
تسييس الحج
منذ أن رفعَ إبراهيمُ عليه السلام القواعدَ من البيت وإسماعيلُ وأفئدة الناس تهوي إليه، وقد جعله الله مثابةً للناس وأمنا، أي: مصيرًا يرجعون إليه، ويأمنون فيه، فعظَّمه الناسُ، وعظَّموا من عظَّمه وأقام بجواره، وظل المشركون يعتبرون القائمين على الحرم من خيارهم، فيضعون عندهم سيوفهم، ولا يطلب أحد منهم ثأره فيهم ولا عندهم ولو كان المقتول أباه أو أخاه، وما زاد الإسلام هذا البيت إلا رفعة وعزًّا، قال الله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب} [البقرة: 197].
وبيَّن ربّ العالمين خطر صدّ الناس عن الحج، وإرادة الشر في هذه البقعة المقدسة، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الحج: 25]. قال الطبري: “يقولُ تعالى ذكرُه: إن الذين جَحَدوا توحيدَ اللَّهِ وكَذَّبوا رسولَه، وأنكَروا ما جاءَهم به من عندِ ربِّهم، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يقولُ: ويَمْنَعون الناسَ عن دينِ اللَّهِ أن يدخُلوا فيه، وعن المسجدِ الحرامِ الذي جعَله اللَّهُ للناسِ الذين آمَنوا به كافةً، لم يَخْصُصْ منهم بعضًا دونَ بعضٍ، {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} يقولُ: معتدلٌ في الواجبِ عليه من تَعْظيمِ حُرْمةِ المسجدِ الحرامِ، وقضاءِ نُسُكِه به، والنزولِ فيه حيث شاء، {الْعَاكِفُ فِيهِ} وهو المُقِيمُ به، {وَالْبَادِ} وهو المُنْتابُ إليه مِن غيرِه”([1]).
ومن هنا أجمع المسلمون على أنه لا يُمنع من الحج أيُّ منتسِب إلى الإسلام ظاهرًا، وأن من فعل ذلك دخل في معنى الوعيد المذكور في الآية؛ فلم نسمع في التاريخ الإسلامي أنَّ أحدًا امتُحن في عقيدته عند الحج؛ لأن إرادة الحج كافية في الحكم بإسلام الشخص، وأوجب الإسلام الحج على كل مستطيع له ما دام الطريق آمنا ولم يمنعه عدو.
فلم يَمتنِع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحج ولا من العمرة والبيتُ بأيدي المشركين، وتحيط به الأوثان حتى ردّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وسَجَّل القرآن ذلك عليهم فقال سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
دعوات تسيس الحج:
وقد تناهى إلى أسماعنا في هذه الأيام دعواتٌ آثمة غيرُ بريئة تصدّ الناس عن الحج والعمرة، وتقدِّم لذلك بعضَ ما يُلقي الشيطان إلى أهلها من زخرف القول، وأشدّ ذلك قول أحد كبراء أعداء الصحابة ومبدِّلي الشرائع: إن الحج موسم سياسيّ، والحشد له حشد سياسيّ. وهذا إن لم يكن كُفرا بهذه الشريعة الظاهرة عند المسلمين فهو جهل مطبق بجميع الشرائع السماوية التي نصت على الحج وأدائه، وهذا القول يثير تساؤلات مهمة:
إذا كان الحج مجرد موسم سياسي؛ فما الشعارات السياسية التي تُرفع فيه؟
ومنِ السياسي الذي شرعه للأمة على هذا النحو؟ ومتى شرعه؟
وهل وصفه بالسياسي دعوة لإلغائه كموسم، أم إرجاع له إلى صفته الدينية؟
هذه الأسئلة بالرغم من موضوعيتها لكن أجوبتها واقعية؛ فالمسلمون لا يعرفون حجا إلا الحج المأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين قال: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»([2]).
وقد شرعه الله عَزَّ وَجَلَّ بجميع تفاصيله من مواقيته المكانية والزمانية، إلى أدائه على الوجه الذي يفعله المسلمون جميعا في وقت واحد، فهو مصدر اتفاق للأمة، ومظهر من مظاهر وِحدتها؛ ولعل من رزايا زماننا أن يجعل الحج وسيلة للخلاف والشقاق، ويختلف فيه الناس على نبيهم على نحو ما حذرهم منه في خطبه في الحج؛ فعن ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب قالا: كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»([3]).
فمن القعود بكل صراط وابتغاء العنت للمسلمين أن يشكِّكوا في هذه الشعيرة، وأن تلوث عليهم فطرهم بالصد عنها، ولا أَعْجَبَ من جهادٍ يكون سببا في المطالبة بتعطيل هذه الشعيرة، فأيُّ جهاد يكون هدفه إعلاء كلمة الله وهو لا يلقي بالا للحج، ولا لاستمراره، وبقاء هيبة الحرمين كما هي في قلوب المسلمين؟!
وقد رأينا في الأعوام الأخيرة دعوات كثيرة تدعو لعدم تسييس الحج، وغالب من يتكلّم بهذه الدعوات هم أوَّل من يسيّسون الحجَّ في أي مناسبة سنحت لهم، بدءًا برفع الشعارات الطائفية في الحجيج، وانتهاء بفتاوى تحرِّض المسلمين على ترك الحج والعمرة؛ محادَّة للملكة، ومماحكة لها، وبعضهم يتذرَّع بقرارات منع دخول المملكة لبعض السياسيين، وهذا لا يعدّ تسييسًا للحجّ؛ لأن منع من فيه خطر على أمن البلاد أو أمن الحجيج هو من الواجب الذي لا يتم الواجب إلا به، ولو قُدِّرَ أن هؤلاء المتكلمين أداروا الحج لكانت دائرة المنع عندهم أكثر، ولأسباب أقل موضوعية مما تعلنه المملكة تجاه من يهدِّدها ويهدِّد أمنها.
ولتفادي هذا القلق الدينيّ فإنه يجب على كل حريص على الإسلام وعلى أهله أن يدعوا لميثاق أخلاقي يجنب الشعائر المزايدة عليها، وخاصة الشعائر الجامعة مثل الحج، فالناس يُلبُّون فيه تلبية واحدة، ويقفون موقفًا واحدًا، ويلبسون ثوبًا واحدًا، وكلهم مجمعون على أنه من أفضل العبادات، خاصة عند العجز عن غيرها، وأنه خير لا شر فيه، فمن القعود بكل صراط أن تناله يد المزايدات السياسة، وأن يجعل وسيلة للتجييش ضد من يقوم برعايته، فرعاية الحجيج وأمنهم أمر مقدَّسٌ يجب حمده لا التنكر له.
ومن سلبيات تسييسه:
– تفريق الأمة وإذهاب ريحها.
– تشويه الشرائع، والعدول بها عن مقاصدها، فمن مقاصد الحج توحيد المسلمين، وجمع كلمتهم على الخير، وتخلّصهم من جميع الولاءات الدنيوية من زي وملبس ووطن؛ ليكون ولاء المسلم لربه، وإقباله عليه وتسييسُه يثير النعارات، ويخرج بالمسلمين عن مراد الله منهم.
– تعريض أمن الحجاج للخطر بسفك دمائهم، والتهوين من شأن الالتزام بأنظمة الحج التي وُضِعَتْ لضبط الأمن، وضمان سلامة ضيوف الرحمن.
– الاستهانة بحرمات الله، فمكان عظّم شجره وصيده فإنه من انتهاك حرمة الله تعريض من حرمت دماؤهم إلى الأبد وأعراضهم للخطر فيه، فذلك من الإلحاد الذي نهى الله عنه.
مظاهر اتفاق المسلمين في الحج:
فمن مظاهر اتفاق المسلمين في الحج اتفاقهم في مواقيته الزمانية والمكانية؛ فلا أحد يؤدي الحج خارج المواقيت المحددة شرعا، لا قبلها، ولا بعدها، ولا أحد يحرم من غير المواقيت المكانية التي عينتها الشريعة مواضعَ للإحرام، ولا أحد يقصد بالحج غير بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة التي جعلها الله مناسك لعباده؛ فبأي ذنب تغتال هذه الشريعة الجامعة؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)