
ترجمة الشَّيخ د. عبد الله بن محمد الطريقي “أستاذ الفقه الطبي والتاريخ الحنبلي” (1366-1446هـ/ 1947-2024م)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
اسمه ونسبه([1]):
هو الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمود بن محمد الطريقي، الودعاني الدوسري نسبًا.
مولده:
كان مسقط رأسه في الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية، وتحديدا في ناحية الروضة الواقعة جنوبي البلدة (العَقْدَة) -ويمكن القول بأنه حي من الأحياء قديما في مدينة الزُّلفِي- في شهر ربيع الأول من عام ست وستين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية (١٣٦٦هـ)، الموافق لشهر فبراير ١٩٤٧م.
نشأته وتكوينه العلمي:
1- التحاقه بالكتاتيب:
نشأ الشيخ رحمه الله في مسقط رأسه مدينة الزُّلفِي، وعلى عادة أترابه آنذاك التحق بالكتاتيب التي كانت منتشرة في تلك الفترة في المساجد غالبا؛ وفيها يَتعلم الطفل القراءة والكتابة وشيئًا من الآداب ويحفظ شيئًا من القرآن، وبالفعل تعلَّم الشيخ فيها القراءة والكتابة، وقرأ فيها شيئًا من القرآن على الشيخ عبد العزيز بن أحمد الخميس (ت ۱۳۸۹هـ)، وكان هو الكُتَّاب الأقرب لمسكنه، ثم انتقل والده إلى الحي الشمالي لبلاده، فاضطر هو أيضا إلى الانتقال إلى كُتَّاب الشيخ محمد العمر (ت ۱۳۸۸هـ)، ثم عاد والده فعاد هو أيضا وأكمل القرآن كاملًا على الشيخ عبد العزيز الخميس، ويبدو أنه هو مَن نشأ على يديه نشأته العلميَّة الأُولى، وتعلَّم القراءة والكتابة وختم على يديه القرآن أيضًا([2]).
ومن هنا يمكن القول بأن الشيخ رحمه الله قد نشأ نشأة جادة، وكان صاحب صبر ومثابرة وشدة تحمل وممن أخذ الكتاب بقوة، ومن المعلوم أن الزلفي في تلك الفترة التي نشأ فيها الشيخ، وإن كانت تمتاز بالأمن العام بعد توحيد البلاد على يد الملك المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلا أنها كانت فترة معاناة وشدة من الناحية الاقتصادية والغذائية والتعليمية؛ وهي بطبيعة الحال ألقت بظلالها على حياة الشيخ الشخصية ونشأته العلمية؛ حيث إن التعليم كان آخر الاهتمامات لدى الأسر، وغالبا ما تُعنى بالزراعة والفلاحة، خاصة مع قلة ذات اليد وشدة الحاجة، وحاجة العوائل إلى الاستعانة بأبنائها على أعباء الفلاحة والزراعة؛ فكان الشيخ يعمل مع والده في الزراعة، وبعد إلحاح منه وكثرة طلب أَذِنَ له بترك الفلاحة ليخرج منها إلى تلك الكتاتيب ويتعلم فيها القراءة والكتابة.
ومما عُرف عن الشيخ منذ نشأته أنه لم يكن يستسلم لما يحيط به من ظروف صعبة وشدة. ولكي يتصور القارئ الكريم ما كان يُعَانيه من شدة نضرب مثلا لذلك؛ فالشيخ لم يكن يجد ثمن لوازم الدراسة من قلم وقراطيس؛ حتى أعطته والدته ديكًا ليبيعه ويشتري بثمنه القلم والدفتر؛ ويا لله من قلمٍ أَسَالَ من بعد مِدَادَه ليؤرِّخ ويؤلِّف بعدها للمكتبة الإسلامية آلاف الصفحات([3]).
وهكذا تتلألأ أنوار همَّتِه رحمه الله منذ نشأته العلمية؛ فقد امتاز بهمة عالية وشغف علمي منذ الصغر، وصَاحَبَته تلك الهمة حتى الكِبَر؛ وهذا شأنه منذ نعومة أظفاره؛ حيث كان حريصًا على العلم ومحبًّا له شغوفا به؛ فما إن وجد الفرصة سانحة لإتقان القرآن وتجويده حين التقى ببعض علماء القراءات في كلية المعلمين بالرياض أثناء تدريسه بها حتى استثمرها -ولم تكن الكتاتيب تُعلم آنذاك بالتجويد وحسن الأداء- وانجفل يجوِّد قراءته على أيديهم، ولم تأخذه العزة بنفسه بأن كان مدرسًا آنذاك، وممن أفاد منهم في هذا الباب: الشيخ عطية قابل نصر (ت ١٤٢٤هـ)، والشيخ الدكتور أحمد بن عيسى المعصراوي شيخ المقارئ المصرية سابقًا.
2- التحاقه بالمدارس النظامية:
التحق الشَّيخ أَوَّلَ ما التحق بالمدارس النّظاميَّة بمدرسة الزُّلفِي الأولى الابتدائيَّة والتي افتُتحت عام (1368هـ)، وذلك تَحدِيدًا عام ١٣80هـ، وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ حيث لم يتيسر له الأمر قبل ذلك، ويبدو أنها كانت المدرسة الوحيدة آنذاك هناك، ولما كان الشيخ متميزًا قد بذل وتعلم القراءة والكتابة وأجادها في الكتاتيب كان قد اجتاز المرحلة الابتدائية في ثلاث سنوات -وكان النظام يسمح بذلك للموهوبين المتميزين- وتخرج بها عام 1383هـ، وفيها أفاد من مجموعة من المشايخ في مادة القرآن، ويبدو أن ممن تأثر بهم فيها:
- الشيخ فالح بن محمد الرومي (ت ١٤٠٣هـ).
- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الداود (ت ١٤٣٠هـ).
ومن لُطفِ الله سبحانه بالشيخ أن افتتح معهد الزُّلفِي العلمي حينها؛ فسُرَّ الشيخ رحمه الله بذلك وبادر بالالتحاق به، وكان ذلك عام 1383هـ، وعن تلك الأيام وأحوال الشيخ في المعهد يحدِّثنا زميله ورفيقه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي فيقول: “التقينا في المعهد العلمي، وبدأت التعرف على هذا النابغة؛ حيث رأيت العقل والأدب والحرص على الطلب وحسن السيرة والسلوك، ويوما بعد يوم تكشَّفت لي أمور أكَّدَت ظني فيه… كانت المثابرة على الدُّرُوس والدِّراسة والقراءة والكتابة من أبرز معالم نبوغه؛ حيث الحرص والجدية في الحياة عامة، وفي مجال الدراسة خاصة. ولذلك كنتُ أعجبُ من حفظِه لوقتِه واستغلالِه بما يفيد… ومن علامات حفظه لوقته تميُّزُه الدِّراسي، وحبّ القراءة والكتابة، وعدم الميل إلى اللهو واللعب”([4]).
ويبدو أن تكوينه العلمي وتأصيله كان في هذا المعهد؛ حيث انطلق منه بَعدَ مرحلة التَّأصِيل إلى ما بعده من المراحل العلمية، سواءً في التعلم أو في الإنتاج العلمي الذي أثمره من دروس ومؤلفات وغيرها، وقد استمر الشيخ في هذا البناء أربع سنوات، ودرس فيها المرحلتين المتوسطة والثانوية حتى تخرَّج بها في العام الدراسي (۱۳۸۷-۱۳۸۸هـ)، ويظهر أن من أهم من تأثَّر به في المعهد الشيخ الدكتور حمد بن عبد الله المنصور؛ حيث جعله يحب اللغة العربية نحوًا وأدبًا وكتابةً وقراءةً في النحو والأدب، وقد استفاد منه كثيرا وتأثر به جدًّا.
وعن هذه المرحلة التأصيلية وأهميتها يقول الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “امتاز الشيخ عبد الله بالتنشئة العلمية منذ صغره، وفي يفاعته وشبابه الأول. درس القرآن صغيرًا، والتحق بالمعاهد العلمية ثم كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء. إن أثر القرآن والتأسيس العلمي ومعايشة العلماء والأخذ عنهم مباشرة وربط الطلبة بأصول ثقافتهم ومنابع حضارتهم لَأَسَاسٌ متين من أسُسُ النبوغ والتفوق، وسبب أصيل من أسباب ولائهم ونفعهم لمجتمعاتهم؛ لأنهم يشعرون بحقيقة الانتماء للدين والوطن واللغة والتاريخ والتقاليد، فلم يُبتَلَ أحد منهم ببتِّ الصِّلَة بهذه العُرى الوثيقة، وإن هذا البعد لركن ركين من فلسفة التعليم”([5]).
3- التحاقه بالمرحلة الجامعية ثم الدراسات العليا:
مما يُنبِئُنَا عن همة الشيخ العالية رحمه الله -وغالبا ما يتلمَّسُه من يتأمل في نشأة الشيخ العلمية- أنه لم يترك مقاعد الدراسة منذ أن جلس بها في الكتاتيب حتى نال الدرجة العالمية العالية (الدكتوراه)، وهو مما يمتاز به ثلَّةٌ من أترابه الذين شغفوا بالعلم في تلك الحقبة الزمنية، وحملوا بأيديهم مشعل النور والهدى، وأحيوا النهضة العلمية التي شهدتها الدعوة النجدية بل والمملكة العربية السعودية بأسرها؛ حيث نجد كثيرًا من أترابه من طلبة العلم في تلك الفترة ممن أطالوا المكث في مقاعد الدراسة، وحين نضجت قرائحُهم وملكاتُهم العلمية أطالوا المكث في كراسي التدريس ما يصل إلى أربعة عقود وأكثر.
يقول زميله ورفيقه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي: “تتوافر روح المنافسة لديه في شتى أبواب الخير؛ حيث كان في سباق مع أقرانه وزملائه، بل حتى مع زمانه لإدراك السبق فيما يستطيعه، ولا سيما في مجال العلم والتأليف. ومع وقاره وهدوئه وزهده في الدنيا، إلا أنه جعل المنافسة شعارًا له… وذلك ما جعله يبزُّ كثيرًا من أنداده ونظرائه في ميدان العلم والتصنيف”([6]).
ومهما يكن من أمر؛ فبمجرد تخرج الشيخ من المعهد بادر رحمه الله في العام التالي بالالتحاق بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعلى الرغم من بُعد الكلية مئات الكيلومترات عن مسكنه لم يتوان ولم يتكاسل، بل انتقل من مسقط رأسه إلى مدينة الرياض وسكن بها لدراسة مرحلة البكالوريوس عام ۱۳۸٨هـ.
وقد عانى الشيخ في رحلته العلمية هذه الشدة وقلة ذات اليد؛ حيث انتقل إلى الرياض وهو خاوي الوفاض لا يملك من الدنيا إلا ما يغطي جسده من لباس، ولما كانت نيته خالصة -كما يظهر من مسيرته- يسر الله له شئونه؛ حيث وجد عملًا يتكسَّب منه فجرا؛ حيث كان يكتب المعاريض في باب المحكمة مقابل نصف ريال وما إن يحين وقت المحاضرة حتى ينتقل إلى الكلية لسماع المحاضرات؛ ليعود بعدها للراحة ويقيل في بيته، ثم ينطلق إلى التدريس في المدارس الليلية، فكان يعمل فجرًا ومساءً في فترة دراسته للبكالوريوس([7]).
وقد واصل الدراسة حتى تخرَّجَ بها عام ١٣٩١-١٣٩٢هـ بتقدير جيد جدًّا، وأفاد من كثير من أعلام العلم والهدى الذين كانوا يدرسون بها.
ولكن نهمه العلمي لم يتوقف عند ذلك، فلم يكد يتخرج الشيخ من الدراسة الجامعية حتى التحق بمقاعد الدراسات العليا في المعهد العالي للقضاء، وذلك في السنة التالية لتخرُّجه وتحديدا عام ١٣٩٣هـ، وقد جد واجتهد الشيخ حتى أتم دراسة مرحلة الماجستير خلال سنتين تقريبا، ونال الدرجة العلمية، ومُنِح إجازة المعهد العالي للقضاء بتقدير ممتاز عام ١٣٩٥-١٣٩٦هـ، وكانت رسالته بعنوان: (الأطعمة الحيوانية في الشريعة الإسلامية)([8]).
وهكذا عُرف منذ صباه بصبره وجلَده العجيب وعدم تذمّره؛ فعاش صابرا على الفقر وقلة ذات اليد، وعاش صابرًا على العلم تعلّمًا وتعليمًا وتأليفًا، وعاش صابرًا على مصاعب الحياة.
وقد كان الشيخ رحمه الله ممن عاش حياته بين التعلُّم والتعليم في فترة النشأة؛ فبمجرد أن كان مهيَّأً لذلك جمع بين البذل والأخذ في حياته العلمية؛ فما إن دَرَس المرحلة الجامعية وأتمها حتى عَمِل بالتدريس لطلاب المرحلة المتوسطة في التعليم العام، ثم واصل تدريسه في الكلية المتوسطة بالرياض -كلية المعلمين الآن- التابعة لوزارة المعارف منذ عام 22/ 12/ 1399هـ حيث انتقل إليها.
وفي نفس الفترة وهو يدرِّس التحق الشيخ رحمه الله بمقاعد مرحلة الدكتوراه في الفقه المقارن في نفس المعهد العالي للقضاء، وكان ذلك تحديدًا في العام التالي لنيله درجة الماجستير عام ١٣٩٧هـ، وقد واصل دراسته بها وجدَّ واجتهد حتى أتم كتابة رسالته في فترة وجيزة، حيث ناقش في ثلاث سنوات، وتحديدًا بتاريخ 29/ 12/ 1401هـ، وكان عنوان رسالته: (أحكام الصيد والذبائح وما يُطعم في الشريعة الإسلامية)، وقد مُنح رحمه الله الدرجة العلمية مع مرتبة الشرف.
أبرز شيوخه:
تبين في غضون الحديث السابق عن النشأة العلمية أن الشَّيخ تنقَّل إلى أكثر من بلد لطلب العلم، ومن هنا تَتَلمذ على علماء متنوعي التخصّص، ويمكننا تقسيمهم إلى أقسام:
الأول: من درس عليه القرآن:
- الشيخ عبد العزيز بن أحمد الخميس (ت ۱۳۸۹هـ)، نشأ على يديه نشأته العلميَّة الأُولى، فتعلَّم عليه القراءة والكتابة وقرأ القرآن، ومع أنه انتقل إلى حلقة أخرى لحفظ القرآن إلا أنه عاد وختم على يديه القرآن.
- الشيخ محمد العمر (ت ۱۳۸۸ هـ)، وقد درس عليه فترة في كُتَّابه بسبب انتقال والده إلى الجهة التي كان فيها كُتَّابُه.
- الشيخ عطية قابل نصر (ت ١٤٢٤هـ).
- الشيخ الدكتور أحمد بن عيسى المعصراوي شيخ المقارئ المصرية سابقًا، وهذان التقى بهما الشيخ في كلية المعلمين بالرياض أثناء تدريسه، فكان يجوِّد قراءته عليهما.
الثاني: من درس عليه في المدارس النظامية والمعاهد:
- الشيخ فالح بن محمد الرومي (ت ١٤٠٣هـ)، وقد درس عليه بمدرسة الزُّلفِي الأولى الابتدائيَّة.
- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الداود (ت ١٤٣٠هـ) وقد درس عليه أيضا بمدرسة الزُّلفِي الأولى الابتدائيَّة.
- الشيخ حمد بن محمد المحيميد (ت ١٤٣٠هـ).
- الشيخ صالح بن عبد الرحمن السحيباني (ت ۱۳۲۹هـ).
- الشيخ عبد الرحمن بن حمود الدويش.
- الشيخ عبد الله بن سابح الطيار (ت ١٤٢٨هـ).
- الشيخ عبد العزيز بن زيد الرومي.
- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الملا.
- الشيخ إبراهيم بن سابح الطيار.
- الشيخ الدكتور حمد بن عبد الله المنصور في النحو والأدب، وقد استفاد منه كثيرًا.
الثالث: من درس عليه في الجامعات:
- الشيخ فالح بن مهدي بن سعد آل مهدي (ت ۱۳۹۲هـ).
- الشيخ صالح بن علي الناصر (ت ١٤٠٦هـ).
- الشيخ مناع بن خليل القطان (ت ١٤٢٠هـ).
- الشيخ صالح بن فوزان الفوزان.
- الشيخ ناصر بن عبد الله الطريم.
- الشيخ حمود بن عبد الله بن عقلا الشعيبي (ت ١٤٢٢هـ).
- الشيخ عبد الكريم بن محمد اللاحم.
- الشيخ عبد العال أحمد عطوة.
- الشيخ بدران أبو العينين بدران.
- الشيخ محمود عبد الدائم.
- الشيخ محمد الأمين الضرير.
- الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري.
- الشيخ عمر بن عبد العزيز المترك (ت ١٤٠٥هـ).
جهوده:
سبق بيان أن الشَّيخ رحمه الله بدأ حياة البذل والعطاء منذ أن وجد نفسه مهيَّأ لذلك؛ وعاش نشأته العلمية بين التعلُّم والتعليم؛ ومن هنا نجده شُعلةً في باب تدريس العلم الشرعي؛ حيث درَّس أكثر من ثلاثة عقود، وشَامةً في جبين التَّاريخ التأليفي؛ فقد ألَّف عشرات الكتب وخلّف التصانيف ذوات المجلدات، وغرَّة في بحوث الفقه الطبي، وله فيها عشرات الأبحاث.
ويمكن القول بأنه ممن نذر حياته للعلم والتدريس والتأليف، خاصة فيما يتعلق بعلماء الحنابلة، وله في هذا الباب مؤلفات فريدة وكتابات نفيسة، ويكفيه أنه أورَث المكتبة الفقهية الإسلامية موسوعتيه: (الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنا) و(معجم مصنفات الحنابلة)، وسيأتي الحديث عنهما.
ولكنه مع كل هذه العطاءات والجهود كان يؤثر الكتمان، ولا يرضى أبدا بإظهار جهوده وأعماله؛ وكان يستعين على قضاء حوائجه بالكتمان، ولا يكاد يعرف أحد جهوده ومشاريعه العلمية والدعوية والخيرية فترة اشتغاله بها حتى أقرب الأقربين إليه؛ ذلك أنه كان قليل الحديث عن مشاريعه المستقبلية، ولا يبوح لأحد بأعماله وجهوده التي يتبناها، ويعمل بها([9]).
وفي هذا المبحث نستعرض شيئًا من جهوده البارزة:
1- التَّدرِيس:
يمكن القول بأن الشيخ كان حريصًا على استثمار وقته وقضائه في الباقي دون الفاني؛ ولذا نجده يدفع عن نفسه المُلهيات والمشغلات من المناصب الإدارية والجامعية بطلب الإعفاء حينا وتركها إلى وظائف التدريس حينا آخر، ويبدو لي أن غرضه من كل ذلك التفرغ للتدريس والتأليف؛ ومن هنا نجد أن سنوات انشغاله بالمناصب لا تكاد تزيد على أصابع اليد، بينما كَتَب بيده عشرات المجلدات ودرّس أكثر من ثلاثة عقود، بل كان يُعرِض عن الظهور الإعلامي وعن حضور المجالس الأسبوعية؛ لأنه كان يرى أن وقتَه أثمن من أن يُقضَى في ذلك.
يقول عنه الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “لم يكن الشيخ المترجم له بارزًا للعامة، أو مشاركًا في المسائل الثَّائِرة، وإنما حبس نفسه على العلم والبحث والدرس والتعليم، وإدارة الشؤون الشريفة في المساجد التي تُشدُّ إليها الرحال، وفي جامعات العلم ومعاهده التي يقصدها الطلبة من مئة بلد وأزيد”([10]).
لقد بدأ الشَّيخ رحمه الله حياة العطاء العلمية بالتَّدرِيس، وكان ذلك أثناء دراسته في كلية الشريعة بالرياض؛ حيث درَّس في بعض المدارس الأهلية لمدة أربع سنوات (1388-1391هـ)، ومنَّ الله عليه أنه بمجرد انتهائه من مرحلة البكالوريوس تعيَّن مدرسًا في التعليمِ العام، وتحديدا عامَ 1392هـ في (المرحلةِ المتوسطةِ)، وقد استمر بالتدريس فيها قرابة سبع سنوات.
ثم انتقل بعدها إلى الكليةِ المتوسِّطةِ بالرياضِ (كليةِ المعلمينِ حاليًّا)، وتحديدا في 22/ 12/ ۱۳٩٩هـ حيثُ تعيَّن كعضو لهيئة التدريس بها، ثمَّ نالَ درجةَ أستاذٍ مساعدٍ، تلاها أستاذٌ مشاركٌ.
ثم إن الشَّيخ ممن اصطفاه الله سبحانه وشرّفه بالتدريس في الجامعة الإسلامية منذ 1/ 7/ 1410هـ، واستمر الشيخ يدرس بها قرابة ستة عشر عامًا حتى تقاعد بتاريخ 1/ 7/ 1426هـ.
وكان رحمه الله يتحيَّن فرص التدريس ولو متعاونًا؛ ومن ذلك أنه درّس في كلية الإعلام بالمدينة المنورة (المعهد العالي للدعوة الإسلامية سابقًا) التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية خلال الفترة من عام 1408هـ إلى عام 1411هـ.
كما تعاون في التدريس للدراسات العليا بجامعة الرياض للبنات عامي 1427هـ و1428هـ، وكذلك في جامعة الملك سعود بالرياض عامي 1432هـ و1433هـ.
ومن حبِّه للتدريس لم يكن يرفضُ من يأتيه من طلبة العلم للدراسة بشكل فرديٍّ وخاص، بل إنه كان يُؤثِر الدرس أحيانا على وقت جلوسه مع أهله، وأيضا كان كثيرا ما يلتقي في المغرب بطلاب الدراسات العليا الذين يشرف عليهم، يقول نجله محمد: “في فترةٍ من حياته اعتاد التأخر بعد صلاة المغرب، ما أثار فضولي، فسألته ممازحًا: أمليت مني وصرت تجلس في المسجد بدل البيت؟ فابتسم وقال: طلب مني بعض طلبة العلم من جماعة المسجد أن أقيم لهم درسا في المغرب، ولم أستطع أن أردهم، فأصبحت أجلس معهم على حساب وقتي معكم”([11]).
وكان قد تولى عدة مناصب وشارك في بعض المناشط العلمية خلال مسيرته الجامعية ومنها:
أنه عُيِّن رحمه الله في تلك الفترة رئيسًا لقسمي الدراساتِ الإسلاميةِ والدراساتِ القرآنيةِ بدءًا من 1/ 2/ 1402هـ، واستمرَّ أكثر من خمس سنوات حتى 11/ 6/ 1407هـ.
وعند انتقاله إلى التدريس بالجامعة الإسلامية انتقل رحمه الله إلى قسمِ الفقهِ بكليةِ الشريعةِ في الجامعةِ، وظل يدرِّس بها، وكان عضوًا في مجلس كلية الشريعة للأعوام: 1411هـ، 1413هـ، 1414هـ. كما تولَّى رئاسةَ القسمِ بعد أن حصلَ على درجةِ الأستاذيَّة عامَ 1413هـ.
ثم كلِّف وكيلًا للدراساتِ العليا والبحثِ العلميِّ في الجامعةِ بتاريخ 26/ 7/ 1415هـ، إضافةً إلى رئاستِهِ للمجلسِ العلميِّ، واستمرَّ فيه حتى طلبَ الإعفاءَ بتاريخ 29/ 11/ 1416هـ، ولكنه رغم تركه للمنصب استمر يُدرِّس في الجامعة، ولم ينقطع عنه إلا حين بلغ سن التقاعد، بالإضافة إلى الإشراف والمناقشة للعديد من الرسائل العلمية في الجامعة الإسلامية وخارجها.
وقد كان الشيخ رحمه الله دقيقا في مناقشاته للرسائل العلمية، يعتني بالأخطاء العلمية المنهجية والشكلية أيضا، وكان يدققها ويتعقبها صفحة صفحة، ويقومها لغة وتعبيرا وأخطاء مطبعية، وكانت تستغرق مناقشته قريبا من ساعتين([12]).
وكان عضوًا في مجلس الجامعة الإسلامية اعتبارًا من 1/ 3/ 1411هـ.
كما أنه عمل عضوًا في المجلس العلمي 14/ 4/ 1413هـ، ثم لفترة ثانية مدتها سنتان اعتبارًا من 25/ 8/ 1414هـ، ثم تولّى رئاسة المجلس العلمي في الجامعة الإسلامية أثناء عمله في وكالة الدراسات العليا والبحث العلمي اعتبارًا من 26/ 7/ 1415هـ.
كما كان عضوا في مجلس الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية اعتبارًا من 14/ 4/ 1413هـ.
وكان يشارك في الدورات التدريبية التي نظّمتها الجامعة الإسلامية خارج المملكة، من خلال إلقاء المحاضرات والدروس على المعلمين المشاركين، واختيار المتميزين منهم للدراسة في الجامعة.
2- التأليف:
من يتأمل الكمّ الهائل من التراث العلمي الذي خلَّفَه الشيخ يناله العَجَب من حجمها، ومن تفحّص فيها الكيف وعمق طرحها وجدَّة مواضيعها عَلِم عِلمَ اليقين أنه ممن كان يسهر الليالي ويُسهِر معه قلمه وكناشاته، وأنه ممن أتعبت همتُه جسدَه في التصنيف والكتابة، فقد اختار الشيخ رحمه الله لنفسه أن يعيش في قصر مشيد ونزُلٍ فخم مهيب؛ لم يتميز بجودة أحجاره الكريمة أو طلائه النفيس أو أثاثه الفخم، وإنما كان مشيَّدا بما يحوط جدرانه من كتب وقماطر وأوراق ودفاتر؛ فحين تدخل مكتبته تجد نفسك غارقًا في دهشة لا تفارقك، فالمكتبة بالنسبة له قصره المنيف ومنزله النفيس، فهو أعز ممتلكاته في الدنيا، “فهي عشيقته وخليلته ورفيقة دربه التي لم يفارقها” كما يعبِّر نجله([13]).
وقد خصص لنفسه في إحدى أركان قصره عرشًا مرصَّعا بيواقيت الكتب ودرر المؤلفات؛ عرشًا يجلس فيه السَّاعاتِ تلوَ السَّاعات؛ بل أفنى فيه أيامه، حيثُمَا أردتَه ألفَيتَه في عرشه محيطا نفسه بتلك اليواقيت والدرر، وكأنها حاشية ملك بين وزرائه على شكل نصف دائرة حوله.
يقول عنه الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “الشيخ الراحل أمضى حياته بالجدِّيَّة والعزيمة، حتى كَتَب وألّف ما قد يعجز عنه جمهرة من الدارسين والمؤلفين، أو يطول الزمان قبل أن نرى مثل إنتاجه من مراكز ومؤسسات؛ فمرحبًا بالجدية والبكور وأخذ الكتاب بقوة، وأعاذنا الله من الكسل والتفاهة والغثاء، وإنها لبئس القعيد عن المحاسن والمفاخر”([14]).
نعم؛ لقد كان الشيخ رحمه يتصف بالحزم والعزم في شئونه، ومثالًا نادرًا في الدقة والتوثيق، لا يدع شاردةً ولا واردة تمر إلا ويقيدها بدقة وتحري، ولا أقول: إن هذا في كتاباته العلمية، بل كان ذلك ديدنه في حياته وأموره الدنيوية وكل شأن من شئونه؛ دقيقٌ حريصٌ على توثيق كل شيء من المسائل والمعلومات العلمية، وجعله محفوظًا في أوراقه خاصة ما يتعلق بعلم التراجم والسير من أسماء الرجال وجهودهم وأعمالهم ومؤلفاتهم وتواريخها، وبالأخص الحنابلة المتأخرين منهم؛ بل حتى الأشخاص الذين استعان بهم للحصول على معلومات يُدوِّن معلوماتهم، بل كان رحمه الله مدققًا يوثّق ويكتب حتى معلوماته الشخصية؛ وكان إلى جانب هذا الجد والاجتهاد منظمًا بشكلٍ يثير العجب. فعلى سبيل المثال كان يضع بجواره رفًّا خاصًّا بالأدوية، وورقة مُسطَّرة يُسجِّل عليها تحاليله اليومية بدقة فائقة، حتى إذا راجع طبيبه وجد الطبيب تاريخه المرضي وتحاليل السكر وغيره جاهزًا عنده([15]).
إذن؛ كان الشيخ رحمه الله من رواد الكتابة والتأليف والتحقيق، وممن برز وتميَّز يراعه في المكتبة الفقهية على وجه الخصوص، وقد حاز قصب السبق في بحث بعض القضايا الفقهية في العصر الحاضر، كما أنه أصبح علمًا بموسوعتيه، بالإضافة إلى تحقيق وإخراج مجموعة من الكتب الفقهية لأئمة الفقه السابقين كابن رجب الحنبلي (795هـ)، حتى إنه كُرِّم في دولة الكويت على شرف أمير دولة الكويت: صباح الأحمد الصباح رحمه الله بجائزة الكويت للتقدم العلمي في مجال الفقه الطبي وأصول فن التحقيق، وذلك عام ١٤٣٣هـ/ 2011م([16]).
يقول الدكتور إبراهيم المديهش: “منَّ الله تعالى عليه بمؤلفات متميزة، وغالبها فريد في بابه، فلا تجد عنده تأليفا في موضوعات مكررة لا جديد فيها، وهذه ميزة عظيمة مباركة في مؤلفاته، مع الدقة والشمولية”([17]).
وعلى الرغم من الكم الهائل من المؤلفات والإنجازات كان الشيخ رحمه الله يرفض الظهور الإعلامي رغم الطلب المتكرر من جهات عدة وبإلحاح، ولما سئل عن ذلك كان يقول دائما ويجيب بحزم: “أنا على ثغر”؛ وكان يقصد أنه على ثغر علمي مهم وهو التأليف، ذلك أن الظهور الإعلامي قد كفاه غيره، بينما خدمة العلم والتأليف هو أحوج إليه([18]).
ومن هنا يمكننا تقسيم جهوده في التأليف إلى قسمين:
القسم الأول: دراساته الفقهية، ويمكننا تقسيم تراثه الفقهي إلى قسمين:
أولا: دراساته في الفقه العام:
- أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية، مطبوع في مجلد.
- أحكام الذبائح واللحوم المستوردة في الشريعة الإسلامية، مطبوع في مجلد.
- أحكام الصيد في الشريعة الإسلامية، مطبوع في مجلد، ويذكر الشيخ أن هذه الكتب الثلاثة السابقة هي رسالة الدكتوراه التي تمت طباعتها في ثلاثة كتب([19]).
- أخذ الأجرة على أعمال الطاعات والمعاصي، مطبوع.
- الإسراف، مطبوع.
- العمل بالخط والكتابة في الفقه الإسلامي، مطبوع.
- الإشارة وما يتعلق بها من أحكام في الفقه الإسلامي، مطبوع
- تحية السلام في الإسلام.. أحكام وآداب، مطبوع في مجلدين.
- التبليغ خلف الإمام وما فيه من المحاذير، منشور في مجلة البحوث الإسلامية.
- حكم بيع العِينَة، منشور في مجلة البحوث الإسلامية.
ثانيًا: دراساته في الفقه الطبي:
كان الشيخ معتنيًا بفقه النوازل أيما اعتناء؛ ولذا نجد كثيرًا من كتاباته في هذا الباب، ويلمس الباحث هذه العناية من الشيخ لما له من حاجة ماسة في واقع المسلمين مع ما تعتري هذا النوع من الدراسات من صعوبة، وما تحتاجه من إعمال الفكر ونضج الملكة وجدية البحث.
ونلمس هذا في قول الشيخ رحمه الله: “ومع وجود هذه النعم التي يعيشها معظم العالم اليوم والتي لا تعد ولا تحصى؛ فإن الإنسان الذي يعيش هذه الحياة يقرب أن تتولد فيه الأمراض الكثيرة نتيجة لتنوع المأكل والمشارب… إلخ، وهذه الأمراض المتعددة المركبة تستلزم أن يكون علاجها بالأدوية المركبة. ومع هذا فإن أمراض العصر قد كثرت وتنوعت وتعددت، وبقي على المسلم أن يسأل عن الدواء المباح، ونظرًا للانفتاح الحاصل في هذا العصر مع جميع دول العالم، مما جعل الأدوية المصنعة تتوفر في كل بلد، وبما أن تصنيع هذه الأدوية قد لا يخضع لمعايير شرعية خاصة ما يصنع في دول غير إسلامية؛ لهذا فإن المسلم كثيرًا ما يسأل عن حكم استعمال بعض الأدوية التي قد تكون ممزوجة بمسكر أو بمخدر أو بنجس. لذا أردنا أن نساهم بجهد المقل في إخراج بحث متواضع عن حكم الاضطرار إلى الأطعمة والأدوية المحرمة”([20]).
ومن أبرز مؤلفاته في الفقه الطبي:
- رفع الأجهزة الطبية عن المريض، مطبوع.
- التزاحم على الأجهزة الطبية، مطبوع.
- موت الدماغ، مطبوع.
- الاستنساخ.. دراسة فقهية، مطبوع في مجلد.
- نقل الأعضاء من المحكوم عليه بالقتل، مطبوع في مجلد.
- الدم والأحكام المتعلقة به شرعًا، مطبوع في مجلد.
- الاضطرار إلى الأطعمة والأدوية المحرمة، مطبوع في مجلد.
القسم الثاني: دراساته في التاريخ والتراجم وعلم البيبلوغرافيا:
- معجم مصنفات الحنابلة، وهو مطبوع في أربعة عشر مجلدًا مع الفهارس، وكان شرطه: “إيراد كل من كان حنبليًّا وله مصنف ولو رسالة؛ بغض النظر عن عقيدة الشخص أو قيمته ومكانة المصنف العلمية”([21]).
وفي سبيل كتابة هذا المعجم قَضَى الشيخ في مكتبته تحوطه المصادر والقماطر والأوراق والدفاتر عشر سنوات متواصلة، حتى احدَودَب ظهره وأتعب فيها جسده حتى مرض، لكنه أخرج للأمة الإسلامية هذه التحفة العلمية الفريدة (معجم مصنفات الحنابلة)([22]).
وقد كان الشيخ رحمه الله وهو يخوض عُباب هذا البحث مدركًا وعورة طريقه وصعوبة مسالكه؛ حتى إنه كان يخشى أن يدركه الموت قبل أن يدرك هو منتهاه؛ يقول الشيخ: “وهذا موضوع واسع وبحر متلاطم، والخوض في هذا البحر الزاخر صعب المسلك بعيد المرمى، قد يصعب علي الخروج منه والانتهاء من بحثه نظرًا لطوله من جهة، وتداخل أسماء المؤلفين والمصنفات فيه من جهة أخرى… وهذا يقتضي رصد النتاج الفكري خلال هذه الحقبة من الزمن لهؤلاء العلماء الأفاضل من علماء الحنابلة. وهذا الموضوع المتلاطم الأمواج قد يوصف بأنه وعر المطالب، شديد الالتواء، عظيم الإباء، منيف الارتقاء، صعب الإذعان، قليل الإمكان، دائم الشراد، صعب الانقياد. وقد اجتهدت في بحث هذا الموضوع حسب جهدي وطاقتي، ويعلم الله ما صادفني في بحثه من صعوبات، وما وجدته من مشکلات”([23]).
وعلى الرغم من أن الموسوعة قد أتعبت جسده حتى مرض واحدودب ظهره، إلا أن همته لم تذبل، بل هو في ازدياد من الهمة والعزم والحزم، بل على العكس تمرَّس في تلك العشر على ما غيَّر حياته بعدُ وأوقد همته لعمل المعاجم والموسوعات؛ حيث كان ينتقل من مؤلف إلى آخر ومن موسوعة إلى أخرى حتى لقي ربه؛ فبعد أن انتهى من معجم المصنفات بدأ موسوعة الحنابلة التي غدت علمًا عليه.
- تكملة معجم مصنفات الحنابلة، وهو في طور الطباعة أثناء كتابة هذه الترجمة، فقبل أن ننتقل إلى الحديث عن تلك الموسوعة لا يحسن بنا أن نرفع القلم قبل أن نسطِّر صورة بهية من أجمل صور علو همته ومن أبهى صور بر ولده -حفظهم الله- به؛ فإن الشيخ رحمه الله لم يرتح قلمه ولا عرف التوقف عن الجريان ولا مداده التوقف عن السيلان إلا إذا تعب ومرض وعجز عن الحركة والتأليف والكتابة؛ وإلا فمتى أفاق واستصح عاد للكتابة والقلم نشاطه وحياته، ومن هنا فقد أكمل الشيخ بعض كتبه، ولكنه تعب قبل أن يطبعها، ومنها: هذا الكتاب الذي يقع في مجلدين، ويقوم أبناؤه اليوم بعد وفاته على طباعته، نسأل الله أن يرى النور قريبا، وأن يجزي الشيخ وولده خير الجزاء على سعيهم، ويبدو أن هذا الكتاب هو ما أسماه الشيخ: (المستدرك على معجم مصنفات الحنابلة) في بعض التراجم التي كتبها.
- الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنًا، مطبوع في أربعة عشر مجلدًا مع الفهارس.
وهذا كان المؤلَّفَ التالي للمعجم؛ حيث شمَّر عن ساعد الجد وشدّ المئزر، واستعد لموسوعة جديدة أكبر وأعظم قضى فيها الليالي الطوال والسنوات تلو السنوات حتى خرج في أربعة عشر مجلدًا متقنًا.
لقد كان الشيخ رحمه الله خلال فترة تأليفه لهذا الكتاب الجليل قد رفع معايير الجد والاجتهاد، وصارع فيها الملل والدعة؛ فكان قد ترك الاجتماعات القليلة مع خُلَّص أصحابه، وأيضا كان يحمل معه همَّ مُؤلَّفه متنقلًا بين أركان منزله كله بعد أن كان في السابق مُنكفِئًا على مكتبته؛ فحينًا تجد النوم قد غلبه وهو يحتضن مسوداته وكتبه، وحينًا يأخذه التعب والسهر في البحث والكتابة حتى ينادي المنادي للفجر، ولا يكاد ينتهي من صلاة الفجر وأذكاره حتى تعود إلى مكتبته صرير الأقلام من جديد، ويعود لأوراقه ومسوداته وكتاباته ويواصل ما بدأ به؛ ولم يكن شيئًا يقطعُ هذا الوصل بينه وبين عشيقته (المكتبة والتأليف) سوى الفرائض والصلوات ولقيمات خفيفة تقمن صلبه وبالكاد تسد جوعه؛ فيدخل مكتبته من الفجر حتى يؤذن لصلاة الظهر، ثم يصلي ويعود حتى العصر، وبعده كذلك إلى المغرب يجلس فيها مع أهله، ثم يعود بعد صلاة العشاء حتى وقت نومه، وهكذا دواليك عرفه أهله وولده؛ فلله در ذلك الجهبذ، ولله در امرأة حفِظت عهدها معه وقدَّرَت نفعه لأمته، فضَحَّت بحياتها من أجله، ولله در ولده الذين قاموا معه بارين مساندين حتى أخرج الشيخ موسوعة الحنابلة وغيرها([24]).
وهكذا يعدُّ هذا المؤلف أكبر مصنفاته والموسوعة التي غدت عَلَمًا عليه، وقد جمع فيه ما يزيد على سبعة آلاف ترجمة، وتحديدا (7047) ترجمة، استدرك فيها على من سبقه ممن أورد غير الحنابلة ضمن الحنابلة، كما أفرد من نُسب إلى الحنابلة ولم يثبت عنده أنه منهم، وصرح أن منهجه في هذا الكتاب مع تراجم القرن الثالث اختلف عن الكتاب السابق؛ حيث سار في هذا الكتاب على ما سار عليه مؤرخو الحنابلة كابن أبي يعلى ومن بعده من “ذكر تراجم لبعض من لم يتمذهبوا بمذهب الإمام من مشايخه وأقرانه وتلاميذه وبعض من روى عنه أو روى الإمام عنه ولم يتمذهب بمذهب الإمام”([25])، وهذا فيمن كان من رجال القرن الثالث، أما من بعده فلم يترجم إلا لمن ثبتت عنده حنبليته.
ومما يذكر عن هذا الكتاب أنه عني فيه بتفصيلات ودراسات بناها الشيخ على تأريخه للحنابلة؛ كإيراد مشجرات للأسر الحنبلية وربط اللاحق منهم بالسابق، وخرج بدُرَر وفوائد في هذا الباب حتى إنه تكلم عن البيوت الحنبلية التي فيها غير الحنابلة، وبيوت غير الحنابلة التي فيها حنابلة، وحصر الحنابلة في كل بلد، وتتبع انتقالهم ومدارسهم وأوقافهم، وذكر سماتهم وأوصافهم؛ كاشتهارهم بالتمسك بالسنة ومذهب السلف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، ومما ذكره فيها أن عناية علماء الحنابلة بالعقيدة والمسائل العقدية قديمة نابعة عن اهتمام الإمام أحمد بالمسائل العقدية، وما قصة محنته عنا ببعيدة، من هنا فإن الكتب التي ألفها علماء الحنابلة كثيرة جدا مقارنة بغيرهم من أصحاب المذاهب([26]).
يقول عنه الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “حفظ الشيخ بمنجزه العلمي الذي تنوء به المراكز وأولو العصبة من الباحثين تاريخ الفقه الحنبلي وعلمائه، بل حفظ لنا تاريخ علماء الجزيرة العربية والسعودية على وجه التحديد، إذ يحوي المعجم أكثر من سبعة آلاف ترجمة لعلماء ارتحلوا من الدنيا، وانتهى به البحث إلى ما قبل أعوام من الآن، ولولا المرض لزاد فيه حتى يكمل البقية الباقية؛ وليت أن بعض الباحثين الموفقين أن يفعل، فيكون الصنيع الجديد تكملة لأصل، أو استمدادًا منه مع التصريح بذلك”([27]).
ويقول الدكتور إبراهيم المديهش: “تواصلت معه كثيرا -مهاتفة ومراسلة- خاصة فيما يتعلق بزوائد أو معلومات عن موسوعته المباركة: الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنا، فعجبتُ من دقته وتثبته من المعلومات واعتماده على مصادر يغفل عنها المترجمون”([28]).
وقد أكمل الشيخ ضمن كتبِه التي أكملها كتابَه هذا، ولكنه تعب قبل أن يطبعه، وتقع التكملة في مجلد سيكون هو المجلد رقم (15) من الكتاب كما يذكر نجله؛ حيث يقوم أبناؤه اليوم بعد وفاته على طباعته، نسأل الله أن يرى النور قريبا، وأن يجزي الشيخ وولده خير الجزاء على سعيهم.
- تاريخ الكعبة المشرفة، مطبوع في مجلد، وقد فصَّل فيه عن كل ما يتعلق بالكعبة من بناء وترميم وسقف وجدران وكسوة وباب وسطح وشاذروان وميزاب وتاريخ السدنة وتاريخ الحجر الأسود وحجر إسماعيل، وهذا الكتاب يؤكد أن الشيخ كان معتنيًا بسدِّ الثغرات التي يقف عليها في المكتبة الإسلامية ما أمكنه ذلك؛ حيث يقول: “وظهر لي أثناء الاطلاع على ما كتب عن المسجد الحرام أن علماء الإسلام قد خدموا هذا الجانب -أعني ما يخص الكعبة- خدمةً جليلةً… لكنها كتابات متناثرة ومتفرقة في بطون الكتب… أما ما يخص الكعبة بمفردها فقليل جدًّا“([29]).
- بيوت الحنابلة وأنسابهم، مخطوط.
- المعجم المهذب لأهل المذهب؛ ويقع في مجلد واحد، وهو أيضا مخطوط، لكنه ضمن الكتب التي يقوم أبناؤه اليوم بعد وفاته على طباعتها؛ حيث إن الشيخ أكمله قبل أن يمرض.
القسم الثالث: جهوده في التحقيق:
- أحكام الخواتم وما يتعلق بها، لابن رجب، مطبوع في مجلد.
- نزهة الأسماع في مسألة السماع، لابن رجب، مطبوع.
- القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب، لابن رجب، مطبوع.
- فصل في إخراج الزكاة على الفور، لابن رجب، منشور في مجلة البحوث الإسلامية.
- ذم الوسواس، لابن قدامة، مطبوع.
- كشف القناع عن حكم الوَجْد والسماع، للقرطبي، مطبوع.
- نوادر الفقهاء، للجوهري، مطبوع في مجلد.
- مسائل الإمام أحمد، رواية الأثرم، جمع وتحقيق ودراسة.
- أحكام الأراضي، للتهانوي، مطبوع في مجلد.
- فتح القادر في بيان أحكام النادر، للوصابي، مطبوع.
- بُغيةُ الناسك في أحكام المناسك، للبهوتي، مطبوع.
- نزهة النفوس في بيان حكم التعامل بالفلوس، لابن الهائم، مطبوع.
- رسالة الرجعة لبيان الضجعة بين سنة الفجر والفريضة، للعمادي، مخطوط.
- منسك الحج والعمرة، مخطوط.
وكان الشيخ رحمه الله مع تعمّقه البحثي لا يرضى بالغلو أو الجفاء، بل كان ينحو إلى العدل حتى مع من ينتقدهم، ومن النادر ألَّا تجد في مقدمته اعتذاره أن يكون قد أخطأ في أطروحاته، وطلبه من القراء أن يُصوّبوا ما أخطأ فيه ويقوّموا ما اعوجَّ؛ ويؤكد أن المؤلف السائر في الكتابة على مهَل قد لا يُدرك ما يُدركه القارئ على عَجل، ويؤكد أن النقص يلحق كل مؤلف وكتاب، وإنما يُتدارك ويُكمل بتكميل القارئ وتنبيهه على ما فيه من خطأ وقَف عليه.
وأما عدله وتواضعه في النقد فظاهر في صنيعه في كتابه (التعليق والتصحيح والإضافة على كتاب علماء الحنابلة)، وهو للعَلَمِ الآخر فضيلة الشيخ بكر أبو زيد؛ والذي يذكر الشيخ أنه صدر في أثناء عمله على موسوعته (الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنا) وتحديدا عام ١٤٢٢هـ؛ فبادر إلى اقتنائه وقراءته، وكان الدافع الرئيس لذلك هو الاستفادة منه في مشروعه الآنف الذكر، ولكن الشيخ رحمه الله كما يقول: “أثناء هذا التتبع وقفت على أخطاء، وتجاوزات ليست بالقليلة، فعقدت العزم على أن أقوم بالتنبيه عليها إذا انتهيت من عملي في كتاب الحنابلة… ولما انتهيت… وأمعنت النظر فيه اتضحت لي أمور جديرة بالتعليق عليها وتصحيحها، والتنبيه على غير الحنابلة، وإضافة النقص الذي أرى أهمية إضافته”([30]).
وقبل أن يعدِّد استدراكاته على الشيخ بكر أبو زيد أثنى وبيَّن ما لهذا العَلَمِ الشامخ من مكانة فقال: “ومؤلف كتاب (علماء الحنابلة) رحمه الله علم بارز، وعالم متقن، ومؤلف مكثر، مؤلفاته شاهدة بذلك”([31]).
ويذكر الشيخ أن محور الإشكال هو اقتصار صاحب الكتاب على مراجع محدودة دون الرجوع إلى المصادر الأصلية والتأكد منها، بالإضافة إلى إيراده تراجم لمن ليس من أهل العلم مع أن عنوان الكتاب (علماء الحنابلة)، وكذا إيراده تراجم لأكثر من ١٢٠ ترجمة كلهم غير حنابلة، وترجم فيه لما يقرب من ۲۰۰ ترجمة لا يوجد ما يدل على أنهم حنابلة، وغيرها من الإشكالات.
وظاهرٌ أن هذا من أهم القضايا التي ركز الشيخ عبد الله على معالجتها في موسوعته، وقد استدرك في كتاب (التعليق) على قرابة النصف من كتاب علماء الحنابلة، وتحديدا (٢٤٤١) ترجمة من أصل (٤٤٦٧) ترجمة، وركز في التصحيح على الأشياء العلمية دون اللغوية والمطبعية ونحوها.
وبعد أن بين منهجه في الاستدراك والتصحيح قال الشيخ متواضعًا ومظهرًا وعورة طريق العمل في هذه القضية ومظنة الخلل فيه: “وفي الختام أشير إلى أن العمل في تراجم الأعلام مات أصحابها منذ قرون لم يعاصرهم الكاتب ولم يقف على أخبارهم إلا عن طريق الواسطة، وأحيانا تتعدد الوسائط مما قد يكون عرضة لوقوع التصحيف والأخطاء في هذا العمل.
ثم إني ما أردت من هذا التعليق إلا تصحيح الكتاب خشية أن يطول بالناس زمن فيظن القارئ أن ما في هذا الكتاب قول آخر عن صاحب الترجمة لا أنه خطأ ووَهْم جاء عن طريق مراجع متأخرة.
وأنا الآخر لا يبعد أن يكون في عملي شيء من ذلك، وما أنا إلا كالمتطفل على موائد الكرام، غفر الله لمؤلف كتاب (علماء الحنابلة) ورحمه وأسكنه فسيح جناته، ورزقني الله العصمة من الزلل والخطأ والخطل، ووفقني للعلم النافع والعمل الصالح”([32]).
يقول عنه الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “جاز له أن يتعقَّب مؤلفات بعض العلماء الأكابر. من ذلك أنه ألّف كتابًا يتعقَّب فيه ما كتبه الشيخ د. بكر بن عبد الله أبو زيد آل غيهب عن تراجم الحنابلة، ورصّع الشيخ الطريقي كتابه بمقدمة أديبة لطيفة في الاعتذار للشيخ بكر، فلم يتخذ ما أدى إليه اجتهاده سلَّمًا لانتقاص عمل غيره في ميدان هو من فرسانه، بل ختم مقدمته بالاعتراف بأن عمله هو -أي: الطريقي نفسه- عرضة لوجود الخطأ والوهم. هذا منهج رفيع من العلم، وطراز بديع سامق من الأدب والنبل”([33]).
ولم يُر رحمه الله يومًا يتفاخر بإنجازاته، رغم عظمة ما قدمه للأمة الإسلامية. وكان يكتب كل مؤلفاته بخط يده، ثم يرسلها للطباعة ليبدأ بمراجعة الأخطاء المطبعية بنفسه، بمساعدة أبنائه وبناته أحيانا، وقد طُبعت عامة كتبه على نفقته الخاصة.
وهكذا برز لنا كثرةُ مؤلفات الشيخ رحمه الله، فهو من أعظم مشاريعه وأكبر منجزاته وعطاءاته التي قدمها للأمة الإسلامية، وكأنه أدرك أنه العمل الذي يبقى أثره في العالمين من بعده ويستفيد منه الناس، وهذه الكثرة والكم الهائل لم تكن في واحد منها على حساب الكيف؛ بل تمتاز أعماله البحثية وجهوده التأليفية بالدقة والتحرير والتدقيق، ولم تقتصر هذه الدقة على النصوص، بل كان دقيقا في كل ما يكتب، بدءًا بالعنوان الذي يختاره حتى الخاتمة التي يختم بها كتابه؛ ويدل لذلك مناقشاته للكتب الأخرى ولمن يناقشهم حيث كان ينتقد عدم دقة عناوينها كما يدقق مباحثها، وهذا في انتقاداته على بعض الكتب وفي مناقشاته للرسائل العلميَّة.
يقول عنه الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “أما أجلّ عمل علمي ظاهر للشيخ فهو مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الأربعين وربما أنها أكثر، وهذا الرقم ينصرف لعدد العناوين فقط، إذ إن المحتوى لبعضها يتفرق في عدة مجلدات، مما يرفع الرقم إلى قريبٍ من مئة.
اختص الشيخ الطريقي بتراجم السادة الحنابلة ومؤلفاتهم، وبما يرتبط بهم من بيوت ونسب وأقوال فقهية. كما بحث كثيرًا من المسائل الطبية بما يفيد في هذا البابِ المتجددةِ مسائله، الدائمة الحاجة إليه؛ وما أجدر كلياتنا الشرعية ومجمعاتنا الفقهية بالعناية فيه مع غيره من النوازل والمسائل”([34]).
ومما لاحظه العساف ونبه إليه كثرة مؤلفات الشيخ وكتُبه، ويعود السر في ذلك إلى عزلته وسهره الليالي مع القلم والمداد والقماطر، ومدافعته للمشغلات من الجلسات والسمر والمحافل، يقول الدكتور إبراهيم المديهش: “الشيخ -رعاه الله- يحب العزلة للعلم والتأليف، بعيد عن الأضواء، وليس من رواد المجالس الدورية العامة والندوات واللقاءات الفخرية، وبهذا وغيره أنتج للمسلمين هذه المؤلفات المباركة الطيبة”([35]).
ولم يكن الشيخ يُقحِم نفسه في غير مجاله، بل كان من أكثر الناس احتراما للتخصص؛ ولذا كان كما يقول زميله ورفيقه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي: “يبحث في إطاره، ولا يخوض فيما لا يحسن، فضلًا أن يدعي معرفة كل شيء… ومن الشواهد على أن أبا محمد كان كما قلت أنه أحيل إليه مرة من إحدى الجهات الحكومية بحث موضوعٍ ذي طابع اجتماعي، فاعتذر إليهم، وأشار بأن يحيلوه إليّ، فأحالوه وبحثته، وبعد تحكيمه وصلاحيته للنشر نشر في عام ١٤١٧هـ”([36]).
3- إسهاماته في الإدارات والأنشطة العامة:
كان الشيخ قد شارك في أنشطة عدة غير ما قدمه في المسيرة التعليمية والتأليفية؛ فبالإضافة إلى ما سبق من الجهود التي ينوء بالقيام بأعبائها مركز علمي كان الشيخ قد قدّم إسهامات بارزة في مجالات إدارية وأنشطة متنوعة، ومن أبرز تلك الإسهامات ما يأتي:
- عيِّن وكيلًا للرئيسِ العامِّ لإدارةِ شؤونِ المسجدِ النبويِّ بتاريخِ 11/ 06/ 1407هـ، وقد عملَ فيه أكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ، انتقل بعدها إلى هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية كما سبق.
- مراجعةُ عددٍ من المقررات الدراسية للمراحل الثلاث: الثانوية، والمتوسطة، والابتدائية، في وزارة المعارف.
- المشاركة في عدد من الندوات العلمية داخل المملكة وخارجها.
- عضوية الأسرة الوطنية للعلوم الدينية والتربية الإسلامية بوزارة المعارف عام 1407هـ.
- عضوية مجلس الأوقاف الأعلى.
- شارك في لجان إعداد المناهج لبعض الكليات، ولجان أخرى لوضع اللوائح والأنظمة.
- ألقى محاضرات عامة ضمن المواسم الثقافية خلال السنوات الدراسية.
- قدّم أحاديث إذاعية في إذاعة الرياض، وإذاعة القرآن الكريم، وإذاعة نداء الإسلام، وشارك في ندوات إذاعية.
وعلى الرغم من هذه الجهود والأعمال الكثيرة كان يقلل من شأنه وشأنها، ولا يحب أن يتحدث عنها سواء العلمية والعملية، ولا أن يتحدث أحد عنها فضلا عن أن يُعظِّمها، وكان هذا ديدنه الدائم الذي يؤكد عليه به دائمًا.
برنامجه اليومي:
كان الشيخ رحمه الله يُعطِي الأولويَّة القصوى لاستثمار وقته في العلم؛ فوقته أغلى ما يملك؛ ولذا كان ينفق غالب وقته على العلم تعلمًا وتعليمًا؛ وللتأليف نصيب الأسد من وقته، وقد عُرف عنه دقة تنظيمه لوقته وبرنامجه اليومي تكاد تعرف عمله في كل دقيقة قبل أن يعملها؛ وكان دقيقا جدا في تقدير الأولويات، يقدم المهم فالأهم، ويبدو أنه من النادر بل من غير الموجود إعطاء شيء من الوقت ولو ثوان لشيء غير مهم أو تافه في حياته؛ بل كان أشح ما يكون بوقته؛ وإنه لأشد من شح التاجر الحريص على ماله؛ ولذا كانت مواعيده محسوبة الوقت معروفة([37]).
وأما برنامجه تحديدا فقد عُرف عن الشيخ أنه كان يبدأ يومه في آخر الليل؛ حيث يستيقظ قبل الفجر بمدة ليقوم الليل ويصلي الوتر، ثم إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر يتوجه للمسجد ويصلي ثم يجلس يذكر الله ما شاء الله له ذلك ويتلو ورده اليومي، ثم يعود للبيت ليتناول القهوة مع تمرات معدودة ليدخل بعدها مباشرة إلى قصره في بيته، ويعانق كتبه وأقلامه ودفاتره؛ فيواصل ما كان قد بدأه في اليوم الذي قبله؛ وكان يتخلله وقت قصير يتناول فيه إفطارًا بسيطا يعتني أن يكون مما يعينه على تأليفه ويحافظ على صحته، ثم يعود إلى كتبه ودفاتره من جديد حتى قبيل أذان الظهر.
ثم يصلي الظهر، ثم يتناول غداء خفيفا يهتم أن يكون من الأصناف المفيدة لصحته والمعينة له على الكتابة والتأليف، ثم يعود بعد الغداء مباشرة إلى التأليف من جديد حتى صلاة المغرب، ولا يقطعه عن التأليف إلا الذهاب لصلاة العصر.
وكان الشيخ قد خصص وقت المغرب لأهله حيث يلتقي بأبنائه وأهله، ويتناول معهم القهوة في جلسة خفيفة حتى أذان العشاء.
ومن عادته أنه بعد صلاة العشاء لا يطيل السهر والجلوس، بل يتناول عشاءً خفيفا جدًّا ويخلد للنوم بعدها تقريبا على الساعة التاسعة مساء، ويذكر نجله أنه عاش على هذه الحال منذ ٤٠ سنة.
ولا يعرف عنه أنه سهر يومًا إلا مضطرًا؛ كأن يضطر إلى السهر من أجل السفر، وكان لا يرضى أن يُشغله شيء عن برنامجه اليومي؛ فمثلا إن اضطر إلى الذهاب إلى محافظة الزلفي والاجتماع بالأسرة -وكان حريصا على حضورها وصلة الأرحام([38])– يهتم جدًّا بالعودة إلى منزله في نفس اليوم حتى لا يُؤخِّر أعماله وإنجازاته في التأليف والبحث وغيره، ومثله الحضور لمناسبات الزواج، فيذهب تقديرًا للداعي ولا يتأخر وإن كان يضحي بشيء من الوقت؛ لأنه بطبيعة الحال سيتأخر عن موعد نومه المعتاد، فنومه ثابت لا يتغير([39]).
“ومما يثير العجب هنا حصوله على طموحاته بثمن باهظ؛ كونه ضحَّى بوقته وبجهده؛ مستعينا على ذلك بتوفيق الله وعونه؛ برغم المعوقات المادية الصعبة، ولكنها الهمم تفعل فعلها”([40]).
ولا شك أن الأمر كان مختلفا أيام عمله في كلية المعلمين وما بعدها، ورغم ذلك لا يكاد يجد فرصة إلا ويلازم مكتبته في بيته، ولكنه بطبيعة الحال لم يكن تفرغه للتأليف حينها كتفرغه آخر عمره، بل كان مُثقلًا بأعباء الأعمال والوظائف وتراتيب المناصب ومشغلاتها؛ بل -كما تبين من مسيرته العلمية- أنه كان أول الأمر منشغلًا في كلية المعلمين، انتقل بعدها عند تعيينه وكيلًا لرئاسة شؤون المسجد النبوي عام 1407هـ، فكان يُدوام يوميًّا من الساعة السابعة إلى قبيل العصر، ثم لما انتقل إلى الجامعة الإسلامية بدأ يتفرغ نوعا ما؛ حتى تفرَّغ بالكلية بعد التقاعد([41]).
تعبده لله:
لا شك أن طلب العلم والانغماس فيه عبادةٌ من أجل العبادات، وأجره وثوابه عند الله أعظم الأجر والثواب؛ خاصة وأنه من الصدقة الجارية التي يبقى ينتفع به وإن مات صاحبه، ويبدو أن الشيخ ممن كان ينوي التعبد لله بيومه كله وحياته كلها، ومن يتأمل برنامجه اليومي يتيقن ذلك، فقد كان دائم الإخبات لرب العالمين ودائم التعاهد للإخلاص في كل شؤونه العلمية والعملية؛ ولذا نجده يرفض من أي شخص أن يتحدث عن أعماله وإنجازاته ومشاريعه؛ ويؤكد نجله في أكثر من حديث أن والده لو كان حيًّا لن يرضى أن ينطق بشيء مما دُوِّن عنه في هذه الترجمة.
ولكن في هذا المبحث نقصد إلى تجلية بعض الجوانب التعبدية المحضة من حياة وتعظيمه لشعائر الله سبحانه.
فلئن كان الخليل إبراهيم عليه السلام خلد للبشرية دعوته لولده: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، فقد خلَّد الشيخ رحمه الله ذلك عمليًّا في حياته؛ حيث كان من أحرص ما يكون على إقامة الصلاة في مواقيتها، لم يُر يومًا من الأيام وقد فاتته تكبيرة الإحرام؛ بل عُرف حريصًا على صلاته محافظًا.
وكما كان مقيمًا للصلاة في نفسه لم تكن تقر عينه حتى يرى ذريتَه مقيمين للصلاة، وقد اتخذ لذلك الوسائل والأساليب؛ ومن ذلك على سبيل المثال أنه كان يوقظ أبناءه يوميًّا لصلاة الفجر، ولما طال به العمر وكان الأبناء بالدور العلوي كان قد اتخذ في بيته جرسًا خاصا قام بتركيبه ليس لشيء إلا لإيقاظهم لصلاة الفجر، ومع ذلك إن لم يستيقظوا كان يصعد الدرج رغم كون الصعود فيه من الصعوبة ما فيه([42]).
وقد عُرِف عنه رحمه الله بِرّه وشدة عنايته بوالدته، لا يعصي لها أمرًا، ويحرص على إسعادها في كل مناسبة؛ كان يحبها حبًّا جمًّا لا نظير له، فليس لأمرها نقاش، ولا لرغبتها تأجيل، فعلى سبيل المثال عندما انتقل للرياض قبل أكثر من ستين سنة من وفاته استأذن أباه ليصحبها معه، فوافق فأحضرها معه وعاشت عنده منذ ذلك الوقت؛ فكانت هي جنة البيت، وهي المدلَّلة التي لا يرد لها طلبًا ولا يترك لها حاجة.
ومن مظاهر بره أيضًا أنه كان يصحبها يوميا لصلاة التراويح في المسجد الذي تحبُّ الصلاة فيه طيلة شهر رمضان([43]).
وكان الشيخ كريما سخيًّا، كثيرا يتبرع للجهات الرسمية الخيرية، خاصة حملات التبرع، وكان يتبرع للمحتاجين بالآلاف، وهكذا عاش طيلة عمره زاهدا معرضًا عن الدنيا، يعيش فيها بالكفاف؛ وكأن حياته صورة حية لما أخبر عنه الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن من كان عنده قوتُ يومه آمنًا في سربه معافًى في بدنه فكأنما حيزت له الدنيا؛ هذا مع أنه قد هُيئت له المناصب وما يتهافت عليه طلاب الدنيا، إلا أنه آثر أن يعيش سهلا رحيما حامدًا صابرًا شاكرا وفيًّا مخلصا، وعاش على هذا الحال أربعين سنة، لم يُعرف عنه التشكِّي من حزن أو هم أو وجع أصابه طيلة عمره، بل كان كثير الثناء والحمد للمولى سبحانه وتعالى.
أخلاقه وصفاته:
وأما عن أخلاقه فيبدو أن الشيخ رحمه الله كان ممن يقتفي أثر نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح: سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن([44]). فالشيخ رحمه الله سطَّرها عمليًّا في حياته؛ حيث كان ذا منزلة رفيعة في الخلق والسمت، سواء في تواضعه ولين جانبه، أو في بشاشته مع كل أحد وحسن منطقه، أو في تواريه عن الأنظار والأضواء.
ومن صور تواضعه أنه كان رحمه الله بسيطًا في تعامله مع الكل؛ فعلى الرغم من مكانته العلمية والمجتمعية لا غضاضة عنده أن يميط الأذى عن الطريق؛ كالحصى وينحِّي أكياس القمامة من أمام الشارع وبيوت الجيران ويضعها في الصناديق المخصصة لذلك([45]).
ومن صور تواضعه رحمه الله أنه كان يحب أن يقوم بشئونه بنفسه، ولا يحب أن يطلب قضاء حوائجه وحوائج أهل بيته، لا يحب أمرهم مع كونهم أولاده؛ فتجده يراجع الإدارات والدوائر وينهي حاجاته بنفسه مع أنه كان قد بلغ من العمر عتيًّا، ولا يطلب حتى من أبنائه([46]).
ومن صور تواضعه أنه كان لا يحبُّ إظهار نفسه؛ فكان يحب البساطة وعدم التكلف، ولا يحب الظهور في وسائل الإعلام ولا البهرجة، ولا يبحث عن الصيت والمدح والثناء؛ بل هو أبعد ما يكون عن ذلك، فحاله وصفاته قبل توليه المناصب هي ذاتُها صفاتُه وحاله بعد أن تولاها، ويظهر هذا التواضع في هضمه لنفسه في كتبه ودراساته التي حررها في النوازل الفقهية مع أنها من أصعب الدراسات وأكثرها حاجة لجدية البحث وإعمال الفكر واستيعاب الواقع، يقول الشيخ: “ونظرًا إلى أننا لسنا من العلماء ولسنا من المفتين، إلا أننا أردنا أن نساهم بهذا البحث، لا أن نفتي الناس بما نقول، ولكن لنساعد المفتي على إيجاد بحث يجمع شتات الموضوع ويلم عناصره ويبرز أقوال الفقهاء من كتبهم المعتبرة؛ ليسهل على المفتي معرفة الآراء والأدلة، وليستفيد من ذلك طالب العلم الذي يبحث عن المسائل في مظانها”([47]).
يقول زميله ورفيقه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي: “ومن معالم نبوغه توازن الشخصية، حيث تجده دومًا وسطيًّا معتدلًا في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فعندما يتحدث يزن كلامه، فلا ينطق إلا بما يراه حقًّا أو مفيدًا أو حكمة. وعندما يتصرف تلحظ الاعتدال في تصرفاته ومواقفه، وبرغم كثرة لقاءاتي به في مواقف وأحوال مختلفة لم ألحظ عليه تهورًا، أو تسرعًا، أو تأخرًا في اتخاذ القرار عن وقته المناسب. ولا أذكر موقفًا واحدًا تصرف فيه بما يلام عليه، يستوي في ذلك التصرف العلمي والحياتي، بل كان قدوة جلسائه ممن هم دونه علمًا أو سنًّا أو قدرًا”([48]).
وكان رحمه الله وقورًا هادئًا، يحب أن يعمل بصمت وهدوء، ويتجنب الزوبعة الإعلامية، ويزهد في الظهور والشهرة، بل كان متواريًا عن الأنظار لا يتكلم هو عن نفسه، ولا يرضى أن يتكلم عنه وعن إنجازاته أحد؛ حتى إن نجله يقول: “لو كان حيًّا لما رَضِي أن أقول عنه كلِمَةً من هذا الذي أقوله لك وأمليه([49]).
وكانت الدنيا آخر همه ولا يسعى وراءها نهائيا، ولم يستفد مما اكتسبه منها من الأموال شيئا؛ بل تركه كله لأولاده وورثته، ولم يجعل منها شيئًا لنفسه، بل كان زاهدًا في الدنيا، وليس هذا بُخلًا من الشيخ رحمه الله، بل لو جاءه أحد مقترضا مئات الألوف أقرضه في الحال ولم يبال([50]).
وهكذا كان الشيخ -كما يقول الدكتور إبراهيم المديهش-: “لطيف الجانب، حلو العبارة، متواضعًا، سليم الصدر، أحسبه من الصالحين الأخفياء، والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا. زرت الشيخ ثلاث مرات، منها زيارة بصحبة شيخي العلامة عبد العزيز بن قاسم -رعاه الله وسدده- فوجدت فوائد علمية، وكرمًا وتواضعًا، وقد أفضل عليَّ ببعض مؤلفاته من خلال مجالسته ومهاتفته ومراسلته، ومن خلال كتبه، لم أجد عنده الكِبر والعُجب والتعالي الذي بُلي به بعض أهل زماننا، خاصة مَن عنده مؤلفات وتحقيقات، وهذه مِنَّة من منن الله تعالى على الشيخ، فمنةُ الأدب أعظم من منة العلم، وباجتماعهما نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء”([51]).
يقول زميله ورفيقه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي: “وبسبب ذلك كان كثير الصمت قليل الكلام، لا يحب إعادة الكلام وتكراره، بل كان كلامه قصدًا، وكان إذا تكلم تكلم بهدوء بدون انفعال أو رفع صوت”([52]).
ويقول نجله: “كان أبي مدرسة في التربية والتعليم، فلا تكاد تراه يغضب من تصرف أو يقلل من عمل أو ينتقد لمجرد النقد، بل كان الهدوء والسمت لباسه، والرزانة والسكينة وشاحه، والتوجيه والتعليم منطوقه، والدين والتمسك ظاهره وباطنه”([53]).
وقد “عُرف بالحِلم والوقار، فلم يكن يغضب ويرفع صوته، أو يكثر العتاب، مع هدوء تام وتؤدة… كما عُرف بالضبط والدقة في حساباته وشؤونه، له سجل قديم يُدوِّن فيه تواريخ الميلاد والوفاة لأقاربه ومكان الدفن”([54]).
ويشهد له كل من عرفه حق المعرفة “برجاحة العقل والنباهة وكمال الأدب. ومن ثم حسن التصرف وإصابة الحق والحكمة، حتى عرف بذلك… ولئن كان أبو محمد بسماته تلك يحمد النتائج، فكأني به كان يرهق نفسه ويتعب من حوله، ويكلفه ذلك ثمنا باهظا”([55]).
ويقول عنه الأستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف: “عالم شهد له عارفوه باللطف، وحسن الخلق، وخفيض الصوت، والبعد عما يؤذي ويجرح”([56]).
وكان الشيخ يعتني كثيرا بتربية ولده، وله في ذلك أساليب وقصص، ومن ذلك أنه كان يكتب بعض توجيهاته ونصائحه في أوراق ويضعها في ظرف ورقية ويعطيه إياها، ويقول: اقرأها لوحدك. وهذا الأسلوب كان يكسب استجابة ولده لتوجيهه دون توبيخ أو نحوه.
ومن الملاحظ عليه أنه كان حريصا على ربط أبنائه بالعلم والعلماء والكتب؛ ولذا نجده يصطحب ولده معه في زياراته وطلعاته العلمية وإن كان الولد لما يبلغ مبلغ الفهم والإدراك لما يقولونه ويتحدثون فيه، كما أنه كان يحثهم ويرغبهم بالارتباط بالمكتبات العلمية والكتب وبناء علاقة ود ووئام بينهم وبين الكتب؛ فكان يكافئهم ببعض المكافآت المادية والعينية حين جلوسهم في مكتبته الخاصة بالبيت، وأحيانا يحفزهم بتوكيل بعض الأعمال العلمية الخفيفة إليهم كنسخ بعض صفحات الكتب، وكان يحفزهم على كثرة النسخ والكتابة وهم صغار حتى يجيدوا الكتابة ويحبوها؛ تقول ابنته ريم: “وكان يكافئنا على كل صفحة نكتبها حتى أتقنا الكتابة وأجدنا الإملاء، وفي المرحلة المتوسطة بدأ بتكليفنا بمراجعة كتبه وتدقيقها ثم يكافئنا”([57])، وأحيانا كان يطلب منهم إحضار أمهات الكتب له من الرفوف؛ وكان يترك ولده يبحث عن الكتاب لأن ذلك يجعله يعتاد الاطلاع على الكتب والتعرف عليها ومعرفة عناوينها وخلق علاقة بينه وبينها، وكان هذا منذ أن كانوا في الثامنة من أعمارهم أي: لا زالوا طلابا في المرحلة الابتدائية([58])، وهكذا كان مهتما بأن يغرس فيهم “حب العلم والقراءة، وكان يقرأ عليهم من كتب السيرة وحياة الأنبياء والصحابة والمجلات النافعة التي تستهدف الناشئة، وكان لهذا أثر كبير في نفوسنا” كما تقول ابنته منيرة([59])؛ بل تعدى التأثير إلى أحفاده الذين كانوا يحبون الاستماع إلى قصص جدهم وقراءاته لهم بأسلوب مناسب ومشوق.
يقول نجله: “كان يطلب مني إحضار بعض الكتب وأسأله عن مكانها، فكان يقول لي: ابحث حتى تجدها ولك مني هديه، وكان قصده أن يعرفني بالكتب بطريقه تحاكي عمري الصغير، فكنت أبحث عن (شذرات الذهب) و(تاريخ بغداد) و(سير أعلام النبلاء) و(فتاوى ابن تيميه) وعدد لا يحصى من الكتب، والله أنني أعرف الآن مكانها وصفها بدقة رغم انتقالنا من ذلك المنزل قبل ٢٧ سنة”([60]).
وكثيرا ما كان يشجع ولده حين ينجحون، خاصة إذا أحرزوا درجات عالية في التقييم الدراسي؛ كافتخاره واعتزازه في العائلة بأن ابنته أسماء كان ترتيبها الأولى على فصلها؛ وكان كثيرا ما يذكر هذا الموقف ويتعجب([61])؛ تشجيعًا لها كما تذكر ابنته أسماء.
وكان رحمه الله لا يرضى بالحلف بالله إلا عند الضرورة، وقد ربى ولده على ذلك، فكان يوبخهم على ذلك بهدوء، وكان لا يرضى به أثناء نقاش أو حديث، كما أنه كان يرفض أن يغتاب أحد في مجلسه، وكان صارما في ذلك، فلا يسمح بذكر أي شخص بسوء في حضوره فضلا عن أن يغتاب هو غيره، يقول نجله: “رافقت والدي رحمه الله كثيرًا في بدايات عمري، وكان مدرسة في التربية والتعليم، فلا تكاد تراه يغضب من تصرف أو يقلل من عمل أو ينتقد لمجرد النقد، بل كان الهدوء والسمت لباسه والرزينة والسكينة وشاحه والتوجيه والتعليم منطوقه والدين والتمسك ظاهره وباطنه رحمه الله”([62]).
وقد كان رحمه الله بسيطًا في تعامله مع أسرته، لطيفًا معهم، لا يسمعون منه النصائح إلا بلطف ولين، ولا يستأثر برأيه على رأيهم، بل قد يأخذ بمشورتهم فيما يتقنون.
كما أن الشيخ كان يعتني بمرافقتهم له خاصة إلى مجالس الأخيار والفضلاء وذوي الهمم والإنجازات، يقول نجله: “كنت رفيق والدي منذ صغري، حين كان يأخذني معه إلى مجالسه واجتماعاته مع العلماء والمشايخ. رغم أنني كنت صغيرًا في الرابعة من عمري، إلا أنه أصرّ على حضوري تلك المجالس العلمية، وكان محقًّا؛ فقد تركت أثرًا عظيمًا في مراحل حياتي لاحقًا”([63]).
وكان رحمه الله يستمع أكثر مما يتكلم، وإن كان الموضوع المُتحدث فيه معلومًا عنده بل هو متمكِّن فيه كل التمكُّن؛ يقول نجله: “كان الوالد هادئًا أغلب الوقت ولا يتكلم كثيرا؛ وفي أغلب حياته عاكف على العلم وعلى التأليف، وكان إنسانا هادئ الطباع محبًّا للسكوت مستمعًا لأبنائه وللآخرين قبل أن يقول رأيه، مع أنه في كثير من الموضوعات يعرف المعلومة قبل أن يسمعها من غيره”([64]).
وأما عن علاقته مع رفاقه وزملائه فقد كان له زملاء خواص ورفقاء خَوَاصّ خُلَّص يلتقي بهم أسبُوعيًّا، ويتبادل معهم أطراف الحديث خاصة يوم الجمعة، ومن خواص رفقائه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي والدكتور فهد الرومي والدكتور ناصر الجديع وغيرهم؛ وعلى الرغم من انشغال الشيخ رحمه الله بالكتابة والتأليف عامة وقته إلا أنه كان يحب أن يجالس أهل العلم والصلاح والأخيار، ومن ذلك على سبيل المثال علاقته مع الشيخ محمد أيوب، وكذلك علاقته مع زميله وصاحبه الشيخ ناصر الجديع حيث يذكر أن الشيخ كان كلما طلب زيارته يوافق مباشرة ولم يكن يرفض اللقاء؛ بل غالبا ما يلتقي به بعد صلاة المغرب مع أنه في تلك الفترة كان مشغولا جدًّا بتأليف المعاجم والموسوعات التي أخرجها فيما بعد، ولكنه مع ذلك لم يكن ينبس في موضوعها ببنت شفة([65]).
يقول نجله: “وقد كان الشيخ يثني كثيرا على الشيخ محمد أيوب حيث كان قد سافر معه في الرحلات التي كانت تنظم من الجامعة الإسلامية لترشيح الطلاب وقبولهم من الدول الأخرى كتركيا وماليزيا؛ ويذكر بعض القصص التي تبين رفعة أخلاق الشيخ رحمهما الله أجمعين”([66]).
وفاته:
أصيب الشيخ رحمه الله بجلطة دماغية أول عام 1445هـ تقريبا، وهو ما أفقده الإدراك، ومع ذلك كان يسمع الأذان ويحاول النهوض وأداء الصلاة، وقد عانى من المرض حولا كاملا وشهرين توفي إثرها رحمه الله، وكان ذلك تحديدًا يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهرِ جمادى الأولى عام ألف وأربعمائة وست وأربعين للهجرة النبوية (25/ 5/ 1446هـ) يوافقه (27/ 11/ 2024م)، عن عمر يناهز 80 سنة قضاها بين العلم والتعليم والتأليف والتحقيق، وصُلِّي عليه بجامع الراجحي في الرياض، رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
رثاؤه:
يقول نجله في رثائه:
إله الكون ربَّ العالمينا *** إله الأولينا وآخرينا
إلهًا قد تعلّى فوقَ عرشِ *** رحيم غافر ما قد نسينا
سميع عالم في كل حال *** بصير في العباد وما لدينا
سألتك يا إلهي كلَّ عفو *** ومغفرةً لوالدنا أبينا
فعبد اللهِ فارقَ كلَّ دنيا *** وفارقنا وكلَّ بني أخينا
ولحدناهُ في قبر صغير *** وهلينا التراب به وطينا
إلهي إنني راض بأمرٍ *** وما قدّرته فينا رضينا
ويقول أيضا في رثائه:
عيناي تذرف دمعًا لا حدود له *** فكيف أنسى وإن سُمّيت إنسانا
لا أستطيع صمودًا إن رأيت له *** شيئًا يذكّرني طيبًا وإحسانا
هي الحياة حياةُ يوم مولدنا *** ويوم نرحل ما تُبقيه ذكرانا
فإن فقدت حكيمًا عالمًا فطنًا *** وكان يُحسن في التعليم قرآنا
وكان يكتب في تعليمنا كتبًا *** آلاف من رحلوا فيهم لقد صانا
صان الأمانه في علم يورّثه *** فالله يرحمه والله يرعانا
يا رب إن فؤادي صابه كمد *** لا أستطيع لهذا الحب كتمانا
نهاية القول إن الله خالقنا *** وموته جاء إن الموت قد حانا
غفرانك الله مع عفو يُسر به *** خيرًا ومنزلةً رَوحًا وريحانا
ويقول أيضا في رثائه:
الموت حق وما للموت توقيت *** وما لقلبي سوى للصبر تجديد
مصيبة الموت زارت روح منزلنا *** زيارة لابها وقت وتحديد
أرى فراشك أبكي حين ألمحه *** أين النحيل أبي أين التناهيد؟
وقال أيضا في قصيدة أخرى:
رحلت وما رحلت عن القلوب *** ورب الكون علام الغيوب
هو العلام فيما كنت تخفي *** من الطاعات في كل الدروب
بشوش هادئ لا ريب فيه *** يفر من المعاصي والذنوب
أتذكر يوم أن كنا صغارًا *** ورحلتنا إلى أقصى الجنوب
أتذكر إذ أنا طفل صغير *** تعلمه النجاح بلا رسوب
جزاك الله كنت أبًا رحيمًا *** وقاك الله من شر الكروب
يقول الشاعر سليمان الخميس في رثائه:
على الشيخ التقي ارتعتُ لما *** علمت بموته وبدا شحوبي
أعزيكم وأرسل دمع عيني *** وقلبي فيه أنواع الثقوب
ألا يا موت لم أر فيك حلا *** وريح منك دائمة الهبوب
وثبت على الكرام فقف رويدا *** ولا تستعجلن على الوثوب
فما انكفّت عيون من بكاء *** على الموتى بمختلف الضروب
فكم ماتت نفوس في أمان *** وكم سالت دماء في حروبي
لحكمة ربنا نحيا ونفنى *** ألا يا نفس فاعتبري وتوبي
هو الإنسان لو قد عاش دهرا *** أسير للحوادث والخطوب
ورثاه الأستاذ عبد الله بن أبي بكر الحداد في قصيدة طويلة منها:
عانق المجد وارتقى *** جمع الدر وانتقى
خدم العلم صامتا *** لابسًا حلة التقى
ترك الدرب بعده *** تنهل العلم رقرقا
مات والكل شاهد *** أنه عاش مشفقًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مصادر الترجمة المراجع التالية:
- ترجمة كتبها الشيخ عن نفسه في حاشية آخر كتابه: الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنا، للمترجَم له أ.عبد الله بن محمد الطريقي (12/ 382 وما بعدها)، وقد سار في هذه الترجمة على ما سار عليه في كتابه عامة من تجنب الاستطرادات والمنامات، والعناية بأهم مضمون الترجمة، حتى إنه يصعب على من رام الاختصار اختصارها.
- ما وُجد في كتب التراجم من أخباره، ومن الملاحظ أنها لا تضيف كثيرا عما في ترجمته لنفسه، بل إن بعضها لم تذكر بعض المعلومات المتأخرة في حياة الشيخ كتأليفه الموسوعة والمعجم كما في المرجع الأول مثلا، وهو ما يدل على أن ترجمة الشيخ لنفسه من أواخر الترجمات وأوفاها، ومن تلك المراجع: علماء وأعلام وأعيان الزُّلفِي (ص: ۳۲۷)، موسوعة أسبار: 2/ 740 (١٠٤٥)، الزُّلفِي من سلسلة هذه بلادنا (ص: ۸۷)، دليل حصر الكفاءات العلمية السعودية، العدد الثاني: ٨٤، دليل المؤلفات الإسلامية: ٤٢٣ (۱۹۲٦، ۱۹۲۷)، دلیل عناوين رسائل الدكتوراه والماجستير في المعهد العالي للقضاء: (۱۷۳) ١٦، مصنفات الحنابلة: 7/ 379(۳۱۷).
- ما كتبه عنه تلاميذه ومحبوه عقب وفاته رحمه الله، ومنها ترجمة كتبها أحمد بن عبد المحسن العساف بعنوان: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة)، ونشرها في مدونته يوم الأربعاء بتاريخ 25/ 5/ 1446هـ، وفوائد ومواقف كتبها الدكتور إبراهيم المديهش ونشرها على قناته بالتلغرام عقب وفاة الشيخ، ترجمة كتبها عبد الله بن إبراهيم الطريقي بعنوان: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف)، ونشرها بتاريخ 10/ 6/ 1446هـ.
- التواصل مع ذويه والمقربين منه والمهتمين بشأنه، ومنهم: ابنه محمد الطريقي، ورفيقه وابن عمه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي.
([2]) ينظر: علماء وأعلام وأعيان الزُّلفِي، فهد بن عبد العزيز الكليب (ص: ۳۲۷).
([3]) ينظر: مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([5]) مقال: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة).
([6]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([8]) ولم أجد عنوان رسالته للماجستير في كافة المراجع والترجمات، وإنما أخرجه لي نجله محمد بعد بحث وتفتيش في أوراقه، وأخبرني به بتاريخ 16/ 6/ 1446هـ.
([9]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([10]) مقال: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة).
([11]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات، كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([12]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([13]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات، كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([14]) مقال: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة).
([15]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات، كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([16]) أفادني بذلك الدكتور إبراهيم المديهش في تواصل معه بتاريخ 1/ 6/ 1446هـ.
([17]) نشره الدكتور إبراهيم المديهش على قناته في التلغرام بتاريخ 4/ 5/ 1446هـ.
([18]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات، كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([19]) الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنا، الطبعة الأولى ١٤٢٢ه-٢٠٠١م (12/ 384).
- التواصل مع ذويه والمقربين منه والمهتمين بشأنه، ومنهم: ابنه محمد الطريقي، ورفيقه وابن عمه الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي.
([20]) الاضطرار إلى الأطعمة والأدوية المحرمة، مكتبة المعارف الرياض الطبعة الأولى ١٤١٣هـ-١٩٩٢م (ص: ٥).
([21]) معجم مصنفات الحنابلة، الطبعة الأولى ١٤٢٢هـ-٢٠٠١م (ص: 28-29).
([22]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات، كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([23]) معجم مصنفات الحنابلة (ص: 11-12).
([24]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([25]) الحنابلة خلال ثلاثة عشر قرنًا (ص: ٩-١٠).
([26]) ينظر: المرجع نفسه (ص: 41).
([27]) مقال: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة).
([28]) نشره الدكتور إبراهيم المديهش على قناته في التلغرام بتاريخ 4/ 5/ 1446هـ.
([29]) تاريخ الكعبة المشرفة، الطبعة الأولى ١٤٢8ه-٢٠٠7م (ص: 5).
([30]) التعليق والتصحيح والإضافة على كتاب علماء الحنابلة (ص: 5).
([33]) مقال: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة).
([35]) نشره الدكتور إبراهيم المديهش على قناته في التلغرام بتاريخ 4/ 5/ 1446هـ.
([36]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([37]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([38]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([39]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([40]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([41]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([42]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([43]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([45]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([46]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([47]) الاضطرار إلى الأطعمة والأدوية المحرمة (ص: ٥).
([48]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([49]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([50]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([51]) نشره الدكتور إبراهيم المديهش على قناته في التلغرام بتاريخ 4/ 5/ 1446هـ.
([52]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([54]) نشره الدكتور إبراهيم المديهش على قناته في التلغرام بتاريخ 4/ 5/ 1446هـ.
([55]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([56]) مقال: (عبد الله الطريقي: الفقيه ومؤرخ الحنابلة).
([57]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([58]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([59]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([60]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([61]) مقال: (وآذنت مدونة الحنابلة بالتوقف).
([62]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([63]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([64]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([65]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.
([66]) أخبرني بذلك نجله في اتصالات ومراسلات كان أولها بتاريخ 4/ 6/ 1446هـ.