
ترجمة الشيخ شرف الشريف (1361-1447هـ)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
ترجمة الشيخ شرف الشريف([1])
اسمه ونسبه:
هو شرف بن علي بن سلطان بن جعفر بن سلطان العبدلي الشريف.
يتَّصل نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
نشأته ودراسته وشيوخه:
ولد رحمه الله عام 1361هـ في محافظة تربة في العلاوة، وقد بدأ تعليمه الأوّلي في مدرسة العلاوة الابتدائية، حيث وضع فيها اللَّبِنات الأولى لطلب العلم، ثم أكمل المرحلة الابتدائية في مدرسة المنصورية بتربة.
بعد إتمامه للمرحلة الابتدائية انتقل إلى مدينة الطائف طلبًا لمواصلة تعليمه، فالتحق هناك بمدرسة دار التوحيد التي كانت تُعَدّ آنذاك منارةً علميةً بارزة، اشتهرت بجمعها لكوكبة من العلماء الفضلاء وأهل التربية والتعليم المتميّزين، وفي هذه المدرسة أكمل الشيخ رحمه الله مرحلتَي الدراسة المتوسطة والثانوية، مستفيدًا من بيئتها العلمية الثرية ومن نخبة الأساتذة المتخصِّصين الذين درّسوه مختلفَ العلوم الشرعية واللغوية.
وقد كان للشيخ عددٌ من المشايخ والأساتذة الذين تلقّى عنهم العلم وأثّروا في مسيرته التعليمية، ومن أبرزهم:
- الشيخ عبد المحسن بن زيد آل حسين، وهو من خيرة العلماء الفضلاء، وكان له الأثر الأبرز في تكوينه العلمي المبكِّر؛ إذ تلقّى عنه دروسه الأولى في المرحلة الابتدائية، ويُذكَر أن الشيخ عبد المحسن هو الذي افتتح المدرسة الابتدائية في العلاوة، وكان يدرّس فيها منفردًا لمدة سنتين أو ثلاث قبل أن يُعيَّن معه معلمون آخرون، فنهل منه الشيخ العلم واستفاد من توجيهاته وتربيته.
- الشيخ صادق نصر، وقد تلقّى عنه جملةً من علوم المرحلة الابتدائية واستفاد من منهجه التعليمي.
- الشيخ عبد الرحمن الحمدان، وكان من الأساتذة المتميزين الذين أسهموا في تكوينه العلمي في مراحله الأولى.
- الأستاذ سليمان أيوب العبادلة، وهو من المدرسين الذين تركوا أثرًا واضحًا في مسيرة الشيخ التعليمية.
وقد شكّلت هذه البيئة العلمية الأولى أساسًا متينًا لرحلته في طلب العلم الشرعي لاحقًا، وزرعت في نفسه حبّ التعلّم والتدرّج في مدارج المعرفة، حتى غدا من طلاب العلم البارزين في مجتمعه.
أول رسالة دكتوراه في السعودية:
بعد أن أكمل الشيخ رحمه الله دراسته الثانوية في دار التوحيد بالطائف انتقل إلى مرحلة التعليم الجامعي، فالتحق بكلية الشريعة في مكة المكرمة التي كانت آنذاك تابعة لجامعة الملك عبد العزيز قبل إنشاء جامعة أم القرى، وفي هذه الكلية واصل مسيرته العلمية بإقبال وجِدّ، فأتم دراسة مرحلة البكالوريوس في العلوم الشرعية، وحصل على شهادتها عام 1389هـ.
لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل واصل مساره الأكاديمي فالتحق ببرنامج الماجستير في كلية الشريعة، حيث أعد رسالة علمية متميزة بعنوان: “صيانة الإسلام للعِرض والنسَب” وقد أشرف عليها العلامة الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله، ونال شهادتها عام 1394هـ.
ثم ارتقى الشيخ إلى مرحلة الدكتوراه في التخصُّص ذاته، فاختار بحثًا فقهيًّا دقيقًا بعنوان: “الإجارة الواردة على عمل الإنسان”، وقد أشرف على هذه الرسالة الدكتور حسين حامد حسان. وقد حظيت هذه الرسالة باهتمام خاص لسببين رئيسين، وهما:
- تميز موضوعها وأهميتها الفقهية التطبيقية.
- كونها أول رسالة دكتوراه تتم مناقشتها في المملكة العربية السعودية، وهو حدث علمي غير مسبوق في ذلك الوقت.
وقد تشكّلت لجنة المناقشة من نخبة علمية رفيعة المستوى ضمَّت كلًّا من:
- الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى حينها.
- الشيخ محمد فايد مدير جامعة الأزهر في مصر.
وأقيمت مناقشة الرسالة في أحد الفنادق الكبرى بمكة المكرمة في مشهد احتفالي مهيب، حضره عدد كبير من طلبة العلم؛ لما يمثله هذا الحدث من نقلة نوعية في مسيرة التعليم العالي الشرعي بالمملكة. وقد نال الشيخ درجة الدكتوراه عام 1398هـ وسط احتفاء علمي وجماهيري يعكس مكانة هذا الإنجاز في تاريخ الدراسات العليا بالمملكة.
أعماله الأكاديمية والإدارية ومشاركاته العلمية:
بعد أن أتم الشيخ رحمه الله مرحلة البكالوريوس بدأ مسيرته العملية بالتدريس، حيث عُيِّن أولًا مدرّسًا في مدارس الثغر النموذجية بجدة، فمارس التعليم المباشر واكتسب خبرة تربوية قيّمة في التعامل مع الناشئة، ثم ما لبث أن التحق بالمسار الأكاديمي الجامعي، فعُيِّن معيدًا في قسم القضاء بكلية الشريعة بمكة المكرمة مباشرة بعد تخرّجه في عام 1389هـ ليبدأ بذلك مسيرة علمية طويلة في خدمة القضاء والدراسات الشرعية.
وقد تدرّج الشيخ في السُّلَّم الأكاديمي بما يعكس كفاءته العلمية وإسهاماته البحثية على النحو التالي:
- معيد منذ عام 1389هـ.
- محاضر منذ عام 1394هـ، بعد حصوله على درجة الماجستير.
- أستاذ مساعد منذ عام 1398هـ، بعد حصوله على الدكتوراه.
- أستاذ مشارك منذ عام 1418هـ، حيث واصل التدريس والإشراف والمشاركة البحثية في قسم القضاء حتى تقاعُدِه.
وخلال مسيرته الجامعية لم يقتصر عمله على التدريس والإشراف العلمي، بل تولّى عددًا من المهام الإدارية البارزة في الجامعة؛ فقد عمل وكيلًا لعمادة شؤون الطلاب، ثم عُيّن عميدًا للعمادة نفسها لمدة ست سنوات، حيث أسهم في تطوير أنشطتها العلمية والثقافية، ورعاية البرامج الطلابية والندوات السنوية التي تقيمها الجامعات السعودية بالتناوب.
ولم يقتصر عطاؤه على التدريس والإدارة الجامعية، بل امتدَّ إلى المشاركات البحثية والمؤتمرات العلمية محلِّيًّا ودوليًّا، حيث كان حاضرًا في العديد من الندوات التي تمثّل رصيدًا علميًّا مهِمًّا، ومن أبرزها:
- مشاركته في ندوات عمادة شؤون الطلاب التي كانت تُقام دوريًّا في جامعات المملكة المختلفة.
- مشاركته في ندوتين خارج المملكة:
- ندوة نظمها مكتب التربية والتعليم في الكويت، حضرها عدد من الجامعات الخليجية.
- ندوة أُقيمت في جامعة العين بدولة الإمارات.
- حضوره المؤتمر الآسيوي الأول في باكستان الذي جمع عددًا كبيرًا من العلماء والباحثين.
- مشاركته في مؤتمر عُقد في ماليزيا نظمته الندوة العالمية للشباب الإسلامي، قدّم فيه بحثًا بعنوان: “الوحدة الإسلامية”.
- تقديمه بحثًا بعنوان: “مكافحة الجريمة من الناحية النظرية” ضمن مؤتمر عُقد في جامعة العين بالإمارات.
- مشاركته في مؤتمر الوقاية من الجريمة في عصر العولمة في جامعة الإمارات عام 2001م ببحث علمي موسّع بعنوان: “المنع النصي والمنع العقابي في تشريع الحدود والقصاص والديات والتعازير”.
- مشاركته في بعض محاور ندوة الإمام الشافعي وآثاره الدعوية التي نظّمتها جامعة الأمير سونكلانكرين بتايلند عام 1422هـ.
وقد عكست هذه المشاركات العلمية والبحثية اتساعَ أفق الشيخ واهتمامه بالقضايا الشرعية والفكرية والاجتماعية، إلى جانب خبرته الأكاديمية والإدارية الواسعة في خدمة التعليم الجامعي في المملكة.
إلى جانب انشغال الشيخ رحمه الله بالتدريس الجامعي، والإشراف العلمي، وحضوره لعدد كبير من الندوات والمؤتمرات داخل المملكة وخارجها، فقد اضطلع بالعديد من المهام الإدارية والعضويات العلمية التي تعكس ثقة الجامعة به وخبرته الواسعة في العمل الأكاديمي والإداري.
فقد تولى رحمه الله وكالة عمادة شؤون الطلاب عام 1400هـ كما سبقت الإشارة، ثم عُيِّن عميدًا للعمادة نفسها عام 1402هـ، واستمر في منصبه لمدة ست سنوات متواصلة، أسهم خلالها في تطوير الأنشطة الطلابية والإشراف على برامج التوجيه والإرشاد.
كما تدرّج في عدد من المناصب واللجان المتنوعة، من أبرزها:
- رئيس إدارة صندوق الطلاب: تولى رئاسته أول مرة عام 1403هـ، ثم أعيد تعيينه رئيسًا له مجددًا عام 1406هــ، وكذلك في عام 1412هـ.
- نائب رئيس لجنة الإشراف على التوجيه والإرشاد عام 1406هـ، وهو عمل يتكامل مع مهامه الأكاديمية في رعاية الطلاب وتوجيههم.
- رئيس لجنة تأديب الطلاب عام 1416هـ، وهي لجنة معنية بالجانب التنظيمي وضبط السلوك الجامعي.
- رئيس لجنة مقابلة الأئمة والمؤذنين في محافظة تربة، حيث شارك في تقييم المؤهلين لشؤون المساجد في منطقته.
- عضو لجنة توجيه طلاب ومنسوبي الجامعة منذ عام 1411هـ والتي تُعنى بالبرامج التوعوية والتربوية داخل الحرم الجامعي.
- عضو مجلس مركز الدراسات العليا الإسلامية المسائية عام 1412هـ مشاركًا في تطوير برامج الدراسات العليا.
- عضو اللجنة العلمية لمؤتمر الأوقاف الذي نظمته الجامعة عام 1421هـ، بما يعكس مكانته في الحقل البحثي المتعلق بالقضايا الشرعية المعاصرة.
- عضو لجنة القبول في مرحلة الدكتوراه، حيث ساهم بخبرته في اختيار الكفاءات العلمية المؤهلة.
- عضو اللجنة العلمية للمؤتمر الأول في المملكة العربية السعودية عام 1421هـ، وهو مؤتمر علمي كبير يهدف لتعزيز البحث الشرعي في مختلف المجالات.
كما أن الشيخ انتُدب إلى مهمات تعليمية خارج المملكة؛ فقد كلّف بالتدريس في مدينة كراتشي بباكستان لمدة سبعة أيام عام 1398هـ، ضمن برنامج للتبادل العلمي ونشر التعليم الشرعي.
إن تعدد هذه المهام والعضويات الإدارية والعلمية يدل على اتساع خبرة الشيخ الأكاديمية والإدارية، وعلى ما حظي به من ثقة الجامعات والجهات العلمية داخل المملكة وخارجها، حيث جمع بين التدريس المتخصّص، والعمل الإداري القيادي، والمشاركة البحثية في المؤتمرات الدولية.
تدريسه في المسجد الحرام:
نال الشيخ رحمه الله شرف الإذن بالتدريس في المسجد الحرام بعد أن عُرف بين أهل العلم بالتمكّن العلمي، وحسن الفهم، وعلو الكعب في التدريس والتأصيل الشرعي، فكان من العلماء المصرّح لهم بتعليم الناس في أقدس البقاع، وقد كانت هذه أمنيته، وكان يتمنى أن يواصل درسه في المسجد الحرام حتى آخر حياته، فكان له ذلك، كما أنه درّس في المسجد النبوي.
وقد تميزت طريقته في التدريس بالحرم المكي بالجمع بين المنهجية والانتظام؛ إذ كان يعتمد خطة تعليمية واضحة، فقد كان يدرس كل شهرٍ فنًّا من الفنون، فكان يدرس العقيدة شهرًا، والفقه شهرًا، والتفسير شهرًا، والسيرة شهرًا.
وكان من أبرز الكتب التي درّسها رحمه الله في حلقاته العلمية:
- الشرح الممتع على زاد المستقنع للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، حيث كان يعرض المسائل الفقهية بطريقة تحليلية، مع توضيح الراجح وأدلته.
- شرح الروض المربع لمعالي الشيخ عبد الله بن حميد.
- الكافي لابن قدامة.
- زاد المعاد.
- تفسير القرآن الكريم للشيخ ابن عثيمين، مركزًا على بيان المعاني الشرعية واللغوية، وربط التفسير بالواقع العملي.
- العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، مع الاعتماد على شرح الشيخ ابن عثيمين، حيث كان يبيّن مسائل التوحيد بأدلتها العقلية والنقلية.
- السيرة النبوية من خلال تدريس مختصر السيرة للإمام محمد بن عبد الوهاب، وكتاب: “هذا الحبيب يا محب” للشيخ أبي بكر الجزائري، حيث كان يربط بين وقائع السيرة والدروس التربوية والإيمانية.
وبعد تقاعده من عمله الأكاديمي في جامعة أم القرى لم يتوقف عطاؤه العلمي، بل واصل التدريس صباحًا في كلية المسجد الحرام، مساهمًا في تخريج أجيال من طلبة العلم، ومحققًا بذلك امتدادًا عمليًّا لرسالته التعليمية التي جمع فيها بين التدريس الجامعي الرسمي والتعليم الشرعي في أقدس مكان.
مؤلفاته وإسهاماته العلمية:
على الرغم من انشغال الشيخ رحمه الله بالتدريس الأكاديمي في الجامعة، والإشراف العلمي على الرسائل، وحضوره للندوات والمؤتمرات المتخصصة، إلا أن له إسهامات علمية نافعة في التأليف والبحث، وقد كان اهتمامه منصبًّا بالدرجة الأولى على نقل العلم وتعليمه من خلال المحاضرات والحلقات والدروس النظامية أكثر من انشغاله بالإكثار من التأليف؛ إذ رأى أن أثر التدريس المباشر، والإشراف على طلبة العلم ورئاسة الجلسات العلمية ومناقشة الرسائل الجامعية أعمق أثرًا وأبقى نفعًا.
وقد شارك الشيخ في رئاسة العديد من الجلسات العلمية، كما قام بمناقشة عدد كبير من الرسائل العلمية في الجامعات السعودية، شملت:
- جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
وقد تجاوز مجموع الرسائل التي ناقشها الشيخ مائة رسالة علمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وهو رقم يعكس ثقته العلمية ومكانته بين المتخصصين في الدراسات الشرعية.
أما مؤلفاته وبحوثه المنشورة فهي تحمل طابعًا علميًّا رصينًا، وتتناول موضوعات فقهية وشَرعية متخصّصة، من أبرزها:
1- رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام، نشره معهد البحث العلمي عام ١٤١٠هـ.
2- طلاق الثلاث بلفظ واحد، صدر عام ١٤١٣ه.
3- حاضرو المسجد الحرام، نشرته مجلة جامعة أم القرى عام ١٤٠٨ه.
4- الوحدة الإسلامية في إطارها النظري، قدمه ضمن أعمال الندوة العالمية للشباب الإسلامي عام ١٤١١ه.
5- مكافحة الجريمة، بحث تناول الجوانب النظرية والفقهية في معالجة الانحرافات السلوكية.
6- الكعبة وبعض أحكامها المهمة، نشر في مجلة جامعة أم القرى عام ١٤١٧هـ.
7- سنن الطواف، نشر في المجلة الفقهية للبحوث العلمية المعاصرة عام ١٤١٤هـ.
8- أهم أركان الطواف، نشر في مجلة البحوث الإسلامية عام ١٤١٣هـ.
9- الأوقاف ضمن النسيج العمراني، بحث مشترك عام ١٤١٢هـ، تناول التكامل بين الوقف والتخطيط العمراني.
10- دراسة الجمرات من الناحية الشرعية، نشره مركز أبحاث الحج عام ١٤١٥هـ.
وتدل هذه المؤلفات على اهتمام الشيخ بفقه العبادات والمعاملات وقضايا المجتمع المعاصرة، وحرصه على توثيق أبحاثه وربطها بالمؤسسات العلمية الرسمية، بما يخدم الباحثين وطلاب الدراسات العليا في المملكة وخارجها.
خُلقه وأثره في الناس:
امتاز الشيخ رحمه الله بسموِّ الأخلاق ولين الجانب وحسن المعاملة مع جميع الناس، فكان مثالًا للتواضع الجمِّ الذي يزين العلماء الربانيين، وكان بعد انتهائه من دروسه في المسجد الحرام يحرص على حضور دروس العلماء الآخرين، ومنهم الشيخ سامي الصقير -عضو هيئة كبار العلماء وأحد أبرز تلاميذ الشيخ ابن عثيمين- في تواضعٍ صادق يعكس طلبه الدائم للعلم واقتداءه بأدب السلف.
وقد كتب الله له القبول بين الناس؛ فمحبته شملت طلابه وزملاءه وأقاربه، بل تجاوزت ذلك حتى وصلت إلى عامة الناس ممن عرفوه عن قرب، وكان أثره ظاهرًا حتى على حراس الأمن في المسجد الحرام الذين أبدوا حزنهم العميق عند وفاته، كما بكى عليه طلابه وأولاده وجيران المسجد؛ لما لمسوه من حسن خلقه وطيب معشره وسعة صدره.
لقد كان الشيخ رحمه الله قرآنيَّ الخُلق؛ فيه نصيب وافر من وصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (كان خُلُقُه القرآن)، كما كان شديد الاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته ومعاملاته، متمسكًا بالاحتياط في دينه، آخذًا بالأحوط في مسائل العبادات والمعاملات؛ حرصًا على سلامة دينه وورعه في أمور دنياه وآخرته.
اتسم رحمه الله بالزهد والتواضع؛ فلم يكن يحب تصدّر المجالس، بل يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويؤثر البساطة في ملبسه ومأكله، فكان يحب لبس الأبيض اتباعًا للسنة، متواضعًا لين الجانب، قريبًا من الصغير والكبير على حد سواء. وكان محبًّا لعلماء الأمة، يحضر دروسهم، ويذكر أنه كان على صلة علمية قوية بالشيخ صالح الفوزان، ويحبّ ويجلُّ العلماء وطلبة العلم، وكان دائم التواضع واللين والبشاشة، يقول الدكتور عبد الله العصيمي: “أعطاه الله حسنَ خُلُقٍ، وطلاقة وجه، ولين جانب، مع الكبير والصغير، كثير التبسم، مقتفيًا حديث جرير عند مسلم: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي)([2])“([3]).
كان الشيخ رحمه الله في تربية أسرية محمدية، فكانت حياته صورة عملية للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عباداته وأخلاقه ومعاملاته؛ إذ كان يتعامل مع أهله وطلابه وجيرانه بما يرضي الله تعالى، متبعًا السنة في أدق شؤون حياته. وكان يغضب إذا تهاون أحد من أهل بيته عن صلاة الفجر، بل يزجرهم حرصًا على أدائها في وقتها، مما يعكس غيرته على شعائر الله وإصلاح أسرته على المنهج النبوي.
امتازت حياته بالجمع بين العبادة العملية والدعوة إلى الله؛ فقد كان محبًّا لصلة الأرحام، ومبادرًا للدعوة إلى الله داخل المملكة وخارجها، إذ كان يزور المكاتب الدعوية مثل مكتب الجاليات بحي النسيم، ويطلب المشاركة في البرامج الدعوية وإلقاء الدروس في المساجد، كما كان يستضيف طلاب العلم في بيته، يكرمهم ويشاورهم، وكان ينفق من ماله الخاص على إصلاح المساجد وخدمتها؛ ابتغاء وجه الله.
وله جهود دعوية خارج المملكة العربية السعودية من خلال رابطة العالم الإسلامي، وقد سافر إلى عدة دول إفريقية للدعوة إلى الله، وكان يحمل همَّ الدعوة حتى في رحلاته الخاصة، يذكر ابنه عبد العزيز أنه ذهب مع والده وعائلته إلى ماليزيا، فكان حريضًا على الدعوة ويزور مسؤولي الدعوة هناك لعمل أنشطة دعوية([4]).
أما عبادته الفردية فكانت دائمة وعميقة الأثر؛ فكان يحيي قلبه بالذكر والقرآن، وكان صوّامًا قوّامًا، حريصًا على صيام الأيام البيض، وقيام الليل في أكثر أوقاته، حتى في مرضه الشديد كان يقوم من سريره ويصلي، بل رآه بعض أصحابه يقوم الليل في العناية المركزة، وكان يعتكف في مصلاه بعد الفجر حتى تطلع الشمس قدر رمح، إيمانًا منه بفضل هذه العبادة.
وكان حريصًا جدًّا على الصلاة، يذكر الدكتور عبد الله العشماوي موقفًا له فيقول: “كنت أقابله في مجلس معالي الدكتور الشريف راشد الراجح أحسن الله خاتمته، فأذّن المؤذّن يومًا لصلاة العشاء وكنّا جلوسًا في الفناء، فقال الدكتور شرف: الصلاة الصلاة، فقال الدكتور راشد: معنا وقت للتّوّ أذَّنَ، فقال الدكتور شرف: قد دعاني من هو خير منك فلا بدّ من الإجابة، فتبسم الدكتور راشد وقمنا جميعا للصلاة”([5]).
ومن شدة تعلّقه بالعبادة اعتاد في أواخر حياته أن يستيقظ دون منبّه رغم ضعف سمعه، مستشعرًا قوله: (إن الجنة درجات، وأنا أرجو أعلاها)، وكان يقول لأبنائه وطلابه: “ما أجمل التعب في الطاعة!”([6]) حتى وهو في أشد حالات المرض.
لقد كانت حياة الشيخ كلها لله وفي الله؛ يسابق إلى المساجد حتى قبل أن يُنادى للصلاة، ويقول لمن سأله عن ذلك: “المحب يجيب قبل أن يُدعى”([7])، فكانت عبادته وورعه وتواضعه شاهدة على قلب امتلأ بمحبة الله وطلب الدرجات العلا في الجنة.
وفاته رحمه الله:
ظلّ الشيخ رحمه الله حتى أيامه الأخيرة في نشاط علمي وبدني ظاهر، لا يُرى عليه أثر المرض رغم ما كان يعانيه في الخفاء من تعب وأثر السن، وفي يوم الاثنين الثالث من صفر قضى الشيخ آخر يوم من حياته في تربة بين أهله وأبنائه. يروي أبناؤه تفاصيل ذلك اليوم قائلين: “صلينا الفجر مع الوالد في المسجد، وجلسنا بعد الصلاة حتى طلعت الشمس، وكان في غاية الطيب والبشاشة. وبعد ذلك خرجنا واشترينا الفطور في تربة، واجتمعنا مع الإخوان، ثم نام قليلًا. وعند الظهر استيقظ الشيخ، وصلّى في البيت، وأخذ أدويته المعتادة، ثم عاد إلى النوم، أما عند العصر فلم يخرج كعادته إلى المسجد، فقلق أبناؤه ودخلوا غرفته، فوجدوه يوصي وصاياه الأخيرة؛ فقد قال لابنه عبد الله: قُل: لا إله إلا الله، ثم قال: أنا راضٍ عن أولادي، وأشار إلى شنطته التي فيها وصيته، وقد أوصى أن يكون العزاء في المقبرة فقط”([8]).
بعد ذلك نقلوه إلى مستشفى تربة قُبيل المغرب، وقد توفي رحمه الله ليلة الثلاثاء، وصُلّي عليه ظهر الثلاثاء، ودُفن في مقبرة الشرائع بمكة المكرمة، بعد حياة حافلة بالعلم والعبادة والعمل الدعوي.
ومن المواقف المؤثرة قبل وفاته ما ذكره الدكتور عبد الله بن سلطان العصيمي -أستاذ القراءات المساعد بجامعة أم القرى-: “في ليلة الاثنين الثاني من شهر صفر لعام 1447هـ كنت بجوار الشيخ الدكتور شرف بن علي الشريف رحمه الله في مجلس الشريف علي بن نايف في تربة، فكان لقاءً طيبًا مباركًا، يعبق بالإيمان والعلم والمودة. تحدث الدكتور شرف -غفر الله له- بابتسامته التي عهدها كل من عرفه، وقال ممازحًا بحزنٍ شفيف: يا جماعة، أنا زعلان، فقلنا له: لا بأس عليك، ما الخبر؟ فقال: كل اللي في عمري ماتوا، لم يبقَ إلا أنا. ثم تحدث ببعض الفوائد، ففسّر قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]، وبيّن فضل الاستغفار، وفضل التأمين مع الإمام بعد الفاتحة، وأنها من أسباب المغفرة. وختم حديثه بقوله: أوصيكم بالصلاة، أوصيكم بالصلاة، وصلاة الجماعة. وقد كانت آخر وصاياه التي سمعتها منه في آخر ليلة في حياته”([9]).
وكان آخر عهده بالتدريس في المسجد الحرام يوم 28/ 1/ 1447هـ قبل وفاته بأيام، حيث ختم درسه في شرح عقيدة أهل السنة والجماعة للشيخ ابن عثيمين، متحدثًا عن الإيمان بالقضاء والقدر، ومبينًا فضل الصبر على المصائب، وكان من آخر الآيات التي تلاها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وكأنها كانت بشارة له بخاتمة حسنة.
ومن لطيف ما يُذكر أنه قبل آخر درس له بيومٍ تقريبا طلب من مؤلف كتاب “كيف تفوز بنعيم الجنة؟” عبده الأقرع مائةَ نسخة من هذا الكتاب الذي قدّمه له الشيخ شرف الشريف، وكأن قلبه كان مشغولًا بالجنة ونعيمها حتى آخر لحظات حياته.
رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وجعل ما قدّمه من علم وعمل شفيعًا له يوم يلقى الله.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
- ابنيه: عبد الله، وعبد العزيز، من خلال الاتصال الهاتفي.
- بعض المنشورات عنه بعد وفاته.
([3]) نشره في منشور له كتبه بعد وفاة الشيخ شرف الشريف، وأمدني به عبد العزيز ابن الشيخ شرف.
([4]) من كلام ابنه عبد العزيز.
([5])كتبه في صفحته الشخصية في منصة ((X.
([6]) من كلام ابنه عبد العزيز.
([7]) من كلام ابنه عبد العزيز.
([8]) من كلام ابنيه: عبد الله وعبد العزيز.
([9]) نشره في منشور له كتبه بعد وفاة الشيخ شرف الشريف، وأمدني به عبد العزيز ابن الشيخ شرف.