
ترجمة الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس (1349-1447هـ / 1931-2025م)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمُها *** متى يمت عالمٌ منها يمُت طرَف
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلّ بها *** وإن أبى عاد في أكنافها التلَف
قال العلامةُ ابن القيم رحمه الله: “إن الإحـاطـة بـتراجم أعـيـان الأمـة مطلوبـة، ولـذوي الـمعـارف مـحبوبـة، فـفـي مـدارسـة أخـبـارهم شـفـاء للعليل، وفي مطالعة أيـامهم إرواء للغليل، فـأيّ خصلة خيـر لـم يسبقـوا إليهـا؟! وأي خطـة رشـد لـم يـستولـوا عليهـا؟! تـالله لـقد وردوا رأس الـمـاء من عـيـن الـحيـاة عذبًا صافيًا زلالًا، وأيّدوا قواعد الإسلام، فلـم يـدعوا لأحـد بعدهـم مقـالًا”([1]).
ومن هؤلاء الأعلام غرة الزمان وحسنة الأيام العالم الرباني الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس رحمه الله تعالى.
اسمه ونسبه وكنيته ومولده:
هو جعفر بن شيخ إدريس بن محمد بن صالح بن بابكر بن عبد الرحمن آل بلل، أبو عبد الرحمن
ولد الشيخ رحمه الله بمدينة بورتسودان الميناء البحري الرئيس للبلاد، شمال شرقيِّ السودان، عام 1349هـ.
نشأته:
ينحدر أصل الشيخ من بلدة تسمَّى كريمة في شماليِّ السودان، تقع على ضفاف النيل، وهي الحاضرة التجارية لمدينة مَرَوِي التاريخية. جمهور أهلها من قبائل الشايقية إحدى أكبر القبائل الثلاث ذات النفوذ في شماليِّ السودان، وهي قبيلة عربية عباسية النسب لا لسان لأهلها غير العربي([2]).
وكانت بورتسودان الميناء البحري الرئيس للبلاد، وكانت حديثة عهد بتعميرٍ لها نحو عقدين، قد خططها الإنجليز في أثناء الحكم الثنائي، واعتنوا بها فلا غرو أن كانت مقصودة بالرحلة لكثير من النّاس، فاختلطت فيها أعراق شتى من داخل السودان ومن خارجه؛ عربًا كالحضارمة، وعجمًا كجاليات الهند ونحوهم من مستعمرات الإنجليز، بالإضافة إلى الإنجليز وتجار آخرين مصريين وأتراك ويونانيين ونحوهم.
ولما كانت بورتسودان بهذه المكانة تميزت بكونها ميناء كثير من القاصدين إلى الحرمين، من العلماء وغيرهم، ومن العلماء الذين مرّوا بتلك البلاد في تلك الأوقات قاصدين مكة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب (أضواء البيان) والمؤلفات المحقَّقة الذائعة، وعلَّامة مالي الشيخ المحقق إسماعيل بن محمد الأنصاري، فهو من جملة من تهجّر بسبب دأب الفرنسيس على فرنسة البلاد، وقد أقام ببورتسودان مدةً صحبه فيها الشيخ جعفر إلى حين رحيله للدراسة الثانوية.
وقد درج الشيخ في نشأته على ما درج عليه أبناء البلدة، إلا أنه أصيب في سنّ السادسة بقدمه، الأمر الذي ألزمه الفراش ثلاث سنين، وأخره عن اللحوق بركب التعليم النظامي، ولعل ذلك كان لخيرة، فالشعور بالتأخر يدفع للاجتهاد والجِد، وتقدُّم السن عن الأقران يُنمِّي ثقةً بالنفس، ووعيًا بما يُثار بينهم، وقدرةً على تمييز ما قد لا يميزه مَن في مرحلته. ومن كان قدره كذلك، مع وفرة العقل وقلة الصوارف، فهو أهل لأن تنمو عنده ملكة التَّمحيص والنقد، وكذلك كان الشيخ([3]).
أثر الوالدين عليه:
نشأ في أسرة تلتزم الطريقة الختمية الميرغنية، كشأن كثير من أبناء قبائل الشايقية، فنشأ محبًّا للدِّين وأهله، غير أنَّه تأثَّر ببعض قرابته المتَّبعين للكتاب والسنَّة، من رعيل جماعة أنصار السنَّة المحمَّدية الأول، واطمأنت فطرته إلى مسلكهم، فنأى بنفسه عن البدع والأعمال الشركية، وصار يُنكر البدعة وهو ابن إحدى عشرة سنة([4]).
يقول الشيخ: “ومما أثر في حياتي تأثيرًا كبيرًا -ما زلت أحمده عليه- هو أن أحد أقاربنا كان أول من نشر الدعوة السلفية في السودان، وكان من جماعة أنصار السنة المحمدية، مما أحدث مشكلة بيني وبين الوالدين لا سيما أمي، حيث كانت تظن أن هذا نوع من الانحراف، فقاطعتني وصارت لا تتكلَّم معي، لكن ساعدني أن هؤلاء الذين تأثرتُ بهم كانوا من الأقارب، وكان منهم رجل تحترمه الولدة احترامًا كبيرًا، وبعد مدة تغير الوالد -وكان رجلًا يحفظ القرآن- حيث كنت آتي إليه وأقرأ عليه بعض الكتب، وكانت كتبًا صغيرة مؤلفة في مصر، وما زلت أقرأ على الوالد حتى اقتنع وتغيرت بعده الولدة أيضًا، وأعُد ذلك من نعم الله علي أن كنتُ السبب في إنقاذهما من الخرافات والشركيات، ولله الحمد سبحانه”([5]).
مؤهلاته العلمية:
المرحلة الأولية:
في سن السادسة وقع له حادث بقدمه منعه المشيَ ثلاث سنوات، فبدأ تعليمه الرسمي متأخرًا، لكنَّ ذلك حفَزَه للجدِّ في الدراسة في المدرسة وخارجها. فكان في المرحلة الأولية يدرس في المدرسة والخلوة (مدرسة تحفيظ القرآن الكريم) معًا. وفي سنِّ الحادية عشرة انضمَّ إلى جماعة أنصار السنة الناشئة.
واصل دراسته النظامية في المرحلة المتوسطة في المدرسة، مع الإقبال على بعض الشيوخ بمنطقة بورتسودان، فدرس عليهم (الأربعين النووية) وبعض كتب المذهب المالكي، وبعض كتب النحو، وكان يحضر مع والده دروس الشيخ أبي طاهر بالمسجد الكبير، فسمع قدرًا كبيرًا من كتب السنَّة ولا سيَّما (صحيح البخاري)، ودرس عليه بعض مختصرات أخرى في الحديث والبلاغة والآداب. وقرأ أيضًا على بعض العلماء الشناقطة الذين كانوا يمرُّون بمدينته في طريقهم إلى الحج. ومع جماعة أنصار السنة تأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيِّم.
شيوخه في هذه المرحلة:
من الشيوخ الذين استفاد منهم في هذه المرحلة: الشيخ مصطفى ناجي، والشيخ سيد أحمد حاج عثمان، والشيخ أبو طاهر السواكني، والشيخ إسماعيل الأنصاري، وعلماء من شناقطة موريتانيا([6]).
المرحلة الثانوية:
التحقَ بمدرسة حَنْتُوب الثانوية سنة 1369هـ/ 1950م، وهي حينذاك إحدى ثلاث مدارس ثانوية في السودان، وكان لا يُقبل فيها إلا المتفوقون. وهي مدرسة داخلية لا يعود الطلَّاب إلى أهليهم إلا في الإجازات. ومن زملائه في الدراسة الثانوية من صار من المشاهير؛ كالرئيس جعفر النميري، والأستاذ محمد إبراهيم نُقُد فيلسوف الحزب الشيوعي السوداني، والدكتور حسن الترابي. في هذه المرحلة انتشر الفكر الشيوعي، وبرزت الحركة الإسلاميَّة أيضًا، فانضمَّ إلى حركة إسلامية ناشئة هي حركة التحرير الإسلامي التي صارت فيما بعد جماعة الإخوان المسلمين في السودان، ولم تكن الحركة على صلة تنظيمية بحركة الإخوان المصرية حينئذ. وكان عضوًا نشيطًا في الحركة يقيم المحاضرات ويُلقي الدروس([7]).
المرحلة الجامعية:
تلقَّى تعليمه الجامعي في كلِّية الآداب قسم فلسفة الاقتصاد والسياسة بجامعة الخرطوم، وكانت تُدعى: “كلية غوردون التذكارية”، سُمِّيت بذلك تخليدًا لذكرى القسِّيس تشارلز غوردون، وكان البريطانيون يزعمونه بطلًا قوميًّا، ثم تركها وفضَّل الدراسة بمصر، ولم يعجبه الحال هناك فعاد إلى جامعة الخرطوم ليتم دراسته فيها، وحصل على الإجازة (بكالوريوس) مع مرتبة الشرف عام 1961م.
بعد تخرُّجه عُيِّن معيدًا بالجامعة، وسجَّل لدراسة مرحلة الماجستير، لكنَّ الجامعة ابتعثته في العام التالي للدراسة بجامعة لندن. وبعد سقوط نظام إبراهيم عبود ترك الدراسة واستقال ليشارك في العمل السياسي الإسلامي. وكان مرشَّحَ جبهة الميثاق بمدينة بورتسودان. ثم عاد إلى الجامعة مرَّة أخرى عام 1967م، وحصل على شهادة (دكتوراه) من جامعة الخرطوم في تخصُّص فلسفة العلوم عام 1970م، وكانت دراسته الفعلية في جامعة لندن بحسب الاتفاقية بين الجامعتين([8]).
شخصية الشيخ النقدية داخل التيار الإسلامي:
كان للشيخ داخل التيارات الإسلامية تيار يوصف بأنه تربويّ، والحقيقة أنه كان تيارًا سنيًّا تربويًّا سياسيًّا شاملًا قويًّا داخل صفوف الحركة الإسلامية، نقّادًا لما يَدين الله بمخالفته للشريعة، وإذا كان تكوين الشيخ العلمي وشخصيته النقادة أذِنَا له في وقت مبكر أن يسجل ملاحظاته على نحو (المأثورات) و(معالم في الطريق)، ويناقش أمثال أبي الأعلى المودودي وغيره من المنظرين في مناهج الجماعات وإلزاماتها، فلا عجب من انتقاده الصريح الشجاع ما يراه فكرًا علمانيًّا متدثّرًا بثياب إسلاميّة، يروِّج له داخل صفوف الحركة بعضُ من يوصفون بالعقلانيين والتنويريين! وكان قد أدرك بنافذ بصره وحسِّه النقدي خطرهم قديمًا، بينما لم يفطن له أفاضل كبار لم يدركوا كثيرًا مما كان يحذر النّاس منه إلا بأَخَرَةٍ([9]).
أثر الشيخ ابن باز رحمه الله في الشيخ جعفر:
رحل الشيخ إلى المملكة العربية السعودية سنة 1975م محاضرًا، ودفعه فضوله العلمي ودأبه على البحث والطلب إلى حضور مجالس العلماء، فكانت إقامته هنالك ولقياه بأكابر المشايخ -كشيخه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وكذلك أكابر الباحثين كالشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله- سببًا في توجّه مستقل جديد تباعد فيه عن العمل الحركي التنظيميّ، وتوغّل به في العمل السلفيّ السنيّ الفكريّ الدعويّ الأكاديمي المؤسَّسيّ، وقد ظلَّت شخصيته الهادئة حاضرةً في هذا التوجّه الجديد؛ إذ كانت المتاركة بإحسان لا إساءة فيها ولا استثارة عداء، بل مع حِفظ الودِّ لمن هُم أهله.
ومما استفاده الشيخ مدَّةَ اتصاله بالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وعامَّة أهل العلم في السعودية الحكمُ على تجارب العمل الإسلامي السابقة، واختطاطه لنفسه طريقًا في الدعوة خاصًّا، مع استزادته من مقررات الشريعة وعلومها على طرائق المحققين المعظمين للكتاب والسنة والآثار، بالإضافة إلى سمت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ودَلِّه الذي يزيد الإيمان، ويوثّق الصلة بين العلم والعمل، فقد كان الشيخ رحمه الله ممن إذا رأيتهم ذكرتَ الله عز وجل، وإذا لم تفعل ذكَّرك بتسبيحه وتمجيده، فلم يكن درسه رحمه الله علميًّا جافًا، بل كثيرًا ما يلحظ مختلس النظر إليه تأثره أثناء القراءة، وتفاعل قسماته مع المعاني، وتحرّك لسانه بالذكر المناسب، وأزعم أن لذلك تأثيرًا في بعض النفوس أزكى من أثر الفائدة العلمية([10]).
التدرج الوظيفي للشيخ رحمه الله:
تدرج الشيخ رحمه الله في العمل الوظيفي منذ أن عُيِّن معيدًا بالجامعة، ثم بعد ابتعاثه للدراسة بجامعة لندن، فشغل رحمه الله الوظائف التالية:
1- قسم الفلسفة، جامعة الخرطوم، 1967-1973م.
2- قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الرياض (الملك سعود حاليًّا).
3- مركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
4- قسم الدعوة، كلية الدعوة والإعلام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
5- قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
6- درَّس طلَّاب الدراسات العليا بالجامعة موادَّ العقيدة والمذاهب المعاصرة، وأشرف على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه.
7- مدير قسم البحث بمعهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا، التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ثم عمل مستشارًا للمعهد.
8- تقاعد من العمل بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1997م.
9- أسس الجامعة الأمريكية المفتوحة مع بعض الناشطين، ثم أصبح مديرًا للهيئة التأسيسية للجامعة.
10- عمل مستشارًا لعدد من المؤسسات والهيئات الإسلامية في أنحاء العالم، وكان عضوًا في مجالس إدارة العديد منها([11]).
معالم في حياة الشيخ رحمه الله:
1- منهج الشيخ:
الدكتور جعفر شيخ إدريس رحمه الله من العقول الفذّة القليلة في العصر الحديث ممن جمعوا بين التكوين الفلسفي الغربي والولاء الكامل للمرجعية الإسلامية الأصيلة، فقد درس الفلسفة في أوروبا، واحتكّ عن قرب بالمستشرقين والمدارس الفكرية الغربية، غير أنه على غرار أعلام مثل محمد عبد الله دراز ومحمد رشاد سالم، حافَظَ على صفاء عقيدته، واستقلال منطقه، ومتانة انتمائه للسنة.
ومن اللطائف أن الشيخ رحمه الله قد حظي بتتلمُذٍ قلّ نظيره على اثنين من أبرز الرموز يمثلان طرَفَي نقيض من حيث المرجعيات:
أولهما: كارل بوبر، الفيلسوف النمساوي الشهير، ورائد فلسفة العلوم في القرن العشرين، والذي يُعد من أكثر المفكرين تأثيرًا في الفكر الغربي الحديث.
وثانيهما: الشيخ عبد العزيز بن باز، أحد كبار علماء السلفية في العصر الحديث، وإمام من أئمة الدعوة.
وهذا الجمع النادر بين هاتين المرجعيتين ترك أثره الواضح على منهج الدكتور جعفر، الذي تميز بالدقة الفلسفية والانضباط العقدي، وقد لخص الشيخ إبراهيم الأزرق منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عدة ملاحظات يمكن أن نخصرها في الآتي:
الملاحظة الأولى: عنايته بقضايا العصر الفكريّة، المتعلقة بتأثير الحضارات -ولا سيما الحضارة الغربية- على المقررات الشرعيّة.
الملاحظة الثانية: يسلك الشيخ طرقًا عقلية في مناقشة القضايا، لكنه يبتعد فيها عن تعقيدات الفلاسفة واصطلاحات المناطقة وجدليات المتكلمين، وإن كانت طرائق الجدليين مسلوكة في مناقشاته، بلغة سهلة لا تتطلب من القارئ علمًا باصطلاحات أهل الجدل ودقائقهم.
الملاحظة الثالثة: مزاوجته في مناقشة المخالفين بين شواهد الآيات الكونية والآيات الشرعية، فهو ينعم النظر فيهما ليستنبط الحجج على الحق، ويُزَيِّف الدعاوى عليه، والمناهج المخالفة له، وكثيرًا ما يستدلّ بآيات الكون المشهود ووقائعه الماثلة على صحة ما جاء به الشرع، كما ينتزع من نصوص الشرع حججًا عقلية كثيرًا ما ينبّه على مواضعها فيورد النصوص من الآيات أو الأحاديث المتضمنة للمناقشة العقلية، فلا عجب إن قرأت له مقالًا باللغة الإنجليزية، ربما كان موجهًا إلى غير مسلمين، فوجدته مليئًا بالشواهد من الكتاب والسنة، لكنه يراعي في إيراد ذلك بيان ما يتضمنانه من حجج مقنعة أسلم جراء عرضها قديمًا وحديثًا أقوام لم يكونوا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل سماع الوحي.
الملاحظة الرابعة: كثيرًا ما يعالج الشيخ سؤلات الفلسفة الكبرى، ومشكلاتها العظمى، بعد عرضها كما تثار في الواقع بصورتها الإعلامية التي تدعو إليها الحضارات -ولا سيما الغربية المتغلبة- عامَّة الناس، فتراه يتعرض لمشكلات القِيم والأخلاق، وأسئلة الوجود، ومناقشات المعرفة إلى غير ذلك، ثم يتميز الشيخ مع ذلك العرض السهل بالأجوبة الإسلامية البيِّنة الجليَّة لتلك القضايا الفلسفية من مقررات الأصلين: الكتاب والسنة.
الملاحظة الخامسة: يعرض الشيخ إلى كثير من القضايا التي تختلف فيها مقالات الإسلاميين، وبعض تلك القضايا قضايا شائكة، كقضايا التكفير، وقضايا الجهاد، ومع ذلك تأبى شخصيته إلا أن يعرض قناعته فيها بشجاعة وهدوء معززة بالحجج العقلية التي كثيرًا ما تعرض لأصل المسألة وفلسفتها أو حكمتها ومقصدها، ويتمَيَّز عرضه مع التوسط والاعتدالِ غالبًا بلغة هادئة منصفة يحاول فيها تصوير مقالة المخالف على وجهها، بأحسن ما يمكنه أن يقررها، ثم يعلِّق عليها، وهذا يدعو إلى موافقته في الجملة، أو التحفظ الذي لا يخرج الخلاف معه عن دائرة الاجتهاد المقَدَّرِ رأيُ صاحبِه.
الملاحظة السادسة: ثقافة الشيخ واسعة وإلمامه بالعلوم التجريبية كعلوم الأحياء والفلك والفيزياء وغيرها ظاهر، ومن تأمل كتابه الفيزياء ووجود الخالق بدا له إلمام الشيخ بمقررات فيزيائية لا يعرفها عامة المشتغلين بالعلوم الإنسانية.
الملاحظة السابعة: الشيخ لا يكتفي في ذَبِّه عن القضايا الإسلامية بالدفاع، فكثيرًا ما ينتقل منه إلى الهجوم، والأمثلة على ذلك كثيرة منها تناوله للقدح على نظام الحكم الإسلامي مقارنة بالديمقراطية، ومنها نقده لمطاعن اللبرالية، ومنها كلامه في صراع الحضارات، وكلامه عن العولمة وجدارة الإسلام بأن يكون دينَها، ومنها ذَبُّه عن الجهاد في الإسلام ووصم الإسلام بأنه دين أرغم الناس على اعتناقه([12]).
2- عبادة الشيخ رحمه الله:
مما تميز به رحمه الله أنه كان غاية في المحافظة على أداء الصلاة جماعة في المسجد في الصف الأول، حتى قيل: إنه لم يُرَ متأخرًا عن الصف الأول أكثر من أربعين سنة.
ولا تقل عنايته بالنافلة عن عنايته بالفريضة، لا سيّما قيام الليل، فهو من أصحاب الأسحار صلاةً وتلاوةً واستغفارًا ومناجاةً مذ كان في ميعة شبابه، لا يتركها حضرًا ولا سفرًا، وله عناية دائبة بكتاب الله تلاوة وتدبّرًا واستنباطًا، وقد قال له أحد الباحثين الإنجليز: إن الفيلسوف برتراند رَسل لم يؤمن بالربوبية لأنه لم يجد دليلا عليها، فردَّ عليه الشيخ جعفر: مسكين رَسل، لم يقرأ القرآن، إذ لو قرأه لوجد فيه البراهين الدالة على الربوبية.
وللشيخ جعفر تقدير عظيم للدعاء، ومنزلته الرفيعة في الشرع، وأنَّ الداعي مسلمًا كان أو غير مسلم إن دعا الله بصدق ويقين بلّغه الله ما سأله، وقد ذكر له بعض غير المسلمين أنّه لا يدري ما هو الحق من بين هذه الملل والنحل والمذاهب المعروفة، لكن يؤمن بوجود الخالق، فقال له الشيخ جعفر: أنصحك أن تدعو الخالق بصدق وتجرّد ويقين أن يهديك إلى الدين الحقِّ، وأن يدلّك عليه، فإن فعلت ذلك هداك إليه ودلّك عليه([13]).
3- علم الشيخ ودعوته ونشاطاته:
كان الشيخ رحمه الله دائب الحركة في العمل لدين الله والدعوة إليه، على علم وبصيرة، ومن مظاهر ذلك:
– إلقاء الدروس والمحاضرات، والمشاركة في الندَوات والمؤتمرات في كثير من الجامعات والمراكز الإسلامية والمساجد ومراكز البحوث، في كثير من بلدان العالم؛ في إفريقيا وآسيا وأوربا وأستراليا وأمريكا الشمالية ودول الكاريبي وأمريكا اللاتينية.
– المشاركة ببحوث مهمَّة في عدد كبير من المؤتمرات الإسلامية والعالمية.
– المشاركة في كثير من البرامج التلفازية والإذاعية في عدد من الدول.
– العضوية في كثير من اللجان الأكاديمية والثقافية والسياسية.
– العضوية في اتحاد طلَّاب جامعة الخرطوم سنوات طويلة، ثم رئيس لجنته التي قدَّمت أول مذكِّرة لحكم عبود تطالبه فيها برجوع الجيش إلى ثُكْناته.
– اهتداء كثير وإسلامهم على يديه.
– الإشراف على عشَرات الرسائل العلمية لدرجتي الدكتوراه والماجستير.
– كتابة مقالات كثيرة في الصُّحف السودانية، منها باب أسبوعي في جريدة الميثاق الإسلامي بعنوان “جنَّة الشوك”، ومقالات في مجلات إسلامية ومتخصِّصة باللغتين العربية والإنجليزية.
– كتابة زاوية شهرية بعنوان: “الإسلام لعصرنا” في مجلة البيان التي تصدر في لندن.
من أخلاقه رحمه الله:
عُرف الشيخ رحمه الله بدماثة الأخلاق والصبر والألفة، فهو لين الجانب والعريكة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بارّ بوالديه منذ صغره، وكان سببًا في هدايتهما إلى طريق أهل السنة، ولم ينس الشيخ في غمرة إصابته بالمرض أن يتحلى بذوقياته الرفيعة في اللباقة والخُلق الفريد، فتراه يعتذر بين الوقت والآخر بأدب عالٍ ولطف بالغ عن ثقل لسانه وضعف ذاكرته وبطء تدفقه في الحديث([14]).
مؤلفاته:
للشيخ رحمه الله عدد من المؤلفات باللغة العربية واللغة الإنجليزية.
مؤلفاته باللغة العربية:
1- الدعوة الإسلامية والغزو الفكري، رابطة الشباب المسلم العربي، 1987م.
2- نظرات في منهج العمل الإسلامي، التجمُّع الإسلامي في أمريكا الشمالية، 1999م.
3- الفيزياء ووجود الخالق: مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، منشورات مجلة البيان بلندن، 1422هـ/ 2001م.
4- صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث إسلامي، منشورات مجلة البيان بلندن، 1433هـ/ 2012م.
5- الإسلام لعصرنا، منشورات مجلة البيان بلندن، 1435هـ/ 2014م.
6- مناهج التفكير الموصلة للحقائق الشرعية والكونية، آفاق المعرفة للنشر والتوزيع، 2016م.
7- الأسس الفلسفية للمذهب المادي.
مؤلفاته باللغة الإنجليزية:
- The Pillars of Faith.
- Islamization: Its Philosophy & Methodology.
- The Attributes of God.
بحوثه ومقالاته:
إضافة إلى عدد من البحوث باللغتين العربية والإنجليزية، لعل من أهمها بحوثه في «الرد على أوهام المادِّية الجدلية». وهو أوَّل من كتب في موضوع أسلمة العلوم، إذ كتب رسالتين صغيرتين في الموضوع تُعدُّ أساسًا لكل من كتب بعده. وله بحوث في الردِّ على الفكر الغربي والمذاهب المعاصرة، وله بحوث عن التنظيمات الإسلامية المعاصرة، ومقالات كثيرة([15]).
من بحوثه:
1- التصُّور الإسلامي للإنسان أساس لفلسفة الإسلام التربوية، بحث مقدَّم إلى المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي، مكة المكرمة، 1397هـ/ 1977م.
2- إسلامية العلوم وموضوعيتها، مجلة المسلم المعاصر، السنة الثالثة عشرة، العدد (50)، 1408هـ/ ديسمبر1987 و1988م.
3- البخاري غير معصوم لكنَّ كل ما في كتابه صحيح، مجلة الدعوة، المحرَّم 1411هـ/ 1990م.
4- الإسلام وحقوق الإنسان: مناقشة لأفكار غربية، بحث قدَّمه في الندوة العالمية لحقوق الإنسان في الإسلام، روما، 1420هـ/ 2000م.
5- الإسلام والإرهاب، بحث قُدِّم لمؤتمر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، الخميس 1422هـ/ 2002م.
6- خبط عشواء أم تقدير حكيم؟ مجلة البيان، العدد (221)، المحرَّم 1427هـ/ فبراير 2006م.
7- إنسانيتنا جوهر ثابت وواقع يتغير، بحث نشر عام 2006م.
8- عناصر الشرك والاستكبار والفُحش في القيم الغربية، بحث مقدَّم لمؤتمر تعظيم حرُمات الإسلام، دولة الكويت، 2007م.
9- نبي الرحمة الإيمانية، بحث نشر في أبريل 2008م.
توصف أكثر كتابات الشيخ جعفر بالإيجاز ووضع القواعد العامَّة، ولذا جاء جُلُّها في رسائلَ صغيرة أو بحوث. وكل رسالة منها من الممكن أن تكون كتابًا أو مشروعًا لعدَّة كتب.
وفاة الشيخ رحمه الله:
توفي جعفر شيخ إدريس في الرياض، عصر يوم الجمعة 23 المحرَّم 1447هـ الموافق 18 يوليو (تَمُّوز) 2025م، عن عمر ناهز خمسًا وتسعين سنة. ونعاه مجمَّع الفقه الإسلامي، ثم صُلِّي عليه في المسجد النبوي عقب صلاة العصر من يوم السبت 24 المحرَّم 1447هـ الموافق 19 يوليو 2025م، ودُفن في مقبرة البقيع.
فرحمه الله وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) إعلام الموقعين -ط: دار بن الجوزي، الرياض- (1/ 15).
([2]) جعفر شيخ إدريس سيرته مقالاته محاضرته بحوثه، مبارك بن حمد الحامد، ط: دار كنوز إشبيليا (ص: 18).
([3]) الإفادة والتأنيس بمسيرة الشيخ جعر إدريس، إبراهيم الأزرق (ص: 4).
([4]) الإفادة والتأنيس بمسيرة الشيخ جعر إدريس، إبراهيم الأزرق (ص: 4).
([5]) جعفر شيخ إدريس سيرته مقالاته محاضرته بحوثه (ص: 18).
([6]) جعفر شيخ إدريس سيرته مقالاته محاضرته بحوثه (ص: 21).
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D8%B9%D9%81%D8%B1_%D8%B4%D9%8A%D8%AE_%D8%A5%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%B3
([8]) الإفادة والتأنيس بمسيرة الشيخ جعر إدريس، إبراهيم الأزرق (ص: 8).
([9]) الإفادة والتأنيس بمسيرة الشيخ جعر إدريس، إبراهيم الأزرق (ص: 9).
([10]) انظر: الإفادة والتأنيس (ص: 10)، جعفر شيخ إدريس سيرته مقالاته محاضرته بحوثه (ص: 22).
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D8%B9%D9%81%D8%B1_%D8%B4%D9%8A%D8%AE_%D8%A5%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%B3
([12]) انظر: ملاحظات حول منهاج الشيخ جعفر، إبراهيم الأزرق.
https://docs.google.com/document/d/1rYzwfDraHZNs_k0Fhv_-RNFrfY5Wprcm/edit?tab=t.0
([13]) انظر مقالا بعنوان: ريحانة العالم الإسلامي: الشيخ أ. د جعفر شيخ إدريس، ماجد بن عبد الرحمن البلوشي.
([14]) انظر مقالا بعنوان: ريحانة العالم الإسلامي: الشيخ أ. د جعفر شيخ إدريس، ماجد بن عبد الرحمن البلوشي.