الخميس - 26 شوّال 1446 هـ - 24 ابريل 2025 م

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة:

إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون على مرّ العصور في تدبّر عجائبه واستنباط غرائبه، فإن الأذهان لا تكلّ عن تأمل مواطن الإعجاز فيه.

وقد بحث العلماء في أوجه إعجاز القرآن، وكان القول بالصِّرفة -الذي حاصِلُه أن دواعي العرب صُرفَت عن معارضة القرآن، أو أن علومهم سُلِبت- من الأقوال المردودة عند عامّة أهل العلم، حيث بيَّنوا مخالفته لآيات التحدّي، وبيَّنوا لوازمه الباطلة.

وكَثُرت الدراسات المعاصرة التي بحثت القول بالصرفة، غيرَ أن بعض تلك الدراسات لم تخلُ من قدرٍ من التعامل العاطفيّ مع هذا القول، نظرًا لجهود المعتزلة -الذين ظهر هذا القول من جهتهم- في خدمة بلاغة القرآن.

وعلى طالب العلم أن يسعَى في مثل هذه المسائل إلى الوصول إلى الحق؛ إذ العبرة بالقول لا بالقائل، وهو إذا تأمَّل ما كتبه العلماء في إبطال القول بالصرفة علم أنه قول شديد الضعف.

وهذا ما سنسعَى لبيانه في مركز سلف بهذه الورقة في محاور متعددة.

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

 

 

المحور الأول: تحرير محل النزاع بين القائلين بالصَّرفة والمانعين منها:

سنحدّد محل النزاع في القول بالصَّرفة بالنظر في جملةٍ من النقاط:

النقطة الأولى: بيان الدليل القاطع على إثبات نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم:

إننا نقول في دليل إثبات نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لو صحّ أن الخلائقَ قد عجزوا عن معارضة ما ظهر على يدِه صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات بعد تحدّيه بها فإنه يجبُ أن يكون نبيًّا. وإثبات ذلك يترتب على ثلاث مقدمات:

الأولى: ثبوت ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى الثبوت التاريخي لشخصيته صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يُعلم اضطرارًا.

الثانية: ثبوت ادعائه النبوة صلى الله عليه وسلم، وهذا مما علم اضطرارًا أيضًا، كما يعلم أنه كان بمكة والمدينة، وما كان من غزواته وحروبه المشهورة.

الثالثة: ثبوت ظهور المعجزة على يده صلى الله عليه وسلم.

وهذا يتوقف ثبوته على ثبوت أمرين:

1- ظهور القرآن على يده صلى الله عليه وسلم، وهذا مما علم اضطرارًا أيضًا، وبمثل الطريق الذي يعلم منه أن: (قفا نبك) من شعر امرئ القيس، و(عفَت الديار) من شعر لبيد، وأن (الكِتاب) لسيبويه، وأن (الموطّأ) للإمام مالك. وبمثل كل طريق نعلم به شعر كل شاعر، وخطابة كل خطيب، وكتاب كل مصنّف اشتهر أمره، وزالت الشبهة في بابه.

2- أن القرآن معجزة. وهذا ما سنُوضِّحُه في النقطة الآتية:

النقطة الثانية: القرآن معجزة:

التحدِّي مع الامتناع وتوفُّر الدواعي يدلّ على الإعجاز، فالحاصل أن كون القرآن معجزةً يتوقّف ثبوته على مقدمات:

الأولى: ثبوت تحدّي النبي صلى الله عليه وسلم للعرب بالقرآن الكريم: فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على مشركِي قريش، ويتحدّى به، ويدَعي عجزَهم عن معارضته، وهذا أيضًا مما عُلم اضطرارًا، والمنازعة فيه سَفسطة، وإن كان قد نُقلَت المنازعة فيه عن هشام الفوطي وعبّاد الصيمري([1])، فإنّ مخالفتهما مما لا يقدح في المعلوم اضطرارًا.

الثانية: انتفاء وجود معارضة للقرآن الكريم: والدليل على ذلك أن تلك المعارضة لو وُجِدت لنُقِلَت، فلمّا لم تنقل دلّ ذلك على أنها لم تقع.

وقد أورد النُّظَّار على كلّ من هاتين المقدّمتين كثيرًا من الإيرادات والاحتمالات، وأجابُوا عنها، ولا نطوّل بذكرها إذ كلتاهما ليست محلًّا للنزاع بين القائلين بالصّرفة والمانعين منها.

الثالثة: أن انتفاءَ وجود معارضة للقرآن الكريم كان لعَجز العرب عنها، لا لسبب آخر: فإنه لا يثبت بتركِهِم مُعارضَتَه كونُه مُعجِزًا إلا بأن يُعلَم أنهم عدلوا عن ذلك لتعذّر مثله عليهم في حسن النظم وقدر البلاغة، لا لوجه من التدبير والرأي، ودخول شبهةٍ عليهم أوجبت عدولهم عن المعارضة مع التمكّن من ذلك؛ لأنهم إن تركوا المعارضة لا لتعذّر، بل لخوف أو عارضٍ أو رأي أو شبهة دخلت عليهم لم يثبت كونُه معجزًا، ولم يؤمَن أن يكُونَ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو كلام بعض أهل لغته ولسانه([2]).

يقول أبو المعالي الجويني في تقرير الدليل على عجز العرب عن معارضة القرآن: (فإن قيل: بم تُنكرون على من يزعم أن العربَ ما انكفَّتْ عن معارضة القرآن عن عَجز، إنما أُعجزت عنه بقلة الاكتراث؟

قلنا: هذا ركيكٌ من القول، لا يبُوح به من شدا طرفًا من الآداب، فإنَّ العربَ في تحاورها وتفاوضها كانت تتشمّر إذا تهاجت لمعارضة الركيك من الشعر والرصين المتين منه.

وباضطرارٍ نعلم أنّ القرآنَ في اعتقادهم لم ينحطّ عن شعرٍ لشاعر ونثرٍ لناثر، حتى يحمِلَهم الازدراء به على الانكفاف عن معارضته.

كيف وقد كان الرسول عليه السلام وأنصاره يقولون: لو عارضتم سورة من القرآن لألقينا إليكم السِّلم، وآثرنا النواجز بعد التناجُز، وأذعنَّا لكم، فإن تكُن الأخرى ألفينا ضرام الحرب، وأدمينا مراسها، وأحكمنا أساسها، ومددنا الأيدي إلى قتل النفوس وهتكِ السّجوف عن العواتق العربيات؟!

وكيف يخطُر لعاقلٍ -وقد ظهرت كلمة الإسلام وخفقت على المسلمين الرايات والأعلام- أن يؤثر الكفار أهوالًا تُشيبُ النواصي وأحوالًا تزيل الرواسي ولا يعارضوا بسورة ازدراءً بها)([3]).

ويقول ابن القيم في كلامه على آية التحدّي: (والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية وأمثالها على أصناف الخلائق أمِّيهم وكِتابيِّهم وعربهم وعجمهم ويقول: لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدًا، فيعدلون معه إلى الحرب والرضا بقتل الأحباب، فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار المحاربة، وإيتام الأولاد، وقتل النفوس، والإقرار بالعجز عن معارضته)([4]).

وهذه المقدّمة هي التي نازع فيها القائلون بالصَّرفة، حيث قال النظّام ومن قال بقوله من القدرية: إن جهة إعجاز القرآن إنما هو المنع من معارضته، والصَّرفة عنها عند التحدّي بمثله، فالمنع والصَّرفة هما المعجز، دون ذات القرآن؛ لأنه معتادٌ عندهم التكلّم بمثله، ولعلهم أن يكونوا قد تكلّموا بما هو أفصح منه([5]).

يقول أبو بكر الباقلاني: (وهذه هي النكتة التي بها فارق المسلمين من خالفهم من سائر الكفّار في قولهم: إن القرآن ليس بمعجز، وأن العرب لم تنصرف عن معارضته عجزًا عن ذلك، وعلمًا بتعذّره عليها، فالقائل بهذا مخالفٌ للأمة، وهو حقيقة دين القدرية.

وكل من خالفهم من الأمة قائل بأنهم إنما عدلوا عن المعارضة لعلمهم بتعذُّرها عليهم، وإلا فالمسلمون وكل مخالف للملة متفقون على أن قريشًا انصرفت عن تعاطي معارضة القرآن، غير أن مخالفي الملة يزعمون أنهم انصرفوا عن ذلك لأسبابٍ ودواعٍ أوجَبت ذلك مع قدرَتِهم على مثله، وما يزيدُ على قدرِ بلاغته.

والمسلمون يقولون: لا، بل إنما صرفهم عن ذلك علمهم بخرقه لعادتهم، وأنه ليس مثلُه أو ما يقاربُه من قدرتهم، فيجب ضبط هذا، والعلم بأن القائل بالصَّرفة مع القدرة على مثله خارج عن دين الأمة)([6]).

الرابعة: عجزُ العرب عن معارضة القرآن لا يثبت إلا بالقول بأن همَمهم توفرت على معارضته: ومتى لم يثبت كونهم كذلك لم يصحَّ كون القرآن معجزًا؛ لأنه إنما يبين تعذّره عليهم متى توفّرت دواعيهم على معارضته، وراموا ذلك وحرصوا عليه، فامتنع وتعذّر عليهم. وهذه المقدمة مما نازع فيها القائلون بالصَّرفة أيضًا، مع أنها قول جميع الأمة([7]).

قال أبو القاسم الأنصاري: (لو لم يريدوا المعارضة لما قامت عليهم الحُجَّة، فإن الإعجاز إنما يظهر إذا حاول الذين معهم التحدِّي المُعارضة، فعجَزُوا عنها، فعند ذلك يتبيَّنُ لهم وجه الإعجاز، فأما من غير إرادةٍ وطلب معارضةٍ فأنَّى تقوم الحجة؟! وأنَّى يتقرر للعرب وجه الإعجاز؟!)([8]).

وقد أقرّ بهذا الأصل بعض القائلين بالصَّرفة، حيث يبيّن القاضي أبو بكر الباقلاني تدرّجهم في ذلك فقال: (وقال فريق منهم لما علموا فساد القول بذلك -أي: صرف الدواعي- وانتقاضه: لسنا نقول: إن الصَّرفة لهم عن معارضته صرفةٌ لدواعيهم إليها عن ذلك وحرصهم عليه، بل الأمر في ذلك على ما قالته الأمة من حرصهم على المعارضة، وتوفّر دواعيهم إليها، وظهور ذلك منهم، وثبوت العلم به من أحوالهم، فلا يجوز القول بخلافه. وإنما نعني بالصَّرفة عن معارضته: الصَّرفة عن العلم بنظم مثله في بلاغته)([9]). ثم شرع في نقض قولهم.

وبعد تقرير جميع ما تقدّم فإن خلاصة الدليل على إثبات نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه أظهر كلام الله تعالى وتحدَّى به البلغاء مع كمال بلاغتهم، فعجزوا عن معارضة أقصر سورة منه مع تهالكهم على ذلك، حتى خاطروا بمهجَتِهم، وأعرضوا عن المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف، ولم يُنقَل عن أحد منهم -مع توفُّر الدواعي- الإتيان بشيء مما يدانيه، فدل ذلك قطعًا على أنه من عند الله تعالى([10]).

وخلاصة القول في تحرير محلّ النزاع بين القائلين بالصَّرفة والمانعين منها: أن القائلين بالصَّرفة لا ينازعون في شيء من مقدّمات هذا الدليل إلا في عجز العرب عن معارضة القرآن، فإنهم يقولون: إن العرب كانوا قادرين على الإتيان بمثل القرآن، لكن صُرِفَت هممهم عنه. ومنهم من يقرّ بتوفّر دواعي العرب وهممهم على ذلك، لكن يقول: إنهم سُلبوا العلوم بنظم مثل القرآن في بلاغته.

والقائلون بالصرفة والمانعون لها متّفقون أن العرب في نهاية الأمر انصرفوا عن معارضة القرآن، أما القائلون بها فجعَلوا السبب في ذلك صرف الله لدواعيهم أو سلَبهم العلوم، والمانعون منها يجعلون سبب ذلك إدراكهم العجزَ عن معارضة القرآن.

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي -وهو من المانعين للقول بالصّرفة-: (واعلم أن الخلاف في هذا الباب أنا نقول: إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم بأنها غير ممكنة، ولولا علمهم بذلك لم تكن لتنصرف دواعيهم؛ لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعًا لمعرفتهم بأنها متعذرة، وهم يقولون: إن دواعيهم انصرفت مع التأتِّي، فلأجل انصراف دواعيهم لم يأتوا بالمعارضة مع كونها ممكنة، فهذا موضع الخلاف.

وعلى المذهبين جميعًا لا بدّ من القول بأن دواعيهم انصرفت عن المعارضة؛ لأن مع العلم بأنها متعذّرة لا بد من ذلك عندنا، وعندهم لا بدّ منه لأنه الوجه الذي لأجله لم يأتوا بالمعارضة التي هي ممكنة لهم)([11]).

ويقول القاضي أبو بكر الباقلاني: (وإنما يقال: انصرفت عنه بمعنى أنها لم تتعرض له، ولم تحاوله وترومه، علمًا منها بتعَذُّره عليها، كما يقال فيمن لا يمكنه الإنفاق والاتساع والتمتع باللذات: هو منصرف عن ذلك، يراد أنه ممن لا يقدر على ذلك، ولا يرومه للعجز عنه، وكما يقال في المعضوب والزمن ومن لا يطيق القيام: إنه منصرف عن الحج والصيام، نعني بذلك: أنه غير قاصد إليه، ولا محاول له، علمًا منه بامتناعه عليه، وتعذُّره منه.

وإذا كان ذلك كذلك لم يجز على التحقيق أن يقال: إن قريشًا انصرفت عن معارضة القرآن انصرافَ من لو حاوله لعلم أنه في إمكانه، ومما جرت عادته بالقدرة على مثله، وإنما يراد أنهم لم يروموا ذلك ولم يتعرّضوا له؛ لعدم القدرة عليه)([12]).

ويقول في بيان الفرق بين قول عامة أهل الإسلام المانعين من الصرفة وبين قول القدرية: (ولو قالوا -يعني القدرية- بالصرفة وأرادوا بها رفع قُدَرهم على التكلُّم بمثله، وإن صح إقدارهم على ذلك؛ لكانوا مصيبين)([13]).

المحور الثاني: القائلون بالصَّرفة:

القول بالصَّرفة ظهر من جهة المعتزلة القدريّة، وأول قائل به منهم هو النظّام، وإن كان أبو المظفر السمعاني قد نقل عن والده نسبةَ الأولية للجاحظ([14]).

ونسبة هذه المقولة للنظّام لا شكّ فيها، وقد نسبها له المتكلّمون من جميع الطوائف، حتى من المعتزلة، يقول أبو القاسم الزمخشري -وهو مَن هُو في علوم البلاغة-: (ودع عنك حديثَ الصرفة، فما الصرفة إلا صُفرة من النظّام، وفَهَّةٌ منه في الإسلام، ولقد رُدّت على النظام صُفرته كما ردّت عليه طفرته)([15]).

وليس النظّام بالمقدَّم عند أهل الإسلام، ولا بصاحب فضيلةٍ، وقد قيل فيه بأنه من الملاحدة المتستّرين بالاعتزال؛ بدليل كثرة ردود أهل الاعتزال عليه، وإنكارهم لمقالاته.

يقول أبو بكر الرازي الجصاص المعتزلي منكرًا عليه نفيه للقياس: (فكان أوَّلَ من نفى القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث إبراهيمُ النظام، وطعنَ على الصحابة من أجل قولهم بالقياس إلى ما لا يليقُ بهم، وإلى ضِدِّ ما وصفهم الله تعالى به وأثنى به عليهم، بتهوُّره وقلة علمه بهذا الشأن، ثم تبعه على هذا القول نفرٌ من متكلِّمي البغداديين، إلا أنهم لم يطعنوا على السلف كطعنه، ولم يعيبوهم)([16]). وهذا نذكره على سبيل التمثيل لمقالاته إذ ليس هذا موضع استقصاء.

وقد تدرّج القائلون بالصَّرفة -كما تقدم- من تفسير الصَّرفة بصرف الدواعي إلى تفسيرها بسلب العلوم، كما يقوله الشريف المرتضى ومن تبعه من الشيعة([17]).

ونجد كلام الشريف المرتضى في كتابيه (الذخيرة) و(شرح جمل العلم)، كما أن له مصنّفًا مفردًا في الصرفة هو (الموضح عن جهة إعجاز القرآن)، وعرَّف الصَّرفة فيه بأنها: (سلبُ الله تعالى كلَّ من رام المعارضة وفكّر في تكلّفها في الحال العلوم التي يتأتّى معها مثل فصاحة القرآن وطريقته في النظم)([18]). وقد ردّ في كتابه كلام شيخه القاضي عبد الجبّار المعتزلي([19]) الذي كان معتنيًا بمناقضته ومعارضته كما فعل في كتابه (الشافي في الإمامة).

وقد حاول الشريف المرتضى في ردّه على القاضي عبد الجبّار أن يبيّن أنه يفرق بين إثبات بلاغة القرآن وبين جعلها وجهَ الإعجاز، وأن يمنع التلازم بين الأمرين، كما بيَّنَ أن ما احتجّ به القاضي عبد الجبّار على القائلين بصرف الدواعي يلزمهم ولا يلزمه، فيقول: (فأمّا من اعترف بأنّه أفصح الكلام وأبلغه ولم يجعَلْهُ خارقًا للعادة من حيث الفصاحة، فإنّه لا يلزمه شي‏ء من ذلك.. فأمّا ردُّ -يعني القاضي عبد الجبّار- على من ذهب إلى صرف الدّواعي بما ذكره فصحيحٌ لازم)([20]).

وقال ابن سنان الخفاجي المعتزلي في تعريف الصرفة بنحو ما قاله الشريف المرتضى: (إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن: صرف العرب عن معارضته، بأن سُلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك)([21]).

يقول أبو بكر الباقلاني: (وإنما خالَفَت هذه الفرقة الثانية أسلافَهم من شيوخ القدرية في هذا الإطلاق خَوفًا من السيف وإظهار مُخالفة الأمّة، ومُوافقةِ مخالفي الرسول عليه السلام في قولهم: إن العرب امتنعوا عن معارضة القرآن مع القدرة على ذلك والتمكّن منه)([22]).

وقول المعتزلة بالصَّرفة تفرَّع عن أصلهم في القدر وخلق أفعال العباد، وما يتبع ذلك من أحكام الاستطاعة، كاختلافهم في القدرة الحادثة هل تقارن المقدور أو تتقدَّم عليه([23])، فقد بَيَّن أبو بكر الباقلاني -ومن تبِعَه- في مناظرته للمعتزلة في مسألة الصَّرفة العلاقة بين أحكام الاستطاعة لدى المعتزلة القدرية وقولهم بالصَّرفة، فهم يقولون: إن القدرة تكون قبل الفعل، وأن حقيقة القادر أنه الذي يصحّ منه الفعل مع زوال المانع منه، فالمقيّد والمربوط قادر على المشي، والكائن في بغداد قادر على فعل الكون بالبصرة وإن استحال منه فعل الكون بالبصرة وهو في ببغداد([24]). وهذا ما عنَاهُ أبو بكر الباقلاني حيث يقول في نقض القول بالصرفة: (لو صح ذلك لصح لكل من أمكنه نظم ربع بيت أو مصراع من بيت أن ينظم القصائد ويقول الأشعار، وصح لكل ناطق -قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة- نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة! ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن)([25]).

يقول أبو القاسم الأنصاري: (وغَرَضُنا هاهنا أن نبيّن اضطراب المعجزة على أصول المعتزلة، وذلك أنهم قالوا: المقتدر على ضربٍ من الكلام مقتدرٌ على سائره، وقالوا على طرد هذا الأصل: إن الأعجمي الذي لم يقرع مسامعه شيء من لغة العرب قادرٌ على الإتيان بكلام أفصح وأمتن من القرآن، إلا أنه امتنع عليه ذلك، لفقد الآلات والأسباب الموصلة إليه، هذا مذهب شيوخهم، وهو خلاف الإجماع)([26]). ثم شرع في مناقشتهم في ما قالوه.

وقد عزا أبو الحسن الآمدي القول بالصَّرفة لأكثر المتكلّمين حيث قال: (ذهب الأكثرون -كالأستاذ أبي إسحاق والنظّام، وبعض الشيعة، وغيرهم- إلى أن العرب كانت قادرة على مثل كلام القرآن قبل البعثة، وأنه لا إعجاز في القرآن، وإنما المعجز هو صرف بلغاء العرب عن معارضته: إما بصرف دواعيهم كما قاله النظّام والأستاذ أبو إسحاق، وإما بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة كما قاله الشريف المرتضى من الشيعة)([27]).

ويقول ابن المطهر الحلي الرافضي: (والقائلون بالصَّرفة اختلفوا:

فقال بعضهم: إنه تعالى سَلَبهم الأقدار على ذلك.

وقال آخرون: إنه تعالى سَلَبهم الداعية إلى ذلك مع وجود السبب الموجب‌ لوجوده.

وقال آخرون: إنه سَلَبهم العلم الذي به كانوا يتمكنون من المعارضة، وهو مذهب السيد المرتضى)([28]).

والقول بالصَّرفة هو أحد القولين في المذهب الأشعري([29])، قال به أبو إسحاق الإسفراييني كما تقدّم في كلام الآمدي، وقال به الجويني، وغيرهما.

قال أبو المعالي الجويني: (تحدى النبي صلى الله عليه وسلم فصحاء العرب أن يأتوا بمثله، وتمادى على تحدّيه نيفًا وعشرين سنة، والقرآن بِلُغتهم، وليس بعيدًا من مبلغ اقتدارهم في جزالته وأسلوبه، فلم يقدروا على الإتيان بمثله، ثم استأثر الله تعالى برسوله، وكرّت الدهور، ومرّت العصور، وأقطار الأرض تطفح بجميع الكفار وذوي الفطن النافذة، وتشوّفهم أن يستمكنوا من مطعن في الإسلام، وفي كل قطر منهم طائفة مشتغلون بالنظم والنثر على لغة العرب، فقصرت قدر الخلق عن المعارضة في أربعمائة، فتبين قطعًا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدوراتهم، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها)([30]).

وقال القاضي عياض: (وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه؛ فأكثرهم يقول: إنه مما جُمع في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه، وحُسن نظمه وإيجازه، وبديع تأليفه وأسلوبه، لا يصحُّ أن يكونَ في مقدور البشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها كإحياء الموتى، وقلب العصا، وتسبيح الحصى.

وذهب الشيخ أبو الحسن إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثلُه تحت مقدور البشر، ويُقدِرُهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا ولا يكون، فمنعهم الله هذا، وعجَّزهم عنه، ‌وقال ‌به ‌جماعة ‌من ‌أصحابه.

وعلى الطريقتين فعجز العرب عنه ثابت، وإقامة الحجة عليهم بما يصحّ أن يكون في مقدور البشر وتحدِّيهم بأن يأتوا بمثله قاطع، وهو أبلغ في التعجيز وأحرى بالتقريع، والاحتجاج بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم، وهو أبهر آية وأقمع دلالة)([31]).

وقد فُهم من هذا ميل القاضي عياض إلى هذا القول([32])، ومن قوله أيضًا: (وسلبهم الله ما أَلِفُوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يَخْفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتم، ‌ولا ‌جنس ‌بلاغتهم)([33]).

وقال ابن بزيزة: (وقد اختلف العلماء هل كان في مقدور البشر معارضة القرآن فعجزوا عن ذلك، أم لم يكن في مقدورهم؟ والذي أختاره وأرتضيه أنه في مقدورهم من جهة النظم والأسلوب، فعجزوا عن ذلك، والتعجيز عما في المقدور أدلّ وأبلغ)([34]). وهذا هو القول بالصَّرفة.

وفُهِم القول بالصَّرفة من قول العراقي في ألفيته في السيرة النبوية:

وجعل الله ‌له ‌القرآنا … آية حقّ أعجَزَتْ بُرهَانا

أقامَ فيهمْ فوقَ عَشرٍ يَطلبُ … إتيانَهُمْ بمثلِهِ فغُلِبُوا

ثمَّ بعَشْرِ سُوَرٍ بسوره … فلمْ يُطِيقوها ولو قَصيرهْ

وهُمْ لَعَمرِي الفُصحاءُ اللُّسْنُ … فانقَلَبوا وهُمْ حَيارى لُكْنُ

وأُسمِعوا التوبيخَ والتَّقريعا … لدى الملا مُفترِقًا مَجموعا

فلمْ يفُهْ منهمْ فصِيحٌ بِشَفَهْ … مُعَارِضًا بل الإلهُ صَرَفَهْ([35])

قال شارحه المناوي: (وهذا الختام من الناظم يؤذن بميله إلى القول بالصَّرفة، وهو رأي مرجوح أطال المحققون في تقرير ردّه)([36]).

وقد قسّم الأشاعرة المعجزة إلى قسمين: فعل غير المعتاد، والمنعُ من المعتاد، ثم اختلفوا في معجزة القرآن من أي قسمٍ هي، فمن جعلها من القسم الثاني قال بالصَّرفة، فهذا هو مأخذ القائلين بالصَّرفة منهم، كما قرره أبو القاسم الأنصاري([37])، وأشار لذلك ابن تيمية([38]).

غير أن هؤلاء القائلين بالصَّرفة من الأشاعرة يريدون بها أن لا تُخلَق القدرة على المعارضة، لا أن يقتَدِروا على المعارضة ثم يُصرفوا عنها بالجهل بترتيب النظم كما يقول الشريف المرتضى ومن تبعه، أو إرادة الانكفاف كما يقول النظّام ومن تبعه، وبذلك حاول بعض متكلمي الأشعرية أن يفرِّقَ بين قول من قال بالصرفة من الأشعرية وقول المعتزلة والشيعة.

قال أبو القاسم الأنصاري بعد أن شرح معنى الصَّرفة عند من قال بها من الأشعرية على الوجه المذكور آنفًا: (فهذا المعنى ليس في البُعدِ كما صار إليه المعتزلة)([39]).

وبناءً على هذا حمل أبو القاسم الأنصاري قول الجويني بالصَّرفة على هذا المعنى، فقال: (وقد قال الإمام في الرسالة النظامية: الإعجاز إنما هو الصرف، وعنى بالصرف صرف القدرة، وهو أن لم يخلق له قدرةً على المعارضة عند التحدي)([40]).

وهذا الفرق بين صرفة المعتزلة وصرفة الأشعرية -عند من يقول بها من الفريقين- لم ينبّه إليه أحد من الباحثين في هذه المسألة، مع كثرة تداولهم لنصّ الجويني وغيره من الأشاعرة، حيث لم ينتبهوا إلى أثر اختلاف الأشعرية والمعتزلة في أحكام الاستطاعة على قولهم في إعجاز القرآن.

ومهما يكن فإن القول بالصَّرفة وإن كان أحد قولي الأشعرية، ودلت عليه عبارات بعض أئمتهم نصًّا أو احتمالًا، فإنه قول مرجوح عند مُتأخِّريهم، وليس معتمدًا كما قرره السنوسي([41]). ثم إن متقدّميهم أطالوا جدًّا في إبطاله، مثل القاضي أبي بكر الباقلاني في (إعجاز القرآن)، و(هداية المسترشدين)([42]).

والقول بالصَّرفة -سواء بمعنى صرف الدواعي أو سلب العلوم- لم يقل به أحد من السلف وأئمة أهل السنة.

قال أبو المظفر السمعاني: (ولا نقول كما قال بعض المبتدعة: إن ‌نفس ‌القرآن ‌ليس ‌بمعجز، فإن فصاحة بعض الفحول من شعراء الجاهلية لا تكون دون فصاحته، وإنما الإعجاز في القرآن هو أن الله عز وجل منع الخلق عن الإتيان بمثله مع قدرتهم عليه. وهذا قولٌ باطل، وزعمٌ كاذب)([43]).

ووصف ابن تيمية قول من يقول من أهل الكلام بالصَّرفة بأنه أضعف الأقوال في إعجاز القرآن، وردّه ورفضه([44])، وقد أخطأ من المعاصرين من نسب إليه التردُّد في القول بالصرفة، بل هو يردّها قولًا واحدًا، وقبوله للقول بها إنما هو على جهة التنزّل، كما قال به غيره.

ويقول ابن كثير: (وأما من زعم من المتكلِّمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إمكان ذلك، أو هو سلب قُدَرِهم على ذلك، فقول باطل، وهو مُفرَّع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلَقَه الله في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق، وقولهم هذا كفر وباطل، وليس بمطابق لما في نفس الأمر.

بل القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلّم به كما شاء تعالى وتقدّس وتنزَّه عما يقولون علوًّا كبيرًا؛ فالخلق كُلُّهم عاجزون حقيقة في نفس الأمر عن الإتيان بمثله، ولو تعاضدوا وتظاهروا على ذلك، بل لا تقدِرُ الرسل الذين هم أفصح الخلق وأعلم الخلق وأكملهم أن يتكلموا بمثل كلام الله)([45]).

المحور الثالث: بطلان القول بالصَّرفة:

إبطال القول بالصَّرفة شائع في كتب المتكلمين، حتى وجد في كتب المعتزلة والشيعة، وإبطال القول بالصرفة منتشر في كتب الفنون الشرعية، فنجده في كتب علوم القرآن والتفسير والبلاغة والسيرة النبوية، وقد ذكروا في إبطاله وجوهًا عديدة، وأطالوا في ذلك.

وسنذكر بإذن الله تعالى حاصل ما ذكروه في ذلك في اثني عشر وجهًا من وجوه الإبطال.

1- لازمُ حصول التحدّي على معارضة القرآن توفّر الهمم للمعارضة:

وحصول التحدّي -كما قدّمنا- أمرٌ لا امتراء فيه ولا شكّ، ولا نزاع فيه بين القائلين بالصَّرفة والمانعين منها، وقد دلّت عليه أربع آيات في القرآن الكريم.

قال الله تعالى: {قُل ‌لَّئِنِ ‌ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

يقول الشيخ صالح بن مهدي المقبلي: (لو لم يكن من أدلة إعجاز القرآن إلا هذه الآية لكفت، مع وضوح مخبر هذا الخبر في المدة الطويلة -ألف ومائة سنة- لم يقدر أحد على دعوى مناقضتها، مع كثرة أعداء الإسلام من أهل الكتابين، ومن الزنادقة، وشياطين الإنس من مدعي الإسلام، والحمد لله على وضوح حججه؛ فإنها من آكد النعم علينا، فلله الحمد والشكر على ذلك أبد الآبدين كما ينبغي، وكما ينبغي لحقه العظيم، والحمد لله والشكر على الحمد والشكر كذلك)([46]).

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ ‌بِعَشْرِ ‌سُوَرٍ مِّثْلِهِۦ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} [هود: 13].

وقال: {وَإِن كُنتُمْ ‌فِي ‌رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} [البقرة: 23].

وقال: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ ‌بِسُورَةٍ مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} [يونس: 38].

والتحدّي مما يوفِّر الهمم للمعارضة، فتوفّر الدواعي والهمم للمعارضة لازم التحدي، فإن العادة موضوعةٌ على أن العالم بكونه قادرًا على معارضة متحدّيه بمثل ما يُتَحدى به، ويُقرَّع بتعذّره والعجز عنه، لا بد أن تتوفر همّته ودواعيه على فعل ما يقدر عليه من ذلك، وينصرف إلى المبادرة إليه، ليزيل عن نفسِه العار والتقريع بالعجز، هذا معلومٌ لضرورة العادة([47]).

يقول أبو بكر الباقلاني في ردّه على القائلين بالصَّرفة: (فإن قلتم: إنهم عالمون بأن معارضته مبطلة لحجته، وأنهم مع ذلك منصرفون عن فعلها، صرتم بذلك إلى القول بنقض هذه العادة المستقرّة، لا ليدل بها سبحانه على صدق نبي ولا على شيء له بذلك تعلق.

ولا وجه لتصديقكم على دعوى نقض هذه العادة ولا دليل عليه، وإذا صرتم في هذه الدعوى إلى مخالفة المعلوم بضرورات القول والعادات وجب إبطال قولكم وردّ دعواكم)([48]).

وينبغي أن يكون القول بأن هذه عادة مستقرة محل إجماع بين القائلين بالصرفة والمانعين منها، ثم هل خرقت تلك العادة أو لم تخرق؟ هذا محلّ الخلاف.

ولو لم يكن القائلون بالصرفة يسلِّمون بأن هذه عادة مستقرة لم يصح لهم إثبات الإعجاز، إذ دليل الإعجاز لديهم هو خرق هذه العادة المستقرّة، ونحن نقبَلُ القول بخرق هذه العادة على جهة التنزّل لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي.

ويقول الطوفي في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا ‌بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَاُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} [البقرة: 23، 24]: (ولقد كان هذا مما يقوي دواعيهم على تعاطي المعارضة، فلو قدروا عليها لفعلوها، ثم لكذَّبوه في خبره، وقالوا: زعمت أنا لن نفعل وها نحن قد فعلنا؛ فلما لم يعارضوه مع توفر الدواعي على المعارضة دل على العجز والإعجاز)([49]).

ويقول عند قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]: (هذه أعظم آيات التحدي بالقرآن، لأن بعض هذا مما يُوفِّرُ دواعي الخصوم على طلب الإتيان بمثله، فلو كان ذلك في وسعهم لفعلوه بالضرورة عادةً، لكنهم لم يفعلوا، ولم يأتوا بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا ‌بسورة مثله، فدل على عجزهم عن معارضته مع كثرتهم وتمكنهم في الفصاحة والبيان، وذلك يقتضي كونه معجزًا؛ إذ لا معنى للمعجز إلا أمر ممكن خارق للعادة مقرون بالتحدي خال عن المعارض، وهذه الصفات موجودة في القرآن، فكان معجزًا)([50]).

2- لو صح القول بالصرفة لكان ذلك قدحًا في عقول العرب:

فالقول بأن دواعيهم انصرفت عن معارضته مع سماع تحدّيه والقدرة على ذلك مضيفٌ إلى العرب من النقص والجهل أمرًا عظيمًا، وهم -كما يقول أبو بكر الباقلاني- لا شك أعقل ممن ينسب ذلك إليهم وهُم -أي: الناسبون ذلك إلى العرب- أقرب إلى ضعف النحيزة([51]) والعقل، وقد علم أنهم قوم خَصِمُون، وأهل عقول وافرة وأحلام صادقة([52]).

يقول أبو بكر الباقلاني في ردّه على المعتزلة في قولهم بصرف الدواعي: (إنه يوجب وصف القديم سبحانه لهم -أي: للعرب- بالبله والنقص المخرج عن كمال العقل، من حيث بينَّا أن كمال العقل لا يقتضي الانصراف عن ذلك مع القدرة عليه، بل يقتضي توفّر الهمة على فعله والدواعي إليه، وليس يجوز أن ينسبهم الله تعالى إلى الجنون من قولنا وقولكم، ولا أن ينقض بهذه الآية -أي: آية التحدّي- قوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ ‌خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، فبطل ما توهمتم)([53]).

3- عُدُول العرب إلى حَرب النبي صلى الله عليه وسلم وما ترتب عليها يدل على بُطلان الصَّرفة:

يقول القاضي أبو بكر الباقلاني: (يقال لهم أيضًا: كيف يجوز أن يقال: إن الله تعالى صرفهم بشهوات ودواع وإرادات عن معارضة القرآن مع قول كافة الأمة: إن دواعيهم كانت متوفرة على معارضته وتكذيبه، وإبطال أمره، مع طول التحدي والتقريع، وأنهم كانوا يتطلبون ويتوصلون بكل ممكن إلى فض جمعه، وإخماد أمره، وأنهم كانوا أشد الناس حرصًا على معارضته لو كانت ممكنة، ومتأتيةً لهم.

الكل من الأمة يستدلّ بهذه النكتة على أنهم إنما انصرفوا عن المعارضة، وعدلوا عنها إلى الحرب وغير ذلك لإياسهم من القدرة على ذلك والتمكّن منه، وأنه ممتنع ومتعذِّر عليهم، ولولا علمهم بذلك من حال القرآن ما انصرفوا عن المعارضة، ولا عدلوا عنها إلى حرب أو غيره، مع علمهم بأنها أوضح الأمور في كسر حجته وإبطال أمره، فكيف يكون الحريص على الشيء والمتوفّر الدواعي على فعله ليتخلص به من الذل والقهر والغلبة والعار والتعبد وتحمل فعل التكاليف والعبادات وكونه رعية تبعًا وهو راع متبوع منصرف الهمة وحاله هذه عن المعارضة مع التمكّن منها؟!)([54]).

وهذا الدليل عينه يدلّ على أن بين بلاغة القرآن وسائر البلاغات من التفاوت ما يكون ظاهرًا لا يقع في حيّز اللبس، إذ لو قرب بلاغة القرآن من سائر البلاغات لكان للمقال فيه مجال، ولو رجّح مرجّح أحد الكلامين على الآخر لم يقدم من يرجّح الكلام الآخر عليه، وحينئذٍ لا يظهر انخراق العادات([55]).

يقول أبو محمد ابن عطية: (‌ووجه ‌إعجازِه: أنَّ الله تعالى قَد أحاط بِكُلِّ شيء علمًا، وأحاط بالكلام كُلِّه عِلْمًا، فإذا ترتَّبَت اللفظة من القرآن عَلِم بإحاطته أيّ لفظةٍ تصلُح أن تَلِي الأُولى، وتُبيِّنُ المعنى بعدَ المعنى، ثم كذلك من أوَّلِ القرآن إلى آخره، والبَشَر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرًا لم يكن قطُّ محيطًا.

فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: إن العرب كان من قدرتها أن تأتي بمثل القرآن، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك، وعجزوا عنه)([56]).

4- وقوع محاولات لمعارضة القرآن يدل على تَوَفُّر الدَّواعي للمعارضة:

يقول ابن تيمية في إبطاله القول بالصَّرفة: (‌فالناس ‌يجدون ‌دواعيهم ‌إلى ‌المعارضة حاصلة، لكنهم يحسون من أنفسهم العجز عن المعارضة، ولو كانوا قادرين لعارضوه.

وقد انتدب غير واحد لمعارضته، لكن جاء بكلام فضح به نفسه، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله، مثل قرآن مسيلمة الكذاب)([57]).

ويقول ابن حجر الهيتمي: (ومما يرد عليهم أن جماعة ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة تعرضوا لمعارضته، كابن المقفع والمعري والمتنبي ونظرائهم، فلم يأتوا إلا بما تمجُّه الأسماع، وتنبو عنه الطباع، ونادى عليهم بالخزي والانقطاع، وصيرهم مثلة وسخرية وضحكة، إلى أن تاب أكثرهم وأظهر ندمه ونسكه)([58]).

واعلم أن هلاك من حاول معارضة القرآن لا يدلّ على صحة القول بالصرفة، فإن وقوع ذلك إنما هو عقوبةٌ من الله تعالى، كما في القصة التي نقلها ابن الجوزي عن ابن عقيل قال: (حكى لي أبو محمد بن مسلم النحوي قال: كنا نتذاكَرُ إعجازَ القُرآن، وكان ثَمَّ شيخٌ كثيرُ الفضل، فقال: ما فيه ما يَعجِزُ الفضلاء عنه، ثم ترقّى إلى غرفة، ومعه صحيفةٌ ومحبرة، ووعد أنه يبادئهم بعد ثلاثة أيام بما يعمله مما يضاهي القرآن، فلما انقضت الأيام الثلاثة صعد واحد فوجده مستندًا يابسًا، وقد جفّت يده على القلم)([59]).

قال السفاريني: (وبمثل هذه يحتج القائلون بالصرفة، وليس بحجة لعدم حصر الهلاك فيها، بل لما عجز أهلكه الله كمدًا، ولتجرُّئِه على ما ليس في وسعه وقدرته)([60]).

5- دلالة الاجتماع في آية التحدّي على إبطال القول بالصَّرفة:

يقول أبو سليمان الخطّابي في ردّ القول بالصَّرفة: (دلالة الآية تشهد بخلافه وهي قوله سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فأشار في ذلك إلى أَمر طريقه التكلف والاجتهاد، وسبيله التأَهّب والاحتشاد، والمعنى في الصَّرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة، فدل على أن المراد غيرها، والله أعلم)([61]).

ويقول عبد القاهر الجرجاني: (ليس ‌في ‌العرف ولا في المعقول أن يقال: لو تعاضدتم واجتمعتم وجمعتم لم تقدروا عليه، في شيء قد كان الواحد منهم يقدر على مثلِه، ويسهُل عليه، ويستقلُّ به، ثم يُمنعون منه، وإنَّما يُقال ذلك حيث يُراد أن يقال: إنكم لم تستَطِيعوا مثله قط، ولا تستطيعونه البتة، وعلى وجهٍ من الوجوه، حتى إنكم لو استضفتم إلى قُواكم وقُدَرِكم التي لكم قُوَى وقُدَرًا وقد استمددتم من غيركم لم تستطيعوه أيضًا، من حيث إنه لا معنى للمعاضدة والمضافرة والمعاونة، إلا أن تضم قدرتك إلى قدرة صاحبك حتى يحصل باجتماع قدرتكما ما لم يكن يحصل)([62]).

ويقول السعد التفتازاني في إبطال القول بالصَّرفة في تقرير هذه الحجة: (فإنَّ ذِكْرَ الاجتماعِ والاستظهارِ بالغير في مقام التحدّي إنما يحسُن فيما لا يكون مقدورًا للبعض، ويُتوَهَّمُ كونه مقدورًا للكل، فيُقصد نفيُ ذلك)([63]).

ويوضح ذلك أيضًا قول الزركشي: (قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الآية دليل ظاهر على عجزهم مع بقاء قدرتهم([64])؛ إذ لو سُلِبُوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم؛ لأنه حينئذ بمنزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يُحتَفَل بذكره)([65]). ولهذا قال أبو الوفاء ابن عقيل في ردّ القول بالصرفة: (فالتحدي للمصروف عن الشيء ‌لا ‌يحْسُن، كما لا يُتحَدَّى العَجَم بالعربية)([66]).

6- القول بالصَّرفة يقدح في إعجاز القرآن الذاتي:

فإن حقيقة القول بالصَّرفة أنَّ صَرفَ الدواعي هو المعجزة، أو سلب العلوم، لا نفس القرآن، والإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزًا وليس فيه صفة الإعجاز؟! والقول بالصَّرفة يلزمه إضافته إلى الله تعالى لا إلى القرآن([67]).

يقول أبو بكر الباقلاني في إبطال القول بالصَّرفة على تقدير تفسيرها بصرف الدواعي أو سلب العلوم: (ويُقَال لهم جميعًا مع اختلافهم الذي ذكرناه في معنى الصَّرفة، وإيقافهم على أنهم يقدرون على معارضة القرآن بمثله وما هو أوجز وأفصح وأحسن منه: إذا كان المعجز هو الأمر الخارق للعادة، وكان ما خرق الله تعالى به العادة إنما هو صرفهم وشغلهم بضروب الشواغل والصوارف عن معارضته، أو بمنعهم من الاضطرار إلى العلم بطريقة نظمه وبلاغته؛ لا يكون نفس القرآن هو المعجز للرسول عليه السلام، وإنما المعجز شيء غيره ومنفصل عنه، أو حكم المنفصل عنه.

فالمنفصل عنه هو: الشواغل والصوارف وصرف الدواعي إلى معارضته؛ لأنه بذلك خرق عادتهم على قول من قال بذلكم منكم.

والذي هو في حكم المنفصل منه: أنه لم يضطرهم إلى العلم ببلاغته ونظمه على قول من قال منكم: إن العلم بالبلاغات ضرورة لا استدلالًا.

وهذا يوجب على القولين أن يكون نفس القرآن ليس بمعجز.

كما أن حركة يد النبي عليه السلام ونطقه إذا قال: «آيتي أنني أتكلم وأحرك يدي، وليس فيكم من يقدر على ذلك، أو من يتأتى منه»، إما لعدم القدرة، أو لتشاغل منه عنه وصارفٍ وغير ذلك، إنما هو رفع قُدَرِهم عن النطق والحركة، أو صرفهم على ذلك بصرف الدواعي والهمم وضروب الشواغل والقواطع، لا نفس نطق النبي وحركة يده؛ لأن رفع قدرهم على ذلك وصرفهم هو الخارق للعادة، دون نطق النبي وتحريك يده المعتاد منه)([68]).

وقال: (ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة -وإنما منع منها الصرفة- لم يكن الكلام مُعجِزًا. وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.

وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به، ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد)([69]).

وقال ابن عقيل: (الصرف على الإتيان بمثله دال على أنَّ القدرة لهم حاصلة، وإن كان في الصرف نوع إعجاز([70])، إلا أن كون القرآن في نفسه ممتنعًا عن الإتيان بمثله لمعنى يعُود عليه آكدُ في الدلالة، وأعظمُ لفضيلة القرآن)([71]).

ويقول الشاطبي المقرئ في (عقيلة أتراب القصائد) معترضًا على القول بالصَّرفة:

من قال صَرْفَتُهم مع حثِّ نُصرَتِهم … وفرُ الدَّواعِي فلم يستَنْصِر النُّصَرا

قال السخاوي في شرحه: (يقول: من قال معجزُه صرفتهم عن الإتيان بمثله، مع أن دواعيهم المتوفرة تحثّ نصرتهم، وتقتضي أن ينصُر بعضهم بعضًا، ولكن صرفت دواعيهم عن الإتيان بمثله؛ فصرف دواعيهم عن المعارضة هو المعجزة، وإن كان في قدرتهم الإتيان بمثله، فمن قال بذلك لم يستنصر من الأدلة نصيرًا، ولم يقم على قوله برهانًا منيرًا)([72]).

ويقول أبو عبد الله القرطبي المفسّر بعد أن ذكر أوجه إعجاز القرآن: (‌ووجهٌ ‌حادي ‌عشر قاله النظام وبعض القَدَرِيَّة: أن وجهَ الإعجاز هو المنع من معارضتِه، والصَّرفة عند التحدي بمثله، وأن المنع والصَّرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أن الله تعالى صرفَ همَمَهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله.

وهذا فاسد؛ لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا: إن المنع والصَّرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن كونه معجزًا، وذلك خلاف الإجماع.

وإذ كان كذلك عُلِمَ أن نفس القرآن هو المعجز؛ لأنَّ فصاحته وبلاغته أمرٌ خارق للعادة، إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألُوفًا مُعتادًا منهم دل على أنَّ المنع والصَّرفة لم يكُن مُعجزًا)([73]).

 

7- لو صح القول بالصَّرفة لكان تعجُّب العرب من حصول عجزهم لا من فصاحته:

هذا الوجه مترتّب على ما سبقه، وحاصله أنه لو كان المعجز هو صرف الدواعي دون نفس القرآن لكان تعجّب العرب من ذلك الصرف لا من بلاغة القرآن وفصاحته، ولما رأينا العرب يتعجّبون من فصاحته كما جاء عن الوليد بن المغيرة وغيره؛ بطل ما قالوه.

ولهذا قال أبو الوفاء ابن عقيل: (وما قول من قال بالصرفة إلا بمثابة من قال بأن عيون الناظرين إلى عصا موسى عليه السلام خُيِّل لهم أنها حية وثعبان، لا أنها في نفسها انقلَبَت)([74]).

وفي تقرير هذا الاحتجاج يقول عبد القاهر الجرجاني: (لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن، وعن أن يأتوا بمثله لأنه مُعجز في نفسه، لكن لأن أُدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء ‌قد ‌كان ‌يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له؛ لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمرَه، وتعجُّبِهم منه، وعلى أنه قد بهَرهُم، وعظم كل العظم عندهم؛ ولكان التعجُّب للذي دخل من العجز عليهم، ولما رأوه من تغير حالهم، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلًا، وأن سُد دونه باب كان لهم مفتوحًا.

أرأيت لو أن نبيًّا قال لقومه: «إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم»، وكان الأمر كما قال؛ مِمَّ يكون تعجُّب القوم؟ أمن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم؟)([75]).

وقال الفخر الرازي في الرد على النظّام: (إن عجزهم عن المعارضة لو كان لكونه تعالى أعجزهم عنها بعد أن كانوا قادرين عليها لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، بل يجب أن يكون تعجُّبهم من تعذُّر ذلك عليهم بعد أن كان مَقدورًا لهم.

كما أن نبيًّا لو قال: «معجزتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، ويكون ذلك متعذِّرًا عليكم»، وكان الأمر كما قال؛ لم يكن تعجُّب القوم من وضع يده على رأسه، بل من تعذُّر ذلك عليهم.

ولمَّا علمنا ضرورة أن تعجُّب العرب كان من فصاحة القرآن نفسها بطل ما قاله النظّام)([76]).

وذكر هذا الوجه أيضًا برهان الدين الجعبري في شرحه على العقيلة([77]).

ويقول السعد التفتازاني في إبطال القول بالصَّرفة: (إن فُصحاء العرب إنما كانوا يتعجَّبُون من حُسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته، ويرقصون رءوسهم عند سماع قوله تعالى: {وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ} الآية لذلك، لا لعدم تأَتّي المعارضة مع سهولتها في نفسها)([78]).

ويقول العضد الإيجي -ممزوجًا بشرحه للشريف الجرجاني- في أوجه بطلان القول بالصَّرفة: («الإجماع قبل هؤلاء» القائلين بها «على أن القرآن معجز و» على هذا القول يكون المعجز هو الصرف لا القرآن. ألا ترى أنه «لو قال: أنا أقوم وأنتم لا تقدرون عليه، وكان كذلك، لم يكن قيامُه مُعجزًا بل عجزُهم عن القيام». فهذه المقالة خارقةٌ لإجماع المسلمين السابقين على أن القرآن معجزة لرسول الله دالة على صدقِه)([79]).

8- القول بالصرفة بقدح في استمرارية إعجاز القرآن:

يقول الجعبري في أوجه بطلان القول بالصَّرفة: (ذهاب ما هو مركوز في طباعهم في أيسر مدة كان لتعجيزهم عند التحدي؛ فلو كان صحيحًا لعارضوه بعده)([80]).

ويقول الزركشي: (يلزمُ من القول بالصَّرفة زوال الإعجاز بزوال زمن التحدِّي، وخلو القرآن من الإعجاز، وفيه خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم العُظمى باقية، ولا مُعجزة له باقية أظهر من القرآن)([81]).

9- لو صح القول بالصَّرفة لتراجعت حال العرب في البيان:

يقول عبد القاهر الجرجاني: (يلزم عليه أن تكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان، وفي جَودة النظم وشرف اللفظ، وأن يكونوا قد نُقِصُوا في قرائحهم وأذهانهم، وعُدِموا الكثير مما كانوا يستطيعون، وأن تكون أشعارُهم التي قالوها، والخُطَب التي قاموا بها، وكل كلام اختلفوا فيه، من بعد أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتُحدوا إلى معارضه القرآن قاصرةً عما سُمِع منهم من قبل ذلك القُصور الشديد، وأن يكُون قد ضاق عليهم في الجملة مجال قد كان يتسع لهم، ونضبت عنهم موارد قد كانت تغزر، وخذلتهم قوى قد كانوا يصولون بها، وأن تكون أشعار شعراء النبي صلى الله عليه وسلم التي قالوها في مدحه عليه السلام وفي الرد على المشركين ناقصةً مُتقاصرةً عن شعرهم في الجاهلية)([82]).

ويقول الفخر الرازي في إبطال القول بالصَّرفة: (إن نسيان الصيغ المعلومة في مدةٍ يسيرة تدلُّ على زوال العقل، والعرب لم تزل عقولهم بعد التحدّي، فبطل ما قاله النظّام)([83]).

10- لو صح القول بالصَّرفة لما احتيج إلى نزول قرآن تجاوزَت بلاغَتُه سائرَ البلاغَات:

وهذا الوجه من أقوى الوجوه في إبطال الصرفة بمعنى سلب الدواعي، ونبّه له المتكلّمون على اختلاف طوائفهم.

يقول القاضي عبد الجبّار: (إنّ هذا القول يوجب أنّ القرآن ليس بمعجز في الحقيقة، وأنّ صرف هممهم عمّا جرت عادتهم بمثله هو المعجز، ويوجب أن يدلّ القرآن لو كان كلامًا متوسّطا في الفصاحة، حتّى يكون حاله في الإعجاز وهو كذلك مثل حاله الآن؛ لأنّ المعتبر صرف هممهم ودواعيهم، فالرّكيك في ذلك والفصيح بمنزلة)([84]).

ويقول أبو بكر الباقلاني: (على أن ذلك لو لم يكن معجزًا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة، إذا صُرفوا عن الإتيان بمثله، ومُنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يُستغنَى عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب)([85]).

ويقول الزمخشري: (ولو صح ما قاله النظّام لوجب في حكمة الله البالغة وحجّته الدامغة أن ينزّله على أركِّ نمط وأَنزلِهِ، وأفسل أسلوب وأسفله، وأعراه من حُلَل البلاغة وحُلِيّها، وأخلاه من بهيّ جواهر العقول وثريِّها. ثم يقال لوُلَاة أعلى الكلام طبقة وأمتنه، ولأرباب آنقِهِ طريقةً وأحسنِه: هاتُوا بما ينحُو نحوَه، وهلمُّوا بما يحذو حذوَه، فيعترضُهم الحجز، ويتبين فيهم العجز، فيقال: قد استصرفهم الله عن أهون ما كانوا فيه ماهرين، وأيسر ما كانوا عليه قادرين، ألم تَرَهم كيف كانوا يعنقون([86]) في المضمار فوقفوا، وينهبون الحلبة بخطاهم فقطفوا([87]))([88]).

وفي تقرير تلك الحجة يقول الشاطبيُّ المُقرئ في نظمه (عقيلة أتراب القصائد) بعد أن ذكر القول بالصرفة:

كم مِن بدائعَ لم تُوجَد بلاغَتُها .. إلا لَديه وكَم طُولَ الزمانِ تُرَى

يقول علمُ الدين السخاويُّ في شرحه: (يقول -أي: الشاطبي-: لو كان الإعجاز في الصَّرفة كما ذكر هؤلاء لم يكن إلى هذه البدائع التي اختص بها القرآن حاجة، بل كان أقل لفظ وأدنى كلام يكفي، ويكون أدل؛ لأن الكلام إذا كان ضئيلًا ضعيفًا يقدر كل أحد على الإتيان به، وينطق متى أراد بمثله، ثم يأتي القرآن بذلك وعلى نحوه، فلا يقدر أحد على معارضته، فذلك في الدلالة أقوى. فأي حاجةٍ إلى هذه البدائع التي لم توجد قطُّ في كلام، ولم يظفر بمثلها في نظرٍ للعرب ولا نثر؟! فليس المعجز إذًا الصَّرفة، وإنما المعجزة هذه البدائع التي باين بها جميع الكلام)([89]).

ويقول الجعبري: (لو كان كما يقول النظّام لكان القرآن كالتوراة والإنجيل، وكالكلام المسترسل، ولا نحتاج إلى ما فيه من الأساليب العجيبة، لأن عجزهم عن مثله حينئذٍ أبلغ في المعجزة)([90]).

ويقول السعد التفتازاني في إبطال القول بالصَّرفة في تقرير هذه الحجة: (إنه لو قصد الإعجاز بالصَّرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته؛ لأنه كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة)([91]).

ويقول السنوسي: (لو كان إعجازه بالصرفة لكان كونه في أدنى مراتب الفصاحة أنسب؛ لظهور إعجازه، كيف ولا خلاف أنه في أعلى مراتب البلاغة؟!)([92]).

11- لو صح القول بالصَّرفة لتناطق العرب به:

يقول ابن تيمية: (وكذلك أيضًا فإنّ العرب يعرفون أنه لم يختلف ‌حال ‌قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه، فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه، كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قدرته عليه)([93]).

ويقول العضد الإيجي -ممزوجًا بشرحه للشريف الجرجاني- في أوجه بطلان القول بالصَّرفة: («لو سُلِبُوا القدرة» كما قال به الشريف المرتضى لعلموا ذلك من أنفسهم، و«لتناطقوا به عادةً، ولتواتر» عنهم «ذلك» التناطُق؛ لجريان العادة بالتحدُّث بخوارق العادات، لكنه لم يتواتر قَطعًا.

«فإن قيل: إنما لم يتذاكَرُوه» ولم يُظهِرُوه؛ «لئلا يصيرَ حُجَّةً عليهم» مُلجِئَةً لهم إلى الانقياد، مع أنهم كانوا حِراصًا على إبطال حُجَّتِه، وانتكاس دعوته، فلا يُتصوَّر منهم حينئذٍ إظهار ما علموه من أنفسهم.

«قلنا: إن كان ذلك» أي: سلب القدرة عنهم «موجبًا لتصديقه» إيجابًا قطعيًّا، «امتنع عادة تواطؤ الخلق الكثير على مكابرته»، والإعراض بالكلية عن مقتضاه.

«وإن لم يكن مُوجِبًا لتصديقه، بل احتمل السحر وغيره» كفعل الجن، «مثلًا لتناطقوا به، وحملوه عليه»، وقالوا: قد سلب عنا قدرتنا، إما بالسحر وإما بغيره، فلا يلزمهم بإظهاره صيرورته حجةً عليهم)([94]).

12- لو صح القول بالصَّرفة لعَارَض العرب القرآن بكلام وقع لهم قبل التحدّي:

يقول أبو بكر الباقلاني في إبطال القول بالصرفة: (على أنه لو كانوا صُرفوا على ما ادعاه لم يكن مَن قبلهم من أهل الجاهلية مَصروفين عما كان يُعدَل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف؛ لأنهم لم يُتَحَدّوا إليه، ولم تلزمهم حجته. فلمَّا لم يُوجَد في كلامه مِن قبلِه مثلُه عُلِم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان)([95]).

ويقول أبو الفرج ابن الجوزي: (إنما يُصرَفُون عن الشيء بتغيُّر طباعهم عند نزوله أن يقدروا على مثله، فهل وجد لأحد منهم قبل الصرفة منذ وجدت العرب كلامًا يُقارِبه مع اعتمادهم الفصاحة؟ فالقول بالصرفة ليس بشيء)([96]).

ويقول الفخر الرازي في إبطال القول بالصَّرفة: (لو كان كلامُهم مُقارِبًا في الفصاحة قبل التحدي لفصاحة القرآن لوجَب أن يُعارِضُوه بذلك، ولكان الفرق بين كلامهم بعد التحدي وكلامهم قبله كالفرق بين كلامهم بعد التحدي وبين القرآن، ولما لم يكن كذلك بطَل ذلك)([97]).

ويقول الجعبَرِي: (كثير من صناعات الإعجاز البديعة في القرآن ما حصلت في غيره، ظفر من قبلنا ببعضها، وظفرنا ببعضها، وسيظفر من بعدها ببعضها، ويبقى خبايا في الزوايا.

وتقريرُهَا: أنَّه لو كَان كما قالَ النظَّام لكان للعربِ في أثناء نثرِهم ونظمهم في خطبهم ورسائلهم كلام يُمَاثِلُه في الفصاحة قدرَ أقصر سورة قبل التحدي، واللازم منتف، فينتفي ملزومه)([98]).

ويقول العضد الإيجي -ممزوجًا بشرحه للشريف الجرجاني- في أوجه بطلان القول بالصَّرفة: (لا يُتصوَّر الإعجازُ بالصَّرفة، وذلك لأنهم «كانوا» حينئذٍ «يُعارضونه بما اعتيد منهم» من مثل القرآن الصادر عنهم «قَبل التحدي به»، بل قبل نزوله. «فإنهم لم يُتحَدّوا بإنشاء مثله، بل بالإتيان به» فلهم بعد الصَّرفة الواقعة بعد التحدي أن يُعارضوا القرآن بكلامٍ مثلِه صادرٍ عنهم قبل الصَّرفة)([99]).

المحور الرابع: القول بالصَّرفة على جهة التنزّل في إثبات نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم:

بيَّن جمعٌ من العلماء الذين قرَّروا بطلان القول بالصَّرفة صحةَ القول بها على جهة التنزّل والتسليم الجدلي لإثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول القاضي عبد الجبّار الهمذاني: (لو كانوا يقدرون على المعارضة، وانصرفت همهم ودواعيهم، أكان يكون دلالة النبوّة؟

قيل له: لو صحَّ ذاك لكان يدلّ على نبوّته صلى الله عليه؛ لأن العادة لم تجرِ بانصراف دواعي الجمع العظيم عن الأمر الممكن مع التقريع والتحدّي والتنافس الشديد، وكذلك فلو أنه تعالى شغلهم عن تأمل حال المعارضة لكان ذلك معجزًا، لكنّا قدّمنا أن ذلك يوجب قلب الدواعي، وقلب العلوم، وهذا بعيد، لكنه إن صحّ وتأتّى؛ فلا يمتنع أن يكون دالًّا على النبوة، وإنما ينكر كونه دلالة لأنه كالمضاد للوجه الذي بينّا به أن للقرآن دلالة)([100]).

ويقول القاضي أبو بكر الباقلاني: (والأولى عندنا أنه لو كان نظم القرآن وقدر بلاغته وفصاحة ألفاظه مما كانوا قادرين على مثله قبل التحدّي لهم، ومعتادًا عندهم تأتِّي ذلك لهُم وإمكانه، ثم مُنِعوا من ذلك برفع القدرة عليه، أو بالصَّرفة عنه والإذهاب بمعرفة ذلك عن قلوبهم، مع الحرص على فعله، وعلمهم بذلك من قبل، لكان ذلك أيضًا آية عظيمة. لكن قد عُلِم بما نذكره من بعد أنه واردٌ بنظمٍ ما تكلّمت العرب قطّ بمثله، وعلى حدٍّ من البلاغة ما انتهت إليه قط بلاغتهم وعلومهم)([101]).

ويقول أبو حامد الغزالي: (فإن قيل: لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال، فلم تعرج على معارضة القرآن، ولو قصدت لقدرت عليه، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به؟

والجواب: أن ما ذكروه ‌هوَس، فإن دفع تحدي المتحدي بنظمِ كلامٍ أهون من الدفع بالسيف، مع ما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي وشن الغارات.

ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات.

فلو قال نبي: آية صدقي أني في هذا اليوم أُحَرِّك أصبعي، ولا يقدر أحد من البشر على معارضتي، فلم يعارضه أحد في ذلك اليوم، ثبتَ صِدقُه، وكان فَقدُ قدرتهم على الحركة مع سلامة الأعضاء من أعظم المعجزات، وإن فرض وجود القدرة، ففقدُ داعيتهم وصرفُهم عن المعارضة من أعظم المعجزات، مهما كانت حاجتهم ماسةً إلى الدفع باستيلاء النبي على رقابهم وأموالهم. وذلك كله معلوم على الضرورة)([102]).

وقال الفخر الرازي: (وللناس في إعجاز القرآن قولان، منهم من قال: القرآن معجز في نفسه، ومنهم من قال: إنه ليس في نفسه معجزًا، إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة.

والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول: القرآن في نفسه إما أن يكون معجزًا، أو لا يكون؛ فإن كان مُعجِزًا فقد حصل المطلوب، وإن لم يكن مُعجِزًا، بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته، وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة، وما كان لهم عنها صارف ومانع.

وعلى هذا التقدير: كان الإتيان بمعارضته واجبًا لازمًا، فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضًا للعادة فيكون معجزًا.

فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب)([103]).

قال ابن كثير مُعلِّقًا على هذه الطريقة في إثبات إعجاز القرآن: (وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضيَّة لأنّ القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل التنزُّل والمجادلة والمنافحة عن الحق)([104]).

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام طويل في تقرير ذلك، قال فيه عند كلامه في الصرفة: (فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزُّل، وهو أنه إذا قدِّر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله، فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة من أبلغ الآيات الخارقة للعادات، بمنزلة من يقول: إني آخذ أموال جميع أهل هذا البلد العظيم، وأضربهم جميعهم، وأجوِّعهم، وهم قادرون على أن يشكوا إلى الله، أو إلى ولي الأمر، وليس فيهم مع ذلك من يشتكي، فهذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.

ولو قدِّر أن واحدًا صنَّفَ كتابًا يقدرُ أمثالُه على تصنيف مثله، أو قال شعرًا، يقدر أمثاله أن يقولوا مثله، وتحداهم كلهم، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني فأنتم كفار، مأواكم النار، ودماؤكم لي حلال، امتنع في العادة أن لا يعارضه أحد. فإذا لم يعارضوه كان هذا من أبلغ العجائب الخارقة للعادة.

والذي جاء بالقرآن قال للخلق كلهم: أنا رسول الله إليكم جميعًا، ومن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أبيح لي قتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، ووجب عليهم كلهم طاعتي، ومن لم يُطعني كان من أشقى الخلق، ومن آياتي هذا القرآن، فإنه لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، وأنا أخبركم أن أحدا لا يأتي بمثله.

فيقال: لا يخلو إما أن يكون الناس قادرين على المعارضة أو عاجزين.

فإن كانوا قادرين ولم يعارضوه، بل صرف الله دواعي قلوبهم، ومنعها أن تريد معارضته مع هذا التحدي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبل تحديه، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل: معجزتي أنكم كلكم لا يقدر أحد منكم على الكلام ولا على الأكل والشرب، فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد، فهذا من أبلغ الخوارق.

وإن كانوا عاجزين ثبت أنه خارق للعادة.

فثبت كونه خارقًا على تقدير النقيضين: النفي والإثبات، فثبت أنه من العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر، فهذا غاية التنزل)([105]).

وبذا يتَّضح أن قبول القول بالصرفة إنما هو على جهة التنزُّل، ولا يقال بقصد التساهل مع القول بالصرفة؛ لأن القول بالصرفة غير صحيح في نفسه، لما بينّاه سابقًا من وجوه بطلانه.

وصلى الله على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: «هداية المسترشدين» (4/ 117).

([2]) ينظر: «هداية المسترشدين» (4/ 121-122).

([3]) «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد» (ص: 348-349). وانظر: «هداية المسترشدين» للباقلاني (4/ 201-202، 237، 323-324)، و«الاقتصاد» لأبي حامد الغزالي (ص: 268)، و«الإشارة في أصول الكلام» للفخر الرازي (ص: 303-304).

([4]) «بدائع الفوائد» (4/ 1548). وانظر: «هداية المسترشدين» للباقلاني (4/ 201-202، 237، 323-324)، و«الاقتصاد» لأبي حامد الغزالي (ص: 268)، و«الإشارة في أصول الكلام» للفخر الرازي (ص: 303-304).

([5]) هكذا حكى قوله الباقلاني في «هداية المسترشدين» (4/ 257). وانظر في قوله أيضًا: «شرح الإرشاد» لأبي القاسم الأنصاري (3/ 217)، «شرح الكبرى» للسنوسي (ص: 583). وليس هذا القول مما اختَصَّ بنقلِه عنهُ الأشاعرة بحكم خصومتهم للمعتزلة، فقد نقله عنه المعتزلة أيضًا وردّوه عليه.

([6]) «هداية المسترشدين» (4/ 242).

([7]) «هداية المسترشدين» (4/ 250).

([8]) «شرح الإرشاد» (3/ 221).

([9]) «هداية المسترشدين» (4/ 251).

([10]) «النبراس شرح العقائد النسفية» (ص: 587-589).

([11]) «المغني في أبواب التوحيد والعدل» (16/ 324).

([12]) «هداية المسترشدين» (4/ 238).

([13]) «هداية المسترشدين» (4/ 319).

([14]) «قواطع الأدلة» (1/ 30).

([15]) «إعجاز سورة الكوثر» (ص: 61). والصُّفْرة: ما يعتري المرء من الجنون والخبل. والفَهَّة: هي السَّقْطَة والجَهْلَة.

([16]) «الفصول في الأصول» (4/ 23). وانظر: «فقه أهل العراق وحديثهم» للكوثري مع التعليق عليه (ص: 15-16).

([17]) من الذين قالوا بالصَّرفة من الشيعة: الشيخ المفيد في «أوائل المقالات» (ص: 32)، ونصير الدين الطوسي في أحد قوليه كما في «تمهيد الاصول» (ص: 334)، وأبو الصلاح الحلبي في «تقريب المعارف» (ص: 107)، وابن سنان الخفاجي في «سر الفصاحة» (ص: 89)، وسديد الدين الحمصي في «المنقذ من التقليد» (ص: 460). ونقل أبو بكر الباقلاني في موضعٍ من «هداية المسترشدين» (4/ 227) عن النظّام هذا المذهب، أعني تفسير الصرفة بسلب العلوم، لا بصرف الدواعي. وقد قال الذهبي في ترجمة الرمّاني المعتزلي: (ومن حدود سبعين وثلاث مائة إلى زماننا تصادق الرفض والاعتزال وتواخيا)، فتعقبه ابن حجر بقوله: (ليس كما قال،+ بل لم يزالا متواخيين من زمن المأمون). «لسان الميزان» (4/ 248).

([18]) «الموضح عن جهة إعجاز القرآن» (ص: 166-265).

([19]) «الموضح عن جهة إعجاز القرآن» (ص: 35-36). وانظر: «الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم» لابن الجوزي (2/ 215)، و«الرسالة التسعينية» للصفي الهندي (ص: 225).

([20]) «الموضح عن جهة إعجاز القرآن» (ص: 260).

([21]) «سر الفصاحة» (ص: 92).

([22]) «هداية المسترشدين» (4/ 241-242), وانظر: «إعجاز القرآن» للباقلاني (ص: 30).

([23]) انظر في أحكام الاستطاعة مثلًا: «الإرشاد» للجويني (ص: 215-230) وشروحه، و«المسالك الخلافيات» لساجقلي زاده (ص: 124). وقد بين ابن تيمية أن بعض الخلاف في هذه المسائل بين المعتزلة والأشاعرة لفظي، انظر كلامه في مسألة تكليف ما لا يطاق: «منهاج السنة» لابن تيمية (3/ 103-104).

([24]) انظر: «هداية المسترشدين» (4/ 226-229، 241-242). ولم أجد من الباحثين المعاصرين من انتبه إلى علاقة القول بالصرفة بالاختلاف في أحكام الاستطاعة.

([25]) «إعجاز القرآن» (ص: 29).

([26]) «شرح الإرشاد» (3/ 218-219).

([27]) «أبكار الأفكار» (4/ 73-74).

([28]) «مناهج اليقين في أصول الدين» (ص: 421).

([29]) ينظر: «شرح المعالم» لابن التلمساني (ص: 501)، و«شرح الكبرى» للسنوسي (ص: 581-583).

([30]) «النظامية» (ص: 55).

([31]) «الشفا» ت. عبدة كوشك (ص: 327): وانظر: «شرح الشفا» للملا علي القاري (ص: 555).

([32]) ينظر: «لوامع الأنوار البهية» للسفاريني (1/ 175-176).

([33]) «الشفا» (ص: 321).

([34]) «الإسعاد في شرح الإرشاد» (ص: 532).

([35]) «ألفية السيرة النبوية» (ص: 57).

([36]) «العجالة السنية» للمناوي (ص: 56)، ونحوه في «شرح الدرر السنية» للأجهوري (1/ 222).

([37]) «شرح الإرشاد» (3/ 223).

([38]) «النبوات» (1/ 242).

([39]) «شرح الإرشاد» (3/ 223).

([40]) «شرح الإرشاد» (3/ 223-224).

([41]) «شرح الكبرى» (ص: 581-583). ونفى الأجهوري أن يكون القول بالصَّرفة قولا للأشعري؛ لأنه منسوب للنظام، وليس ذلك بحجة، إلا إن أراد أنه ليس بمعتمد، فيصح ما قاله. «شرح ألفية السيرة النبوية» (1/ 225).

([42]) استغرق ذلك في «هداية المسترشدين» أكثر من ثلاثين صفحة انظره: (4/ 224-257)، وأكثر الباحثين لم يطلعوا على كلامه في هذا الكتاب، لكون كتابه لم يكن مطبوعًا، وقد نقلنا في هذه الورقة خلاصة ما قرره.

([43]) «قواطع الأدلة» (1/ 30).

([44]) «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (4/ 188-191).

([45]) «البداية والنهاية» (8/ 547).

([46]) «الإتحاف لطلبة الكشاف». وكلامه فيه استدلال بإخبار القرآن بالغيب على إعجازه، وهو من أوجه إعجاز القرآن.

([47]) «هداية المسترشدين» (4/ 239).

([48]) «هداية المسترشدين» (4/ 239).

([49]) «الإشارات الإلهية» (ص: 39).

([50]) «الإشارات الإلهية» (ص: 402).

([51]) أي: الطبيعة.

([52]) «هداية المسترشدين» (4/ 244).

([53]) «هداية المسترشدين» (4/ 246): وانظر: «المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار المعتزلي (16/ 325-326).

([54]) «هداية المسترشدين» (4/ 236-237).

([55]) انظر: «الإشارة في علم الكلام» للفخر الرازي (ص: 315-316).

([56]) «المحرر الوجيز» (1/ 191).

([57]) «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح» (4/ 190). وانظر: «الوفا» لابن الجوزي (2/ 213-214).

([58]) «المنح المكية في شرح الهمزية» (ص: 391). وليس كل من ذكرهم متّفق على محاولته المعارضة.

([59]) «الوفا» (2/ 214).

([60]) «لوامع الأنوار البهية» (1/ 196).

([61]) «بيان إعجاز القرآن» (ص: 23).

([62]) «الرسالة الشافية» ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» (ص: 149).

([63]) «شرح المقاصد» (5/ 31).

([64]) فسر ابن حجر مراده ببقاء قدرتهم بقوله: (معنى قدرتهم: أن هممهم توجهت إلى المحاكاة، لظنها القدرة عليها، فعجزت). «المنح المكية في شرح الهمزية» (ص: 390).

([65]) «البرهان في علوم القرآن» (2/ 94)، ونقله عنه بلا عزو السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن» (5/ 1880)، والهيتمي «المنح المكية في شرح الهمزية» (ص: 390). ونقل كلام الهيتمي الأجهوري في «شرح ألفية العراقي في السيرة» (1/ 222-224) بعزوه له.

([66]) نقله ابن الجوزي في «الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم» (2/ 215)، وعنه السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (1/ 174).

([67]) «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (2/ 94)، «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي (5/ 1879-1880)، «المنح المكية في شرح الهمزية» للهيتمي (ص: 390).

([68]) «هداية المسترشدين» (4/ 257).

([69]) «إعجاز القرآن» (ص: 30-31).

([70]) سيأتي مزيد إيضاح لهذا عند قولنا بالقبول بالصرفة على جهة التنزّل.

([71]) نقله ابن الجوزي في «الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم» (2/ 215)، وعنه السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (1/ 174).

([72]) «الوسيلة إلى كشف العقيلة» (ص: 41-42). وقوله: (وفر الدواعي) فاعل للمصدر (حث).

([73]) «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 75).

([74]) نقله ابن الجوزي في «الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم» (2/ 215)، وعنه السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (1/ 174).

([75]) «دلائل الإعجاز» (ص: 446-447)، ونحوه في «الرسالة الشافية» لعبد القاهر ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» (ص: 152).

([76]) «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» (ص: 26-27)، ونقله عنه المناوي في «الفتوحات السبحانية في شرح نظم السيرة النبوية» (1/ 312) بلا عزو له.

([77]) «جميلة أرباب المراصد» (1/ 269).

([78]) «شرح المقاصد» (5/ 31).

([79]) «شرح المواقف» (8/ 249).

([80]) «جميلة أرباب المراصد» (1/ 270).

([81]) «البرهان في علوم القرآن» (2/ 94)، ونقله السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن» (5/ 1880)، والهيتمي في «المنح المكية في شرح الهمزية» (ص: 390).

([82]) «إعجاز القرآن» (ص: 29).

([83]) «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» (ص: 27)، ونقله عنه المناوي في «الفتوحات السبحانية في شرح نظم السيرة النبوية» (1/ 312) بلا عزو له.

([84]) «المغني في أبواب التوحيد والعدل» (16/ 325).

([85]) «الوسيلة إلى كشف العقيلة» (ص: 42)، ونحوه في «تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد» لابن القاصح (ص: 8).

([86]) من العَناق، أي: يسرعون.

([87]) فقطفوا: من القطاف، وهو تقارب الخطو في سرعة.

([88]) «إعجاز سورة الكوثر» (ص: 61).

([89]) «الوسيلة إلى كشف العقيلة» (ص: 42)، ونحوه في «تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد» لابن القاصح (ص: 8).

([90]) «جميلة أرباب المراصد شرح عقيلة أتراب القصائد» (1/ 269).

([91]) «شرح المقاصد» (5/ 31).

([92]) «شرح الكبرى» (ص: 584).

([93]) «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (4/ 191).

([94]) «شرح المواقف» (8/ 249).

([95]) «إعجاز القرآن» (ص: 30).

([96]) نقله ابن الجوزي في «الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم» (2/ 215)، وعنه السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (1/ 174).

([97]) «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» (ص: 27).

([98]) «جميلة أرباب المراصد شرح عقيلة أتراب القصائد» (1/ 269).

([99]) «شرح المواقف» (8/ 249).

([100]) «المغني في أبواب التوحيد والعدل» (16/ 326).

([101]) «هداية المسترشدين» (4/ 118).

([102]) «الاقتصاد» (ص: 268).

([103]) «مفاتيح الغيب» (21/ 406). وقرر نحوه في «معالم أصول الدين»، انظر: «شرح معالم أصول الدين» للتلمساني (ص: 507-508).

([104]) «تفسير القرآن العظيم» (1/ 201).

([105]) «الجواب الصحيح» (4/ 189-190).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون […]

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

حجاب الله تعالى -دراسة عقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: معرفة الله سبحانه وتعالى هي قوت القلوب، ومحفِّزها نحو الترقِّي في مقامات العبودية، وكلما عرف الإنسان ربَّه اقترب إليه وأحبَّه، والقلبُ إذا لم تحرِّكه معرفةُ الله حقَّ المعرفة فإنه يعطب في الطريق، ويستحوذ عليه الكسل والانحراف ولو بعد حين، وكلما كان الإنسان بربه أعرف كان له أخشى […]

ترجمة الشَّيخ د. عبد الله بن محمد الطريقي “‏‏أستاذ الفقه الطبي والتاريخ الحنبلي” (1366-1446هـ/ 1947-2024م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   اسمه ونسبه([1]): هو الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمود بن محمد الطريقي، الودعاني الدوسري نسبًا. مولده: كان مسقط رأسه في الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية، وتحديدا في ناحية الروضة الواقعة جنوبي البلدة (العَقْدَة) -ويمكن القول بأنه حي من […]

ضبط السنة التشريعية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: السنة النبوية لها مكانة رفيعة في التشريع الإسلامي، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي التطبيق العملي لما جاء فيه، كما أنها تبيّن معانيه وتوضّح مقاصده. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وتحذّر من مخالفته أو تغيير سنته، وتؤكد أن […]

القواعد الأصولية لفهم إطلاقات السلف والتوفيق بينها وبين تطبيقاتهم العملية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُعدّ مسألة التعامل مع أقوال السلَف الصالح من أهمّ القضايا التي أُثيرت في سياق دراسة الفكر الإسلامي، خاصةً في موضوع التكفير والتبديع والأحكام الشرعية المتعلقة بهما؛ وذلك لارتباطها الوثيق بالحكم على الأفراد والمجتمعات بالانحراف عن الدين، مما يترتب عليه آثار جسيمة على المستوى الفردي والجماعي. وقد تعامل العلماء […]

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟

الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى. أمَّا بَعدُ، فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ […]

أثر ابن تيمية في مخالفيه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: شيخ الإسلام ابن تيمية هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه جَرَتْ آباؤُه لشأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ […]

عرض وتعريف بكتاب (نقض كتاب: مفهوم شرك العبادة لحاتم بن عارف العوني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: إنَّ أعظمَ قضية جاءت بها الرسل جميعًا هي توحيد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، حيث أُرسلت الرسل برسالة الإخلاص والتوحيد، وقد أكَّد الله عز وجل ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017