
موقف الليبرالية من أصول الأخلاق
مقدمة:
تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]).
وأصول الأخلاق في الإسلام مصدرها الأساس هو الدين الوحي المعصوم، ولذا لم تترك لاجتهادات البشر وتغيرات الزمان والمكان، وإنما كان استمداده من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
فالصدق والعدل والوفاء والنصح والإحسان وغيرها فضائل ثابتة وقيم مستقرة ترتبط بالإيمان وتنبثق منه، وضدها من الكذب والظلم والخداع والغش والإساءة رذائل تتنافى مع كمال الإيمان ويتنزه عنها المؤمن الصادق.
يقول د. أحمد فؤاد الأهواني: (إن الأصل في الأخلاق الإسلامية على مذهب أهل السنة يرجع إلى سلطة خارجية قاهرة هي سلطة الدين، وأساس هذا الدين القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ الواجب تعليمها وتعلمها، والصلة بين الإسلام والأخلاق عظيمة تبلغ حد التوحيد بينهما)([2]).
وقد جاءت نصوص كثيرة متضافرة في فضل محاسن الأخلاق والرفع من شأن المتحلِّين بها، أو في النهي عن سيئ الأخلاق ونزول درجة المتَّصفين بها، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
وقد ذكر النبي ﷺ في كثير من الأحاديث الصحيحة الارتباط الوثيق بين رسالته وبين الأخلاق الفاضلة في مثل قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»([3])، وقوله: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبعضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»([4])، وذكر عليه الصلاة والسلام أن كمال الإيمان يشترط له حسن الخلق كما في قوله: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»([5])، وغير ذلك من الأحاديث.
على إطار ذلك حرص مركز سلف على توضيح أن الإسلام يقرر ثبات القيم الأخلاقية لأن مصدرها الدين، وهو وحي إلهي يضبط السلوك الاجتماعي للبشر، ويحدد أطر حياتهم السياسية والاجتماعية والتربوية، ويدعهم يتطوّرون داخل هذه الأطر التي ترعى مصالحهم لأقصى الحدود([6]).
موقف الليبرالية من أصول الأخلاق:
بُنيت الليبرالية على أساس مادِّيّ لا يرتبط بالقيَم والأخلاق، ولا يؤمن بالثبات والاستمرار لشيء، ولا يقبل بتأثير على حياة الإنسان من خارج ذاته؛ فالحرية الفردية التي تُعدُّ المكون الأساسَ في الفكر الليبرالي -بجميع اتجاهاته- تتعارض مع ذلك كله في جميع المجالات، فلا مكان للأخلاق والقيَم في تنظيم شؤون حياة الفرد والمجتمع، ولا أثر لهما في السياسة والاقتصاد والفكر والسلوك([7])، فالأنانية واتباع الهوى وما يترتب عليهما من انعكاسات أمورٌ محمودة عندهم؛ لأنها تحقيق لذاتية الإنسان وفرديته، وهذا ما أوصل المجتمع إلى التعامل بطريقة غير أخلاقية في سياسته واقتصاده، فقد أصبح الحديث عن الأخلاق في مجال المال والاقتصاد مثارَ سخريةٍ وتندُّر لدى الليبراليين؛ لأنه لا مجال للحديث عن القيم الأخلاقية في الأمور الاجتماعية، فالأخلاق هي العمل أيّا كان تقويمه من حيث الجودة أو الرداءة، فالإنسان الأخلاقيّ هو الإنسان المنتِج، وهذا ما جعل الأخلاقَ لا قيمةَ لها في الحقيقة. فانتشرت بسببها: الأثرة، والظلم، واتّباع الهوى([8]).
وهذا ما أكده عبد المجيد الشرفي بقوله: (إن الحرية المطلقة تقود إلى عالم لا أخلاقي)([9]).
كما قرر ذات الفكرة عزيز العظمة في الفكر العلماني فقال: (العلمانية هي عدم ربط الأخلاق بالثوابت، وإنما ربطها بالتاريخ والزمن)([10]).
وهنا يكمن الخلَل في النظرة الليبرالية للأخلاق، وهو عدم التمييز بين المبدأ الخلقيّ والمظهر السلوكيّ. نعم قد تختلف قواعد السلوك باختلاف المكان والزمان، ولكن المبدأ من حيث هو ثابتٌ لا يتغير، فالخلط بين الاثنين يوهم بالتطابق ومن ثمَّ التغير، والواجب عدم الخلط بين تصرفات الأفراد مع المبادئ المطلقة؛ لأن قواعد السلوك قد تتغير، ولكن يبقى المبدأ الخلقي ثابتا ومطلقا([11]).
فالليبراليون يرونَ أن الإنسان بذاته يستطيع أن ينظِّم حياته ويرسم قيمه وأخلاقه دون مؤثرات خارجية، ويستطيع الإنسان أن يسير في حياته بغير التوجيهات الإلهية والأخلاق والقيم النبيلة؛ ولذلك يرون: (أن سائر القيم المزعومة -مثل الأخلاق الشرف- إنما هي آراء تواضع الناس عليها، ولا قيمة لها إلا باتصالها باللذة)([12])، (والإنسان الذي لا يحقّق سعادته الخاصة يكون فاقدًا العقلَ، وقد أخطأ في حساباته، وليس من الفضيلة أن يضحّي الفرد بسعادته من أجل سعادة الآخرين)([13]).
ومن هذا المنطلق كان من هدف الفكر الليبراليّ إعلان حيادية الدولة تجاه الأخلاق، متناغمًا مع دعوتها إلى إقرار التعددية؛ لأن وجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعدُّدي؛ ومن ثم فالدولة الليبرالية ملزَمة بعدم فرض أو السماح بفرض منظور قيمي مشترك للجماعة؛ لأن ذلك يتنافى مع المنظور الليبرالي للأخلاق؛ إذ القاعدة الأساسية أنه لا توجد مرجعية موحدة للقيم، فلكلٍّ أخلاقه وقيمه الخاصة به([14]).
ويشير الدكتور فاروق أبو زيد إلى أن الليبرالية ترى أن الفرد هو محرك التاريخ… وهي بالتالي تستهدف دائما تحرير الفرد من كل القيود التي تأتي من خارجه، سواء أكانت الطبيعة، أو الدولة، أو المجتمع، فالليبرالية ترى أن الفرد هو مركز المجتمع وغايته، وأنه حين يعمل على تحقيق مصلحته الفردية إنما يحقّق في نفس الوقت مصالح المجتمع كله، بالتالي فلا يحق للدولة التدخل للحد من حرية الأفراد([15]).
فالليبرالية في حقيقتها دعوة للأنانية المفرِطة تحت دعوى الحرية الفردية، دعوة إلى تقطيع أواصر العلاقات الأسرية وقطع الأواصر بين البشر تحت دعوى النفعية -البراجماتية- التي تضلَّعت منها الليبرالية ولم تعد تنفكّ عنها، وهي دعوة فجة للفوضوية الأخلاقية، فالإنسان له الحرية المطلقة في البحث عما يشبِع حاجته وشهوتَه بل نزواته؛ لأنه هو الذي يضع لنفسه معايير الصواب والخطأ والحسن والقبيح من الأخلاق والقيم، وإن خالف ما عليه المجتمع، تحت ذريعة أن الوجود سابق على الماهية؛ فالإنسان يوجد أولًا، وهو في بدء وجوده ليس شيئًا، ثم يحدِّد هو ماهيته ومعايير قيمه وأخلاقه، فهو المسؤول عن نفسه، فلا علاقة له بأي مؤثِّر خارج ذاته، فهو بذلك إله نفسه، وهو صانع حريته، وبالحرية يخلُق الإنسان نفسَه بنفسِه([16]).
يقول أحدهم منتقدًا كون الأخلاق استمدادها من الدين: (يدَّعي الكهنوت الديني أن الإنسان يستمدّ منظومته الأخلاقية من الأديان، وشاع هذا الادّعاء واستقرّ في عقول الناس وكأنه حقيقة علميّة لا تقبل النقاش، فأصبح يقال: إنه لا أخلاق بلا دين، وإنه من أجل المحافظة على القيم الأخلاقية فالمرجعية العليا في المجتمع يجب أن تكون دينية)([17]).
ومن لوازم هذا الفكر الخبيث شرعنة الرذائل الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، وقد دعا إلى ذلك صراحة أركون عند الحديث عن الحياة الجنسية، فيقول: (نلاحظ أن كلَّ الكتابات الحديثة التي تتحدّث عن المرأة في الإسلام تستعيد وتكرِّر نفس الأفكار المعيارية والقمعية المعروفة من قبل الجميع، فإننا نحسّ بالرعب أمام التشوّه والضّرر الذي تُلحِقه المجتمعات الإسلامية بنفسها بحجّة أنها تريد أن تحافظ على هويتها. في الواقع أنه إذا كان الحفاظ على الإكراهات والموانع التقليدية يؤخِّر مِن تقدُّم المعرفة العلمية للجنس، فإن ذلك لا يمنع من انتهاك القيم السائدة والخروج عليها، وخصوصًا في المدن الكبرى والبيئات العمرانية الكثيفة السكان)([18]).
وبحسب هذا التصوّر الليبرالي للأخلاق تكون شرعنة الرذائل واختفاء الخطوط الفاصلة بين الخير والشر، بل اختفاء هاتين الكلمتين تماما من قاموس الليبرالية، حيث يصبح لكل فرد أخلاقياته الخاصة التي تصدر من داخله وتعبّر عن رؤيته الذاتية للأمور([19]).
ومن أجل تحقيق رغباتهم الرذيلة يعلنون الحرب على القيم الأخلاقية ومرجعيتها العامة في المجتمع الإسلامي، بل ويدافعون عن الرذائل الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، فتراهم على سبيل المثال يعلنون الحرب على حشمة المرأة وعفافها وسترها -متجاهلين مقولاتهم حول الحرية الفردية- وأنه حقّ لكلّ إنسان أن يفعلَ ما يشاء ويدع ما يشاء، ويحبَّ ما يشاء ويبغضَ ما يشاء، لكن انظر إليهم وهم يهاجمون الحجابَ أو يسخرون من النقاب، ويسنّون كل أسلحتهم ضدّه بحجة أنه يؤذي مشاعر المجتمع ويعَدّ خروجا على النظام العام! مع أن المنقَّبة لم تَدعُهم إلى تقليدها، ولم تلزمهم بزيِّها، ولم تتعرّض لأحد منهم، ولم تعلن الحرب على المرأة المتبرجة التي كشفت عن ساقيها وذراعيها وصدرها ونحرها، وتزيّنت بكل أنواع الزينة وأشاعت الفتنة في المجتمع الذي لا يجد أبناؤه ما يعفّون به أنفسهم عبر الطرق المشروعة، ولا يتعاون فيه أولياء الأمور والأسر على تخفيف المهور وتقليل نفقات الزواج وتيسير أسبابه وسبله، تعزز ذلك الانحلال قنوات تلفزيونية فضائية وغير فضائية، ومواقع للإنترنت تنشر العري وتسوق للسفور على أوسع نطاق([20]).
وقد اعتمد الليبراليون المذهبَ النفعي في تحقيق حرية الإنسان وفرديته، وتوفير الحد الأعلى من اللذة لأكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع، كما جعلوه مقياسًا يُقاس بها قيمة الأعمال الأخلاقية([21]).
يقول زكي نجيب محمود: (إن من صفات العصر أنه عصر علمي وعصر تقني وعصر مدار الأخلاق على المنفعة)([22]).
ويقول أركون: (هناك حاجة ملِحّة الآن لبلورة أسُس فلسفية جديدة من أجل التوصّل إلى روحانية حديثة، وإلى أخلاق عملية محسوسة قابلة لأن تندمج في ممارستنا السياسية والاقتصادية والقانونية. فالروحانية والأخلاق التقليدية عفا عليها الزمن ولم تعد بقادرة على التأثير في الحياة الحديثة… نحن نعلم الآن كيف أن المبادئ الدينية التقليدية المتعلّقة بالموت والحياة والجنس والنسل والزواج والحرية الجنسية ومكانة المرأة في المجتمع قد أصبحت منتهَكَة أو حتى ملغاة تمامًا من قبل التحديات البيولوجية الجديدة، ولهذا السبب أسِّست في بلدان غربيةٍ عديدة لجان للأخلاق من أجل بلورَة أخلاق جديدة تتناسب مع التقدّم العلمي للمجتمع، وتكون قادرة على حماية الشخص البشري… فنحن مضطرون لمراعاة عدة مرجعيات ثقافية ودينية مختلفة… ونحن مضطرون أيضًا لمراعاة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والانعكاسات المترتبة على اتساع الهوة المتزايدة بين المجتمعات الصناعية المتقدمة والمجتمعات النامية المتأخرة)([23]).
وهذه النظرة الماديّة الصِّرفة كانت لها نتائج كارثية لدى الغرب، خصوصًا في مجال الأخلاق والقيم، كما يقول الفيلسوف الأخلاقي إليز داير ماكنتاير: (إن النفعية التي كرّستها الليبرالية والحداثة لا تحقِّق مشتركًا أخلاقيًا أو تدفع الفرد لأداء واجبه تجاه الجماعة، بل عندما تهاوت أبنية الأسرة وصار الفرد فردًا بحث عن حقوقه فقط، وأفلت من التزاماته وواجباته – كلما تسنى له ذلك- جريًا وراء منفعته ولذته)([24]).
وبالجملة فإن التيار الليبرالي يعاني من اللامبالاة الأخلاقية، ولم يُولِ المسائل الأخلاقية ما تستحقُّه من عناية؛ بسبب رؤيته للأخلاق أنها مجردُ شأن خاصّ، تكفله الحرية الشخصية.
نقد الفكر الليبرالي في أصول الأخلاق:
دعوى الليبرالية أن الأخلاق تخضع لحرية الفرد وليس لها ارتباط بالدين قول مجانب للصواب، فالأخلاق موضوعية وليست ذاتية تخضع لميول الإنسان واتجاهاته، ولطبيعة العصر ومتطلباته كما تدعي الليبرالية، فالخير خيرٌ عند الصالح والطالح، والشر شرٌّ عند كليهما كذلك، ذلك لاعتماد الأخلاق على أمرٍ خارج الذهن البشري، فهي تعتمد على إرادة الله التي يريدها لهذا العالم، وأن للأخلاق أغراضا كونية مستقلة عن أفكار البشر ورغباتهم، والقيم الأخلاقية يعتنقها كل إنسان سوِيّ، ولا توجد أمة من الأمم تعتقد بأفضلية الكذب على الصدق، أو الظلم على العدل، أو الخيانة على الأمانة، فالقواعد العامّة للأخلاق لا يختلف عليها اثنان في الوجود، فالقيمة الأخلاقية مطلقَة يعتنقها جميع البشر، ولو سألنا أي إنسان: هل قانون العدالة أو قانون الأمانة أو قانون التعفّف قانون سليم ومناسب لجميع البشر ومحَلّ لرضائهم واتفاقهم؟ لجاءت إجابته بالإيجاب، وهكذا يتَّضح وجود إجماع في الإجابات على أن القيمة الأخلاقية مطلقة، فالمبادئ العامة من قبيل عدم إيذاء الناس أو احترام الآخرين أو “كن شجاعا” إلى غيرها كلُّها مبادئ عامّة لا يختلف عليها أحد، لكن تطبيقها قد يختلف من مجتمع إلى مجتمع، واختلاف الأمم بعضها عن بعض في فهمها والتعبير عنها لا يخرج المبادئ عن إطلاقها، هذه العموميات تظلّ البشرية تتبناها مهما اختلفت مشاربها، لكنها تختلف في أساليب العمل بها فقط، مما يتأكّد معه أن المبادئ الأخلاقية مطلقة لكن التطبيقات السلوكية هي التي تتغير من ظرف إلى ظرف، مثلا: قتل النفس الإنسانية جريمة أخلاقية بكل المقاييس، لكن قتل القاتل لا يدخل في هذا الحكم، بل إنه يعَدّ نوعا من الحياة والمحافظة على قيمة الحياة في المجتمع؛ لأننا لو تركنا القاتل المتعمِّد بلا قصاص لكان ذلك منغِّصا ومكدِّرا للحياة، ومدعاةً لإشاعة الفوضى والخراب في المجتمع، واتساع دائرة القتلى، وانتشار جريمة القتل، لكن استئصال هذه الجرثومة الخبيثة من المجتمع ووقايته من شرها لا شكّ أنه حفاظ على قيمة الحياة والأحياء كما قال ربنا جل وعلا: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]([25]).
كما أن القول بنسبيّة الأخلاق مثَّل انتكاسةً خطيرةً أصابت البشرية في فضائلها ومكارمها وفي كل ما يحقِّق إنسانيتها ورفعتها، وأدَّت لانقلاب خطير في الموازين والقيم، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا([26]).
وعلى هذا فلا بدّ من ربط الأخلاق بمصدرٍ ثابت لا يتغير ولا يعتريه النقص، ولا يتأتى ذلك إلا بربطها بالدين رسالةِ الرسل إلى البشر من الله رب العالمين، إلا أن بعض الأخلاق تبقى في بعض مضامينها ثابتة كفضيلة الصدق والإخلاص والأمانة ونفور النفس البشرية من أضدادها كالكذب والنفاق والخيانة والجحود ونحوه. وإن هذا الثبات لهذه المضامين دليل كبير على أن الأخلاق كانت جزءًا من الدين، بل كان الدين سابقًا للأخلاق والأخلاق كانت بمنزلة الحلول الإلزامية للشعوب المتدينة([27]).
وختامًا: فإن الليبرالية تنطلق في مجاليها السياسي والاقتصادي من مبدأ تحريرهما من أيِّ مضمون اجتماعي أو قيد ديني أو أخلاقي، بمعنى أن الدولة مهمتها حماية حرية الفرد وعدم التدخل في نشاطه وممارساته الاقتصادية والسلوكية، ومن هنا تفهم الحرية على أنها سياج يحمي الفرد من تدخّل الدولة في النشاط الفردي أو المساس به، فهي بذلك تترك المجال الاقتصادي والاجتماعيّ حرًّا في يد المبادرة الفردية، فالخير عندهم يكمن في أن يترك الأفراد أحرارًا يعملون كما يشاؤون وينتجون كما يريدون، يحركهم في ذلك باعث الحصول على الربح وتحقيق أكبر قدر من الثراء، وإطلاق العنان للنفس في تحقيق شهواتها وأهوائها، بعيدًا عن كل القيود الدينية والأخلاقية، خلا ما يفرضه القانون المقيَّد هو ذاته بعدم التعرض للحريات الفردية([28]).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: موقف الليبرالية من محكمات الدين (ص: 855).
([2]) التربية في الإسلام (ص: ۱۱۷).
([3]) أخرجه أحمد (٨٩٥٢)، قال الهيثمي في المجمع (٩/ ١٨): رجاله رجال الصحيح.
([4]) أخرجه الترمذي (2018)، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (791).
([5]) أخرجه أبو داود (٤٦٨٢)، والترمذي (١١٦٢).
([6]) النظام الخلقي بين الإسلام والنظم المعاصرة، رفيق حميد طه البدري (ص: ١٢٧).
([7]) انظر: موقف الليبرالية من محكمات الدين (ص: 861).
([8]) انظر: حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها لسليمان الخراشي (ص: ١٥٦).
([9]) الإسلام بين الرسالة والتاريخ (ص: 199).
([10]) العلمانية من منظور مختلف (ص: 37).
([11]) انظر: الفكر الليبرالي تحت المجهر (ص: 350).
([12]) انظر: العمدة في فلسفة القيم، عادل العوا (ص: 109).
([13]) القيم الأخلاقية، سامية عبد الرحمن (ص:99).
([14]) انظر: نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية، محمد أحمد مفتي (ص: 85-86).
([15]) انظر: الفكر الليبرالي في الصحافة المصرية، فاروق أبو زيد (ص:14-15).
([16]) انظر: دراسات في الفلسفة الوجودية، د. عبد الرحمن بدوي (ص: 216).
([17]) أخلاقنا عقبة في طريق المستقبل، إسماعيل حسني، مجلة روز اليوسف، عدد ٤٢٥٤، 25/ 12/ 2009م، (ص: ٨٢).
([18]) تاريخية الفكر العربي (ص: 218).
([19]) انظر: الفكر الليبرالي تحت المجهر (ص: 350).
([20]) انظر: المصدر السابق (ص: 348).
([21]) انظر: فكرة المجتمع الجديد، نديم البيطار (ص: 162).
([22]) ثقافتنا في مواجهة العصر (ص: ٢٠٣-٢٠٤).
([23]) قضايا في نقد العقل الديني (ص: 217-218).
([24]) بحثا عن الفضيلة، إليز داير ماكنتاير. وانظر: عن المرأة والدين والأخلاق، د. نوال السعداوي، ود. هبة رؤوف عزت (ص: 147).
([25]) انظر: الفكر الليبرالي تحت المجهر (ص: 345).
([26]) انظر: الإسلام والوعي الحضاري، أكرم ضياء العمري (ص: ٤٣).
([27]) انظر: النظرية الخلقية عند ابن تيمية، محمد عفيفي (ص: 31).