه في أصول الفقه من معرفة التصوُّر والتصديق، ودلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام، والضرب من الشكل المنتج والكاذب، ومواد البرهان، والمقدم والتالي، وقياس الخلف، وغير ذلك مما يدخل في الأصولين معرفة جيدة، يتسلَّطُ بها على باقي الفنّ، أما أنه كان يطلب منه أن يُشغل في مختلطات كشف الأسرار للخونجي فلا)([12]).
وأما في الفروع فقد كان شافعيًّا، وأخذ الفقه عن كبار أئمة الشافعية في ذلك العصر كالشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري([13])، والشيخ شهاب الدين الخويي([14])، وله شرح على قطعة من (المنهاج)([15]).
ولتقدّمه في الفقه الشافعي سمّاه الذهبي: عَلَم الشافعية، وأمير الشافعية([16])، وسمّاه ابن تيمية: مفتي الشافعية([17])، وقال ابن كثير في ترجمته: (شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريسًا وإفتاء ومناظرة)([18]).
غير أن ابن الزَّمْلَكَاني لم يكن من غلاة المذهبية، ويدل على ذلك فتيا جليلة له في اتباع الحديث والخروج من المذهب لذلك، قال فيها: (وأما إلزام العامي أن لا يأخذ إلا بمذهب إمام معين فطريق غير طريق السلف الصالح، والعجب في هذا من أصحاب الشافعي رضي الله عنه، مع ضيق مذهب إمامهم في التقليد، ومنعه منه، ونهيه عنه)([19]).
وأمّا في التصوّف والسلوك فثمة شواهد عديدة على إنكار ابن الزَّمْلَكَاني لكثير من البدع والمنكرات التي انتشرت في بلاد الشام، كإنكاره بعض ما كانوا يفعلونه في الجامع الأموي ليلة النصف من شعبان([20])، وفتواه بتحريم الاجتماع بمشهد روحين ودير الزربة وأشباههما، ومنع من شد الرحال إليه، وكان ذلك في آخر عمره في فترة ولايته قضاء حلب([21]). وسيأتي انتصار ابن تيمية به في إنكاره على الرفاعية.
غير أن له كلامًا في كتابه (تحقيق الأولى من أهل الرفيق الأعلى) يثني فيه على ابن عربي الاتحادي، حيث نقل من كلامه في كتابه (الفتوحات المكية) في (فضل الصديقية) ، وسمى ابن عربي: (البحر الزاخر في المعارف الإلهية)([22])، ولعلَّه ما طالع كتابه (الفصوص)، ولم يطَّلع على كلامه في الاتحاد، فقد كان حال ابن عربي خفيًّا على كثير ممن لم يطالع كتابه (الفصوص)، ويعرف حاله على جليّته([23]).
ثانيًا: عرض مَحَطّات في علاقة ابن الزَّمْلَكَاني بابن تيمية:
- الثناء المبكّر لابن الزَّمْلَكَاني على ابن تيمية:
نقل لنا الذهبي ثناءً قديمًا لابن الزَّمْلَكَاني على ابن تيمية مؤرّخًا بسنة بضعٍ وتسعين، كما في النسخة من ترجمة الذهبي لابن تيمية التي نقل منها ابن رجب([24]).
قال الذهبي: (قرأتُ بخطِّ شيخِنَا العلامةِ كمال الدين -عَلَم الشَّافعيَّة([25])– في حقِّ ابن تيمية: كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم بأن لا يعرفه أحد مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء. ولا يُعرَف أنَّهُ ناظرَ أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم -سواء كان من علوم الشرع أو غيرها- إلا فاق فيه أهله. واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها كما يجب)([26]).
وحُفِظَ عن ابن الزَّمْلَكَاني ثناءٌ كثير يكتُبُه على نسخ من الكتب الأولى التي صنفها شيخ الإسلام ابن تيمية بدمشق، كـ(الصارم المسلول) الذي صنفه الشيخ سنة 693هـ، حيث كتب: (تأليف العالم العلامة والبحر الفهّامة، ناصر السنّة وقامع البدعة، شيخ الإسلام وبحر العلوم، أبي العبّاس أحمد ابن العالم الفاضل عبد الحليم، ابن الشيخ الصالح أبي البركات ابن تيمية الحراني)([27]).
وكتب على نسخة من (بيان الدليل على بطلان التحليل): (من مصنفات سيدنا وشيخنا وقدوتنا، الشيخ السيد الإمام العلامة، الأوحد البارع الحافظ، الزاهد الورع القدوة، الكامل العارف، تقي الدين شيخ الإسلام ومفتي الأنام، سيّد العلماء قدوة الأئمة الفضلاء، ناصر السنة قامع البدعة حُجَّة الله على العباد، رادّ أهل الزَّيغ والعناد، أوحد العلماء العاملين، آخر المجتهدين، أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيميَّة الحرَّاني. حفظ الله على المسلمين طول حياته، وأعاد عليهم من بركاته، إنه على كل شيء قدير) ([28]).
وكتب على نسخة من (رفع الملام عن الأئمة الأعلام): (تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة، الأوحد الحافظ المجتهد، الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، بُرْهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة ومَنْ عَظُمت به لله علينا المِنّة، وقامت به على أعدائه الحجّة، واستبانت ببركته وهديه المَحجّة: تقيّ الدين أبي العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني. أعلى الله منارَه وشيَّد به من الدين أركانَه.
ماذا يقول الواصفون له … وصفاته جلَّت عن الحصر
هو حُجّةٌ لله قاهرة … هو بيننا أعجوبة الدَّهر
هو آيةٌ للخلق ظاهرة … أنوارُها أربت على الفجر)([29]).
قال ابن عبد الهادي: (وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة)([30]).
وعلّق الصفدي على تلك الأبيات بقوله: (والذي أراه أن هذه الأبيات كتبها الشيخ كمال الدين في حياة الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، لأنه كان يخالفه ويريد أن ينتصر عليه بالشيخ تقي الدين ابن تيمية، والله أعلم)([31]).
وقد يدل على سوء العلاقة بين ابن الزَّمْلَكَاني وابن الوكيل تلك الملاسنة بينهما في المجلس الثالث من مجالس المناظرة في الواسطية، وقد قص شيخ الإسلام ما جرى بينهما بالتفصيل([32])، وسيأتي.
لكن حاصل ما ذكره الصفدي أن ثناء ابن الزَّمْلَكَاني على الشيخ يرجع لأهدافه الخاصة، ولا يستلزم أن يكون متأثِّرًا به، وهذا لا يُسلَّم للصفدي، فإن ثناءه عليه فيه ما يدلّ على التأثر كقوله: (وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء).
وقال ابن فضل الله بعد أن ذكر هذه الأبيات: (ثم نزغ الشيطان بينهما، وغَلَبَت على ابن الزَّمْلَكَاني أهويته، فمال عليه مع من مال)([33]).
وقد أشار ابن فضل الله في ترجمة الإمام مؤرخ الشام علم الدين البرزالي إلى سعيه المتكرر في الإصلاح بين ابن تيمية والبرزالي، وفشله في ذلك، فقال: (يصحب الخصمين وهما من هما، والنَّظيرين والضِّرغامة الأسد منهما، وكل منهما راضٍ بصُحْبته، واثق به لا يعده إلا من أحبته.
كان عند شَيْخَي الإسلام آخر المجتهدين: ابن تيمية وابن الزَّمْلَكَاني وما منهما إلّا من هو عليه مرتبط وبه مغتبط، يذيع إليه سره في صاحبه، ويتبسّط لديه في معاتبه، وهو ساكت لا ينطق بحرف، ولا يشارك حتى ولا بإيماء طرف.
وعُرِفَ بهذا واشتُهِرَ؛ حتى صارَ عندهما موضع الثقة، ومكان المقة، ومحل الصَّداقة المحققة، ثم كان يسعَى في صلاح ذات بينهما فيعجز، ويعده كل منهما به ولا يُنجِز، فأغمَدَ لسانَه، وتركَ كُلَّ امرئٍ منهُمَا وشانه)([34]).
ولعل الصفات الشخصية لابن الزَّمْلَكَاني كان لها دور في ذلك، قال الصفدي في ترجمته: (وكان الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى كثير التخيُّل، شديد الاحتراز، يتوهَّم أشياء بعيدة ويبني عليها)([35]).
هذا، وقد نُقِل عن ابن الزَّمْلَكَاني ثناءٌ على ابن تيمية دون تأريخ، قال الحافظ ابن رجب: (وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزَّمْلَكَاني أنه سئل عن الشيخ، فقال: لم يُرَ من خمسمائة سنة -أو: أربعمائة سنة، الشك من الناقل، وغالب ظنه أنه قال: من خمسمائة- أحفظ منهُ)([36]).
وسيأتي نقل ابن الوردي عن ابن الزَّمْلَكَاني بعض الثناء على الشيخ بعد سنة 724هـ، وكان ذلك في أواخر حياته.
- انتصار ابن تيمية بابن الزَّمْلَكَاني على الرفاعية:
كان شيخ الإسلام يعرف لابن الزَّمْلَكَاني إمامته، لا سيما في المذهب الشافعي، ويستشهد به على المبتدعة، وهذا يؤكِّد حِرْصَ ابن تيمية على بيان موافقة علماء عصره له، وتأصيل مقولاته في كلام علماء عصره، وغيرهم من العلماء المعظّمين عند المدعُوِّين، تحقيقًا لمصلحة دعوية كبرى، وهي مراعاة حال المدعُوِّين وظروفهم وبيئتهم.
حيث حضر ابن الزَّمْلَكَاني مناظرة ابن تيمية مع الرفاعية في 9/ 5/ 705هـ، والتي كانت بحضور أمير دمشق جمال الدين الأفرم.
يقول ابن تيمية في ما كتبه من خبر هذه المناظرة عند ذِكْرِه رفضَ أحد الرفاعية ما قرره ابن تيمية من بدعية لبس الأطواق: (فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء، ونحن قوم شافعية.
فقلتُ له: هذا غير مستحبّ ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين؛ بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعدّه بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزَّمْلَكَاني مفتي الشافعية، ودَعَوْتُه، وقلتُ: يا كمال الدين، ما تقولُ في هذا؟
فقال: هذا بدعةٌ غير مستحبة، بل مكروهة، أو كما قال)([37]).
- ابن الزَّمْلَكَاني مُنَاظِرًا لابن تيمية في (العقيدة الواسطية):
كان ابن الزَّمْلَكَاني أحد الذين بحثوا مع شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية عندما طلبت الدولة منهم ذلك، وحضر المجالس التي عقدت بدمشق بحضور نائبها، وفي المجلس الثاني الذي عقد في 12/ 7/ 705هـ اتفقوا على أن يكون الشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني هو الذي يناظر شيخ الإسلام.
قال البرزالي: (فحاقَقَهُ وبحث معه من غير مسامحة، ورضوا بذلك عن الشيخ كمال الدين وعظّموه وأثنوا عليه وعلى بحثه وفضائله)([38]).
وعَلَّق ابن كثير بقوله -كالشارح لما جرى-: (وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزَّمْلَكَاني، وجودة ذهنه، وحسن بحثه، حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه)([39]).
وأشار ابن ناصر الدين إلى مناظراتهما معًا بقوله: (تولى مناظرة شيخ الاسلام ابن تيمية غير ما مرة، ومع ذلك فكان يعترف بإمامته، ولا ينكر فضله ولا بره)([40]).
قال ابن تيمية في ذكره لأحداث المناظرة: (وقلتُ في ضمنِ الكلام لصدر الدين ابن الوكيل -لبيانِ كثرة تناقُضِه وأنَّه لا يستقرُّ على مقالةٍ واحدة، وإنَّما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين-: عندي عقيدةٌ للشيخ أبي البيان، فيها أن من قال: «إن حرفًا من القرآن مخلوقٌ» فقد كفر، وقد كتبتَ عليها بخطِّك أنَّ هذا مذهبُ الشافعيِّ وأئمَّة أصحابه، وأنَّك تدينُ الله بها، فاعترَف بذلك. فأنكر عليه الشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني ذلك.
فقال ابن الوكيل: هذا نصُّ الشافعي! وراجعَهُ في ذلك مرارًا.
فلما اجتمعنا في المجلس الثاني ذكر لابن الوكيل أنَّ ابن درباس نقل في كتاب «الانتصار» عن الشافعي مثل ما نقلت.
فلما كان في المجلس الثالث أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك، فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين ابن الوكيل: قد قلتَ في ذلك المجلس للشيخ تقيِّ الدين: «إنه من قال: إن حرفًا من القرآن مخلوقٌ فهو كافر»! فأعادَه مرارًا.
فغضب هنا الشيخُ كمال الدين غضبًا شديدًا، ورفعَ صوته، وقال: هذا يُكفِّر أصحابَنَا المُتكَلِّمِين الأشعريَّة الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة، مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبِرُ على تكفير أصحابنا.
فأنكر ابنُ الوكيل أنَّه قال ذلك، وقال: ما قلتُ ذلك، وإنَّمَا قلتُ: إن من أنكر حرفًا من القرآن فقد كفر.
فردَّ ذلك عليه الحاضِرُون، وقالُوا: ما قُلتَ إلا كَذَا وكذا. وقالُوا: ما ينبغي لك أن تقُولَ قولًا وترجعَ عنه. وقال بعضُهم: ما قال هذا؟! فلمَّا حَرَّفُوا قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائبُ السُّلطانِ «الأفرم»: واحد يكذب، وآخر يشهد!
والشيخُ كمال الدين مُغضب، فالتفَتَ إلى قاضي القُضَاة نجم الدين ابن صَصْرى الشافعي يستصرِخُه للانتصار على ابن الوكيل حيثُ كفَّر أصحابَه.
فقال القاضي نجم الدين: ما سمعتُ هذا!
فغضب الشيخ كمال الدين، وقال كلامًا لم أضبط لفظه، إلا أن معناه: إن هذا غضاضة على الشافعيَّةِ وعارٌ عليهم أنَّ أئمَّتَهم يُكفَّرُون ولا يُنتَصر لهم.
ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حَقِّ القاضي نجم الدين، واستثبتُّ غيري ممن حضر: هل سمع منه في حقه شيئًا؟ فقالوا: لا، لكن القاضي اعتقد أنَّ التعيير لأجلِه، ولكونه قاضي المذهب، ولم ينتصر لأصحابِه، وأنَّ الشيخ كمالَ الدين قَصَدُه ذلك.
فغضبَ قاضي القضاة نجم الدين، وقال: اشهدُوا عليَّ أنِّي عزلتُ نفسي.
وأخذ يذكُرُ ما يستحقُّ به التَّقديمَ والاستحقاقَ، وعِفَّتَه عن التكلُّم في أعراض الجماعة، ويستشهدُ بنائب السلطان في ذلك.
وقلتُ له كلامًا مضمونُه تعظيمُه واستحقاقُه، لدوام المباشرة في هذه الحال)([41]).
وكانت نتيجة مجالس المناظرة في الواسطية -التي كان أحد أهمّ حضورها- تبرئة شيخ الإسلام من الابتداع، وأنه على مذهب السلف([42]).
ولم ينقل عن ابن الزَّمْلَكَاني أي تغير في هذا الموقف، بأن يرمي الشيخ بالتجسيم والابتداع، كما يذهب إليه أعداؤه، وإنِ ادُّعي أنه قال ذلك مكرهًا فهو خلاف الأصل.
وفي هذا أبلغ ردٍّ على محمد زاهد الكوثري في دعواه أن العلماء كانوا يتراجعون عن الثناء على الشيخ بعد إظهاره بدعه (وذكر منهم الزَّمْلَكَاني)([43])، فإن أعظم ما ينقمه الخصوم على شيخ الإسلام بدعة التجسيم، وما وجدنا ابن الزَّمْلَكَاني يرميه بذلك في وقت من الأوقات، مع علمِ كلٍّ منهما بمسلك الآخر وطريقته.
بل إن ابن كثير نقل عنه في أحداث محنة شيخ الإسلام أن القائمين على المحنة حاولوا الإضرار به في أكثر من موطن بسبب انتسابه للشيخ في سنة 706هـ([44])، ونقل أيضًا إشارة نصر المنبجي بعزله من بعض وظائفه سنة 709هـ([45]).
ويجدر هنا توضيح أمرٍ، وهو أنه لا يلزم أن يكون كلُّ أشعريٍّ قائلًا بتبديع الشيخ، ونسبَتِه إلى التجسيم، والقولِ باستحقاقه العقوبة وإراقة الدم، كما كان قصد القائمين على المحنة، وتتبع شواهد هذا له موضع آخر.
- رد ابن الزَّمْلَكَاني على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة:
مسألتا الطلاق والزيارة حصل الجدل حولهما في وقت متأخِّر في العقد الأخير من حياة ابن تيمية، حيث حُبِسَ ابن تيمية بسبب مسألة الطلاق في دمشق في الفترة (22/ 7/ 720هـ-10/ 1/ 721هـ)، وحُبِسَ بسبب مسألة الزيارة في قلعة دمشق في الفترة (6/ 8/ 726هـ-20/ 11/ 728هـ).
نجد أن ابن الزَّمْلَكَاني قد خالف شيخ الإسلام في ما ذهب إليه في المسألتين، والدليل على ذلك ما ذكره المترجمون له من تصنيفه كتابين في الردّ على شيخ الإسلام في الطلاق والزيارة([46]).
وهذان الكتابان لم يريا النور([47])، فلا يمكننا تكوين تصوّرٍ كافٍ عن معالم رأي ابن الزَّمْلَكَاني، غير أننا نستطيع أن نصل إلى بعض النتائج المتعلقة بموقف الزَّمْلَكَاني من ابن تيمية في هاتين المسألتين كما يأتي:
أولًا: لا يلزم من المخالفة في هاتين المسألتين والتصنيف في الرد على ابن تيمية فيهما تبديعُه أو تكفيره، فمن العلماء من خالف ابن تيمية في هاتين المسألتين لكنهم عذروه في اجتهاده فيهما، ولم يَذْهَب إلى تبديعه أو تكفيره في هاتين المسألتين إلا من لا يعتدُّ بقوله.
وابن الزَّمْلَكَاني قد ذكر أن شيخ الإسلام قد بلغ رتبة الاجتهاد، فمثله يعذر في خطئه، وله فيه أجر واحد، وهذا ما بينه ابن حجر في ردّه على العلاء البخاري: (وليس في تسميته بشيخ الإسلام ما يقتضي الكفر، فإنه شيخ مشايخ الإسلام في عصره بلا ريب، والمسائل التي أُنكِرَت عليه ما كان يقولها بالتشهّي، ولا يُصرُّ على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه.
ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه -وهو الأكثر- يُستَفَاد منه ويُترحَّم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلَّد فيه، بل هو معذور؛ لأن علماء الشريعة شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه العاملين في إيصال الشر إليه -وهو الشيخ كمال الدين الزَّمْلَكَاني- شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين بن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره)([48]).
ثانيًا: العالم قد يوافق ابن تيمية في مسألة، ويخالفه في أخرى، ولا يلزم من محبته الموافقة التامة في كل ما قالَه، بل قد يكون الرجل من أشهر المحبين له وهو يخالفه.
أما القول بأن العلماء أحد رجلين: إما موافقٌ لابن تيمية في جميع ما قالَهُ فهو حينئذٍ من أحبابه وأوليائه، أو مخالف له في شيء مما قاله فهو حينئذٍ من أعدائه وخصمائه، فهو قولٌ ظاهر البطلان.
ومن أمثلة ذلك أنك تجد الإمامَ عليًّا ابنَ أبي العز الحنفي مع شدّة متابعته للشيخ، واستفادته من كتبه، بحيث ينقل عنه وعن تلميذه ابن القيم النقول المطولة في مسائل الاعتقاد، كما هو معلومٌ من تصرّفه في كتاب (شرح العقيدة الطحاوية)، مع ذلك لم يكن متابعًا له في كل ما انتقد عليه من المسائل؛ فإنه تردد في متابعته في مسألة الطلاق، حيث قال لما وصل إليها في تعليقاته على كتاب (الهداية) في فقه الحنفية: (وقد صَنَّفَ في هذه المسألة الشيخُ تقيُّ الدين ابنُ تيميَّة مصنفاتٍ، لكنه منفرد عن الجماعة، والمسألة مَهِيْبَة؛ لأن الأئمة الأربعة على وقوع الثلاث)([49]).
وليس القصد أن ابن الزَّمْلَكَاني كان كابن أبي العز في التأثُّر بابن تيمية، ولكن القصد أن مخالفته له في مسألة الطلاق ومسألة الزيارة وتصنيفه فيهما لا يصلح دليلًا على عداوته له.
ثالثًا: ثمّة إشارات إلى كون ابن الزَّمْلَكَاني لم يكن من غلاة المذهبية، تقدّم ذكر بعضها عند الكلام عن مسلكه الفقهي، مما يستبعد معه أن يذهب إلى القول بتكفير الشيخ أو تبديعه بسبب اختياراته الفقهية.
رابعًا: وجدتُ العلامة بدر الدين الزركشي في (البحر المحيط) ينقل بعض كلام ابن الزَّمْلَكَاني في الرد على ابن تيمية في مسألة الزيارة، وليس فيه تبديع ولا تكفير([50]).
خامسًا: ذكر ابن الوردي في نهاية ترجمته لابن تيمية من تاريخه ما نَصُّه: (تنقَّص مرة بعض الناس من ابن تيمية عند قاضي القضاة كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني وهو بحلب، وأنا حاضر، فقال كمال الدين: ومن يكون مثل الشيخ تقي الدين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه؟! والله لولا تعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب).
وهذه الحادثة وقعت بعد سنة 724هـ، وهي السنة التي تولّى فيها ابن الزَّمْلَكَاني قضاء حلب، وكانت بعد فتياه في مسألة الطلاق، وفيها ثناء واضحٌ على الشيخ، باستثناء ما ذكره مِن تعرُّض الشيخ للسلف، وهي دعوى غير صحيحة([51]). لكن القصد أنه لو بدَّعه أو كفّره بسبب كلامه في مسألة الطلاق لما أثنى عليه بما تقدّم.
- هل أراد ابن الزَّمْلَكَاني الحُكمَ بقتل ابن تيمية في آخر حياته؟
تولى ابن الزَّمْلَكَاني قضاء حلب سنة 724هـ كما تقدّم، ثم صُرِفَ عنها، فدخل إلى دمشق سنة 727هـ، وطلبه السلطان الناصر محمد بن قلاوون على البريد ليولِّيَهُ قضاء دمشق بعد شغور ذلك المنصب بانتقال قاضي قضاة دمشق الشيخ جلال الدين القزويني إلى القاهرة، وقد توجه إلى القاهرة، فمات وهو في الطريق ببلبيس، ولم يكتب له أن يباشر ولاية قضاء القضاة بدمشق.
في تلك الأثناء كان ابن تيمية معتقلًا بسجن القلعة بدمشق، بسبب فتياه في مسألة الزيارة، وقد بقي معتقلًا فيها إلى أن توفي سنة 728هـ، وكانت هذه المحنة من أشدّ المحن على شيخ الإسلام، وقد رماه مخالفوه ظُلْمًا بتهمة توجب إراقة الدم، وهي التنقيص من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في عدد من النسخ الخطية من كتاب (البداية والنهاية) للإمام ابن كثير عند ترجمة ابن الزَّمْلَكَاني في سنة وفاته: (وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متولّيًا أن يؤذِيَ شيخَ الإسلام ابن تيمية، فدعا عليهِ، فلم يَبلُغ أملَه وَمُرَادَه)([52]).
وجادل الدكتور بشار عوّاد معروف في صحة نسبة هذه العبارة بعدم ورودها في جميع النسخ الخطية، فلم يُثبِتْها في أصل الكتاب، وأشار في الهامش إلى أنها مقحمة، واستدل لذلك بثناء ابن كثير البالغ على شيخه ابن الزَّمْلَكَاني في تلك الترجمة، المنافي لأن يقول فيه مثل هذا. يقول: (ولا أظن أن ابن كثير كتب هذا؛ لأنه يتناقض مع الثناء العاطر الحسن الذي أثنى عليه المؤلف)([53]).
غير أن هذا الموضع ليس الموضع الوحيد في (البداية والنهاية) الذي من هذا القبيل، فقد جاء في أحداث هذه السنة 727هـ قبل هذا الموضع بصفحات قليلة: (وفي يوم السبت عشرين شعبان وصل إلى دمشق قاضي قضاة حلب كمال الدين بن الزَّمْلَكَاني على البريد، فأقام بدمشق أربعة أيام، ثم سار إلى مصر ليتولى قضاء قضاة الشام بحضرة السلطان، فاتفق موته قبل وصوله إلى القاهرة: {وَحِيلَ بَينَهُم وَبَينَ مَا يَشتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشيَاعِهِم مِن قَبلُ إِنَّهُم كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54])([54]).
فذكرُ هذه الآيةِ في هذا الموضع فيه رمزٌ وإيماءٌ لتلك النية السيئة التي جاء التصريح بها في الموضع الآخر المتقدّم الذكر، ولم يعلق الدكتور بشار عواد عند هذا الموضع الثاني بشيء، وأثبته كسائر طبعات الكتاب.
وقال أبو حفص عمر البزار في ترجمته لشيخ الإسلام: (وحَدَّثَنِي مَن أثق به: أنّ الشيخ رضي الله عنه أُخبر عن بعض القضاة أنه قد مضى متوجّهًا إلى مصر المحروسة ليُقلَّد القضاء، وأنه سمعه يقول: حالما أصل إلى البلد قاضيًا أحكم بقتل فلان، رجل معيّن من فضلاء أهل العلم والدين، قد أجمع الناس على علمه وزهده وورعه، ولكن حصل في قلب القاضي منه من الشحناء والعداوة ما صوَّب له الحكم بقتله، فعظُم ذلك على من سمعه خوفًا من وقوع ما عَزَم عليه من القتل بمثل هذا الرجل الصالح، وحذرًا على القاضي أن يوقعه الهوى والشيطان في ذلك، فيلقى الله متلبِّسًا بدم حرام، وفتْكٍ بمسلم معصوم الدم بيقين، وكرهوا وقوع مثل ذلك لما فيه من عظيم المفاسد.
فأبلغ الشيخ رضي الله عنه هذا الخبر بصفته، فقال: إن الله لا يُمكِّنه ممّا قصد، ولا يصل إلى مصر حيًّا، فبقي بين القاضي وبين مصر قدرٌ يسير، وأدركه الموت، فمات قبل وصولها، كما أجرى الله تعالى على لسان الشيخ رضي الله عنه)([55]).
وقصة القاضي المذكور مشابهةٌ لقصة موت الشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني، فابن الزَّمْلَكَاني طُلِب ليتولى قضاء دمشق، ثم مات في الطريق، كما تقدّم.
فلا يخلو إما أن يكون القاضي المقصود هو كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني أو لا يكون، فإن كان هو المقصود فيكون في القصة اضطراب؛ لأن الوارد في بعض نسخ (البداية والنهاية) أن الرجل المقصود هو ابن تيمية كما تقدّم، أما البزّار فجعلها في رجلٍ آخر ووصفه بأنه: (رجل معيّن من فضلاء أهل العلم والدين، قد أجمع الناس على علمه وزهده وورعه).
فإن قيل: إنه يعني بذلك الرجل ابن تيمية.
قيل: لو أراد ذلك لصرح بهِ، فليس ثمة ما يُخشَى منه، فقد عُلِم يقينًا أن من القضاة المعروفين بأسمائهم في زمان ابن تيمية من قصدوا قتله، كشمس الدين ابن عدلان الذي طالب بتعزيره بالقتل على مذهب مالك سنة 705هـ([56]).
وإن لم يكن القاضي المقصود هو ابن الزَّمْلَكَاني، فلا دليل على نيّته الحكم بقتل شيخ الإسلام إلا ما تقدّم في عدد من النسخ الخطية الموثوقة لـ(البداية والنهاية)، وهو مستندٌ له قوّة، وإن لم يقع فيه التصريح بالقتل، والله أعلم.
خاتمة:
وخلاصة القول أن ابن الزَّمْلَكَاني مع مخالفته لابن تيمية في المشرب فإنه كان في أول الأمر مثنيًا عليه معظِّمًا له، ينعته بأجلّ الأوصاف، كبلوغ درجة الاجتهاد، بل إنه رغم أشعريته ومناظرته لابن تيمية في عقيدته الواسطية لم يقف منه موقفًا متطرّفًا، فلم ينعته بالتجسيم ولا بالتشبيه، ولم يقف مع ابن مخلوف ونصر المنبجي، بل تأذى من المنبجي بسبب وقوفه مع ابن تيمية في محنته في مصر.
غير أن الحال تغيّر بسبب كلام ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة، إلى أن قصد ابن الزملكاني أن يؤذيه بعد أن تمّ تعيينه قاضيًا للقضاة بدمشق، غير أنه توفّي قبل أن يباشر عمَلَه، وهذا بناءً على ما ذكره الحافظ ابن كثير، وعضد بعض الباحثين ما ذكره ابن كثير بكلام للبزار أيضًا، وتقدّمت مناقشته.
وعلى تقدير عدم صحة ما ذكره ابن كثير، فلا ريب في وقوع أصل الانقلاب والتغير من ابن الزملكاني في موقفه من ابن تيمية، وقد نص على ذلك غير ابن كثير من المؤرخين كالصفدي وابن فضل الله وابن حجر، حتى نعته ابن حجر بأنه: (كان أشد المتعصبين عليه العاملين في إيصال الشر إليه).
وهذا التبدّل في الموقف من ابن تيمية وقع من غير ابن الزملكاني من القضاة، كشمس الدين ابن الحريري الحنفي، وجلال الدين القزويني الشافعي، لكن لا يصح أن يُنسَب ذلك التبدل أو التغير إلى جميع علماء عصر ابن تيمية وما بعده، أو معظمهم([57]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر كلام ابن الزملكاني عن جهاد الدولة المملوكية للتتار في نهاية كتابه «تحقيق الأولى من أهل الرفيق الأعلى» (2/ 621-623).
([2]) ساق تلميذه صلاح الدين العلائي نسبه إلى أبي دجانة في «إثارة الفوائد المجموعة في الإشارة إلى الفرائد المسموعة» (2/ 682).
([4]) كان ذلك في آخر عمره سنة 724هـ.
([5]) «معجم الشيوخ الكبير» (2/ 244).
([6]) «المعجم المختصّ بالمحدّثين» (ص: 246-247).
([7]) «تاريخ ابن الوردي» (2/ 273).
([8]) «البداية والنهاية» (18/ 287).
([9]) «الوافي بالوفيات» (4/ 215).
([10]) «تحقيق الأولى من أهل الرفيق الأعلى» (1/ 88-92) -رسالة جامعية من جامعة أم القرى غير مطبوعة، بتحقيق عبد العزيز الجفير-. وهذا الكتاب صنّفه ابن الزَّمْلَكَاني جوابًا على سؤال بعض أمراء المماليك، وكان ذلك في فترةٍ قريبة من وقعة عرض سنة 702ه. انظر: (2/ 622).
([11]) كلام ابن الزَّمْلَكَاني نقله شيخ الإسلام في ما سجله من خبر تلك المناظرات في الواسطية. «مجموع الفتاوى» (3/ 173). وانظر في أشعريته أيضًا: «طبقات الشافعية الكبرى» لابن السبكي (6/ 144).
([12]) «الوافي بالوفيات» (4/ 214-215).
([13]) انظر «معجم الشيوخ الكبير» للذهبي (2/ 244).
([14]) «الوافي بالوفيات» للصفدي (4/ 214).
([15]) «الوافي بالوفيات» للصفدي (4/ 214). وفي بعض الفهارس أنها محفوظة في برنتسون.
([16]) «الدرة اليتيمية» ضمن «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص: 311)، و«الدرر الكامنة» (5/ 328).
([17]) «مجموع الفتاوى» (11/ 464).
([18]) «البداية والنهاية» (18/ 286).
([19]) «فتيا في اتباع الحديث وحكم الخروج عن المذهب لذلك» منشورة ضمن (مجلة أصول) (4/ 103) بتحقيق د. محمد بن طارق الفوزان.
([20]) انظر «البداية والنهاية» (18/ 524-525).
([21]) انظر: «تاريخ ابن الوردي» (2/ 269). وفتياه في ذلك نشرت في الشبكة بتحقيق عبد الله السليمان.
([22]) «تحقيق الأولى من أهل الرفيق الأعلى» (1/ 225). وقد انتبه الصلاح الصفدي لثناء ابن الزَّمْلَكَاني على ابن عربي في هذا الموضع، وأدرجه في ترجمة ابن عربي من «الوافي بالوفيات» (4/ 177). كما استدل البرزنجي بكلام ابن الزملكاني في ابن عربي في «الجاذب الغيبي إلى الجانب الغربي في حل مشكلات ابن عربي».
([23]) انظر: «تاريخ الإسلام» (14/ 521-522)، ورسالة ابن تيمية للمنبجي في «مجموع الفتاوى» (2/ 464-465).
([24]) «ذيل طبقات الحنابلة» (4/ 498). وهذه الترجمة المسماة: «الدرة اليتيمية» قد كتب أصلها قبل وفاة شيخ الإسلام بدهر طويل كما أشار لذلك ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص: 35).
([25]) وأطلق عليه الذهبي أيضًا: أمير الشافعية. «الدرر الكامنة» (5/ 328).
([26]) «الدرة اليتيمية» ضمن «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص: 311-312). وقد نقل مطلع هذا الثناء.
([27]) نقلتُه من نسخة مكتبة مراد ملا برقم (548) حيث ذكر الناسخ في آخرها أنه نقل هذا الثناء من خط ابن الزَّمْلَكَاني.
([28]) نقل ذلك الذهبي كما في «العقود الدرية» (ص: 14). وانظر: «الردّ الوافر» (ص: 108).
([29]) نقل ذلك الذهبي كما في «العقود الدرية» (ص: 15). وانظر: «الردّ الوافر» (ص: 109).
([30]) «مختصر طبقات علماء الحديث» (4/ 285).
([31]) «أعيان العصر» (1/ 247).
([32]) «مجموع الفتاوى» (3/ 172-174).
([33]) «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» (5/ 697)، وانظر: «الدرر الكامنة» لابن حجر (1/ 175).
([34]) «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» (5/ 549).
([35]) «الوافي بالوفيات» (4/ 216).
([36]) «ذيل طبقات الحنابلة» (4/ 503)، ونقله ابن ناصر الدين في «الردّ الوافر» (ص: 108).
([37]) «مجموع الفتاوى» (11/ 463-464).
([38]) «المقتفي على الروضتين» (3/ 301-302).
([39]) «البداية والنهاية» (18/ 53).
([40]) «الرد الوافر» (ص: 107).
([41]) «مجموع الفتاوى» (3/ 172-174). وفي «العقود الدُّريَّة» لم يذكر ابن عبد الهادي هذا الجزء في المذكرة التي أثبتها. وذكر (ص: 264) أنه لا يحبُّ حكاية ما جرى بين ابن الزَّمْلَكَاني وابن صَصْرى.
([42]) «المقتفي على الروضتين» (3/ 304).
([43]) حاشية «السيف الصقيل» للتقي السبكي (ص: 186).
([44]) «البداية والنهاية» (18/ 63).
([45]) «البداية والنهاية» (18/ 85).
([46]) انظر: «البداية والنهاية» (18/ 286) حيث ذكر ابن كثير في ترجمته أن له: (مجلدًا كبيرًا في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الطلاق)، وذكر الكتابين ابن حجر في «الدرر الكامنة» (5/ 329). وانظر: «الوافي بالوفيات» (4/ 215) (وفيه بياض في محل الشاهد كما ذكر المحقق).
([47]) وردت نسبة كتاب «الدرة المضية في الرد على ابن تيمية» في مسألة تعليق الطلاق لابن الزَّمْلَكَاني في بعض النسخ الخطية، وتلك النسبة مُعارَضَةٌ بكثير من الأمور التي تدل على نسبته إلى السبكي، كما هو مطبوع قديمًا عن مطبعة الترقي بدمشق عن نسخة الكوثري، وقد بدا لي أنه قد يكون مصنف الكتاب مجهولًا، لأن الكوثري في بعض حواشيه على (السيف الصقيل) نعت المؤلف بـ(صاحب الدرة المضية) ولم يسمّه، والمسألة تحتاج لمزيد بحث بتتبع النسخ الخطية لهذا الكتاب، وقد ذكر الكوثري أن له نسخة محفوظة في مكتبة أياصوفيا.
([48]) «تقريظ ابن حجر على الرد الوافر» (ص: 14).
([49]) «التنبيه على مشكلات الهداية» (3/ 1301).
([50]) «البحر المحيط» (3/ 294).
([51]) انظر بحث: نقد الانتقادات الواردة على شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (بيان زغل العلم).
([52]) «البداية والنهاية» (18/ 287-288). وهذه العبارة وردت في عدد من النسخ الخطية وبعضها متقدّم. انظر «المنثور من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية: شذرات مستلة من غير مظانها» جمعها واعتنى بها عبد الله بن عبد الرحمن البرّاك (ص: 142).
([53]) «البداية والنهاية» تحقيق حسن مروة ومراجعة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط والدكتور بشار عواد معروف (16/ 204).
([54]) «البداية والنهاية» تحقيق حسن مروة ومراجعة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط والدكتور بشار عواد معروف (16/ 199).
([55]) «الأعلام العلية» مطبوع مع «العقود الدرية» (ص: 776-777).
([56]) «ذيل طبقات الحنابلة» (4/ 512).
([57]) انظر تنبيهات أخرى مهمة في هذا الشأن في مقال: «الرد على الكوثري في دعواه: تراجع العلماء عن الثناء على ابن تيمية» منشور في موقع مركز سلف على الرابط: