
مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الأول- (تحرير القول في مسألة)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إنَّ مسألةَ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الجليلة التي اختلفت فيها الأنظار، وتنازعت فيها الفرق على ممرّ الأعصار، وكان لكل طائفةٍ من الصواب والزلل بقدر ما كُتب لها.
ولهذه المسألة تعلّق كبير بمسائلَ وأصولٍ عقدية، فهي فرع عن مسألة التعليل والحكمة، ومسألة التعليل والحكمة فرع عن إثبات الصفات الاختيارية للباري جل وعلا، وبحسب اختلاف الفِرَق في أصول هذه المسألة كان اختلافهم فيها.
وقد أثبتت المعتزلة التحسينَ والتقبيح العقليين، غير أنهم جعلوا ذلك الإثبات ملازمًا لجملةٍ من الأصول الفاسدة، كرعاية الصلاح والأصلح، ونفت الأشاعرة التحسينَ والتقبيح العقليين، ولزم على قولهم كثيرٌ من اللوازم الفاسدة، سواء في ما يتعلق بأفعال الله تعالى أو أفعال العباد.
وحرصًا من مركز سلف للبحوث والدراسات على تجلية مسائل العقيدة وتمييز الحق من الباطل فيها جاء هذا البحث الذي هو بعنوان: (مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين) لمعالجة هذه المسألة بحسب الوسع والطاقة، وسعيت فيه لإيضاح حقيقتها وقول أهل السنة فيها، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ثم تناولت أبرز أخطاء المعتزلة والأشاعرة فيها تحليلًا ونقدًا، مع ربط الخلاف بأصوله الكلامية، وبيان مآلات ولوازم الأقوال التي ذهب إليها كلٌّ من الطرفين.
وأسال الله تعالى القبول والإعانة، إنه خير مسؤول.
مركز سلف للبحوث والدراسات
مقدمة في أقوال الناس في المسألة:
قال شيخ الإسلام رحمه الله ملخِّصًا الأقوال في المسألة: “في هذا المقام ثلاثةُ أقوال، قال بكل قول طائفةٌ من المنتسبين إلى السُّنَّة من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحابِ أحمدَ وغيره:
طائفة تقول: إن الأفعال لا تتَّصفُ بصفاتٍ تكون بها حسنةً ولا سيِّئةً البتَّة، وكونُ الفعل حسنًا وسيِّئًا إنَّما معناهُ أنَّهُ منهيٌّ عنهُ أو غيرُ منهيٍّ عنهُ، وهذه صفةٌ إضافيَّةٌ لا تثبتُ إلا بالشَّرع، وهذا قول الأشعريِّ ومن اتَّبعهُ من أصحاب مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد، كالقاضِي أبي يعلي وأتباعه، وهؤلاءِ يُجوِّزُون أن يُعذبَ الله من لم يذنب قطُّ، فيجوِّزُون تعذيبَ الأطفال والمجانين.
وطائفةٌ تقولُ: بل الأفعال مُتَّصِفَةٌ بصفاتٍ حسنةٍ وسيِّئَة، وأنَّ ذلك قد يُعلَمُ بالعقلِ، ويستحقُّ العقابَ بالعقلِ وإن لم يردِ سمعٌ، كما يقولُ ذلك المعتزلةُ، ومن وافقهم من أصحابِ أبي حنيفةَ، وغيرُهم كأبي الخطَّاب وغيره.
وطائفةٌ تقول: بل هي مُتَّصفَةٌ بصفاتٍ حسنةٍ وسيِّئَةٍ تقتضي الحمدَ والذمَّ، ولكن لا يعاقِبُ أحدًا إلا بعد بلوغِ الرِّسالة، كما دلَّ عليه القُرآنُ.
وهذا أصحُّ الأقوال، وعليه يدلُّ الكتابُ والسُّنَّةُ، فإنَّ الله أخبرَ عن أعمالِ الكُفَّار بما يقتضي أنها سيِّئةٌ قبيحةٌ مذمومةٌ قبل مجيء الرسُول إليهم، وأخبرَ أنَّهُ لا يُعذِّبُهُم إلا بعدَ إرسال رسول إليهم”([1]).
وقال في ردّه على الرازي: “القول الذي حكاه عن المعتزلة هو مذهب جماهير العقلاء من المسلمين وغير المسلمين، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره، بل ذكروا أنه قول أكثر العلماء؛ وذلك أنه قول أبي حنيفة وأصحابه، ونقلوه أيضًا عن أبي حنيفة، وهو معنى قول أكثر المتقدمين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
ومن قال من المتأخرين منهم بخلاف ذلك فإنه يتناقض قوله، ولهذا تكلم أئمة هذه الطوائف في حكم الأعيان قبل ورود الشرع، وهذا إنما يتوجه على هذا الأصل. وهو قول الكرامية والشيعة. وهو قول أكثر الفقهاء الذي يعللون الأحكام الشرعية بعلل قائمة بالفعل، مناسبة له، وهذه طريقة عامة السلف والخلف”([2]).
وقال أيضًا: “وأحكام الأفعال العقلية هي المعروفة بمسألة الحسن والقبح العقليين، فإنها من أصول المسائل التي يفرعون عليها أمورًا كثيرة.
وقد اضطرب الناس فيها، فلكل من أصحاب أحمد ومالك والشافعي فيها قولان، والحنفية يقولون بها، وذكروا ذلك نصًّا عن أبي حنيفة، ولأهل الحديث فيها قولان، وقد ذكر أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني أن نفيهما مما أحدثه الأشعري.
وذكر أبو الخطاب أن إثبات ذلك قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم، وهو قول المعتزلة وغيرهم من نفاة القدر، ومن وافقهم من الشيعة”([3]).
وقال أيضًا: “وأما مسألة تحسين العقل وتقبيحه ففيها نزاع مشهور بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم، فالحنفية وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، وهو قول الكرامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم. وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك، وهو قول الأشعرية”([4]).
وقال ابن القيم: “ولهذا رَغِبَ عن قول النفاة فحولُ الفقهاء والنُّظَّار من الطَّوائف كلِّهم:
فأطبق أصحابُ أبي حنيفة على خلافه، وحَكَوه عن أبي حنيفة نصًّا.
واختاره من أصحاب أحمد: أبو الخطَّاب، وابن عقيل، وأبو يعلى الصَّغير، ولم يقل أحدٌ من متقدِّميهم بخلافه، ولا يمكنُ أن يُنقَل عنه حرفٌ واحدٌ موافقٌ للنُّفاة.
واختاره من أئمَّة الشافعية: الإمام أبو بكرٍ محمَّد بن علي بن إسماعيل القفَّال الكبير، وبالغ في إثباته، وبنى كتابه «محاسن الشريعة» عليه، وأحسنَ فيه ما شاء، وكذلك الإمام سعدُ بن علي الزَّنجاني بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعريِّ القولَ بنفي التَّحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد، وكذلك أبو القاسم الراغب، وكذلك أبو عبد الله الحَلِيميُّ، وخلائقُ لا يحصون.
وكلُّ من تكلَّم في عِلَل الشرع ومحاسنه وما تضمَّنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنُه ذلك إلا بتقرير الحُسْن والقُبح العقليَّين؛ إذ لو كان حُسْنُه وقُبْحُه بمجرَّد الأمر والنهي لم يتعرَّض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط، وعلى تصحيح الكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطَّردية التي لا مناسبة فيها، فيجعل الأوَّلَ ضابطًا للحكم دون الثَّاني إلا على إثبات هذا الأصل؛ فلو تساوت الأوصافُ في أنفسها لانسدَّ بابُ القياس والمناسبات والتَّعليل بالحِكَم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثِّرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها”([5]).
وقال الإمامُ أبُو المظفَّرِ السَّمعانيُّ رحمه الله: “وهذا -أي: القولُ بالتحسين والتقبيح- مذهبُ المعتزلة بأسرِهِم، والذي ذهب إليه من أصحابنا: أبُو بكر القفَّالُ الشَّاشيُّ والصَّيرفيُّ وأبو بكر الفارسيُّ والقاضي أبو حامد وغيرُهُم، وذهب إليه الحَلِيميُّ أيضًا من المُتأخِّرين، وذهب إلى هذا كثيرٌ من أصحاب أبي حنيفةَ خصوصًا العراقيُّونَ منهُم”([6]).
وعزا القولَ بالإثبات إلى الحنفيَّةِ قاطبةً ابنُ الهُمَام في (المسايرة) فقالَ: “وقالت الحنفيَّةُ قاطبةً بثبُوتِ الحُسنِ والقُبحِ للفعلِ على الوجه الذي قالتهُ المعتزلة، وهو أنَّ العقل قد يستقلُّ بإدراك الحُسنِ والقبح الذاتيَّينِ أو لصفةٍ، فيُدرِكُ القبح المناسبَ لترتُّب حكمِ الله تعالى بالمنع من الفعل على وجهٍ ينتهِضُ معَهُ الإتيانُ به سببًا للعقاب، ويُدرِكُ الحُسنَ المُناسب لترتُّب حُكمه تعالى فيه بالإيجابِ والثواب بفعلِهِ والعقاب بتركِهِ، إلا أنَّ المعتزلة أطلقُوا القول بعدم توقف حكم العقل على ورُود الشرع.
قالوا: نعم، ما قَصُر العقل عن إدرَاك جهةِ الحسن والقُبح فيه كحسن صومِ آخر يومٍ من رمضانَ وقُبح صوم أوَّلِ يومٍ من شوَّال يأتي الشَّرعُ كاشفًا عن حُسنٍ وقُبحٍ فيه ذاتيَّيِن أو لصفة، وخالفَهُم الحنفيَّةُ في هذا الإطلاق”.
وقال المقبلي: “وإنما أنكر الإحسان والإساءة ونحوهما نزرٌ من النظار في معركة الجدال، وهم مع سائر العقلاء في جميع تصرفاتهم الدينية والدنياوية حاملون عليها.
وإنكار أفراد من النظار في حال الجدل لا يقدح في علمهم([7])، بل كثيرًا ما تقر تلك الطائفة ما تقر تلك الطائفة بألسنتهم مرةً وإن أنكروا أخرى، وإنما يعبرون بالنقص والكمال، ثم هم يقرون في جميع تصرفاتهم الحالية والمقالية سوى ما ذكر، فصح أنه لا يخالف إلا نزرٌ من النظار، ولا نسبة إلى أعداد الخليقة في نزرٍ من أحوالهم، أيضًا: ولا نسبة لذلك إلى عامة أحوالهم وأقوالهم، لأنهم في كل لحظة وطرفة راعون للفرق، ولا نسبة للأحوال الجدلية إلى ذلك”.
ثم قال: “وأما في الماضين فلا يحكم على أحد بهذه المقالة التي لا يصح معها سمع كما سنذكره، وهي مكابرة في العقل كما بيناه، فلا يحكم إلا على من أعرب عن نفسه، وأكثر المصنفين أو كثير منهم إنما يحكي المقالات، وقلما يصرحون بأني أدين الله بهذا أو أقوله، أو نحو ذلك.
ثم نقول: وقد صرح بنفي هذه المقالة: السُّنِّيَّة، وجميع الماتريدية، وجميع الشيعة من الإمامية والزيدية، وهؤلاء مطبقون للروم وفارس وما وراء النهر، والهند والسند، وغالب اليمن، وكثير من الحجاز ومصر والشام والغرب، لانتشار دولة الحنفية والشيعة في هذه الأقطار، وإنما قوة المذاهب بقوة الدولة، والأشعرية منحصرة في المالكية وبعض قدماء الشافعية وكثير من متأخريهم”([8]).
وأما الأشعرية فإنهم عندما يحكون الاختلاف في المسألة فإنهم يشيرون إلى كثرتهم هم، فادعوا عكس ما ادعاه المقبلي، بل ادعوا حصول التواتر بقولهم، ثم هم ينصبون الخلاف فيها مع من لا يعبأ بهم حتى ذكروا البراهمة والثنوية؛ ليوهموا قوة قولهم في المسألة.
يقول ابن برهان: “المجاحدة والمناكرة فيما هذا سبيله وقبيله إنما تتحقق من طائفة يسيرة وشرذمةٍ قليلة، في مدة يسيرة، ثم يظهر ذلك وينكشف عن قرب وكثب.
أما على مثل أهل الحق -مع أنهم لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد- فلا يجوز، فإنا لو جوَّزنا على مثلهم التواطؤ على الكذب أفضى ذلك إلى تحريك قواعد النبوات، وتشويش أمور المعجزات، فإنا ما عرفناها بطريق المشاهدة والعيان، وإنما عرفنا بطريق الأخبار المتواترة، ونحن واثقون بما أدَّته إلينا من الأنباء، مستيقنون صحته، فإذا جوزنا على مثلهم الكذب أفضى إلى إبطال هذا الأصل العظيم، وذلك مما لا يجوز بحال”([9]).
وقال الآمدي وتبعه ابن الحاجب: “وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة والثنوية وغيرهم إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها”.
قال المقبلي في شرحه على ابن الحاجب: “كأن المصنف لم يجد من فرق المسلمين موافقًا للمعتزلة غير الكرامية، ولا من فرق الكفر وغير اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وأهل الأوثان وأنواع الكفر غير البراهمة. وكيف ترك الماتريدية والشيعة وقد طبقوا الأرض كما قدمناه قريبًا؟! فنفس هذه الحكاية فيها نتن رشح العصبية، وقد حققنا بطلانها آنفا”([10]).
وقد نُسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نسبه إليه مخالفوه مما ادعوه شذوذاتٍ: أنه قال بقول المعتزلة في هذه المسألة، قال العلائي: “ومن المسائل المنفرد بها في الأصول: مسألة الحسن والقبح التي يقول بها المعتزلة، فقال بها ونصرها، وصنَّف فيها، وجعلها دين الله، بل ألزم كل ما يبنى عليه كالموازنة في الأعمال”([11]).
وستجد بمطالعة ما سيأتي أن بين قول شيخ الإسلام وقول المعتزلة فروقًا جلية أصلية، وإن كان الجميع يشترك في كونه من مثبتي التحسين والتقبيح العقليين، خلافًا للأشاعرة.
الفصل الأول: تحرير القول في مسألة التحسين والتقبيح العقليين:
قول أهل السنة: هو إثبات التحسين والتقبيح العقليين بمعنى تعلُّق المدح بالفِعلِ الحَسَن والذمِّ بالفعلِ القَبيحِ، وينفونَهُما بمعنى تعلُّق الثَّوابِ بالفعل الحسنِ والعقابِ بالفِعلِ القَبيحِ، وهذا النفي من باب انتفاءِ المشرُوطِ لانتفاءِ شرطِهِ، لا انتفاؤُهُ لانتفاءِ سَبَبِه، فإنَّ سَبَبَهُ قائمٌ ومقتضِيهِ مَوجودٌ، إلا أنه لم يتمَّ لتوقُّفه على شرطه، وعلى هذا فكونُهُ مُتعلقًا للثَّوابِ والعقاب والمدحِ والذمِّ عقليٌّ، وإنْ كان وقوع الِعقَابِ موقُوفًا على شرطٍ وهو وُرُودُ السَّمعِ.
قال ابنُ القيم: “ها هنا أمران متغايران لا تلازم بينهما:
أحدهما: هل الفعلُ نفسُه مشتملٌ على صفةٍ اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه، فيكون منشأً لهما أم لا؟
والثّاني: أنَّ الثَّوابَ المترتِّبَ على حسن الفعل والعقابَ المترتِّبَ على قبحه ثابتٌ، بل واقعٌ بالعقل، أم لا يقع إلّا بالشَّرع؟”([12]).
فالقصدُ أن التَّفريقَ بين هذين الأمرين آنفَيِ الذكرِ لا بُدَّ منهُ، فنُثبِتُ الأوَّلَ وننفي الثاني، ولكلٍّ من الإثباتِ والنفي أدلةٌ دامغَةٌ؛ لذلك سيكون الكلام في كلٍّ أمر من الأمرين على حدة.
المبحث الأول: الأدلة على ثبوت الحسن والقبح العقليين بمعنى تعلُّق المدح والذم:
الدليل الأول: قال ربُّنَا جل وعلا: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 28-33].
قال شيخ الإسلام: “فذكر براءته من هذا على وجه المدح له بذلك، وتنزيهه عن ذلك، فدل على أن من الأمور ما لا يجوز أن يضاف إلى الله الأمر به، ليست الأشياء كلها مستوية في أنفسها ولا عنده، وأنه لا يخصص المأمور على المحظور لمجرد التحكم، بل يخصص المأمور بالأمر والمحظور بالحظر لما اقتضتهُ حكمته”([13]).
وقال ابن القيم: “فأخبر سبحانه أنَّ فعلَهم فاحشةٌ قبل نهيه عنه، وأمَره باجتنابه بأخذ الزِّينة.
والفاحشةُ هاهنا طوافُهم بالبيت عُراةً -الرِّجال والنِّساء- غيرَ قريشٍ.
ثمّ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أي: لا يأمر بما هو فاحشةٌ في العقل والفطرة. ولو كان إنّما عُلِم كونُه فاحشةً بالنّهي، وأنّه لا معنى لكونه فاحشةً إلّا تعلُّقُ النَّهي به، لصار معنى الكلام أنَّ الله لا يأمر بما ينهى عنه. وهذا يُصان عن التَّكلُّم به آحادُ العقلاء فضلًا عن كلام العزيز الحكيم. وأيُّ فائدةٍ في قوله: إنَّ الله لا يأمر بما ينهى عنه؟! فإنّه ليس معنى كونه فاحشةً عندهم إلّا أنَّه منهيٌّ عنه، لا أنّ العقول تستفحشه.
ثمّ قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}. والقسطُ عندهم هو المأمور به، لا أنّه قِسطٌ في نفسه، فحقيقةُ الكلام: قُلْ: أمَر ربِّي بما أمَر به!
ثمّ قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} دلَّ على أنّه طيِّبٌ قبل التَّحريم، وأنَّ وصفَ الطِّيب فيه مانعٌ من تحريمه، فتحريمُه منافٍ للحكمة.
ثمّ قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ}، ولو كان كونُها فواحشَ إنّما هو لتعلُّق التَّحريم بها، وليست فواحشَ قبل ذلك، لكان حاصلُ الكلام: قل إنّما حرَّم ربِّي ما حَرَّم! وكذلك تحريمُ الإثم والبغي، فكونُ ذلك فاحشةً وإثمًا وبغيًا بمنزلة كونِ الشِّرك شركًا، فهو شركٌ في نفسه قبل النَّهي وبعدَه. فمن قال: إنّ الفاحشة والقبائح والآثام إنّما صارت كذلك بعد النّهي، فهو بمنزلة قائلٍ يقول: الشِّركُ إنّما صار شركًا بعد النَّهي، وليس شركًا قبل ذلك.
ومعلومٌ أنّ هذا وهذا مكابرةٌ صريحةٌ للعقل والفطرة. فالظُّلم ظلمٌ في نفسه قبل النَّهي وبعده، والقبيحُ قبيحٌ في نفسه قبل النَّهي وبعده، والفاحشةُ كذلك، وكذلك الشِّرك، لا أنَّ هذه الحقائق صارت بالشَّرع كذلك.
نعم، الشّارعُ كساها بنهيه عنها قبحًا إلى قبحها، فكان قبحُها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرَّبِّ تعالى عنها، وذمِّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها كما أنَّ العدلَ والصِّدقَ والتّوحيدَ ومقابلةَ نِعَمِ المُنعِم بالثّناء والشُّكرِ حسنٌ في نفسه، وازداد حسنًا إلى حسنه بأمر الرَّبِّ به، وثنائه على فاعله، وإخباره بمحبة ذلك ومحبّة فاعليه”([14]).
الدليل الثاني: قوله تعالى في بيانِ أعلام نبوة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157].
قال الرازي: “قولُه تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات﴾ من الناس من قال: المرادُ بالطيِّبَات الأشياء التي حَكَم الله بحلِّها وهذا بعيدٌ لوجهين:
الأوَّل: أنَّ على هذا التقدير تصيرُ الآية: ويحل لهم المُحلَّلاتِ، وهذ محضُ التكريرِ.
الثاني: أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة، لأنَّا لا ندري أن الأشياءَ التي أحلَّها اللهُ ما هي؟ وكَم هي؟
بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المُستطابة بحسَبِ الطَّبع، وذلك لأن تَنَاوُلَها يفيدُ اللذة، والأصلُ في المنافع الحل، فكانت هذه الآية دالَّةً على أن الأصل في كُل ما تستطيبُهُ النفسُ ويستلذُّه الطبعُ الحلُ إلا لدليل مُنفصلٍ”([15]).
وذكر شيخ الإسلام ما يصلح أن يكون تعقُّبًا على ما اختاره فقال: “الطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان. وليس المراد به مجرد التذاذ الأكل فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم، وما يحميه الطبيب منه، ولا المراد به التذاذ طائفة من الأمم كالعرب، ولا كون العرب تعودته؛ فإن مجرد كون أمة من الأمم تعوَّدَت أكلَه، وطاب لها، أو كَرِهَته لكونه ليس في بلادها لا يُوجِب أن يحرم الله على جميع المؤمنين ما لم تعتَدْهُ طباع هؤلاء، ولا أن يُحِل لجميع المؤمنين ما تعودوه.
كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه الله تعالى. وقد قيل لبعض العرب: ما تأكلون؟ قال: ما دب ودرج إلا أم حبين([16]). فقال: ليهن أم حبين العافية.
ونفس قريش كانوا يأكلون خبائث حرمها الله، وكانوا يعافون مطاعم لم يحرمها الله”([17]).
الدليل الثالث: قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160].
قال ابن القيم في دلالة الآية على ثبوت التحسين والتقبيح العقليين: “فأيُّ شيءٍ أصرحُ من هذا؟! حيثُ أخبَر سبحانه أنه حرَّمه عليهم مع كونه طيِّبًا في نفسه، فلولا أنَّ طِيبَه أمرٌ ثابتٌ له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطِّيبَ والتَّحريم. وقد أخبَر تعالى أنه حرَّم عليهم طيِّباتٍ كانت حلالًا عقوبةً لهم، فهذا تحريمُ عقوبة، بخلاف التَّحريم على هذه الأمَّة فإنه تحريمُ صيانةٍ وحماية، ولا فرق عند النُّفاة بين الأمرين، بل الكلُّ سواء”([18]).
الدليل الرابع: قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23] فذكر توحيده، وذكر المناهي التي نهاهم عنها والأوامر التي أمرهم بها، ثُمَّ ختم الآيات بقوله: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عْندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: 38]، أي: أنه سيِّئٌ في نفس الأمر عند الله، حتى لو لم يَرِد به تكليفٌ لكان سيِّئةً في نفسه عند الله مكروهًا له، وكراهتُه سبحانه له لما هو عليه من الصِّفة التي اقتضت أن كَرِهَه، ولو كان قُبحُه إنما هو مجرَّدُ النهي لم يكن مكروهًا لله؛ إذ لا معنى للكراهة عندهم إلا كونُه منهيًّا عنه، فيعودُ قولُه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} إلى معنى: كلُّ ذلك منهيٌّ عنه عند ربك! ومعلومٌ أنَّ هذا غيرُ مرادٍ من الآية.
وأيضًا فإذا وقع ذلك منهم فهو عند النُّفاة للحُسْن والقُبح محبوبٌ لله، مرضيٌّ له؛ لأنه إنما وقع بإرادته، والإرادةُ عندهم هي المحبة لا فرق بينهما”([19]).
الدليل الخامس: قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32].
قال ابن القيم: “فعلَّل النهيَ في الموضعين بكون المنهيِّ عنه فاحشةً، ولو كان جهةُ كونه فاحشةً هو النهي لكان تعليلًا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال: لا تقربوا الزِّنا فإنه يقول لكم: لا تقربوه، أو: فإنه منهيٌّ عنه! وهذا محالٌ من وجهين:
أحدهما: أنه يتضمَّنُ إخلاءَ الكلام من الفائدة.
والثَّاني: أنه تعليلٌ للنهي بالنهي”([20]).
الدليل السادس: قَوْله تعالى لِمُوسَى: ﴿اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: 17-19].
وَقَالَ: ﴿إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 4-6].
قال شيخ الإسلام: “فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى وحين كان صغيرا قبل أن يأتيه برسالة أنه كان طاغيًا مفسدًا”([21]).
الدليل السابع: أن الرُّسُلَ كانوا يأمرون قومهم بالاستغفار والتوبة، فنوح عليه السلام قال لقومه: ﴿يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ [نوح: 2-4]، وقال هود لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ﴾ [هود: 52]، وقال صالح لقومه: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61].
قال شيخ الإسلام: “فلو كان كالمباح المستوي الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة”([22]).
الدليل الثامن: أن لوطًا عليه السلام سمى فعلة قومه فحشاء ومنكرًا فقال: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 80]، وقال: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوت: 29].
قال شيخ الإسلام: “فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم. بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها؛ ولهذا قال لهم: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾. وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون ولكن أنذرهم بالعذاب”([23]).
الدليل التاسع: قَوْلُ شُعَيْبٍ عليه السلام لقومه: ﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85].
قال شيخ الإسلام: “بَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ كان بخسًا لهم أشياءَهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم؛ بخلاف قول المجبرة أن ظلمهم ما كان سيئة إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب وغير ذلك، كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش”([24]).
الدليل العاشر: أن القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال كقوله: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [المؤمنون: 84-85]، وَقَوْله: ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، وَقَوْله: ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾.
قال شيخ الإسلام: “فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها وأن عبادتها من القبائح المذمومة”([25]).
وكَقَوْلِهِ: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل: 60، 61]، وهذا في جملة بعد جملة يقول: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ إنكارًا عليهم أن يعبدوا غير الله ويتخذوه إلها مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله وإنما فعله هو وحده.
وهكذا إبراهيم الخليل، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 41، 42] فهذا توبيخ على فعله قبل النهي.
وَقَالَ أَيْضًا: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ [مريم: 16، 17]. فأخبر أنهم يخلقون إفكا قبل النهي.
وكذلك قول الخليل لقومه أَيْضًا: ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 85-96].
قال شيخ الإسلام: “فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي وقبل إنكاره عليهم ولهذا استفهم استفهام منكر فقال: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: وخلق ما تنحتون. فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم وتدعون رب العالمين؟! فلولا أن حسن التوحيد وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم وإنما كان قبيحا بالنهي ومعنى قبحه كونه منهيا عنه لا لمعنى فيه؛ كما تقوله المجبرة”([26]).
ومن هذا الباب أيضًا قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَا﴾ [آل عمران: 103].
وقوله: ﴿وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ * وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ * وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلۡحَرُورُ * وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٍ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ * إِنۡ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 19-23].
وقوله: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيۡتًا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورًا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٍ مِّنۡهَا﴾ [الأنعام: 122]. والميت: الكافر الذي كان قلبه ميتًا بالكفر، فأحياه الله بالإيمان([27]).
وبجميع ما تقدّم من الأدلة يظهر أن الفعل له صفةٌ ينشأ عنها الحسن والقبح، سواء سمينا هذه الصفة صفة ذاتية أو غير ذاتية، فقد قال ابن القيم رحمه الله: “والمشاحَّةُ في الاصطلاحات لا تنفعُ طالبَ الحقِّ، ولا تُجْدِي عليه إلا المُناكَدة والتعنُّت، فكم تُعِيدوا وتُبْدوا في الذَّاتيِّ وغير الذَّاتيِّ! سَمُّوا هذا المعنى بما شئتم، ثمَّ إن أمكنكم إبطالُه فأبطِلوه”([28]).
وقد ذكر الإمامُ أبو المُظفَّر السمعانيُّ الأدلَّةَ الدالة على عدمِ المؤاخذة إلا بعدَ بُلُوغ دعوةِ الرَّسُول، وجعلَهَا دليلًا على نفي التحسين والتقبيحِ العقليَّين، وقال: إنه شعارُ أهل السُّنَّةِ([29]). وهذا فيه نظر، وسبَبُه ظنُّ التلازمِ بين هذين الأمرينِ.
نعم، القولُ بعدم التعذيبِ إلا بعد بُلوغ الحُجَّة الرسالية شعارُ أهل السنة كما قَال، لكن لا يلزمُ من أثبت هذا أن يقولَ بانتفاء حكم العقل بالمدح والذمَّ على الفعل الحَسَنِ والقَبيح، فيسلك مسلكَ النُّفاة المبتدعَ الذي لوازمُهُ من أشنع اللَّوازِم، ولم يكُن لأبي المظفر -بعد هذا النفي المطلق الذي نفاه- بدٌّ من التزَامِ بعضِهَا([30]).
المبحث الثاني: الأدلَّة على انتفاء التحسين والتقبيح العقليين بمعنى ترتب الثواب والعقاب:
قال شيخ الإسلام: “القرآن يدل على أن ما كانوا عليه في الجاهلية من الشرك والظلم والكفر سيئ مذموم قبيح، وإن كان الله تعالى لا يعذبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بالرسل، وهو يدل على أن المقتضي لعذابهم كان قائمًا”([31]).
وقال: “لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غُلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يُعاقَبُون على أفعالهِم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولًا، وهذا خلاف النص”([32]).
وقال ابن القيم: “وهل يقال: إنَّ الاستحقاقَ ليس بثابت، لأنَّ ورودَ السَّمع شرطٌ فيه؟ هذا فيه طريقان للنَّاس، ولعلَّ النزاع لفظيٌّ:
فإن أُرِيدَ بالاستحقاق الاستحقاقُ التَّامُّ فالحقُّ نفيُه.
وإن أُرِيدَ به قيامُ السَّبب والتَّخلُّفُ لفوات شرطٍ أو وجود مانع فالحقُّ إثباتُه”([33]).
فقد دلت الأدلة على أن الحجة التامة لا تقوم إلا بإرسال الرسل، قال ابنُ عاشُور: “الحُجَّةُ ما يدلُّ على صدق المدعي وحقية المُعتَذِر، فهي تقتَضِي عدمَ المؤاخذة بالذَّنبِ أو التقصِير”([34]).
والقول بأن حجة الله تعالى لا تَقُوم على العِبَاد إلا بإرسَال الرسل اتَّفَق عليه نُفَاةُ التَّحسين والتقبيحِ العقليين مع أئمة السُّنَّة، بينما خالف فيه بعض من قال بالتحسين والتقبيح العقليين.
يقول شيخ الإسلام: “وإن قيل بالحسن والقبح العقليين فقد تنازع أصحاب هذا القول: هل يعاقب الله تعالى العباد قبل إرسال رسولٍ؟ على قولين معروفين لهم:
أحدهما: أنه يعاقبهم على ذلك، كما قال ذلك من قال من المعتزلة والحنفية والحنبلية وغيرهم.
والثاني: أنه لا يعاقِب أحدًا إلا بعد إرسال رسولٍ، وهذا قول الأكثرين من طوائف السنة، الحنبلية وغيرهم، مع إثباتهم الحسن والقبح العقليين، وهو أصح القولين“([35]).
وقال أيضًا: “وأما الأكثرون فيقولون: بل تلك الصفات توجب كون الفعل حسنًا وسيئًا، فتوجب كون العدل حسنًا، وكون الظلم سيئًا، وأنه سبب لمدح صاحبه وذمه، ولكن هل يستحق صاحبه العذاب قبل إرسال الرسل: على قولين:
فمنهم من يقول: إن صاحبه يستحق العذاب في الدنيا والآخرة بدون الإرسال، كما يقول ذلك كثير من المعتزلة والحنفية وأبو الخطاب وغيره.
ومنهم من يقول: بل العذاب لا يستحق إلا بعد إرسال الرسل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان الفعل في نفسه سيئًا قبيحًا، وهو سببٌ لذم صاحبه وعقابه، لكن شرط حصول العقاب هو إقامة الحجة بالرسل، كما دلت عليه النصوص.
وهذا أعدل الأقوال، وعليه تدل نصوص الكتاب والسنة”([36]).
وقال أيضا: “والنصوص الدالةُ على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة، ترُدُّ على من قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يُعذَّبُون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم”([37]).
ومن هذه الأدلة:
الدَّليلُ الأول -وهو أشهرُها-: قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15].
قال الإمامُ مُحمَّدُ بنُ جرير الطبري رحمَهُ الله: “وَمَا كُنَّا مُهلكي قومًا إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم”.
ثم أخرج عن قتادة قوله في تفسير الآية: “إن الله تبارك وتعالى ليس يُعذِّبُ أحدًا حتى يَسبقَ إليه من الله خبر أو يأتيه من الله بيِّنة، وليس مُعذِّبًا أحدًا إلا بذنبه”([38]).
قال شيخ الإسلام: “وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ حجة على الطائفتين. وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم، فهي حجة عليهم أيضًا؛ فإنهم يجوّزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول، ويجوّزون تعذيب الأطفال والمجانين الذين لم يأتهم رسول، بل يقولون: إن عذابهم واقع. وهذه الآية حجة عليهم، كما أنها حجة على من جعلهم مُعذَّبِين بمجرد العقول من غير إرسال رسول”([39]).
الدليلُ الثاني: قوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165].
قال ابنُ القيم: “فهذا صريحٌ بأنَّ الحجَّة إنما قامت بالرُّسل، وأنه بعد مجيئهم لا يكونُ للنَّاس على الله حجَّة، وهذا يدلُّ على أنه لا يعذِّبهم قبل مجيء الرُّسل إليهم؛ لأنَّ الحجَّة حينئذٍ لم تقُم عليهم”([40]).
الدليل الثالث: قوله تعالى عن النار -أعاذنا الله منها برحمته-: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “ومعلوم أن قوله جل وعلا: ﴿كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ يعم جميع الأفواج الملقَين في النار. قال أبو حيان في (البحر المحيط) في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه: و{كُلَّمَا} تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين”([41]).
الدليل الرابع: قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 71].
قال الشنقيطي: “فقوله: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعم كل كافر؛ لما تقرر في الأصول من أنَّ الموصولات من صيغ العموم؛ لعمومها كل ما تشمله صِلاتها، كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله:
صيغُه كلٌّ أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع”([42]).
الدليل الخامس: قوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الشعراء: 208، 209].
عن قتادة قال: “ما أهلك الله من قرية إلا مِن بعد ما جاءتهم الرسلُ والحجةُ والبيانُ مِن الله، ولله الحُجَّةُ على خلقه”([43]).
الدليل السادس: قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: 59].
الدليلُ السابع: قوله تعالى: ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام:130، 131].
قال ابن جرير: “وقد يتَّجه من التأويل في قوله: ﴿بِظُلْمٍ﴾ وجهان:
أحدهما: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ أي: بشركِ مَنْ أشرك، وكفرِ مَنْ كفر من أهلها، كما قال لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
﴿وأهلها غافلون﴾، يقول: لم يكن يعاجلُهُم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلًا تنبِّهُهُم على حجج الله عليهم، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه، ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا: ما جاءنا من بَشِيٍر ولا نذير.
والآخر: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلَّامٍ لعبيده.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم دون إرسال الرسل إليهم والإعذار بينه وبينهم؛ وذلك أن قوله: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ عقيب قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه”([44]).
الدليل الثامن: قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 47].
قال ابنُ جريرٍ: “يقول تعالى ذكرُه: ولولا أن يقولَ هؤلاء الذين أرسلتُكَ يا محمد إليهم، لو حلَّ بهم بأسنا، أو أتاهم عذابنا من قبل أن نُرسلَكَ إليهم على كُفْرهم بربهم، واكتسابهم الآثام، واجترامهم المعاصي: ربَّنَا هلا أرسلتَ إلينا رسُولًا من قبل أن يحلَّ بنا سَخَطُك، وينزلَ بنا عذابك فنتبع أدلتك، وآي كتابك الذي تنزله على رسولك ونكون من المؤمنين بألوهيتك، المُصدِّقين رسولَك فيما أمرتَنَا ونهيتنا، لعاجلنَاهُم العقوبة على شِركِهِم من قبل ما أرسلناك إليهم، ولكنا بعثناك إليهم نذيرًا بأسنا على كفرهم، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. والمصيبةُ في هذا الموضع: العذابُ والنِّقمَة. ويعني بقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بما اكتسبوا”([45]).
واعلم أن هذه الآية كما أنها حُجَّة على من أثبتَ تعذيب الناس قبل إرسال الرسل من أهل التحسين والتقبيح، فهي أيضًا حجة على نفاة التحسين والتقبيح العقليين.
قال ابن القيم: “فدلَّت الآية على بطلان قول الطائفتين جميعًا:
الذين يقولون: إنَّ أعمالهم قبل البعثة ليست قبيحةً لذاتها، بل إنما قَبُحَت بالنَّهي فقط.
والذين يقولون: إنها قبيحة، ويستحقُّون عليها العقوبةَ عقلًا بدون البعثة.
فتضمَّنت الآية بطلانَ قول الطائفتين، ودلَّت على القول الوسط الذي اخترناه ونصَرناه: أنها قبيحةٌ في نفسها، ولا يستحقُّون العقاب إلا بعد إقامة الحجَّة بالرسالة، فلا تلازم بين ثبوت الحُسن والقُبح العقليَّين وبين استحقاق الثَّواب والعقاب، فالأدلَّةُ إنما اقتضت ارتباطَ الثواب والعقاب بالرسالة وتوقُّفهما عليها، ولم تَقْتَض توقُّفَ الحُسن والقُبح بكلِّ اعتبارٍ عليها، وفرقٌ بين الأمرين”([46]).
الدليل التاسع: حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»([47]).
قال ابن تيمية: “والآثار في ذلك معروفة عن النبي وأصحابه”([48]).
المبحث الثالث: مراتب الحسن والقبح في الفعل بحسب منشئه، وبحسب إدراك العقل له:
الحُسنُ والقُبحُ أو المصلحةُ والمفسدَةُ تنشأُ من الفعلِ المأمُور به تارةً، ومن الأمر تارةً، ومنهُما تارةً، ومن العزمِ الُمجرَّدِ تارةً، فهذه أربعة أقسام، حررها شيخ الإسلام.
قال شيخ الإسلام: “وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملًا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن.
لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنهم قالوا؛ إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولًا، وهذا خلاف النص”([49]). وقد تقدّمت النصوص في ذلك.
وقد مَثَّلَ ابنُ القيِّم لهذا النَّوعِ بالصِّدقِ والعِفَّةِ والإحسانِ والعدلِ([50]).
قال شيخ الإسلام: “النَّوْعُ الثَّانِي: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع”([51]).
ومَثَّلَ ابنُ القيِّم لهذا النَّوعِ بالتجرُّدِ في الإحرامِ، والتطهُّرِ بالتُّرابِ، والسعيِ بين الصفا والمروةِ، ورمي الجِمَار، ونحو ذلك، قال: “فإنَّ هذه الأفعالَ لو تجرَّدَت عنِ الأمرِ لم تكُن منشأ للحُسنِ، فلمَّا أمر بها نشَأت مصلحتُهَا من نفسِ الأمرِ”([52]).
قال شيخ الإسلام: “النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود، ففداه بالذبح. وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك. فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به.
وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب”([53]).
وقد زادَ ابنُ القيم قسمًا رابعًا، وهو ما اجتمعَ فيه ضابطُ القِسم الأوَّلِ والثاني، أي: مَا كانتِ المصلحةُ أو المفسدةُ ناشئةً فيه من الأمرِ والفعل المأمُور به مَعًا، قال: “ومثاله: الصَّوم، والصَّلاة، والحجُّ، وإقامةُ الحدود، وأكثر الأحكام الشرعيَّة؛ فإنَّ مصلحتَها ناشئةٌ من الفعل والأمر معًا، فالفعلُ يتضمَّنُ مصلحةً والأمرُ به يتضمَّنُ مصلحةً أخرى، فالمصلحةُ فيها مِنْ وجهين”([54]).
وقال: “وهذه حالُ جملة الشَّرائع وجمهورها، إذا تأمَّلها العقلُ جَزَم أنه يستحيلُ على أحكم الحاكمين أن يشرَع خلافَها لعباده”([55]).
وهذه الأقسام منها ما يدرِك العقلُ الحسنَ والقبح فيها استقلالًا، ومنها ما لا يُدرِكُه استقلالًا، فما كان حُسنُه أو قُبحه ناشئًا من الفعلِ المأمُور به فيدرِكُه العقلُ استقلالًا، أما ما كانَ حُسنُه أو قبحه ناشئًا عن الأمر أو العزمِ الُمجرَّدِ فلا يدرِكُه العقلُ استقلالًا.
وبهذا يعلم أن القول بالتحسين والتقبيح العقليين لا يقتضي أن العقل يستقل بإدراك حسن جميع الأفعال وقبحها، ويظهر بطلان دعوى أن إثبات التحسين والتقبيح العقليين يفتح الطريق للاستغناء عن النبوات.
قال شيخ الإسلام في ردّه على فخر الدين الرازي: “لكن قد لا يعلم هذا المدح والثواب بالعقل، بل إنما يعلم بالشرع، وهذا متفق عليه بين أهل المل، فلم يتنازعوا أن من الأفعال ما لا يعلم الناس حسنها وقبحها بمجرد عقولهم، بل التنازع بعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. ولم يقل أحد: إن العقل يثبت للأفعال صفاتٍ ليست فيها، بل إنما قالوا: العقل كاشف مبين لما هي متصفة به”([56]).
وقال ابن القيم: “غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله. وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد.
وكذلك يَعْجَزُ عن إدراك حُسْن كلِّ فعلٍ وقُبحه إلى أن تأتي الشرائعُ بتفصيل ذلك وتبيينه، وما أدركه العقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشرائعُ بتقريره، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتد العقلُ لوقت حُسْنِه مِنْ وقتِ قُبحِه أتت الشرائعُ بالأمر به في وقتِ حُسْنِه، وبالنهي عنه في وقتِ قُبحِه.
وكذلك الفعلُ يكون مشتملًا على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تَعْلَمُ العقولُ مفسدتَه أرجحَ أم مصلحتَه، فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمُر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة.
وكذلك الفعلُ يكون مصلحةً لشخصٍ مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يُدْرِكُ ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمُر به من هو مَصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مفسدةٌ في حقِّه.
وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظَّاهر، وفي ضِمْنه مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشَّرع، كالجهاد والقَتل في الله. ويكونُ في الظاهر مصلحةً، وفي ضمنه مفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائعُ ببيان ما في ضِمْنه من المصلحة والمفسدة الرَّاجحة.
هذا مع أنَّ ما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه مِن حُسْن الأفعال وقُبحها ليس بدون ما تُدْرِكُه من ذلك”([57]).
يتلوه الجزء الثاني…
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 492-493).
([2]) شرح الأصبهانية -ط. دار العمرية- (2/ 537-538).
([3]) جامع الفصول (1/ 217-218).
([5]) مفتاح دار السعادة (2/ 963-965).
([6]) قواطع الأدلة (3/ 399-400)، وقد نقل الزركشي في البحر المحيط كلام القفال والصيرفي بنصه (1/ 139-140).
([7]) أي: بعلمهم بحقيقة التحسين والتقبيح، وليس المراد حيازتهم للعلوم بالمعنى الصناعي العرفي.
([8]) الأبحاث المسددة (ص: 486-487)، ونحوه في نجاح الطالب (ص: 133-134).
([9]) قطعة من كتاب الأوسط (ص: 322-323).
([11]) نقلها عنه ابن طولون في ترجمة عبد النافع بن عراق في «ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر» (ص: 421-422)، وهذه القائمة في المخالفات المنسوبة لشيخ الإسلام التي ذكرها العلائي نقلها عنه السبكي وذكرها الهيتمي والبرزلي. انظر: «الفتاوى الحديثية» (ص: 156-159)، «جامع مسائل الأحكام» (6/ 202-207).
([12]) مدارج السالكين (1/ 361).
([13]) مجموع الفتاوى (17/ 181).
([14]) مدارج السالكين (1/ 364-366).
([15]) مفاتيح الغيب (15/ 381).
([16]) أُمُّ حُبَيْنٍ: دُوَيْبَّة قذرة على خِلْقةِ الحِرْباء عريضةُ الصدر عظيمةُ البطن، وقيل: هي أُنثى الحِرْباء. وهذه القصة يتندر بها الأدباء في وصف حال الأعراب، وليس هذا حال العرب كلهم بلا شك.
([17]) مجموع الفتاوى (17/ 178-179). تنبيه: قال ابن كثير في تفسيره (3/ 488): “وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له”، وبما أنه لم يذكر تلك المناقشة فقد كُفينا النظر فيها، على أنه رحمه الله كثيرًا ما يختار في تفسيره تقريرات شيخ الإسلام.
([18]) مفتاح دار السعادة (2/ 884).
([19]) مفتاح دار السعادة (2/ 881).
([20]) مفتاح دار السعادة (2/ 886-887).
([21]) مجموع الفتاوى (11/ 678).
([22]) مجموع الفتاوى (11/ 679).
([23]) مجموع الفتاوى (11/ 680).
([24]) مجموع الفتاوى (11/ 680-681).
([25]) مجموع الفتاوى (11/ 682).
([26]) مجموع الفتاوى (11/ 681-682).
([27]) ذكر شيخ الإسلام هذه الأدلة في شرح العقيدة الأصبهانية -ط. دار العمرية- (2/ 540).
([28]) مفتاح دار السعادة (2/ 1023-1024).
([30]) وذلك بأن التزم جواز نسخ وجوب التوحيد، وإباحة الكفر عقلًا، وأن هذا لم يمنع منه إلا الشرع. انظر: القواطع (3/ 405-407).
([31]) شرح الأصبهانية -ط. دار العمرية- (2/ 540).
([32]) مجموع الفتاوى (8/ 435).
([33]) مفتاح دار السعادة (2/ 917).
([34]) التحرير والتنوير (6/ 39).
([35]) شرح العقيدة الأصبهاينة -ط. دار العمرية- (2/ 539).
([37]) مجموع الفتاوى (8/ 435).
([39]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 493).
([40]) مفتاح دار السعادة (2/ 956).
([42]) دفع إيهام الاضطراب (ص: 192)، والبيت في المراقي برقم (360).
([43]) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم كما في الدر المنثور (11/ 302).
([46]) مفتاح دار السعادة (2/ 1144).
([48]) شرح العقيدة الأصبهانية -ط. دار العمرية- (2/ 540).
([49]) مجموع الفتاوى (8/ 434-435).
([50]) مفتاح دار السعادة (2/ 1012).
([51]) مجموع الفتاوى (8/ 435-436).
([52]) مفتاح دار السعادة (2/ 1012).
([53]) مجموع الفتاوى (8/ 436).
([54]) مفتاح دار السعادة (2/ 1012).
([55]) مفتاح دار السعادة (2/ 1012).