
التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: إن هذا المخلوق عبد لا يصلح إلا للعبادة، وكلما ابتعد الناس عن الفطرة وخبت جذوة النبوة فيهم تمارى العقل في الحقيقة التي لا يمكنه إدراك تفاصيلها بمفرده، وضاقت النفس بصاحبها، وعاش صراعا بين عقله ووجدانه، لا يجد منه مخرجا إلا بالرجوع إلى المشرب الأول، والتحررِ من قيد الشهوة المستحكمة والشبهة العارضة والعادة الصارفة عن الحق، فاتخذ الناس سبلا فجاجًا في الوصول إلى اليقين ومصاحبة العقل مع الفطرة والروح.
فالعقل البشري بطبعه ممارٍ، والنفس باحثة عن الطمأنينة يشق عليها مجاراة العقل في أسئلته المرهقة، والتي كلما وُجِدَ لبعضها جوابٌ تولدت عنه أسئلة أخرى لا يفي عمر الإنسان ولا علومه بجوابها.
فكانت التجارب الروحانية إحدى وسائل المعرفة لدى كثير من المجتمعات والفلسفات البشرية، وكانت هذه التجارب تنطلق من نظرة للكون والإنسان والإله، تحاول من خلالها صياغة رؤية شاملة لكون ينسجم فيها العقل والروح مع سائر مصادر المعرفة، فبحثت الفلسفات الصوفية في حقيقة الإنسان، وعلاقته بالكون، وكيفية وصوله إلى الكمال البشري، ولأن الوضع محكوم به على هذه الفلسفات فإنها لم تتصف بالإطلاق؛ لأنها محكومة بمستويات منشئيها، ففيهم الوثنيون الجهال، وفيهم الأميون، وفيهم الملاحدة، وأحسنهم حالا أصحاب الديانات المحرَّفة من بقايا أهل الكتاب، والصابئة الذين خلطوا دين أنبيائهم بأهوائهم، وكَوَّنُوا من ذلك نسقا معرفيًّا يرون فيه الأهلية لبلوغ هدفهم.
ويقابل هذا الشكَّ والجهل علوم أخرى، تتّصف باليقينية، وتكاشف النفس البشرية، وتضعها أمام الحقيقة التي لا يمكن أن تكابر فيها.
هذه العلوم هي علوم الأنبياء، فلم تكن ردة فعل ضدّ أحد، ولا استجابة لضغط حضاري، ولا نشأت في ظلّ انفعال نفسي أو وجداني ضدّ طرح معين، هكذا يصفها المؤمنون، وبها يوقنون.
فالأنبياء هم رسل الله إلى البشرية، ومهمَّتهم هي إيقاظ العهد الذي اندرس في النفوس، ومخاطبة الإنسان بما يُصْلِحُ نفسه وجسده ومعاشه، وعلومهم تتّصف باليقينية، وأخبارهم تتّصف بالصدق، ومن ثم فإن أيّ تجربة تدّعي إصلاح الإنسان وكمالَه لا بد أن تحاكَم إلى الصورة الآدمية الأكمل على وجه الأرض، وهم الأنبياء عليهم السلام، وهم المذكِّرون بالفطرة التي خلق الإنسان عليها، وبالعهد الذي أُخِذَ على بني آدم، وهم في عالم الذَّرِّ المذكور في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف: 172].
وظل التذكير بهذا الميثاق والإحالةُ إليه في الشرع تتكرّر مع كل نبي: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7].
وقد صُحب هذا الميثاق بالإحالة إلى النبي الخاتم، والشريعة الحاكمة على الناس، ولزوم اتباعها: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81].
ومن هنا فإنَّ الشرائع وإنِ اندرست وغابت وحُرِّفَتْ؛ فإن الشريعة الكاملة، ورسالة النبي الخاتم لا تزال محفوظةً يحاكَم إليها كلّ تجربة تدّعي الوصول إلى معرفة الخالق، أو إلى عبادته على أكمل وجه، ونحن في هذه الورقة العلمية الصادرة عن مركز سلف للبحوث والدراسات نحاكم التصوُّف إلى منهجين:
– منهج التربية الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
– ومنهج التصوُّف الذي عُرف كتجربة من تجارب التربية مثَّلت حقلًا من حقول المعرفة الإسلامية بعد القرون المزكاة، وسنتكلَّم عن ذلك في المباحث الآتية:
المبحث الأول: التربية النبوية وثمرتها:
لما بنى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول بيت للعبادة ورفع قواعده ألهمه الله دعاءً يلخّص حاجة البشرية للهداية في باب العبادة، ولِأَهَمِّ أبوابها، فكان من دعائه عند رفعه لقواعد البيت: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} [البقرة: 129].
فكانت إجابة هذه الدعوة وتحقّقها هو مولد سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وبعثه إلى الناس كافة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عليه السلام لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ تَرَيْنَ»([1]).
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلِّما للحكمة مزكِّيا للأمة، أي: مطهرا لقلوبها من كل رجس وخبث. وقد نبه القرآن على أن هذا المعنى مقصَد من مقاصد النبوة، فقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين} [آل عمران: 164].
وقد ذكر جلُّ العلماء أن الحكمة في الآية هي السنة، والتزكية هي التطهير من الذنوب وذلك باتباع الأمر والنهي، قال الطبري: “يعني بذلك: لقد تطوّل الله {عَلَى المؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} حين أرسل فيهم رسولا {مِنْ أَنفُسِهِمْ} نبيًّا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، يقول: يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله {وَيُزَكِّيهِمْ} يعني: يطهّرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه {وَالْحِكْمَةَ} ويعني بالحكمة السُّنةَ التي سنها الله -جل ثناؤه- للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانَه لهم، {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين} يعني: وإن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته {لَفِي ضَلالٍ مُّبِين}، يقول: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقًّا، ولا يبطلون باطلا”([2]).
وقد بين الله أنه أجاب دعوة إبراهيم بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين} [آل عمران: 164]، وقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة: 2].
فإذا كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم موصوفة بالتزكية؛ فإنه من المحال شرعا أن يكون هذا الموضوع ضامرا فيها؛ ولهذا بين القرآن إرادة الله لتطهير المؤمنين بالشرائع المنزلة عليهم، وبين في أكثر من آية حاكميَّةَ الوحي على المكلَّفين ظاهرًا وباطنًا، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يزكّي أصحابه بالعلم والعمل حتى بلغوا الكمال، وأشاد القرآن بأهليتهم لهذه التزكية فقال سبحانه: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26].
وبيَّن معاني الدين والإيمان؛ فبين معنى الإيمان، والبر، والتقوى، والمحبة، والصدق، والعدل، والإحسان، كما بين الكفرَ، والشركَ، والنفاقَ، والعصيانَ، والإثمَ، والعدوانَ، وخطرَ الكذب والبخلِ وقطيعةِ الرحم والحسدِ، وغيرها من أمراض القلوب. وتجد هذا مفصَّلا في كتب الأدب والرقائق والزهد المسندة، وهي كثيرة جدًّا.
وتجد معاني التربية والتزكية مطروقة عند أكابر الزهاد وفقهاء المحدثين ممن اعتنوا بهذا الشأن كابن المبارك في (الزهد والرقائق)، والخطابي في (العزلة) و(شأن الدعاء)، والبيهقي في (الزهد الكبير)، والنووي في (رياض الصالحين)، وغيرها من الكتب التي اعتنت بالجانب التربوي والوعظي في السنة النبوية، ولا تجد في هذه الكتب إلا تعظيما للاتباع، ودعوة للتوحيد، وسيرا على الجادة.
كما اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بترسيخ الافتقار إلى الله في نفوس الصحابة، وذلك عبر الأذكار النبوية التي تستوعب جميع أحوال المكلف؛ من مأكل ومشرب وملبس وبين الرواتب المسنونة والنوافل الفاضلة والأوقات المباركة؛ مثل ليلة القدر، وشهرِ رمضان، وساعةِ الجمعة، وعشرِ ذي الحجة، والمحرم، والأيام البيض من كل شهر، وأوقاتِ السحر، بالإضافة إلى الأذكار التي تفيض عبوديةً لله سبحانه وافتقارا إليه، كأذكار الصباح، والمساء، وركوبِ الدابة، ودخولِ المنزل وخروجِه، وغيرِ ذلك مما يجده الإنسان مبثوثا في الكتب التي اعتنت بالأذكار النبوية المأثورة مثل (عمل اليوم والليلة) للنسائي، و(كتاب الأذكار) للنووي.
وقد حدثنا القرآن عن انتفاع الصحابة بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الأحوال التي تعرض لهم وهم يترقّون في مدارج العبودية ومقامات التقوى، فذكر عنهم الوجلَ والخوفَ وقُشَعْرِيرِةَ البدن ولينَ القلوب، قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} [الأنفال: 2]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [الحج: 35]، وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد} [الزمر: 23]، وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون} [السجدة: 15]، وقال سبحانه {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وقد شهد الله بأسبقيتهم، وزكى أحوال قلوبهم في الإخلاص والإيمانِ وعدمِ الريب وكمالِ التصديق والإنابةِ، وأشادَ بأفعالهم الخيرة؛ فأخبر أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأنهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، ووصفهم بالصديقية التي هي أعلى مراتب الولاية بعد النبوة، ومع ذلك لم تكن الولاية وظيفة خاصة، ولا أورادا يختص بها أحد عن أحد، بل كانت بالعمل والتقوى، فقد أجمعت الأمة أن ما حاز أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ من الولاية والفضل لم يحزه جميع الخلائق من غير الأنبياء([3]) بما في ذلك حواريو عيسى عليه السلام([4]).
ومعلوم أن لفظ الولي في كتاب الله يتناول أولَ ما يتناول بعد الرسل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يأتي السؤال الملحُّ: ما ي الولاية الشرعية؟ وما حقيقتها؟ وهل ما وجد عند المتصوفة يعدّ تحقُّقا للمعنى الشرعي الذي وجد عند الصحابة، أم أنه اصطلاح جديد له حمولته الثقافية وروافده الفكرية؟
ذلك ما نحاول الجواب عنه في المبحث الثاني من هذه الورقة.
المبحث الثاني: حقيقة الولاية في الشريعة:
ما تقدم بالنسبة لنا بمثابة المنهج الذي ينبغي أن يحاكم إليه كل تحقّق ديني جاء بعده، وبما أن الحديث عن التصوف فإنه يلزمنا أن نعرف التصوف أولا، ومن ثم نتطرق لما يدخل تحت كلمته من عناوين هي غرض البحث. ومما لا نزاع فيه أن القرن الأول وشطرا من الثاني لم يكن فيهما ذكرٌ للتصوف لا بلفظه، ولا باصطلاحه، وجميع من نسب إليه في هذه الحقبة يجمع بينهم خصلتا الزهد والمجاهدة، وبعضهم إنما نسب إلى التصوف تجوزا، ومحاولةً لتلمس المصداقية للمصطلح كما هو شأن الصحابة الذين أدمجهم بعض من أَلَّفَ في التصوف وطبقات المتصوفة، ومهما يكن فإن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ؛ فكل من عبد الله على منهجٍ قويمٍ فهو مؤمن تقي، سواء كان مجاهدا، أو أميرا، أو غنيا، أو فقيرا، أو صانعا، أو تاجرا، أو صوفيا؛ فهذه الوظائف لا تغير الحقائق الشرعية والمعاني التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وأناط بها المدح والذم.
والمدرك للحقبة الأولى ممن يُظَنُّ أنهم متصوفة يجد أنها بدأت برجالٍ، ولم تبدأ بفكرة، فهو يترجم لرجال عندهم نوع من التعبد ظاهرٌ لم ينفصلوا به عن سائر الناس، ولم يروه منهجا خاصًّا، أو طريقًا لا يصل العبد إلا عن طريقه، بل غالبهم لم تؤثر عنهم أورادٌ خاصةٌ، ولا ادَّعوا ولاية ولا منهجًا لمن جاء بعدهم، لكن في الحقب المتأخرة عنهم بدأ التصوف كفكرة لها أصولها ومنهجها، وهي موازية للفقه وللعقائد، ولها مصادرها التي تهتم بها، وهذه هي محل بحثنا.
وقد اختلف الباحثون في التصوف في معناه واشتقاقه اختلافا كبيرا، وحاصل بحثهم أنه مشتق، فقيل: مشتق من الصفة، وبهذا القول قال أبو عبد الرحمن السلمي([5])، ونقل الكلاباذي والسهروردي فيه عدة معان: أنه نسبة إلى الصفاء، أو إلى الصف الأول([6])، ونقل الطوسي أنه نسبة إلى الصوف، نسبة إلى ظاهر اللبس([7])، وقيل: إلى صوفة جماعة من أهل الجاهلية كانوا يَلُون أمر البيت، وليسوا من أهله، أو من يقوم بأمر المناسك([8]).
وهذه النسب على تعدُّدها بعضُها لا يستقيم لغة، مثل النسبة إلى الصُّفة، وإلى الصفاء، وبعضها لا يستقيم حالا مثل النسبة إلى صوفة من أهل الجاهلية.
والنسبة إلى الصوف وإن قبِلت لغة وحالا فقد حال دونها أنها لا تكفي؛ فمؤرّخو القوم لا يرون في هذه النسبة كفاية، ولا تعبيرا عمّا هم عليه؛ ولذا فإن القشيري -وهو أحد أوائل المؤلفين- استبعد أن يشهد للاسم قياسٌ أو اشتقاق، ورأى أنه كاللقب للطائفة، ورأى أن الطائفة أشهر من أن يُحتاج في تعريفها إلى قياسِ لفظٍ أو استحقاقِ اشتقاق([9]).
أما الكلمة من حيث الاصطلاح فإن الاختلاف فيها أكبر، وذلك لتنوع مستخدميها، فمنهم من رآها مرادفة للزهد والعبادة، وهذا حال كثير من الفقهاء والمحدثين ممن أحسن الظن بالتصوف وانتسب إليه أحيانا؛ لأنه رأى النسبة فيه إلى أئمة أجِلاء كالحسن البصري وغيره، ورأى أن التصوف هو فقه الباطن، أي: أعمال القلوب من خشية وإنابةٍ ومحبةٍ وتوكلٍ ورجاءٍ، ومن جهة عرفان أدواء القلوب من رياءٍ وسمعة وكبرٍ وغلّ وحسدٍ وغير ذلك، وهو بهذا المعنى امتدادٌ للمدرسة الفقهية في جانب من جوانبها، والخطأ فيه عادة يكون من قبيل الاجتهاد في العمليات أي: المسائل العملية التفصيلية، وهو يسير لا يُخرج صاحبه عن السنة وعن معنى الإيمان والإسلام. وهذا الطرح مشتهر عند كثير من أهل المذاهب ممن مدحوا التصوف، بما في ذلك عدوّ التصوف اللدود في نظر المتصوّفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول في كلام طويل له عن التصوف: “ثم التصوف عندهم له حقائق وأحوال معروفة، قد تكلّموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم: الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر، التصوّف كتمان المعاني وترك الدعاوي. وأشباه ذلك، وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصّدّيق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون. كما قال الله تعالى: {فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصِّدِّيق الذي اختصّ بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصِّدِّيق من أهل هذه الطريق كما يقال: صديقو العلماء وصديقو الأمراء فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم. فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين: إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة: إنهم صدّيقون أيضا، كلّ بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده، وقد يكونون من أجلِّ الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صدّيقي زمانهم، والصّدّيق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع؛ ولهذا يوجد لكل منهم صنف من الأحوال والعبادات حقَّقه وأحكمه وغلب عليه وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكملَ منه وأفضلَ منه. ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمَّت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم وادَّعوا أنهم أفضل الخلق وأكملُهم بعد الأنبياء، وكلا طَرفي هذه الأمور ذميم. والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كلّ من الصّنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه”([10]).
فابن تيمية حين يمدح التصوف -وكذلك الفقهاء من قبله- إنما يمدحونه من هذه الزاوية، وإن ذموه فإنما يذمونه من الزاوية الأخرى، وهي التي صارت علَمًا بالغلبة عليه، تلك الزاوية التي ترى أن التصوف ليس رديفا للزهد، بل الزهد جزءٌ منه، وأنه أعمّ من ذلك، وتنحُو به نحو الفلسفة، فهو يتطابق معها في التعريف عند أهلها من أن التصوف هو التشبه بأفعال الخالق كما هو مذهب ابن عربي وجماعته([11]).
والمقصود عندهم بالتشبه بالإله التشبهُ به من حيث إنه يفعل من غير حاجة؛ أو في إبعاد الطمع عن العمل.
وابن الجوزي من حفاظ الحنابلة انتقد التصوّف من هذه الجهة، ورأى أنه غير مرادف للزهد، ولا للفقر، فقال: “التصوف مذهب معروف عند أصحابه، لا يقتصر فيه على الزهد، بل له صفات وأخلاق يعرفها أربابه، ولولا أنه أمرٌ زِيدَ على الزهد ما نُقل عن بعض هؤلاء المذكورين ذمُّه، فإنه قد رَوى أبو نُعيم في ترجمة الشافعي -رحمة الله عليه- أنه قال: التصوف مبني على الكسل، ولو تصوّف رجل أول النهار لم يأت الظهر إلا وهو أحمق”([12]).
فالتصوف عند كثير من المتأخرين لا ينفصل عن معنى الفناء والاتحاد. والصوفية الحولية يمثلها ابن عربي وابن سبعين والحلاج ومن سار على نهجهم، والغريب في الأمر أن هذه الصوفية الفلسفية أثرت في جميع المتصوفة؛ لأنها صاغت التصوف في قالب فلسفي، وجعلت له اصطلاحات خاصّة به، وما كان من اصطلاحه شرعيا مارست عليه سطوة معرفية أجهدت بها معناه وأذابته وبدّلته، ولم يتكلّم أحد من أهل الفقه في الفنّ على طريقتهم إلا واصطلى بلسانهم اعتقادا أو تأوّلا لضلالهم، ولك أن تنظر إلى ما أصاب الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي من الذم بسبب كلامه بلسان القوم.
ومن المصطلحات التي صارت عمًى على الناس مصطلح الولاية.
الولاية في المفهوم الشرعي:
الأولياء في القرآن هم المؤمنون الممتثلون للأوامر والنواهي. واسم الولاية معنى قائم بهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو فقهاء أو يمارسون أي وظيفة أخرى اجتماعية، قال سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون} [يونس: 62، 63].
وهم مراتب؛ فيهم الظالم لنفسه، وفيهم المقتصد، وفيهم السابق بالخيرات، وكل هذه المراتب كسبية ينالها بالتقوى والعمل الصالح، وليست وهبية تنال تلقائيّا، ففي الحديث الإلهي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته»([13]).
فبين أن هذا المعنى حاصل للمؤمن بما يفعل من خير، والولي أحد الأسماء الشرعية المذكورة على سبيل المدح وهي كثيرة، كالصابر والأواه والحليم والمنيب، وقد تناوله العلماء بما يقرّب معناه، قال أبو بكر ابن العربي: “وهو عبارةٌ عن القريب من الله، المُتَوَالِي عليه فضلُه وإحسانُه بإدامة العصمة وتيسير الطاعة وهبة النُّصرة. ومن قام بأمر الله تولَّى الله أموره؛ فلم يَدَعْ شيئًا من أحواله، ولا وَكَله إلى أشكاله، ولم يُخْلِه من أفضاله، فإن حَرَمَه شيئًا رَزَقَه الرضا بأفعاله، ورَوْحُ الرضا على الإسرار أجلُّ عطايَا الجبَّار. فالله وَليٌّ: فَعِيل بمعنى فاعل. والعبد وَلِيٌّ: فَعِيل بمعنى مفعول. وهو أيضًا: مَن توالت طاعتُه لمَّا اتصلت عصمتُه، فيرجع إلى الأولى، فيكون محفوظًا في جميع أحواله من أشد المحن؛ وهي ارتكابُ المعاصي، منصورًا في جميع أفعاله”([14]).
وقد تنبّه القاضي أبو بكر للعبارة التي قد ينفلت معناها، فتحمل على وجه يكون فيه الوليّ رديفا للنبي بالعصمة، فاستدرك ذلك بالتفريق بين المحفوظ والمعصوم، وأرجعَ القولَ إلى ما ذكرناه آنفا من تبعيته للنبي، وشموله للمؤمنين، وعدم ملازمة المعنى من كل وجه للعزلة عند الصوفية([15]).
والولاية تحمل نفس المعنى الذي يحمله الوليّ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وَولَايَة الله مُوَافَقَته بِأَن تحبّ مَا يحب، وَتبْغض مَا يبغض، وَتكره مَا يكره، وتسخط مَا يسْخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فَإِذا كنت تحب وترضى مَا يسخطه ويكرهه كنت عدوّه لَا وليه، وَكَانَ كل ذمّ نَالَ من رَضِي مَا أسخط الله قد نالك. فَتدبر هَذَا فَإِنَّهُ تَنْبِيه على أصل عَظِيم ضلّ فِيهِ من طوائف النساك والصوفية والعباد الْعَامَّة من لَا يحصيهم إلا الله”([16]).
وهي ليست مرتبطة بالخوارق؛ لأن الخارق تابع للشرع لا حاكم عليه؛ فظهوره على يد الإنسان لا يُكسب سلوكه أيّ مصداقية ما لم يكن حاله موافقا للشرع، قال ابن أبي العز الحنفي: “فالخوارق النافعة تابعة للدين، خادمة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعا لها، ووسيلة إليها، لا لأجل الدين في الأصل؛ فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تديّن خوف العذاب، أو رجاء الجنة، فإن ذلك ما هو مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة. والعجب أن كثيرا ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفا من النار أو طلبا للجنة يجعل همَّه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا! ثم إن الدين إذا صحّ علما وعملا فلا بد أن يوجب خرقَ العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النِّسَاءِ: 66-68]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 62-64]… فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ حَظُّ الرَّبِّ، وَطَلَبَ الْكَرَامَةِ حَظُّ النَّفْسِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ”([17]).
فإذا تبين هذا بقي أن نعرف مفهوم الولاية عند المتصوفة، وذلك في المبحث التالي:
المبحث الثالث: الولاية عند المتصوفة:
لقد بدأ المصطلح عند الزهاد بريئًا لا يحمل شُحنة ثقافية أجنبيّة على السنة، ومن ثم كان مقبولا في مراحله الأولى، فلم يكن هناك تنظيرٌ حقيقي ولا بُعد فلسفيّ يخالف قانون اللسان العربي ولا ظاهر الشرع، حتى ظهر محمد بن علي بن الحسن المعروف بالحكيم الترمذي، فقد نظَّر للولاية على نحو مفهوم الإمامة عند الإمامية، فألّف كتابه (ختم الولاية)، وتحدث فيه عن علوم الأولياء وهي: علم البدء وهو ظهور العالم بعد أن لم يكن، وعلم الميثاق ويعني عندهم معرفةَ العهد الذي أخذ على العباد وهم في عالم الذر، وعلم المقادير علم المغيّبات في القدر، وعلم الحروف وهو علم الإشارة أي: معرفة الحقائق البسيطة في الأعيان([18]).
وتحدّث عن الولي الخاتم وحاجة الأولياء إلى شفاعته مثل حاجة الأنبياء إلى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يعلم الغيب، وأن الإلهام شرعُه كما أن الوحي شرع النبي، وهو معصوم من إلقاء الشيطان مثل عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب اتباعه في كل صغيرة وكبيرة مثل النبي صلى الله عليه وسلم، كما صرح بذلك الحكيم الترمذي([19]).
وجاء ابن عربي الطائي -الشيخ الأكبر كما يلقّبه الصوفية- وأعاد وأبدى في المفهوم، وكان أكثر تناصًّا مع الشيعة بالتنصيص على كون الوليّ الخاتم من آل البيت، وادّعى أنه رآه بفاس فقال: “وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب، من أكرمها أصلًا ويدًا، وهو في زماننا اليوم موجود، عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه من عباده، وكشفها لي بمدينة فاس، حتى رأيت خاتم الولاية منه، وهو خاتم النبوة المطلقة، لا يعلمها كثير من الناس، وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به، وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبوة الشرائع، كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي، لا التي تحصل من سائر الأنبياء، فإن من الأولياء من إبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء يوحدون بعد الختم المحمدي، وبعده فلا يوجد ولي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، هذا معنى خاتم الولاية المحمدية”([20]).
وذهبوا إلى تفضيل الولاية على النبوة، وقالوا: إن النبوة باطنها الولاية، والولاية باطنها الإله، كما نقله عنهم النسفي([21]).
قال ابن عربي: “وهذا المقام دائرته أتم وأكبر من دائرة النبوة؛ لذلك انختمت النبوة، والولاية دائمة، وجعل الولي اسم من أسماء الله دون النبي”([22]).
ومن هذا المقام ارتبطت الولاية بأوصاف النبوة في الاتباع والعصمة والأخذ عن الله، وفي طورها الثاني تغوّلت على الربوبية فصار الولي في الفكر الصوفي حاضرا لا يغيب، يعلم الغيب ويتصرف في الملكوت، وهو مطلع على جميع الأولياء، كما نقل زكي الدين الأسواني قال: “قال لي الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يا زكي، عليك بأبي العباس، فوالله إنه ليأتيه البدوي يبول على ساقيه فلا يمسي عليه المساء إلا قد أوصله إلى الله. يا زكي، عليك بأبي العباس، فوالله ما من ولي لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعه الله عليه. يا زكي، أبو العباس هو الرجل الكامل”([23]).
وبعضهم يدّعي أنه يأخذ علم الحقيقة من الخضر عليه السلام ويجالسه ويلقاه، وأنه متعبّد بالحقيقة لا بالشريعة، وهذا الفكر مستمدّ من التشيع الإمامي، فالقطب هو نفسه الإمام المعصوم عند الإمامية وبنفس الصلاحيات، واشتراط أن يكون الخاتم من آل البيت منتحل من العقيدة الإمامية التي انتحلت من النصرانية، وهو صورة من صور التجسد الإلهي المعبر عنه في الفكر النصراني بحلول اللاهوت في الناسوت، وعند المتصوفة بالحقيقة المحمدية.
وهذا الأمر أشهر في الصوفية من أن يحصر، وإنما ذكرنا أمثلة فقط، ولو تتبعناه عند جميع الطرق الموجودة لجاء من ذلك حمل تنوء به العصبة أولو القوة، وقد ذكروا للولي شروطا ترفعه عن مرتبة الولاية إلى مرتبة النبوة وأحيانا الألوهية، فقد ذكر الشعراني تلك المساجلة بين الشيخ الرفاعي وخادمه يعقوب، ونقل عن شيخه علي الخواص شروطًا يجب توافرها في الولي الصوفي وهي:
1- أن يكون عنده علم يكشف به الحقائق والدقائق.
2- أن يعلم ما جاز وما وجب وما استحال.
3- أن يكون له سريان في العوالم العلويات والسفليات.
4- أن يكون له قوة على التلبس في الصور والتطور في الرتب.
5- أن ينظر أحوال مريده من اللوح المحفوظ.
6- أن يراقب مريده من حين كان في عالم الذر قبل وروده وهبوطه إلى أصلاب الآباء وبطون الأمهات([24]).
وقد خالف هذا المفهوم الوحي في أمور عدة منها:
– الخروج بمفهوم الولاية عن معناه الشرعي الذي هو التزام الأمر والنهي، إلى معنى كوني يفضل الوليُّ النبيَّ ويشارك الربَّ في بعض صفاته من علم الغيب والتصرف في الكون.
– الغلو في المفهوم وتخصيصه بطائفة من الناس دون غيرها، وجعل التصوف بالمعنى الفلسفي سبيلا وحيدة للوصول إلى الله.
– خلطهم بين أفضلية النبي الخاتم على جميع من سبقه، وبين أفضلية خاتم الأولياء المزعوم، فأفضل الأولياء في الأمة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وجميع من جاء بعدهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما في ذلك المهدي.
– تلبيسهم على الناس بالتفريق بين نبوة التشريع والنبوة العامة، ودعواهم أن نبوة التشريع هي التي انقطعت، أما النبوة بمعنى الإخبار فإنها لا تنقطع، وهو ادعاء للنبوة بمعنى من المعاني، ولا يمكن الاستدلال عليه بالإلهام والفراسة والرؤيا؛ إذ هذه الأمور قد تقع لمن ليس وليا فتصدق، وهو محاكم فيها للشريعة، ولا خصوصية فيها للولي، بل المقصود بها النبوة بمعنى الإخبار عن الله، وتفسير الشرائع تفسيرا جديدا يخصص عمومها ويعمم خصوصها كما فعل القوم.
– مخالفتهم لإجماع المسلمين بقولهم بجواز خروج الولي عن طاعة النبي كما خرج الخضر عن طاعة موسى عليه سلام.
– الكرامة في الشرع التي هي علامة الولاية لا يلزم منها العصمة، بل قد تقع وتسوء الخاتمة بعدها كما وقع لبلعام بن باعورا الذي نزل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين} [الأعراف: 175].
وقد تقع المزية ويقع صاحبها في المعصية كما وقع لمن نجا مع موسى عليه السلام، وكما وقع لبعض أهل بدر، فوقعوا في قذف أم المؤمنين مع سابق المغفرة لهم.
وكل هذا يدلّ المسلم على أنه لا عصمة لمكلف بعد النبوة إلا باتباع الوحي ظاهرا وباطنا، وما سوى ذلك من ادعاء القطبية والغوثية ليست إلا عقائد إغريقية ذُكِّيَتْ على الطريقة الإسلامية، وأضيفت إليها عقائد النصرانية المحرفة في الحلول وغيره، والدخول في لملكوت ومشاركة البابوات لله في المغفرة للعباد والتحكم في مصائرهم والله المستعان.
ومن قرأ القرآن وجد عند الأنبياء من التبري من الحول والقوة ومن المشاركة لله في شيء من قدره وخلقه ما يعلم به يقينا أن طريقة الأولياء عند المتصوفة تصطدم مع طريق الأنبياء، وحسبك بقول الله عن أول الرسل واصفا حاله مع الناس ومع ربه: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِين} [هود: 31].
وهكذا الشأن في خاتمهم عليه الصلاة والسلام، فقد قال الله عنه: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُون} [الأنعام: 50].
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) ينظر: شرح صحيح البخاري لقوام السنة الأصفهاني (1/ 196).
([4]) ينظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 253).
([5]) تسعة كتب في أصول التصوف والزهد (ص: 365).
([6]) التعرف لمذهب أهل التصوف (ص: 26).
([7]) كتاب اللمع في التصوف (ص: 41).
([8]) أخبار مكة للفاكهي (5/ 208)، وتلبيس إبليس (ص: 145).
([10]) مجموع الفتاوى (11/ 16-17).
([11]) انظر: الفتوحات (2/ 266).
([14]) سراج المريدين (3/ 190).
([15]) المرجع السابق (3/ 192).
([20]) الفتوحات المكية (2/ 49).
([24]) ينظر: كتاب موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام (8/ 133)، نقلا عن لطائف المنن والأخلاق (ص: 462) وما بعدها.