
ردّ ما نُسِب إلى الإمام مالك رحمه الله من (جواز قتل ثُلُث الأُمَّة لاستصلاح الثلثين)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إن حفظ النفس من المقاصد الضرورية الخمس التي اتفقت في شأنها الشرائع، وبمراعاتها يستقر صلاح الدنيا والآخرة، وجاءت الشريعة الإسلامية بمراعاتها من جهتي الوجود والعدم.
وبذل فقهاء المسلمين جهودهم في بيان تلك التشريعات والأحكام المتعلقة بحفظ النفس، إذ بها تنتظم حياة الناس وشؤونهم.
ومما نُسِب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: يجوز قتل ثُلُث الأُمَّة لاستصلاح الثلثين.
وقد تتابع علماء المالكية على بيان بطلان نسبة هذه المقولة للإمام مالك، وبينوا وجهها الصحيح على تقدير ثبوتها، وردُّوا على من استعملها في إشعال الفتن بين المسلمين والإغراء بينهم.
ومركز سلف، كعادته اهتم بتوضيح القول المنسوب للإمام مالك، وبيان وجهه الصحيح، وتحذير الناس من استعماله في غير موضعه.
مركز سلف للبحوث والدراسات
- مصدر نسبة هذه المقولة إلى الإمام مالك:
لم تكن تلك المقولة لدى أبي محمد ابن حزم (ت: 456) معروفة النسبة لقائلٍ معين، فضلًا عن أن تكون منسوبة لعالمٍ من علماء المسلمين وأئمتهم نسبةً صحيحة أو باطلة، وإنما كانت لدى ابن حزم مقولة (الطغاة) و(الفُسَّاق)، بل هي (من أقوال الشيطان الرجيم وأتباعه)([1]). هكذا كان حال تلك المقولة في بلاد المغرب في القرن الخامس الهجري.
وفي مفارقة عجيبة وجَدت تلك المقولة في المشرق في وقت قريب من زمان ابن حزم مَن ينسبها إلى إمام جليل من أئمة المسلمين، وهو الإمام مالك بن أنس رحمه الله، حيث يذكر أبو بكر ابن العربي (ت: 543) أن ناسب هذه المقولة للإمام مالك هم (الخراسانيون الحنفيون والشافعيون)([2]).
وإذا بحثنا عن قائل معين نسب تلك المقولة للإمام مالك سنجد أن أشهرهم على الإطلاق هو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت: 478)، بحيث تكاد تجد اتفاقًا ممن جاء بعده ممن ناقش هذه المقولة من علماء المالكية وغيرهم على أنه هو مصدَر هذه النسبة.
وقد نسب أبو المعالي هذه المقولة إلى الإمام مالك في سياقات متعددة، منها ما يتعلق بالمصالح المرسلة، ومنها ما يتعلق بتفضيل مذهب الشافعي على مذهب مالك، وغير ذلك، وذلك في عددٍ من كتبه، وهي (البرهان في أصول الفقه)، و(غياث الأمم في التياث الظُّلَم)، و(مغيث الخلق).
قال في (البرهان): (نقلَ عن مالك رضي الله عنه الثقاتُ: أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها)([3])، وقال في موضع آخر: (فرأى الإمام مالك إراقةَ الدَّمِ وأخذ أموال بتُهَم من غير استحقاق لمصالح إياليَّة، حتى انتهى إلى أن قال: أقتُل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم)([4])، وقال في موضع ثالث: (لما زلَّ نظرُ مالكٍ كان أثرُ ذلك تجويزَ قتلِ ثلُث الأمة، مع القطع بتحرُّز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سببٍ مُتأصِّلٍ في الشريعة)([5]).
وقال أبو المعالي في (الغياثي): (نقل النقلة عن مالك رضي الله عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها)([6]).
وقال في (مُغيث الخلق): (أفضى به الأمر إلى أن قتل ثُلُث الأُمَّة في إصلاح ثلثيها)([7]).
وتبع الجويني في نسبة هذه المقولة للإمام مالك تلميذه أبو حامد الغزالي (ت: 505) فقال في (شفاء الغليل): (وقد نُقِل عن مالك رضي الله عنه: قتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها، من طريق المصالح)([8]). وقال في (المنخول): (فاسترسل مالك رضي الله عنه على المصالح، حتى رأى قتل ثُلُث الأمة لاستصلاح ثلثيها)([9]).
قال الشيخ حسين بن إبراهيم المكي المالكي (ت: 1292): (وقد تَبِع إمامَ الحرمين على نقله المذكور تلميذُه الغزالي في (المنخول)، وغَضَّ بذلك في حقِّ مالكٍ، وأتبَعَه بإساءة الأدب على أبي حنيفة جدًّا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد اتَّفَق لي في يوم عيد عند بعض أشياخنا رؤيةُ ما ذكر في (المنخول)، فتأسَّفتُ بما قال في حق أبي حنيفة، فما هو إلا أن وضعت كتاب (المنخول) من يدي وكان بين أيدينا كتب ننظر فيها، فوقع في يدي (تفسير البيلي)، فرأيت فيه تشنيعًا كبيرًا على (إحياء علوم الدين) وما فيه من الأحاديث الموضوعة، فأخذتني من ذلك عبرة، وقلتُ: جزاءً وفاقًا)([10]).
وقد قدم أبو بكر ابن العربي -وهو من تلاميذ أبي حامد الغزالي- تفسيرًا لمنشأ تلك النسبة، فقال: (إنما سمعوا من قول الإمام مالك اعتبارَ المصلحة فاعتبرُوها -بزعمهم- حتى بلغوا بها إلى هذا الحد. وكان من حَقِّهم لجلالةِ أقدارهم في العلم من سعة حفظهم ودقة فهمهم أن يتفطنوا لمقصده بالمصلحة، وأن يُجرُوها مجراها ويقفوا بها حيث انتهت)([11]).
- إنكارُ المالكية نسبةَ هذا القول لإمامهم:
بَيَّن جمعٌ من علماء المالكية في كتبهم الفقهية والأصولية بطلانَ نسبة هذه المقولة للإمام مالك، وذلك من جهة النَّقل والرواية، ومن جهة الدِّراية.
ومن أوائل من أنكر نسبة هذا القول للإمام مالك أبو بكر ابن العربي، حيث قال: (نسب الخراسانيون الحنفيون والشافعيون إلى مالك أن هلاك بعض الأمة في الاستصلاح واجب، وهو بريء من ذلك)([12]).
ثم تتابع عُلماء المالكية عبر القرون على إنكار هذا القول.
فممن أنكره في القرن السابع الهجري: أبو العز المقترح (ت: 612) في حواشيه على البرهان حيث قال: (إن هذا القول لم يصح نقله عن مالك، هكذا قالَهُ أصحابه)([13]).
وأنكره ابن شاس (ت: 616) أيضًا على إمام الحرمين، وقال: (أقواله تؤخذ من كتبه وكتب أصحابه، لا من نقل الناقلين)([14]).
وكذلك أنكره الأبياري (ت: 616) في شرحه على البرهان: (وهذا الذي ذكره عن مالك لم يقف عليه، ولا يعترِفُ به أصحابه)([15]).
وكذلك استنكره أبو العباس القرطبي (ت: 656) فقال: (وقد اجترأ إمام الحرمين وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل، وهذا لا يوجد في كتاب مالك، ولا في شيء من كتب أصحابه)([16]).
وقال العلامة شهاب الدين القرافي (ت: 684): (وكذلك ما نقله عن الإمام في البرهان من أن مالكًا يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين، المالكية ينكرون ذلك إنكارًا شديدًا، ولم يوجد ذلك في كتبهم، إنما هو في كتب المخالف لهم، ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلًا)([17]).
ولعل كلام القرافي من أشهر ما تم تداوله في هذه المسألة، حيث نقله عددٌ ممن أنكر نسبة هذه المقولة للإمام مالك ممن جاء بعده([18]).
وممن أنكر هذا القول أيضًا من علماء المالكية في القرن التاسع الهجري: القاضي أبو العبّاس أحمد بن الشمّاع التونسي (ت: 833)، وهو من تلامذة ابن عرفة (ت: 803)، حيث أبطل نسبة هذه المقولة للإمام مالك، وأبطلها في نفسها، في ردٍّ مفصلٍ على ما نقله إمام الحرمين من خمسة وعشرين وجهًا، وذلك في كتابه (مطالع التمام ونصائح الأنام ومنجاة الخواص والعوام في ردّ القول بإباحة إغرام ذوي الجنايات والإجرام زيادة على ما شرع الله من الحُدود والأحكام).
ومن تلك الوجوه التي ذكرها:
(الثاني: إن هذا الذي زعمَه الإمام لم ينقُلْه أحد من أصحاب مالك عنه، ولا هو في مسألة، وهذا مما يدل على بطلانه.
الثالث: إنه ما أخبر عنه [أنه] رواه، لعله إنما ألزمه ذلك.
الرابع: أن هذا مما تتوفر الدعاوي على نقله، فلا يُقبَل فيه الواحد، ولو كان ممن لقي مالكًا وأخذ عنه، فكيف وبينه وبينه أعصار.
الخامس: إن مذاهب الأئمة لا مُعوَّل على ما وجد منها في كتب المخالفين لهم)([19]).
وقال في الوجه الثامن: (اعترف إمام الحرمين أنها زلة، ولم ينقلها أحد من علماء المذهب، ولا كثر [نقلها] عند المخالفين)([20]). وبين أيضًا اضطراب إمام الحرمين في ما ذكره عن الإمام مالك.
ولم يقتصر ابن الشمّاع في إبطال هذه المقولة على بَيان عدم ورودها في مدونات الإمام مالك وأصحابه، وإنما بيّن مخالفتها للثابت عنه؛ قال في الوجه العشرين في ردّه على هذه المقولة: (مما يدل على بطلانه -أعني: هذا النقل عن مالك رحمه الله، أعني: قولَ القائل: لا بأس بإفساد الثُلُث في صلاح الثلثين- أن مالكًا رحمه الله سُئِل عن حصنِ العدوِّ يكون فيه مُسلم، ومركب العدو يكون فيه مسلم، قيل: أيجوز أن يحرق ويغرق؟ فقال: لا.
وأحد من الحصن والسفينة أقل من الثلث، وكيف يقول بإفساد الثلث في إصلاح الثلثين، ويدعي أنه مذهبه الذي جرت عليه أحكامه مع هذا؟!)([21]).
ونص الفتوى المشار إليها كما في المدونة: قال ابن قاسم: (سمعتُ مالكًا وسُئِل عن قومٍ من المُشركين في البحر في مراكبهم أخذوا أسارى من المسلمين، فأدركهم أهل الإسلام أرادوا أن يُحرِّقُوهم ومراكِبَهم بالنار، ومعهم الأسارى في مراكِبِهم؟
قال: قال مالكٌ: لا أرى أن تُلقى عليهم النار ونهى عن ذلك.
وقال مالك: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه لأهل مكة: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، أي: إنما صرف النبي عن أهل مكة لما كان فيهم من المسلمين، ولو تزيَّلَ الكُفَّار عن المسلمين لعذَّب الذين كفروا، أي: هذا تأويله. والله أعلم)([22]).
قال ابن الشماع: (الحادي والعشرون: أنه رأى الآية مُحكمةً فيما دلَّت عليه من مساواة القليل بالكثير في الحرمة، وبطلان القول بأن فساد الثلث في صلاح الثلثين جائز، والدليل على ذلك أنه استدل بها حسبما أثبت عنه في المدونة وغيرها)([23]).
وحظي بحثُ ابن الشماع لهذه المسألة بقَبُول علماء المالكية بعده ممن سيأتي ذكرهم([24]).
وممن تصدَّى لإبطال هذه النسبة في القرن الحادي عشر الهجري: أبو حامد العربي الفاسي (ت: 1052) حيث قال: (هذا المحكِيُّ إنما حكاه عن مالك أبو المعالي إمام الحرمين، وهو شافعي لم يمارس مذهب مالك، ولا لابس رواته، ولا روايتهم عنه، ولهذا جرت عادة العلماء أنهم لا يعتمدون على نقل المخالف، ومع هذا فلم يحكه على وجه الارتضاء، والمالكية ينكرون هذا النقل عن مالك، ولم يرْوه أحد منهم عنه)([25]).
ولأبي حامد ابن العربي جواب في هذه المسألة سيأتي الكلام عليه بإذن الله.
وممن أنكره محمد بن عبد القادر الفاسي (ت: 1116)، قال البنَّاني (ت: 1194): (قال شيخ شيوخنا المحقق أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد القادر الفاسي عقب ما تقدم ما نصُّه: هذا الكلام لا يجوز أن يُسَطَّر في الكتب، لئلا يغتَرَّ به ضعَفَة الطلبة، وهو لا يوافق شيئًا من القواعد الشرعية)([26]).
وما ذكره العلامة البناني في هذا الموضع من حاشيته على (شرح الزرقاني على مختصر خليل) نقلًا أو بحثًا يُعدّ من أخصر وأجمع ما كتب في هذه المسألة، وقد أحال إليه عدد ممن جاء بعده([27]).
وتصدَّى لإبطال هذه النسبة في القرن الرابع عشر الهجري شيخ الأزهر محمد الخضر حسين (ت: 1377)، حيث يقول: (وقد ادّعى بعض أهل العلم من غير المالكية أن الإمام مالكًا أفتى -بانيًا على قاعدة المصالح المرسلة- بجواز قتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين، والمالكية ينكرون نسبة هذه الفتوى إلى الإمام مالك أشد الإنكار، ويقولون: إنها لم تنقل في كتبهم البتة)([28]).
وكذلك اعتنى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393) ببيان بطلانها في كتبه ومحاضراته، حيث بين ذلك في (المذكرة في أصول الفقه) و(نثر الورود) و(رحلة الحج) ومحاضرته في (المصالح المرسلة)، واعتمد في نفي نسبتها على من تقدّمه من علماء المالكية كالقرافي والبنَّاني.
قال: (أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين، وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات؛ فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك، ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيءٍ من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البنَّاني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمنًا طويلًا، وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة)([29]).
وقال مُتعقِّبًا عبارة (روضة الناظر): (حُكِيَ أنَّ مالكًا قال: يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين): (وما ذكره المؤلف رحمه اللَّه من أنَّ مالكًا رحمه اللَّه أجازَ قتلَ الثلث لإصلاح الثلثين ذكره الجويني وغيره عن مالك، وهو غير صحيح، ولم يروه عن مالك أحد من أصحابه، ولم يقله مالك، كما حققه العلامة محمد بن حسن البنَّاني في حاشيته على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل)([30]).
وأنكر نسبة هذه المقولة للإمام مالك الشيخ محمد سالم بن محمد علي بن عبد الودود (عدود) الهاشمي الشنقيطي (ت: 1429)، معتمدًا على ما ذكره البناني في حاشيته، فقال في نظمه لمختصر خليل:
………………….. *** …………… ولا تمانِعْ
في أنَّ ما أبُو المعالي قَد عَزا *** لمالك من قَتْل ثلثٍ يُغتَزى
بِهِ صَلاحُ ثُلُثَينِ مُنكرُ *** ومِثلُه في الكُتْبِ لا يُسطَّرُ
وإنَّما يُؤخَذُ كُلُّ مذهبِ *** عن الذي لأهله في الكُتُبِ
كما لمن نَصَحَ للبريّه *** مخطِّئًا مُحلِّلَ الخطيَّه([31])
والمازريْ ابنَ الجوينيِّ أقرّ *** فيما عَزَا كما المُوضِّح ذَكَر([32])
تنبيه: عنى الشيخ ولد عدود في البيت الأخير أن الموضّح -وهو الشيخ خليل بن إسحاق (ت: 667) صاحب (التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب الفروعي)- قد عزا لأبي عبد الله المازري أنه قال: (هذا الذي حكاه أبو المعالي عن مالكٍ صحيح)([33]).
وقد حذّر علماء المالكية من الاغترار بما جاء في (التوضيح) في هذا الموضع، ولذا وجَّه أبو حامد العربي الفاسي كلامَ المازري بأنه (إنما ترجع فيه الإشارة إلى أول الكلام، وهو أن مالكًا كثيرًا ما بنى مذهبه على المصالح، لا إلى قوله بأثره: “وقد قال: إنه يقتل ثلث الأمة لمصلحة الثلثين”، أو أنه حمَلَه على مسألة تترُّس الكُفَّار بالمسلمين)([34]).
قال محمد بن عبد القادر الفاسي بعد أن أورده: (وهو تنبيهٌ متعيِّن ينبغي المحافظة عليه لئلا يُغترَّ بما في التوضيح)([35]).
ويبقى أن المازري في شرحه على البرهان قد أنكر على الجويني شدة عبارته مع الإمام مالك والإمام أبي حنيفة حيث قال: (كما أستثقل منه الرمز إلى مخالفة مالك وأصحابه للسلف، واستيطائهم مركب العقوق في الحقوق، وخرقهم حجاب الهيبة، إلى غير ذلك من ألفاظه التي هي مصيحة، وليست معانيها صحيحة، ولا معنى للعقوق هاهنا وذكره، وهو كالخارق في مقدم نفسه حجاب الهيبة، إذ لم يتهيب أبا حنيفة ولا مالكا رضي الله عنهما).
ثم أشار إلى تناقضٍ وقع من إمام الحرمين بين تعامله مع هذين الإمامين وبين تعامله مع من يخالفهم من الأشاعرة عند انتقاده لأقوالهم: (وهلا جرى في من تقدَّم من أئمة الأشعرية على هذا الأسلوب فيما نبَّهْنَا عن مُخالفتِه لهم؟! وإن اعتذر عنه معتذر بأن تلك مسائل أصول وهذه مسائل فروع، وأنّ حُسن العبارة عن الماضين وتحسين المخارج لهم لا يضيق على من هو أضيق منه باعًا، فكيف به مع اتساع باعه في العلوم لفظًا ومعنى؟!)([36]).
- توجيه المالكية لهذه الكلمة على تقدير ثُبوتِها عن الإمام مالك:
قدّم علماء المالكية توجِيهين لتلك الكلمة المنسوبة للإمام مالك، وهي جواز قتل ثلث الأمة استصلاحًا للثلثين، وذلك على تقدير ثبوتها، أما أحد ذينك التوجيهين فحظي بالقبول، وأما الآخر فكان محل نزاع.
أما التوجيه المقبول: فهو حمل الكلمة المنسوبة للإمام مالك على مسألة تترُّس الكُفَّار بالمسلمين، وهي مسألة معروفة في الفقه الإسلامي، ولا ينحصر القائل بها في المالكية.
وهذا التوجيه ذكره أبو العباس ابن الشمّاع.
قال ابن الشمَّاع: (المسألة التي ألزمه الإمام أو نقلها عنه لا تُقرَّر إلا في مثل ما قالَه الإمام الغزالي رحمه الله أنَّ المسألة إذا كانت ضروريَّةً قطعيًّةً عامَّة، كما إذا لم يبق من المسلمين إلا طائفة واحدة، وتترَّسَ العدو بمسلمين، وعلمنا أنَّا إن لم نقتل الترس قتلُونا وقتلُوه، وقطعنا بذلك، فلا يبعد أن يقول قائل هذا)([37]). ثم بيّن أنها مسألة مفروضة غير واقعية.
وقال أبو حامد العربي الفاسي: (والذي أنكره العلماء وتبرَّؤوا منهُ في هذا النقل هو حملُه على الإطلاق والعموم، حتى في الفتن الواقعة بين المسلمين عياذًا بالله، وما يشبه ذلك، أما في بعض ما يشمله ذلك العموم، وهو مسألة تترس الكفار بالمسلمين…). ثم شرح المسألة وقيودها بنحو ما جاء عن الغزالي بتفصيل وإيضاح([38]).
وقال محمد الخضر حسين: (وإنما تكلموا -أي: المالكية- كما تكلم غيرهم في مسألة العدو يضع أمامه الأسرى المسلمين يتترس بهم في الحرب، فأفتوا بأنه يجوز دفاع العدو بنحو الرمي متى خيف استئصال الأمة، ولو أفضى الدفاع إلى قتل أولئك الأسرى من المسلمين)([39]).
أما التوجيه المتنازع فيه لهذه الكلمة: فهو أن معناها: قتلُ ثلُثِ مُسلمينَ مُفسدين، لإصلاح ثلثين مفسدين، حيث تعين القتل طريقًا لإصلاح الثلثين.
وهذا هو توجيه الشيخ عبد الباقي الزرقاني (ت: 1099) في شرحه على مختصر خليل حيث قال: (قال مالك ما معناه: يجوزُ قتلُ ثلث مُسلمين مُفسدين لإصلاح ثلثين مفسدين، حيث تعيَّنَ القتلُ طَريقًا لإصلاح الثلثين دون الحبس أو الضرب، وإلا مُنع صونًا للدماء.
والمرادُ بالإفساد: تخريبُ أماكن الناس، وقيامُ بعضهم على بعض، ونهبُ أموال خفية، من غير قتلٍ ولا زنا، إذ لو كان كذلك لقُتِل أو رجم من ثبت عليه ذلك بالوجه الشرعي، ولو الجميع.
ثم الظاهر أن الإمام أو نائبه يُخيَّر في تعيين الثلث من جميع المفسدين بالمعنى الأول للقتل، مع نظره بالمصلحة فيمن هو أشد فسادًا من غيره.
وقولي: ثلُث مفسدين هو الصواب، خلافًا لما سرى لبعض الأوهام من جواز قتل ثلث من أهل الصلاح لإصلاح ثلثين مفسدين، فإنه غلط فاحشٌ، مَعاذ الله أن يقال به.
وأيضًا: أهل الفساد لا ينزجرون غالبًا بقتل أهل الصلاح، بل لو فرض ذلك فلا يُرتَكب فيما يظهر.
وانظر لو كان لا يحصل إصلاح المفسدين إلا بقتل أكثر من ثلث مفسدين، والظاهر عدم ارتكابه صونًا للدماء)([40]).
قال البنَّاني: (وأمَّا ما تأوَّلَه الزرقاني من أن مراد إمام الحرمين قتل الثلث من المفسدين حيث تعين طريقًا لإصلاح الباقي فغيرُ صحيح، ولا يحلُّ أن يقال به، فإن الشارع إنما وضع لإصلاح المسلمين إقامةَ الحدود عند ثبوت موجباتها، ومن لم تُصلِحهُ السُّنَّة فلا أصلَحَه الله.
ومثلُ هذا التَّأويل الفاسد هو الذي يُوقِع كثيرًا من الظَّلَمة المُفسدين في سفكِ دماءِ المسلمين نعوذُ بالله تعالى من شرور أنفسنا)([41]).
وممن ذكر هذا التوجيه وقَبِلَه النفراوي (ت: 1126) حيث قال: (ما نقله العلامة خليل عن مالك من جواز قتل الثلث من المسلمين لإصلاح الثلثين، ومحْمَلُه عندنا على أن الجميع مفسدون، ولا يحصل انزجارهم لا بحبسهم ولا بضربهم إلا بقتل ثلثهم، هذا محل الجواز، إذ لم يقل أحد بجواز قتل أهل الصلاح لإصلاح أحد من أهل الفساد، واتضح أن المراد: يجوز قتل ثلث المفسدين لإصلاح ثلثيهم حيث توقف الإصلاح على القتل، وإلا ارتكب الأخف، والله أعلم)([42]).
وسبب اختلاف علماء المالكية في صحة هذا التوجيه هو اختلافهم في اعتبار الشرع أو إلغائه لتلك المصلحة المترتبة على قتل ثلث المفسدين.
- الأدلة على بطلان القول بجواز قتل ثلث الأمة لاستصلاح الثلثين:
بعد الفراغ من النظر في نسبة هذه المقولة للإمام مالك يكون الكلام في بيان بطلان هذه المقولة إذا حُمِلَت على ظاهرها بقطع النظر عن قائلها، وهو مما اتفق عليه من نسبَهَا إلى مالك كالجويني، ومن ردّ نسبتها كمن تقدم ذكرهم آنفًا من علماء المالكية.
وتلك الأدلة على جهة الاختصار:
الدليل الأول، وهو من الكتاب العزيز:
قال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
قال أبو حامد بن العربي الفاسي في بيان وجه دلالة هذه الآية على بطلان القول بجواز قتل ثلث الأمة لاستصلاح الثلثين: (لولا كراهة أن تهلكوا أناسًا من المؤمنين بين أظهر الكفار وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه من التأسف عليهم، أو تعيير الكفار بذلك، أو غير ذلك؛ لما كف أيديكم عنهم. فالمراد بالرجال والنساء من كان من المستضعفين بمكة يكتم إيمانه.
فبين سبحانه أنه إنما لم يعذّب الكافرين من أهل مكة بأيدي المؤمنين لكون بعض المؤمنين هنالك، فروعي الكافر في حرمة المؤمنين، إذ كانت إذايةُ الكافِر يُخاف منها إصابة المؤمن، وقد كانوا أناسًا قليلين، وقد علم أن مصلحة المؤمنين في تعذيب الكافرين، وقهرهم علمًا قاطعًا، ومع ذلك منع الله سبحانه مما قد يؤدي إلى فساد هذا العدد الذي هو أقل القليل في مصلحة الجم الغفير من المسلمين الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يرجح بأمته وأضعافهم، وعترته الأكرمون والخلفاء الراشدون، وبقية العشرة، وجميع من بايع تحت الشجرة، وأهل بدر وأحد.
فإذا كان الله عز وجل قد حمى الكافرين كراهة أن يخطئ المسلمون فيصيبوا مسلمًا، ولو كانت في ذلك مصلحة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من السادات الكرام على جلالة قدرهم ورفعة شأنهم، بحيث يصير ذلك العدد القليل من المستضعفين بالنسبة إليهم كالعدم، فكيف يسوغ لمؤمن بعد هذا أن يقول بفساد الثلث في صلاح الثلثين؟!)([43]).
الدليل الثاني: إجماع السلف رضي الله عنهم على ترك استعمال هذه العقوبة.
قال أبو المعالي الجويني: (تبين من نَظَر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة، ومِن نَظَر أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا به لا يحكم به.
ونحن نعلم أن الأمد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضي مثل ما يعتقده مالك، ثم لم يجر وشذت واقعة في العقوبات، واضطرب فيها رأي الصحابة، وهي حد الشارب، فجرى فيه واشتهر، ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير زيادة فيه، إلا بعد أن يثبتوا أنه لم يكن مُقدَّرًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنَّهم أجرَوه مجرى التعزيرات.
قال علي رضي الله عنه: أما أنا لا أقتل في حدٍّ، وأجد في نفسي شيئًا إلا حد الشارب فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فليكن هذا سبيلًا قاطعًا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا نحوه، وفيه تنبيه على ما نريده)([44]).
وأشار إلى هذا الاستدلال بقوله: (لما زلَّ نظرُ مالكٍ كان أثرُ ذلك تجويزَ قتلِ ثلُث الأمة، مع القطع بتحرُّز الأولين عن إراقة محجمة دم من غير سببٍ مُتأصِّلٍ في الشريعة)([45]). وقد اعتمد ابن الشمّاع هذا الاستدلال الذي ذكره الجويني مع مخالفته له في نسبته ما ذكره للإمام مالك([46]). وبه يتضح أن خلاف المالكية مع الجويني لم يكن في ما ذكره من استدلال على فساد تلك المقولة، وإنما في ما ذكره من نسبتها إلى الإمام مالك.
الدليل الثالث: اللوازم الفاسدة لهذه المقولة:
من تأمَّلَ في لوازِم هذه المقولة وجدَ أنَّها تفتحُ الباب للقول بمصالح كثيرة شهدت الشريعة بإلغائها، وذلك أن من جوزها يلزمه تجويز نظائرها من الاستصلاحات، والتي يحرم الأخذ بها اتفاقًا.
ومن تلك الصور التي تلزمه ما ذكره ابن الشمّاع بقوله: (يلزم على طرد هذه المقالة أن الإنسان لو اضطر إلى فلقة من فخذه جاز له أن يقطعها! ولو كانوا ثلاثة جاز لهم أن يأكلوا أحدهم! ولا قائلَ به من أهل الإسلام)([47]).
ومن القائلين بهذه المقولة من التزم بعض لوازمها الفاسدة، حيث يعزو الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي (ت: 1033) الاحتجاجَ بها لبعضِ من أفتى سلاطين الأتراك العثمانيين بجواز قتل السلطان أولادَه إلا واحدًا منهم بدعوى أن الضرر المتوقع من ترك الأولاد -وهو حصول الفتنة والاقتتال بين المسلمين- يفوق الضرر الحاصل من قتلهم!([48]).
- التوظيف السياسي للقول بجواز قتل ثلث الأمة لاستصلاح الثلثين:
من نماذج ذلك التوظيف فتنة جرت بين طرفين من المسلمين في بلاد المغرب في القرن الحادي عشر الهجري بسبب أمرٍ دنيوي، وآل الأمر إلى أن قام طالبٌ منسوب إلى إحدى الطائفتين المتقاتلتين من المسلمين بتوظيف هذه المقولة المنسوبة للإمام مالك في الإغراء بمقاتلة الطرف الآخر من المسلمين! مع أن هذا الطالب لم يضبط تلك المقالة المنسوبة لمالك، فنقلها معكوسة حيث قال: (إفساد الثلثين لإصلاح الثلث حقّ)!
وحينئذٍ استُفتِي علماء المغرب في ما جرى، ونصُّ ذلك الاستفتاء كما أورده الوزاني (ت: 1342) في النوازل الجديدة الكبرى: (سئل فقهاء المغرب في حدود ما قبل الأربعين والألف عن قتال وقع بين فئتين من المسلمين في ثغر من ثغور المغرب، اقتتلوا بسبب مالٍ كان عندهم على أن يقتسموه في رواتبهم، وكان تحت يد إحدى الطائفتين، فلما طلبت الطائفة الأخرى أن يمكنوهم من واجبهم منعوهم من ذلك، ونشأ بينهم كلامٌ انتهى إلى القتال.
وقد كان جاء طالب إلى إحدى الطائفتين، فظنوا أنه به العلم، وشارطوه، وصاروا يمتثلون أمره، ويقتدون به، فلما وقعت هذه الفتنة صار يغريهم على قتال الطائفة الأخرى، ويقول لهم: ارموهم بالأنفاض، وانزلوا عليهم بالسخط، إفساد الثلثين لإصلاح الثلث حقّ، فهل ما قاله هذا الطالب حقٌّ أو لا؟ وهل ذلك جرحة فيه أم لا؟ وما الذي يلزمه من هذا؟
بينوا لنا حال هذا الطالب ولا بد، فقد كان يفتن الناس ويزلزل عقائدهم)([49]).
حفظ لنا المالكية شيئًا من جواب أحد علمائهم، وهو أبو حامد العربي الفاسي، فقيَّد الوزاني جزءًا منه، وقبله قيّد المسناوي الدلائي (ت: 1136) جزءًا منه أيضًا([50])، واستفاد منه محمد بن عبد القادر الفاسي في كلام له في المسألة نقله البناني، وقال: (وقد أشبع الكلام على هذه المسألة شيخ شيوخنا العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي العربي الفاسي في جواب له طويل)([51]).
ومما جاء في جوابه: (الجواب والله الموفق سبحانه: أن ما ذكره هذا الطالب من كون إفساد الثلثين في إصلاح الثلث حقًّا باطل بإجماع المسلمين، ولم يُحك عن أحدٍ من الناس، لا على وجه القبول، ولا الردّ البتة، وإنما هو اختلاق واختراق للإجماع والاتفاق، وإنما حكى جواز إفساد الثلث لمصلحة الثلثين إيثارًا للأكثر على الأقل، ومحافظة على تقليل الفساد ما أمكن، فإن فساد الأقل أقل من فساد الأكثر)([52]).
ثم بين غلط حكاية الجويني لهذه المقالة عن الإمام مالك، وقد تقدم نقل كلامه في ذلك.
ثم انتقل إلى بيان خطورة توظيف ذلك الطالب لتلك المقولة من جهة حق الله تعالى، ببيان أن ما فعله هو تبديل لحكم الله تعالى، فقال: (ومن أعظم المظالم إدخال الغلظ عليهم في حكم القتال، وما وقعوا فيه من النفوس والأموال بقوله: إن إفساد الثلثين حق، فتصير المعصية عندهم طاعة، فيبدَّل حكم الله، ويصير الباطل حقًّا، والمنهي عنه مأمورًا به صدقًا: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ} [الأعراف: 28، 29]، {فَمَن بَدَّلَهُۥ بَعْدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَا إِثْمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181]، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144].
وأيُّ إثم وظلم أعظم من إثم أو ظلم من افترى على الله، وأفتى بحقيقة الباطل عباد الله؟! {سَتُكْتَبُ شَهَٰدَتُهُمْ وَيُسْـَٔلُونَ} [الزخرف: 19]، {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79])([53]).
ثم بين خطورة توظيف ذلك الطالب لتلك المقولة من جهة إضعافها للمسلمين، وإشعالها للفتن بينهم، وهو ما يَسُرُّ الكُفَّار ويُفرحهم، فإن حال هذا الطالب كمن يصب الزيت على النار.
قال: (فانظروا إلى أين أهوى بمن أفتاهم بذلك هواه، وإلى أي هوّة في سخط الله استهواه، وإذا أفتى هو بذلك إحدى الطائفتين، فيجوز أن يفتي طالب آخر الطائفة الأخرى بمثل ذلك، فتشب من الجانبين نار الفتنة، وتعظم على المسلمين بذلك المحنة، فيفسد الجميع، ويتسع الخرق عن الترقيع.
ولعمري إن الشيطان لم يجد في هذا الزمان وليًّا مثل هذا الطالب، فإنه عادى الإسلام على لسانه بما لم يتوصل إليه شيطان موسوس، ولا عدو محارب، فعمد إلى جيش من جيوش الإسلام، قد حرَّم على عبدة الأصنام المنام، فالإسلام بهم في حبور، وعبدة الأصنام في ثبور، فسوّل لهم ما سوّل، وتقوّل على الشريعة ما تقوّل، ورام أنفسهم بما أعدوه لعدوهم من قوة عددٍ وعديد، فيصير الكفر في سعة، والإسلام في جهد جهيد، وهل يبغي الشيطان وأولياؤه الكفرة بعد هذا من مزيد؟!)([54]).
وهكذا تظهر مآلات الخطأ على العلماء في نسبة الأقوال الباطلة لهم، وما تجرُّه من جنايات على الشرع وعلى أهل الإسلام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) «الفصل» (3/ 99)، «الإحكام في أصول الأحكام» (8/ 129).
([2]) «القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس» (ص: 932).
([5]) «البرهان» (ص: 1206-1207).
([7]) «مغيث الخلق» (ص: 77). وهذا الكتاب لإمام الحرمين ركب فيه الصعب والذلول لإثبات وجوب التمذهب بمذهب الشافعي على كافة الخلق! وقد ردّ عليه الحنفية كالكوثري، والمالكية كالقرافي، حيث قال ابن المعلم في كتابه «نجم المهتدي ورجم المعتدي» (2/ 199) في ترجمة القرافي: (وصنف كتبًا نافعة مفيدة)، ثم ذكر منها: (كتابًا عارض به كتاب إمام الحرمين: مغيث الخلق في اختيار الأحق، يذهب إلى أن أحق العلماء أن يقلد دون غيره الإمام مالك بن أنس، كما عين إمام الحرمين في كتابه الإمام الشافعي). ولعل هذا الكتاب لو وجد سيكون فيه إيضاح لهذه المسألة أيضًا، بالإضافة إلى ما ذكره القرافي في شرحه للمحصول، وسيأتي.
([8]) «شفاء الغليل في بيان الشبه والمُخيل ومسالك التعليل» (ص: 247).
([9]) «المنخول من تعليقات علم الأصول» (ص: 354).
([10]) «قرة العين في فتاوى علماء الحرمين» (ص: 6)، وانظر اعتذار ابن حجر الهيتمي في «ثبته» (ص: 254) عما وقع للغزالي في «المنخول» من قدح في أبي حنيفة، فإنه اعتذر له بأنه تاب عنه.
([11]) «القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس» (ص: 932).
([12]) «القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس» (ص: 932).
([13]) نقله الزركشي في «البحر المحيط» (8/ 84).
([14]) نقله الزركشي في «البحر المحيط» (8/ 84).
([15]) «التحقيق والبيان» (4/ 176). ونقله حلولو في «التوضيح شرح التنقيح» -رسالة علمية- (3/ 950).
([16]) نقله الزركشي في «البحر المحيط» (8/ 84).
([17]) «نفائس الأصول في شرح المحصول» (9/ 4092).
([18]) استشهد به الشماع في «مطالع التمام» (ص: 118)، والحطاب في «مواهب الجليل» (5/ 430) قال: (وانظر كلام القرافي في آخر شرح المحصول، فإنه تكلم في مسألة المصالح المرسلة بكلامٍ حسن، وأنكر ما ذكره إمام الحرمين عن مالك، وقال: إنه لا يوجد في كتب المالكية فتأمله. والله أعلم). واستشهد به أيضًا العربي الفاسي في جوابه في هذه المسألة، انظر: «النوازل الجديدة الكبرى» (3/ 17)، «مجلة المذهب المالكي» (10/ 110)، ومحمد بن عبد القادر الفاسي كما نقله البناني في حاشيته على «شرح الزرقاني لمختصر خليل» (7/ 55)، وعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي في «نشر البنود على مراقي السعود» (2/ 191). قال الأمين الشنقيطي: (ما ذكره القرافي رحمه اللَّه من أن جواز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين لم يقل به أحدٌ من المالكية، ولم يوجد في كتبهم صحيحٌ كما قال القرافي). «رحلة الحج» (ص: 188).
([19]) «مطالع التمام» (ص: 115).
([20]) «مطالع التمام» (ص: 117)، وما بين معقوفين سقط من النسخة المطبوعة، وقد استدركته من النسخة الخطية للكتاب، وانظر: «حاشية البناني على شرح الزرقاني لمختصر خليل» (7/ 55).
([21]) «مطالع التمام» (ص: 123).
([23]) «مطالع التمام» (ص: 123).
([24]) استشهد بكلام ابن الشمّاع أبو حامد العربي الفاسي في تقييده في المسألة كما في «مجلة المذهب المالكي» العدد العاشر (ص: 110، 114) قال: (وقد أبطل العلماء ما ألقى الشيطان من جواز إفساد الثلث من الناس لإصلاح الثلثين على الإطلاق والعموم بوجوه كثيرة)، وذكر البناني في حاشيته على «شرح الزرقاني لمختصر خليل» (7/ 56) أربعة وجوه من الوجوه التي ذكرها ابن الشماع نقلًا عن محمد بن عبد القادر الفاسي، ولخص كنون في حاشيته (7/ 37) بعض الوجوه الأخرى.
([25]) «النوازل الجديدة الكبرى» (3/ 25).
([26]) «حاشية البناني على شرح الزرقاني» (7/ 55).
([27]) انظر: حاشية «ضوء الشموع شرح المجموع» (3/ 568)، و«قرة العين في فتاوى علماء الحرمين» للحسين المكي (ص: 5-6)، و«الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» للحجوي الفاسي (1/ 156) وسيأتي كلام الشنقيطي وولد عدود في العزو إليه.
([28]) «موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين» (4/ 66).
([29]) «المصالح المرسلة» ضمن «آثار الشنقيطي» (11/ 34).
([30]) «المذكرة في أصول الفقه» (ص: 264-265).
([31]) قال الشيخ ولد عدود في التعليق على هذا البيت: (هو ابن الشمّاع في كتابه المسمّى بأسامٍ، منها: «نصح البرية في تخطئة محلل الخطية»). «التسهيل والتكميل» (5/ 50-51). وهو الكتاب الذي تقدّم النقل منه فإن مؤلفه سمّاه بعشرة أسماء، منها الاسم الذي ذكره الشيخ، ومنها: «مطالع التمام ونصائح الأنام…»، وهو الاسم المثبت على الكتاب والذي اعتمدته في العزو إليه.
([32]) «التسهيل والتكميل» (5/ 50).
([34]) «مجلة الفقه المالكي» العدد (10) (ص: 111)، ونقله محمد بن عبد القادر الفاسي كما في «حاشية البناني شرح الزرقاني لمختصر خليل» (7/ 55).
([35]) «حاشية البناني شرح الزرقاني لمختصر خليل» (7/ 55).
([36]) «إيضاح المحصول» (ص: 292).
([37]) «مطالع التمام» (ص: 114).
([38]) «مجلة الفقه المالكي» العدد (10) (ص: 111-114).
([39]) «موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين» (4/ 66).
([40]) «شرح الزرقاني لمختصر خليل» (7/ 55).
([41]) «شرح الزرقاني لمختصر خليل» (الحاشية) (7/ 56). ونقله عدد من شراح خليل. انظر: «منح الجليل» لعليش (7/ 514)، و«لوامع الدرر في هتك أستار المختصر» للشنقيطي (11/ 164).
([42]) «الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني» (2/ 181)، ونحوه في حاشية العدوي على «كفاية الطالب الرباني» (2/ 199-200).
([43]) «مجلة الفقه المالكي» العدد العاشر (ص: 114-115). وقد أطنب ابن الشماع في بحث أوجه دلالة الآية على إبطال هذا القول في «مطالع التمام» الوجوه العاشر إلى السابع عشر (ص: 118-122)، واستفاد العربي الفاسي ما تقدم نقله عنه منه.
([45]) «البرهان» (ص: 1206-1207).
([46]) «مطالع التمام» (ص: 115).
([47]) «مطالع التمام» (ص: 115). واستفاده العربي الفاسي انظر: «مجلة الفقه المالكي» العدد العاشر (ص: 114).
([48]) انظر «قلائد العقيان في فضائل آل عثمان» (ص: 135-138).
([49]) «النوازل الجديدة الكبرى» (3/ 16).
([50]) ما قيده المسناوي طبع محققًا في العدد العاشر من «مجلة الفقه المالكي» (ص: 110-115) بعنوان: (تقييد في رد ما نسب إلى الإمام مالك من جواز قتل ثلث الأمة لاستصلاح الثلثين)، وقد تقدّم النقل عنه في هذا البحث، وتقييد الوزاني مطبوع في «النوازل الجديدة الكبرى» (3/ 16-17)، وكلٌّ من التقيدين فيه ما ليس في الآخر.
([51]) «شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني» (7/ 56).
([52]) «النوازل الجديدة الكبرى» (3/ 17).