دفع مزاعم القبورية حول حديث: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
مقدمة:
من الفِرى ردُّ الأحاديث الصحيحة المتلقّاة بالقبول انتصارًا للأهواء والضلالات البدعية، وما من نصّ صحيح يسُدُّ ضلالًا إلا رُمِي بسهام النكارة أو الشذوذ ودعوى البطلان والوضع، فإن سلم منها سلّطت عليه سهام التأويل أو التحريف، لتسلم المزاعم وتنتفي معارضة الآراء المزعومة والمعتقدات.
وليس هذا ببعيد عن حديث «اتخذوا قبور أنبيائهم»، فقد أثار أحدهم إشكالًا حيث لا إشكال، وتعلَّل بأوهام، قائلًا: (إن حديث: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» حديث شاذّ المتن؛ لأنه ليس للنصارى إلا نبيّ واحد، وقد رُفع ولم يمت، وليس له قبر)، فهذا أولًا.
ثم هذه الشبهة مسبوقة بكلام عبد الله الغماري الذي ردّ هذا الحديث بدعوى أن اليهود قد حكى الله عنهم نقائص تجاه الله رب العالمين، ولا تليق به، فكيف يتّخذون قبور أنبيائه مساجد؟! هذا غير معقول، وكذلك ما حكاه الله عنهم أنهم آذوا الأنبياء وقتلوهم، وتاريخهم ملطّخ بالدماء، فكيف يتَّفق هذا مع اتخاذ قبورهم مساجد؟! فهذا غير معقول أيضًا. هذا خلاصة ما ذكره ثم ختم قائلًا: (وهذا من المسائل التي لم يتفطَّن لها أحد من العلماء قبلي)([1])، وهذا ثانيًا.
وما سبب ردّهم لهذا الحديث إلا لأنه يسدّ عنهم باب قصد الصلاة عند قبور الصالحين.
والجواب عن هذه الشبَه من خلال عدة أوجه:
الوجه الأول: استقراء الروايات:
باستقراء الروايات الواردة في الصحيحين وغيرهما نجد أن الغالب على الروايات التي فيها ذكر اليهود فقط ذكر لفظ قبور أنبيائهم، ولما ذكر الأمم التي قبلنا ذكر فيها صالحيهم، وإذا أفرد النصارى وحدهم ذكر قبور صالحيهم.
1- ذكر اليهود فقط:
من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، قالت عائشة: لولا ذلك لأُبرز قبره، خشي أن يُتَّخذ مسجدا([2]).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([3]).
فقد ذكر لفظ قبور أنبيائهم.
2- ذكر اليهود والنصارى معًا:
روى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: إن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»؛ يحذر ما صنعوا([4]).
فهنا ذكر لفظ قبور أنبيائهم، وتعود على الطائفتين اليهود والنصارى.
3- ذكر الأمم قبل أمة الإسلام:
روى مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك»([5]).
فقد ذكر لفظ قبور أنبيائهم وصالحيهم.
4- ذكر النصارى وحدهم:
من ذلك أن الحبشة -وكانوا إذ ذاك نصارى- كانوا يفعلون ذلك في قبور الرجال الصالحين منهم؛ روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»([6]).
فقد ذكر قبر الرجل الصالح.
قال ابن حجر في شرح حديث «لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»: (وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء، بخلاف النصارى فليس بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وسلم نبي غيره، وليس له قبر، والجواب أنه كان فيهم أنبياء أيضا لكنهم غير مرسلين كالحواريين ومريم في قول، أو الجمع في قوله: «أنبيائهم» بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم من طريق جندب: «كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»، ولهذا لما أفرد النصارى في الحديث الذي قبله قال: «إذا مات فيهم الرجل الصالح»، ولما أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال: «قبور أنبيائهم»، أو المراد بالاتخاذ أعمّ من أن يكون ابتداعا أو اتباعا، فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظّم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظّمهم اليهود)([7]).
الوجه الثاني: التفريق بين فعل اليهود وفعل النصارى:
وذلك بأن يقال: إن اليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظّم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظّمهم اليهود، كما قال ابن حجر([8])، فيكونون في هذا تابعين لسنة اليهود.
قال الكوراني: (فإن قلت: النصارى ليس لهم نبي سوى عيسى، وهم مطبقون على أن عيسى ليس له قبر وإن كانوا قائلين بقتله وصلبه! قلت: أجيبَ بأنهم كان لهم أنبياء وإن لم يكونوا رسلًا كالحواريين ومريم، ولا يصح. أما مريم فبالإجماع إذ النبوة من خواص الرجال، وكذا الحواريون. والجواب أن النصارى قائلون بأنبياء بني إسرائيل، أو المراد الأنبياء والصالحون أتباعهم، دل عليه رواية مسلم: «قبور أنبيائهم وصالحهم»، ورواية البخاري في الباب: «إذا مات العبد الصالح»([9]).
ويؤيد هذا أيضًا قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: {وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة([10]).
الوجه الثالث: ذكر الأنبياء تغليبيّ:
أن يكون ذكر الأنبياء تغليبًا؛ فيدخل فيهم الأنبياء وأتباعهم والقديسون ومن كان على ما كانوا عليه من الصلاح ونحو ذلك.
الوجه الرابع: وهو خاص بشبهة الغماري:
1- حالُ استدلال عبد الله الغماري بنقائص اليهود على استبعاد أن يروى عن بعضهم تعظيم قبور الأنبياء كحال من يستدلّ بحال مشركي مكة ومن آذى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من مشركي قريش، فيقول: معلوم ما حكاه الله عنهم من كفرهم وصدهم عن سبيل الله، فكيف يكون الأئمة من قريش وهم آذوه؟! وكيف يكونون من خيار الناس؟! وكيف تأتي النصوص في إكرامهم؟! فيقال: مناط المدح غير مناط الذمّ والقدح، فالممدوح في النصوص المادحة الذاكرة فضلهم لا تتنزل على من ذمهم الله وماتوا على ذلك.
2- أن فحوى كلام الغماري ومن ردَّد كلامه تكذيب للقرآن أيضًا، فهو يستبعد ما حكى عنهم من تعظيم قبور الأنبياء والصالحين، والله عز وجل مع ذمهم بإتيانهم النقائص ذكر طرفًا من فضائلهم.
ومن هذه النصوص قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقال: {يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} [البقرة: 37]، مع قوله تعالى في موضع آخر: {قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ * قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} [الأعراف: 25، 26].
وليس هذا تناقضًا من القرآن عياذًا بالله؛ لأن المدح لا يتنزل على موضع الذم، فلكلٍّ جهة، ولكلٍّ أهلون، فالممدوح صنف، والمذموم صنف آخر.
3- أن شبهته قائمة على أن كفرهم حقيقته واحدة لا تتفاوت، وأن كل من كان يهوديًّا فهو قاتل للأنبياء ومؤذ لهم، فأين هذا من العقل المدَّعى؟! وأين هو من نصوص الوحي القاضية بتفاوت حالهم، بل وحال الناس جميعًا؟!
فقد قال الله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقال: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} [الأعراف: 155].
وقد ذكر الله تعالى حال الكفار عمومًا وتفاوت درجتهم في الكفر، فمنهم المقتصر على الكفر، ومنهم من ضم إلى الكفر الإيذاءَ لأوليائه والصدَّ عن سبيله، فقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
4- ومن أجود ما يرد به عليه قولُه هو نفسه: (وهذا من المسائل التي لم يتفطن لها أحد من العلماء قبلي)([11])، فهل تعني أن هذا الفهم قد فات الصحابة والتابعين والأئمة جميعًا، حتى أئمتك من الصوفية حتى علمته أنت؟!
ونختم بقول شيخ الإسلام قال ابن تيمية: (ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم؛ مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرمًا منهيًّا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»)([12]).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله في شرح حديث «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد»: (أي: أنهاكم عن ذلك. وقال: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»، ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلَوا حيطان تربته، وسدّوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة -إذ كان مستقبل المصلين-، فتتصوّر الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكّن أحد من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره)([13]).
الخاتمة:
هذا ما ذكروه.. وكما تراه فقد ذكر ابن حجر والكوراني الإشكال الذي ذكر حول عدم موت عيسى، وأنه ليس هناك أنبياء غيره لدى النصارى، ولم نجد منهم إعلالًا بالشذوذ، ولا النكارة.
ولهذا يغلب على الظن أن بعض المعاصرين الذين ردّوا الحديث بالشذوذ مع كثرة متابعاته وتلقي رواياته بالقبول في الصحيحين وغيرهما، أن ما ذكروه لا يعدو أن يكون تنفيسًا عن غيظ وحنق على النصوص -أو الأفهام كما يزعمون!- التي تخاطب الفطَر النقية وتنأى بهم عن الإغراق في القبورية، فالتمَسوا سبيلًا للردّ، فكان ما نراه.
ويبقى الحديث ثابتًا محفوظًا من الشذوذ والنكارة، مسطورًا في الكتب المتلقاة بالقبول، وراسخًا في الصدور إلى ما شاء الله عز وجل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث المردودة (ص: 38-41).
([2]) صحيح البخاري (4177)، وصحيح مسلم (529).
([4]) صحيح البخاري (435)، وصحيح مسلم (531).
([6]) رواه البخاري (417)، ومسلم (528).
([9]) الكوثر الجاري (12/ 117).
([10]) ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 126).
([11]) الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث المردودة (ص: 41).