الخميس - 21 شعبان 1446 هـ - 20 فبراير 2025 م

التلازم بين العقيدة والشريعة

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة 

مقدمة:

من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره من الأديان.

فعلى سبيل المثال حين سقطت الدولة الرومانية عام 476م -أي: بعد أكثر من ثلاثة قرون من رفع المسيح- تاركة بذلك الساحة فارغة رَفَع بَابَوات النصارى شعار “ما تعقده في الأرض معقود في السماء، وما تحله في الأرض محلول في السماء”؛ فاستغلَّت الكنيسة النصرانية ذلك الفراغ مدَّعين أن لهم الحقَّ الإلهي في الحل والعقد دون أن تكون هناك مرجعية مكتوبة في الكتاب المقدس، فأصبح الحق ما يراه رجال الكنيسة -وبالطبع ما تمليه عليه عقولهم وشهواتهم ومطامعهم-، والعكس صحيح.

ومن بعدها عاشت أوروبا عصور الظلام بحسب تسمية مؤرِّخي أوروبا؛ ظلامٌ في غالب مناحي الحياة:

ظلام فكري ومعرفي؛ فلا علم إلا ما في الكتاب المقدس المحرَّم قراءته على غير رجال الدين، وكل ما سوى ذلك هرطقة يستحقّ من يتداولها الموت دون أن تراق قطرة دم.

وظلام اقتصادي؛ فالحركة المالية تتم بين الأسياد والنبلاء ورجال الدين وحسب، وأما بقية الناس فعبيد يعملون على لقمة عيشهم وحسب.

وظلام اجتماعي؛ قسمت الناس إلى صنفين: أسياد هم ملاك الأرض ومعهم رجال الدين، وبقية المجتمع عبيد لهم وأقنان؛ وهذه الحالة الاجتماعية البائسة والغريبة على البشرية لم تظهر إلا في تاريخ هذا الطمع الكنسي؛ وكان رجال الدين (الكنيسة) تبرر هذا الظلم بأن على الإنسان ألا يسعى للكسب الدنيوي؛ لأنها مملكة الشيطان، وإنما ينتظر مملكة الرب في الآخرة تحت شعار: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله).

وماذا ننتظر من دين لا يتَّسم كتابه المقدس ببيان أحوال عامة مناحي حياة الإنسان وأحكامها؛ وهذا على عكس الإسلام الذي يمتاز عن غيره بالكمال والشمول؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ يشمل ما يحتاج إليه الروح والنفس وما تحتاج إليه الجوارح، وينظم العلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان وبني جنسه وبين الإنسان وغيره من المخلوقات، ولذا لا نستغرب أن يؤكد أحبار اليهود منذ العصور الأولى أنهم لو أوحي إليهم بكمال دينهم كما أوحي إلينا بكمال ديننا لاتخذوه عيدا كما في المتفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]([1]).

وإن من أكبر الإشكالات اليوم محاولة خلخلة هذا التكامل بالتهوين من شأن الشريعة بدعوى أن العقيدة كافية، ومحاولة الفصل بين العقيدة والشريعة، بدعوى التمسك بالثوابت دون المتغيرات، أو التمسك باللباب ولا علينا من القشور، أو المهم عندنا المبادئ دون تفاصيل التشريعات وغيرها من الإطلاقات.

وإنما المقصود من ذلك هو التهوين من شأن الشريعة ومحاولة خلخلة الدين، وفي هذه الورقة تجلية للتلازم بين العقيدة والشريعة.

فاللهم أرنا الحق حقا وازرقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

 

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

تمهيد:

لقد أدرك أعداء الإسلام أن من أهم جوانب قوته وحيويته ورصانته الترابط والتلازم الواقع بين أصوله، والشمول والكمال الذي تتمتع به أسُسه؛ كما في الحديث المتفق عليه الآنف الذكر؛ ولذا فرح الصحابة فرحًا شديدا بأن أكمل الله لهم الدين وأتم لهم النصر وأكمل لهم العقائد والشرائع الظاهرة والباطنة، فكان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية([2])، وقد بكى عمر رضي الله عنه لأنه علم أن ليس بعد الكمال إلا النقصان([3]).

قال ابن كثير: “هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف؛ كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تَمَّت النعمة عليهم، ولهذا قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]؛ أي: فارضوه أنتم لأنفسكم؛ فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه، وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه”([4]).

فالإسلام دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام؛ فمن اعتنق عقيدة الإسلام لا بد وأن يلتزم بشريعته، ولا يكفي القول بأنه مسلم واعتقد عقيدة المسلمين ثم هو لا يلتزم بشريعته مما يجر الدين إلى النقص بعد التمام، وأيضا لا يقبل دعوى العمل بشريعة الإسلام دون أن يعتقد بمعتقداته.

 ومن هنا دأب الأعداء على محاولة الفصل بين أصوله وأسسه، كدعوى الفصل بين العقيدة والشريعة أو بين العمل (عمل الجوارح) والاعتقاد.

متى وكيف نشأت فكرة الفصل؟

لم تكن فكرة الفصل بين أسس الإسلام وليدة عصرنا، بل عانى المسلمون منها منذ العصور الأولى للإسلام، وهذا ظاهر في تعاملهم مع أهل البدع الذين أخطؤوا في فهم حقيقة الإسلام، ومن أوائل تلك الفرق فرقتا الوعيدية والمرجئة:

فأما الوعيدية فقد غلوا في فهم طبيعة هذا التلازم بين العقيدة والشريعة، وفهموا أنه لا بد أن يأتي المرء بالشريعة كاملة تامّة، وأن يكون ظاهر الإنسان موافقا تماما للباطن مطلقا، وجعلوا الأعمال كلها شيئًا واحدًا لا يتجزأ، وبالتالي فبمجرد الإخلال بشيء من الشريعة يخرج المرء من الدين، ومن هنا حكموا على من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب بأنه كافر، واعتبروه خارجا من الملة.

ومن طبيعة كل قول فيه غلوّ أنه يخرج بالدين عن الطبيعة البشرية، ويتعامل معها بما لا تطيق، وتكلّفها فوق وسعها وقدرتها بما لا تستقيم به حياة البشرية، ولا يمكن أن يتكيّف الإنسان معها ويعيش بطبيعته؛ ومن هنا كان قول الوعيدية نشازا لم يمكنهم معه أن يتعايشوا؛ لأنهم عارضوا طبيعة النفس البشرية الأمارة بالسوء، فمن صفات ابن آدم أنه خطاء ولا يمكنه الانفكاك عن الذنوب؛ فهم ليسوا ملائكة؛ ولذا شرع الله له التوبة لتجُبَّ ما قبلها والحدود لتكفِّر عن صاحبها الذنب، ولكن الوعيدية ضيّقوا دائرة الإسلام، وحشروا أنفسهم فيه، وأخرجوا كل من ارتكب كبيرة من الكبائر؛ وحصروا الإسلام في فئة قليلة جدًّا، فكل من لم يدخل في دائرتهم كان كافرا عندهم؛ ثم مَن كان داخل الدائرة جعلوا يقذف بعضهم بعضا بالكفر بمجرد ارتكاب كبيرة؛ فظهروا بفكر غريب عن أصول الإسلام وفهمٍ للتلازم بين العقيدة والشريعة شاذّ؛ مما أفرز منهجا متناقضا في التعامل مع الناس وإخراج أهل الإسلام من دينهم، وتخلخلت اللحمة الدينية، وتفككت أخوة الإيمان والدين بسبب سوء فهمهم للتلازم بين العقيدة والشريعة.

والمشكلة أن هذا الاتجاه الذي أساء الفهم لا زال من الناس من يعتنقه ويفهم التلازم بين العقيدة والشريعة على أنه تلازم كلي شامل لجميع أجزائه، وأي خلل فيه سواء أكان خللًا في باب اعتقاد القلب أو خللًا في باب قول اللسان أو خللًا في باب عمل الجوارح أيا كان ذلك فهو مخرج للإنسان من الملة والدين.

والحق أن هذا مصادم لحقيقة الإسلام، كما أنه مناقض للفطرة البشرية، بل الصحيح أن كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وأهل السنة لا يكفرون بالكبائر، بل يرجئون أمر صاحب الكبيرة إلى الله، ويجعلونه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

وكردة فعل طبيعية لهذا الإفراط في مسألة التلازم بين العقيدة والشريعة ظهر التفريط في طائفة الإرجاء؛ فأخرجوا العمل عن مفهوم الإيمان، وحكموا بنوع من الفصل بين ما يعتقده الإنسان وبين عمله وحركة جوارحه؛ وزعموا أن لا تلازم بين وجود الإيمان في القلب وبين عمل القلب وعمل الجوارح؛ وإنما الإيمان مجرد التصديق بالقلب دون غيره، بل قالت الجهمية: إنه مجرد المعرفة؛ فأصبح الدين عندهم مجرد الاعتقاد بالقلب دون أن يلزم ما بعده من العمل بالشرع والذي على رأسه الصلاة، فلازم هذا القول أن العقيدة لا تستلزم الشريعة؛ وأن الاعتقاد بالقلب كاف في الدين، ولا إشكال بعد ذلك أن يعمل المسلم ما أراد من عمل ويقترف ما شاء من أعمال أهل الأديان والكفرة والفسقة وغيرهم، وأن يرفض الأحكام العملية والشعائر والشرائع التي فرضها الله من صلاة وصوم وزكاة وحج، وقد نسمع من يقول: ما دام هو مسلم فلا نتجنى عليه ولا نخرجه من الدين مهما فعل وإن جاء بمكفرات وصرّح بها، وإن اعترض على أحكام الله ودينه وسبَّ الله جهارا نهارا.

وهكذا هذا المذهب ولَّد هذه الفكرة المشكلة وهذا الفهم المعوجّ لدين الإسلام، ففصل بين العقيدة والشريعة، وزعم أن العقيدة لا تلازم بينها وبين الشريعة؛ وبمثل هذا ضاع الدين الإسلامي الحقّ واضمحلت شعائره؛ فلا بأس أن تجد من ينتسب إلى الإسلام ثم هو يلتزم أفكار الفلاسفة ويعيش حياته على منهاجهم مثلا، أو لا يرى بأسا بأن ينتهج المسلم أي منهج دخيل في حياته ما دام أخبرنا أنه مسلم، فله أن ينتهج منهج اليهود أو النصارى أو اللادينيين أو غيرهم، ولا شك أن هذا من أعظم الضلال.

ثم جاءت الباطنية فأولوا الشرائع وأفسدوا الدين، وازدادت الهوة بين أسس الإسلام، وتفككت العقائد والشرائع؛ ونظَّروا وقعَّدوا بأن المسلم يمكنه أن يدخل في الإسلام ثم هو يعتقد أن الصلاة صلة المشايخ، والصوم كتم أسرارهم، والحج قصد بيوتهم ومنازلهم، وهكذا قاموا على زعزعة أسس الإسلام والفصل بين متلازماته والتشكيك في محكماته([5]).

وسيأتي أن هذا مناقض للدين الإسلامي القائم على التلازم بين العقيدة والشريعة؛ فالشريعة مرتبطة بالعقيدة، من جهة أن العمل منشؤه العقيدة، وأن العقيدة تزيد بزيادة العمل وتنقص بنقصانه، فالاعتقاد أهله ليسوا في أصله سواء، وإنما يختلفون فيه بقدر ما في قلوبهم من اليقين الذي يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وأدلته كثيرة وهو محل حديثنا فيما يأتي.

أدلة التلازم بين العقيدة والشريعة:

لقد وردت نصوص كثيرة تؤكد التلازم بين العقيدة والشريعة أي بين الإيمان الباطن والعمل الظاهر، ولا بد من التأكيد أن من الفهم الخاطئ تصوّر أن هذا التلازم تلازم كلي كما فهمت الوعيدية من الخوارج وغيرهم، وقد سبق بيان ضلالهم، وإنما المقصود هنا بيان أن هذا التلازم ليس تلازما كليا وإنما تلازم تام؛ بحيث إن الإيمان قول وعمل ويلزم عنه العمل، ولكن ليس العمل شيئا واحدا، بل هو شعب كثيرة، وإذا ارتُكب ذنب فلا ينتفي معه ما في القلب من إيمان انتفاء مطلقا، وإنما بقدر تلك المعصية وذلك الذنب، وهذا هو الوسط بين الغلو والجفاء وبين الإفراط والتفريط والمتناسب مع الطبيعة البشرية.

 ومن المعلوم أن مصطلحَي العقيدة والشريعة لم يستعملهما السلف في عصورهم، فلم يكونا متداولين بينهم، بل وليسا متداولين في نصوص الوحي، بل من أدلّ الدلائل على التلازم بينهما أن علماء السلف لم يفرقوا بينهما في المصطلحات، بل استعملوا للعقيدة مصطلحات تتضمن العقيدة والشريعة مثل: مصطلح السنة والإيمان والشريعة والفقه الأكبر، ثم لم يفرقوا بينهما في مصنفاتهم كالمصنفات الحديثية التي تتضمن أبواب العقيدة والشريعة معا، فلم يكونا مصطلحين معروفين عند السلف إذن.

وإنما أقرب المصطلحات إلى هذين المصطلحين هما مصطلح الإسلام والإيمان؛ فالأول يتناول أصول الدين الظاهرة والأعمال تحديدا كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وهو ما يتضمن غالب مدلول مصطلح الشريعة، والثاني يتناول أصول الدين الباطنة كالإيمان بالله والملائكة وغيرها، وهو يتضمن غالب مدلول مصطلح العقيدة([6])، والأرجح أنهما كالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ومن هنا فإن النصوص الدالة على التلازم بين الإسلام والإيمان هي دالة على التلازم بين العقيدة والشريعة، ومن ذلك:

  • قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، فهنا قرن الله سبحانه وتعالى العمل الظاهر بالإيمان الباطن، وأكد التلازم بين العقيدة والشريعة؛ فلا يقبل العمل بتكاليف الشريعة إلا بعقيدة صحيحة، ولا عقيدة صحيحة بدون عمل، وهو ما دلت عليه وأكدته النصوص.
  • وقال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]، فبين المولى سبحانه وتعالى أن العقيدة المتمثلة في الإيمان بآياته والإيمان به وبنبيه مستلزمة للشريعة والعمل من الصلاة والذكر وغيرها من العبادات الشرعية.
  • وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]؛ فبين الله سبحانه وتعالى هذا التلازم بين العقيدة والشريعة بأن من كان صادقا في اعتقاده وفي إيمانه بالله ورسوله غير مرتاب كان منقادًا لشريعته سبحانه وتعالى غير متوان عن عبادته وعن طاعته واتباع ما أمر به من الأحكام والشرائع.
  • وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، فهنا بين المولى سبحانه وتعالى التلازم بين العقيدة والشريعة بأن من امتلأ قلبه بالإيمان بالله لا يكون إلا ممتثلا للشريعة؛ فمن كان صادقا في اعتقاده لا يمكن أن يتولى الكفار، ولا يمكن أن يمتثل لشرع غير شرع الله سبحانه وتعالى.
  • حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنية» وفي رواية: «بالنيات»([7])؛ فأكد أن العمل الظاهر لا بد له من نية باطنة ومن إيمان؛ وبهذا يظهر التلازم بين العقيدة والشريعة، وأنه لا ينفع المسلم أي عمل من الأعمال الشرعية الظاهرة إلا بوجود نية وعقيدة وإيمان.
  • حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات؛ كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([8])، فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العقيدة التي في القلب وصلاحها يكون به صلاح العمل والالتزام بالشريعة؛ فإذا صلحت العقيدة صلحت الشريعة، فالتلازم هنا بين العقيدة والشريعة ظاهر، وعكسه في التأثير تأثير الشريعة على العقيدة وتأثير الأعمال الظاهرة على الباطن، وهو ثابت في النصوص كما في المتفق عليه من حديث النعمان بن بشير، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم»([9]).
  • حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»([10])، وهذا من أوجه التلازم بين العقيدة والشريعة، فإن العقيدة والإيمان الباطن لا يمكن أن توجد حقيقة دون وجود ما يلزم عنها من العمل والانقياد ما أمر الله به، وعلى رأسها الصلاة؛ فلا يتصور وجود من امتلأ قلبه وباطنه بالإيمان واعتنق العقيدة ثم هو لا يأتي بشيء من الشرائع ولا يمتثل شيئا من الأوامر ولا النواهي مع القدرة على ذلك.
  • ما جاء في المتفق عليه من أحاديث شعب الإيمان والتي دلت على أن العقيدة عند الإطلاق تشمل الشريعة، ففي الحديث أن الإيمان شعب، وذكر من تلك الشعب أمورا عملية هي من الشريعة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون -أو: بضع وستونشعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»([11])، فهنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا كله من الإيمان، وذكر فيه القول والفعل بل والعمل القلبي؛ فلم يفرق بين الشريعة والعقيدة بل أكد التلازم بينهما.

وأصل الدين وهما الشهادتان دالتان على هذا التلازم؛ فمن أظهر أوجه الدلالة على التّلازم بين العقيدة والشريعة الشهادتان؛ فكل شهادة من الشهادتين فيه دلالة على التلازم بين العقيدة والشريعة، وكذلك فيما بين الشهادة الأولى والشهادة الثانية تلازم بين العقيدة والشريعة، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:

أولا: الشطر الأول من الشهادة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله دالة بمفردها على هذا التلازم لأنها بمعنى: لا معبود بحق إلا الله.

فهذا فيه الإيمان بالله بوجوده وربوبيته وألوهيته، وهذا كله من العقيدة؛ ثم فيه إفراده سبحانه بالعبادة بأن لا تكون العبادة كلها إلا لله؛ فالصلاة لا تكون إلا لله والزكاة والصيام وغيرها من العبادات، وهذا كله من الشريعة؛ وهكذا دل الشطر الأول من الشهادة على التلازم بين العقيدة والشريعة.

ثانيا: الشطر الثاني من الشهادة وهي: شهادة أن محمدا رسول الله، وهي أيضا دالة بمفردها على هذا التلازم لأنها بمعنى: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم وبالكتاب المنزل عليه وهو القرآن الكريم، وهذا من العقيدة، ثم مقتضاها تصديقه فيما أخبر، وهذا أيضا من العقيدة، ثم من مقتضاها أيضا: طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا كله من الشريعة؛ فيطاع في أمره بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وننتهي عما نهانا عنه، وهو المرجع في الشريعة كلها، وهذا يؤكد لنا التلازم بين العقيدة والشريعة.

ختاما:

لقد أنزل الله عز وجل دينا كاملا منسجمًا، وظهر لنا هنا المنهج الذي قام عليه الإسلام من التلازم بين الظاهر والباطن والانسجام بينهما، وهو ما أطلق عليه أحيانا التلازم بين العقيدة والشريعة، وهو تلازم تام بحيث لا يتصور وجود من يعتقد عقيدة الدين اعتقادا صادقا ثم هو لا يأتي بشيء من الشريعة ومن العمل، ولا يمتثل الأوامر بالكلية، وأيضا من مقتضى هذا التلازم عدم التهوين بشيء من الشرائع؛ والوحي جاء بهذا التلازم وبيّن أن الإيمان يستلزم العمل والانقياد للشرع في مواضع لا تحصى.

وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) صحيح البخاري (45) صحيح مسلم (3017).

([2]) ينظر: تفسير السعدي (ص: 220).

([3]) ينظر: جامع البيان (6/ 52).

([4]) تفسير ابن كثير -ت سلامة- (3/ 26).

([5]) ينظر: التلازم بين العقيدة والشريعة، طارق القحطاني (ص:10).

([6]) ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 367).

([7]) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).

([8]) أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599).

([9]) أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436).

([10]) أخرجه مسلم (82).

([11]) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي […]

التلازم بين العقيدة والشريعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره […]

إنكار ابن مسعود للمعوذتين لا طعن فيه في القرآن ولا في الصحابة

يعمد كثير من الملاحدة إلى إثارة التشكيك في الإسلام ومصادره، ليس تقويةً لإلحاده، ولكن محاولة لتضعيف الإسلام نفسه، ولا شك أن مثل هذا التشكيك فيه الكثير من النقاش حول قبوله من الملاحدة، أعني: أن الملحد لا يؤمن أساسًا بالنص القرآني ولا بالسنة النبوية، ومع ذلك فإنه في سبيل زرع التشكيك بالإسلام يستخدم هذه النصوص ضد […]

دعاوى المناوئين لفتاوى ابن باز وابن عثيمين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول فتاوى علماء العصر الحديث، ومن أبرز هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين. ويطغى على هذه النقاشات اتهام المخالف لهما بالتشدد والتطرف بل والتكفير، لا سيما فيما يتعلق بمواقفهما من المخالفين لهما في العقيدة […]

شبهات العقلانيين حول حديث “الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” ومناقشتها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في […]

البهائية.. عرض ونقد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات بعد أن أتم الله تعالى عليه النعمة وأكمل له الملة، وأنزل عليه وهو قائم بعرفة يوم عرفة: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وهي الآية التي حسدتنا عليها اليهود كما في الصحيحين أنَّ […]

الصمت في التصوف: عبادة مبتدعة أم سلوك مشروع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: الصوفية: جماعةٌ دينية لهم طريقةٌ مُعيَّنة تُعرف بالتصوّف، وقد مَرَّ التصوّف بمراحل، فأوَّل ما نشأ كان زُهدًا في الدنيا وانقطاعًا للعبادة، ثم تطوَّر شيئًا فشيئًا حتى صار إلحادًا وضلالًا، وقال أصحابه بالحلول ووحدة الوجود وإباحة المحرمات([1])، وبين هذا وذاك بدعٌ كثيرة في الاعتقاد والعمل والسلوك. وفي إطار تصدِّي […]

دفع مزاعم القبورية حول حديث: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

مقدمة: من الفِرى ردُّ الأحاديث الصحيحة المتلقّاة بالقبول انتصارًا للأهواء والضلالات البدعية، وما من نصّ صحيح يسُدُّ ضلالًا إلا رُمِي بسهام النكارة أو الشذوذ ودعوى البطلان والوضع، فإن سلم منها سلّطت عليه سهام التأويل أو التحريف، لتسلم المزاعم وتنتفي معارضة الآراء المزعومة والمعتقدات. وليس هذا ببعيد عن حديث «‌اتخذوا ‌قبور ‌أنبيائهم»، فقد أثار أحدهم إشكالًا […]

استباحة المحرَّمات.. معناها وروافدها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من أعظم البدع التي تهدم الإسلام بدعة استباحةُ الشريعة، واعتقاد جواز الخروج عنها، وقد ظهرت هذه البدعة قديمًا وحديثًا في أثواب شتى وعبر روافد ومصادر متعدِّدة، وكلها تؤدّي في نهايتها للتحلّل من الشريعة وعدم الخضوع لها. وانطلاقًا من واجب الدفاع عن أصول الإسلام وتقرير قواعده العظام الذي أخذه […]

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، […]

أحوال السلف في شهر رجب

 مقدمة: إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ ‌وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1]. ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

مقدمة: هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم […]

الصوفية وعجز الإفصاح ..الغموض والكتمان نموذجا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  توطئة: تتجلى ظاهرة الغموض والكتمان في الفكر الصوفي من خلال مفهوم الظاهر والباطن، ويرى الصوفية أن علم الباطن هو أرقى مراتب المعرفة، إذ يستند إلى تأويلات عميقة -فيما يزعمون- للنصوص الدينية، مما يتيح لهم تفسير القرآن والحديث بطرق تتناغم مع معتقداتهم الفاسدة، حيث يدّعون أن الأئمة والأولياء هم الوحيدون […]

القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة: كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، […]

دعوى غلو النجديين وخروجهم عن سنن العلماء

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تكثر الدعاوى حول الدعوة النجدية، وتكثر الأوهام حول طريقتهم سواء من المخالفين أو حتى من بعض الموافقين الذين دخلت عليهم بعض شُبه الخصوم، وزاد الطين بلة انتسابُ كثير من الجهال والغلاة إلى طريقة الدعوة النجدية، ووظفوا بعض عباراتهم -والتي لا يحفظون غيرها- فشطوا في التكفير بغير حق، وأساؤوا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017