السبت - 29 رمضان 1446 هـ - 29 مارس 2025 م

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

A A

مقدمة:

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي.

وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ منَ الله لتوجيههم وإرشادهم، فالبشَرُ لديهم منَ البدائل الصالحة -كالعقل والضمير- ما يُمكِن أنْ يُحقِّقوا به المصالح التي يدَّعي المؤمنون بالنُّبوة أنَّها لا تتحقَّق إلا بها.

وهي شُبهة قديمةٌ جدًّا، ومن أقدم مَنِ ادَّعاها بعض البراهِمة، فقد نقَل عنهم عددٌ منَ المؤرِّخين والمُصنِّفين في المقالات القدحَ في النُّبوات باستغناء العقول عنها، ثم تكرَّرت هذه الدعوى بصورة أُخرى مع عصر التنوير الأوروبي؛ فإنَّ حركة التنوير كلَّها تقوم على تأليهِ عقلِ الإنسان، وجَعْلِه الحَكَمَ الذي لا مُعَقِّبَ لحُكمه، والقاضيَ الذي لا نَقضَ لقَضائه، والميزانَ الذي لا جوْرَ ولا انحرافَ في موازينه.

 

 

 

والجواب عن هذه الشبهة تفصيلًا من وجوه([1]):

أولًا: المقصد الأساسي للنُّبوة ليس إرشادَ الناس إلى ما يُمكِنهم إدراكُه بعقولهم، ومجال النُّبوة يتجاوَز القَدْر الذي يُمكِن للعقل الإنساني البلوغُ إليه بنَفْسه:

فإنَّ الأنبياء لم يأتوا ليدُلّوا الناس على ما يُمكِنهم معرفتُه، وإنَّما أتَوْا ليُرشِدوهم إلى أمور جليلة عظيمة لا يُمكِنهمُ البلوغُ إليها إلا عن طريق الخبر منَ الله تعالى؛ فإنَّ من أعظم وظائف الأنبياء تعريفَ الناس بصفات خالقهم وكماله وأسمائه، وتعريفَهم بالأعمال التي تَضبِط عَلاقتهم مع الله، وتجعَلها في أحسنِ حال وأكملِ صورة، فيُبيِّنون للناس ما يُحبُّه الله ويرضاه منَ الأقوال والأعمال والأفعال الظاهرة والباطنة، وما يكرَهه منها.

فالنُّبوة إذًا تتعلَّق من حيث الأساسُ بمجالات لا يُمكِن الوصولُ إليها على وجه الكمال إلا عن طريق النُّبوة فقط، وتَلِج في قضايا مُغلَقة أمام كل الطرُق إلا طريقَها، فلا غنى للبشَر عنها بحال، ولا يُمكِنهمُ الاكتفاءُ بما لديهم من قُدرات البتَّةَ.

فالقول بأنَّ العقل الإنسانيَّ يكفي عنِ النُّبوة قولٌ ساقطٌ، فمع تسليمنا بأنَّ النُّبوة لا تُخالِف ما تُقرِّره العقولُ السليمة، إلا أنَّ مجالَها يَتجاوَز القَدْر الذي يُمكِن للعقل الإنساني البلوغُ إليه بنَفْسه، فهي تُخبِر عنِ الغيوب المُتعلِّقة بإرادة الله، ومحبَّته، ومشيئته، وأفعاله، وما يُعِدُّ الله سبحانه منَ الثواب للطائعين والعقاب للعاصين، وهذه الغيوب لا يُمكِن للعقل الإنساني الوصولُ إليها بنَفْسه أبدًا.

ولا يعني هذا الأمرُ القدحَ في دَلالة العقل وقُدْراته، ولكنَّ غاية ما يَعني أنَّ العقل له حدود لا يُمكِن أنْ يتجاوَزها؛ فإنَّ مَن يُريد أنْ يوزَنَ بالعقل كلُّ شيء، حالُه كحال مَن رأى الميزان الذي يوزَنُ به الذهبُ، فطمِع أنْ يَزِن به الجبالَ.

ثانيًا: تحصيل المصالح المادية والاجتماعية والمدنية ليس هو الهدف الأهم والوحيد من إرسال الرسل، حتى يقال بالاكتفاء بالبدائل الأخرى عنهم:

فتهذيب الأخلاق الاجتماعية وإقامة المصالح العامة من جُمْلة غايات الشريعة ومقاصدها التي يحبها الله، لكن لا يجوز اختزالها فيها وقَصْرها عليها، فقد جاء في الوحي بيانُ الحِكْمة الأساس من خَلْق الإنسان، وهي عبادة الله تعالى وحده، وهي مسألة عائدة أصالة إلى المصالح الأخروية، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].

وجاء في الوحي بيانُ المحور الأساس من دعوة الأنبياء، وحِكْمة الله تعالى من إرسال الرسل، وهي إرشاد الخلق إلى حِكْمة الرَّب من خَلْقِهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130].

وجاء ما يؤكد على أن الدنيا إنما هي موضوعة لأجل الابتلاء والاختبار، والآخرة هي دار الجزاء، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4].

بل جاء في القرآن ما يؤكد أن التمكين في الشأن الدنيوي يجب أن يُتَّخذ وسيلة للتمكين لأحكام الشريعة من السريان في الواقع، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].

وجاء في القرآن ما يدلّ على الاحْتِفَاءِ بالمنْجَزات الأخروية في مقابل المنْجَزات الدنيوية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

وجاء ذمُّ مَن قَلَب المعادلة فقَدَّم العاجلة على الآخرة فقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19].

ولا يفهم من هذا الحطُّ من المصالح الدنيوية؛ بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وإنما المقصود التأكيد على وجود مفهوم المصالح الأخروية أولًا، والتأكيد على تقدّمها في الرتبة والمنزلة ثانيًا.

وهذا ما عبّر عنه أبو المعالي الجويني بقوله: (الدنيا إنما تُرعَى من حيث يستمدّ استمرار قواعد الدين منها، فهي مَرعيَّةٌ على سبيل التبعِيَّة، ولولا مسيسُ الحاجة إليها على هذه القضية لكانت الدنيا الدنية حَريَّةً بأن نضرب عنها بالكلية)([2]).

وبهذا يتبين أن النبوّات لا يمكن القول بالاستغناء عنها إلا مع القول بانعدام الحاجة إلى معرفة المصالح الأخروية، وهو ما التزمه كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، حيث تبنّوا القول بالإلحاد، وإنكار اليوم الآخر وما اشتمل عليه من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس المقصودُ بالدين الحق مُجرَّدَ المصلحةِ الدنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيوية؛ كما يقوله طوائف من المتفلسفة في مقصود النواميس والنبوات أن المُراد بها مُجرَّد وضعِ ما يحتاج إليه معاشهم في الدنيا من القانون العدلي الذي ينتَظِمُ به معاشهم. لكن هذا قد يكُون المقصودَ في أديان من لم يؤمن بالله ورسوله من أتباع الملوك المُتفلسفة ونحوِهم مثل قوم نوحٍ ونمرودٍ وجنكيزخان وغيرهم، فإنَّ كُلَّ طائفةٍ من بني آدم مُحتاجُون إلى التزام واجبات وترك محرمات، يقوم بها معاشُهم وحياتهم الدنيوية، وربما جعلوا مع ذلك ما به يستولُون به على غيرهم من الأصناف ويقهرُونه؛ كفعل الملوك الظالمين مثل جنكيزخان. فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلبَ المنفعَة في الحياة الدنيا ودفعَ المضرة فيها؛ فليسَ لهؤلاء في الآخرة من خلاق)([3]).

ثم قال: (وهؤلاءِ المُتفلسِفَة الصابئة المُبتدِعَة من المشَّائين، ومن سلَكَ مسلَكَهُم من المُنتسبين إلى الملل في المسلمين واليهود والنصارى يجعلون الشرائع والنواميس والديانات من هذا الجنس لوضع قانونٍ تتمُّ به مصلحةُ الحياة الدنيا، ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد وهو عبادة الله وحدَه، ولا بالعمل للدار الآخرة، ولا ينهون فيها عن الشرك، بل يأمُرُون فيها بالعدل والصدق والوفاء بالعهد ونحو ذلك من الأمور التي لا تتم مصلحة الحياة الدنيا إلا بها، ويشرعون التأله للمخلصين والمشركين)([4]).

ثالثًا: العقلُ لا يُدرِك جميع التفاصيل المُتعلِّقة بما ينفَعه وما يضُرُّه:

إن للعقل مجالًا في إثبات صفاتِ الباري سُبحانه وتعالى على جهة التفصيل: فبالعقل يُثبِت أهل السُّنة لله تعالى جنس صفاتِ الكلام، والسمع، والبصر، والحكمة.

 غيرَ أنَّ العقل لا يستقِلُّ بمعرفة جميع التفاصيل المُتعلِّقة بصفات الله تعالى، وإنَّما يُرجَع في ذلك إلى الوحي، فما أخبرَت به الرسُل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلَمُه الناس بعقولهم، وإنْ كانوا قد يعلَمون بعقُولهم جُمَل ذلك.

يقول الإمام ابن القيم: (فالفِطَر مركوز فيها معرفته ومحبته والإخلاص له، والإقرار بشرعه، وإيثاره على غيره، فهي تعرف ذلك وتشعر به مجملًا ومفصّلًا بعض التفصيل، فجاءت الرسل تذكّرها بذلك، وتنبّهها عليه، وتفصّله لها وتبيّنه، وتعرّفها الأسباب المعارضة لموجِب الفطرة، المانعة من اقتضائها أثرها.

وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل، فإنها أَمْر بمعروف، ونَهْي عن منكر، وإباحة طيّب، وتحريم خبيث، وأَمْر بعدل، ونَهْي عن ظلم. وهذا كله مركوز في الفطرة، وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل.

وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات، فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه، ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل، وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقرّ في فِطَر الخلائق، خلافًا لمن قال من المتكلمين: إنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص، وإنما عُلِم بالإجماع)([5]).

كما أنَّ العقل يُدرِك حُسن الأمور وقُبحها إدراكًا إجماليًّا، ولا يبلُغ إلى معرفة التفاصيل، ويبقى الإنسان في حاجة إلى معرفتها، وضوابطِ تطبيقها في الواقع، فيأتي الوحي بتوضيح تلك التفاصيل من عند الخالق الحكيم، فيكون تفصيلُه الأكملَ لجنس الإنسان، والأفضلَ لحاله.

وما أحسن قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لولا الرسالةُ لم يهتدِ العقلُ إلى تفاصيلِ النَّافِع والضارِّ في المعاش والمعادِ، فمِن أعظَم نعمِ الله على عباده وأشرفِ منه عليهم: أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالًا منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومَن ردَّها وخرج عَنهَا فهو من شر البرية، وأسوأ حالًا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم)([6]).

ويقول الإمام ابن القيم: (غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله. وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد.

وكذلك يَعْجَزُ عن إدراك حُسْن كلِّ فعلٍ وقُبحه إلى أن تأتي الشرائعُ بتفصيل ذلك وتبيينه، وما أدركه العقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشرائعُ بتقريره، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتد العقلُ لوقت حُسْنِه مِنْ وقتِ قُبحِه أتت الشرائعُ بالأمر به في وقتِ حُسْنِه، وبالنهي عنه في وقتِ قُبحِه.

وكذلك الفعلُ يكون مشتملًا على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تَعْلَمُ العقولُ مفسدتَه أرجحَ أم مصلحتَه. فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمُر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة.

وكذلك الفعلُ يكون مصلحةً لشخصٍ مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يُدْرِكُ ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمُر به من هو مَصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مفسدةٌ في حقِّه.

وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظَّاهر، وفي ضِمْنه مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشَّرع، كالجهاد والقَتل في الله. ويكونُ في الظاهر مصلحةً، وفي ضمنه مفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائعُ ببيان ما في ضِمْنه من المصلحة والمفسدة الرَّاجحة.

هذا مع أنَّ ما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه مِن حُسْن الأفعال وقُبحها ليس بدون ما تُدْرِكُه من ذلك.

فالحاجةُ إلى الرُّسل ضروريَّة، بل هي فوق كلِّ حاجة، فليس العالَمُ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى المرسَلين -صلواتُ الله وسلامه عليهم أجمعين-، ولهذا يذكِّرُ سبحانه عبادَه نِعَمَه عليهم برسوله، ويَعُدُّ ذلك عليهم من أعظم المِنَن؛ لشدَّة حاجتهم إليه، ولتوقُّف مصالحهم الجزئيَّة والكليَّة عليه، وأنه لا سعادةَ لهم ولا فلاحَ ولا قيامَ إلا بالرُّسل.

فإذا كان العقلُ قد أدرك حُسْنَ بعض الأفعال وقُبحَها، فمِن أين له معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وآلائه التي تَعَرَّفَ بها الله إلى عباده على ألسنة رسله؟! ومِن أين له معرفةُ تفاصيل شرعِه ودينه الذي شرعه لعباده؟! ومِن أين له تفاصيلُ مواقع محبته ورضاه وسَخَطه وكراهته؟! ومِن أين له معرفةُ تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدَّ لأوليائه وما أعدَّ لأعدائه، ومقادير الثَّواب والعقاب، وكيفيَّتهما، ودرجاتهما؟! ومِن أين له معرفةُ الغيب الذي لم يُظْهِر الله عليه أحدًا مِن خلقه إلا من ارتضاه من رسله؟! إلى غير ذلك مما جاءت به الرُّسلُ وبلَّغته عن الله، وليس في العقل طريقٌ إلى معرفته. فكيف يكون معرفةُ حُسْن بعض الأفعال وقُبحِها بالعقل مُغْنِيًا عمَّا جاءت به الرُّسل؟!)([7]).

رابعًا: الاعتماد الخالص على العقل منفَكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة في الدنيا:

وقديمًا أشار شيخ الإسلام إلى أن الاعتماد الخالص على العقل منفَكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة بقوله: (فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلب المنفعَة في الحياة الدنيا ودفع المضرة فيها؛ فليسَ لهؤلاء في الآخرة من خلاق. ثم إن كان مع ذلك جعلوه ليَستولُوا به على غيرهم من بني آدم ويقهرونهم كفعل فرعون وجنكيزخان ونحوهما فهؤلاء من أعظم الناس عذابًا في الآخرة، كما قال تعالى: {‌نَتْلُواْ ‌عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِۦ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [القصص: 3، 4])([8]).

ومن أظهَر الشواهد التاريخيَّة على أن الاعتماد الخالص على العقل منفكًّا عن الوحي يؤدِّي إلى نتائجَ مدمِّرة: أنَّ أتباع نَزعة التنوير في الفكر الغربي طفِقوا يُبشِّرون الناس بأنهم إذا تخلَّوْا عنِ الأديان المُنزَّلة، واعتمَدوا على عقولهم في بناء حياتهم وتشييد أنظمتهم سيَصِلون حتمًا إلى النعيم المُقيم والحياة الفاضلة التي لا كدَرَ فيها ولا نصَبَ.

وفي حقيقة الحالِ فإن نزعة التنويرِ أدخلتِ العقلَ الغربيَّ في فوضى عارمة منَ الانقسامات الفِكريَّة والتشظِّي المعرفي، ولم تُحقِّق للإنسانيَّة الحياةَ الرغيدةَ التي وعَدوا بها، بل ازدادتِ المشاكل المُحيطة بالإنسان، وتعقَّدت الأمور فيها، وانتهى الأمر بكثير منَ التيَّارات المؤثِّرة إلى اتِّخاذ مواقفَ تؤدِّي بالحياة الإنسانيَّة إلى الفساد والدمار.

وحين رأى بعضُ فلاسِفَة الغرب -مثل جان جاك روسو- الآثارَ المُدمِّرة التي يُمكِن أنْ تترتَّب على الدعوة إلى الاعتماد الخالص على العقل؛ حاوَل أنْ يأتيَ بمصدر جديد يتخلَّص به من تلك الآثار، فابتَكَر مفهوم الضمير!

ولكنَّ روسو لم يُبيِّن لنا حقيقة المقصود بالضمير، ولم يُحدِّد معالِمَه وقوانينَه، ولم يكشف عن مُنطلَقاته ومُستنَداته، فهو في الحقيقة لم يأتِ ببديل جديد مُختلِف في قُدراته، ومصادره، وطبيعته عنِ العقل، فحُكمُ البديل الذي أتى به حُكمُ العقل، ولا فَرقَ.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) انظر: «ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث» د. سلطان العميري (2/ 321-327).

([2]) «الغياثي» (ص: 307).

([3]) «قاعدة في المحبة» (ص: 109).

([4]) «قاعدة في المحبة» (ص: 110).

([5]) «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» (2/ 448-449).

([6]) «مجموع الفتاوى» (19/ 100).

([7]) «مفتاح دار السعادة» (2/ 117-118).

([8]) «قاعدة في المحبة» (ص: 109).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟

الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى. أمَّا بَعدُ، فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ […]

أثر ابن تيمية في مخالفيه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: شيخ الإسلام ابن تيمية هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه جَرَتْ آباؤُه لشأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ […]

عرض وتعريف بكتاب (نقض كتاب: مفهوم شرك العبادة لحاتم بن عارف العوني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: إنَّ أعظمَ قضية جاءت بها الرسل جميعًا هي توحيد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، حيث أُرسلت الرسل برسالة الإخلاص والتوحيد، وقد أكَّد الله عز وجل ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. […]

عبادة السلف في رمضان وأين نحن منها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لا يخفى أن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يحرصون كل الحرص على كثرة التعبد لله سبحانه وتعالى بما ورد من فضائل الأعمال، وبما ثبت من الصالحات الباقيات التي تعبَّد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم كانوا يتهيؤون للمواسم – ومنها شهر رمضان – بالدعاء والتضرع […]

النصيرية.. نشأتهم – عقائدهم – خطرهم على الأمة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لقد كانت الباطِنيَّةُ -وما زالت- مصدرَ خطَرٍ على الإسلامِ والمسلمين مذ وُجِدت، وقد أيقَن أعداءُ الإسلامِ أنَّ حَسْمَ المواجهة مع المسلمين وجهًا لوجهٍ لن يُجدِيَ شيئًا في تحقيق أهدافِهم والوصولِ لمآربهم؛ ولذلك كانت الحركاتُ الباطِنيَّةُ بعقائِدِها وفِتَنِها نتيجةً لاتجاهٍ جديدٍ للكيد للمسلمين عن طريق التدثُّرِ باسمِه والتستُّرِ بحبِّ […]

موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي […]

التلازم بين العقيدة والشريعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره […]

إنكار ابن مسعود للمعوذتين لا طعن فيه في القرآن ولا في الصحابة

يعمد كثير من الملاحدة إلى إثارة التشكيك في الإسلام ومصادره، ليس تقويةً لإلحاده، ولكن محاولة لتضعيف الإسلام نفسه، ولا شك أن مثل هذا التشكيك فيه الكثير من النقاش حول قبوله من الملاحدة، أعني: أن الملحد لا يؤمن أساسًا بالنص القرآني ولا بالسنة النبوية، ومع ذلك فإنه في سبيل زرع التشكيك بالإسلام يستخدم هذه النصوص ضد […]

دعاوى المناوئين لفتاوى ابن باز وابن عثيمين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول فتاوى علماء العصر الحديث، ومن أبرز هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين. ويطغى على هذه النقاشات اتهام المخالف لهما بالتشدد والتطرف بل والتكفير، لا سيما فيما يتعلق بمواقفهما من المخالفين لهما في العقيدة […]

شبهات العقلانيين حول حديث “الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” ومناقشتها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017