دحض الرواية في لعن معاوية رضي الله عنه
نعرض في هذا المقال لواحدة من الفِرى، انتشرت في الآونة الأخيرة، واغتر بها بعض عوام المسلمين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، واعتمدوا في ترويج هذه الفرية ونشرها على روايتين، يلبسون بهما الحق بالباطل، ويخلطون الصدق بالكذب، وسنتناول – فيما يأتي- تينك الروايتين بالتحليل والمناقشة.
الرواية الأولى:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: “كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب عمرو يلبس ثيابه ليلحقني قال – ونحن عنده -: «ليدخلن عليكم رجل لعين»، فوالله ما زلت وجلًا، أتشوَّف أنظر داخلًا وخارجًا، حتى دخل”([1]).
موضع الشبهة:
اتخذ بعض المغرضين من الإبهام في الحديث وسيلة للطعن في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فزعموا أن الرجل الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو معاوية بن أبي سفيان([2]) .
تفنيد الشبهة والجواب عنها:
هذه شبهة واهية وضعيفة جدًّا؛ وتدقيق النظر فيها يغني عن تتبعها ونقدها؛ ذلك لأنه ليس في الرواية ذكر لمعاوية بن أبي سفيان أصلًا، ولا يوجد فيها دلالة – لا تصريحًا ولا تلميحًا – على أن الرجل الذي دخل هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وإنما فيها قوله: «حتى دخل»، هكذا مبهمًا، فمن أين لهذا المدَّعي أنه معاوية؟!
ولقائل أن يقول: إنه بتتبع الروايات لهذا الحديث عُلم أن الرجل المبهم فيه هو معاوية بن أبي سفيان.
والجواب عن هذا: أن قاعدة تتبع طرق الحديث ورواياته لتعيين المبهمات في الحديث؛ قاعدة صحيحة، وبتطبيقها على هذا الحديث يتبين الآتي:
- بتتبع طرق الحديث تبين أن الرجل المبهم هو الحكم بن أبي العاص، وليس معاوية بن أبي سفيان؛ وقد جاء ذلك تصريحًا في بعض طرق الحديث، وإليك أشهر الروايات المصرحة بذلك:
- ما رواه ابن أبي خيثمة وابن عبد البر، وفي آخره: “فلم أزل مشفقًا أن يكون أول من يدخل، فدخل الحكم بن أبي العاص”([3]) .
- ما رواه البزار في مسنده -بالسند نفسه الذي رواه به أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده([4])– وفيها: “فما زلت أنظر وأخاف، حتى دخل الحكم بن أبي العاص”([5]) .
- ما رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وفيها: “فلم أزل خارجًا وداخلًا، حتى طلع الحكم بن أبي العاص”([6]) .
- جاء تفسير المبهم في رواية الإمام أحمد، وفيها: “حتى دخل فلان – يعني: الحكم”([7]).
- أن ناقل هذه الرواية – التي اعتمدوا عليها – هو البوصيري رحمه الله، يقول عقبها: “ومعنى الحديث – والله أعلم -: أن الداخل غير عمرو بن العاص، ولهذا سكن وجَلُ عبدالله بن عمرو، وقد رواه أحمد بن حنبل مفسرًا فذكره بتمامه وزاد: “حتى دخل فلان – يعني: الحكم”([8]) .
- أن أصحاب التواريخ والسير ذكروا هذه الرواية في ترجمة الحكم بن أبي العاص([9]).
- يتلخص مما سبق: أن الرجل المذكور في الحديث – الذي أورده أصحاب الشبهة – مبهم، وبتتبع طرق الحديث يتبين – جليًّا – أن الرجل الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم بن أبي العاص، وليس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وبهذا تسقط الشبهة وتُدمغ.
الرواية الثانية:
ما رُوي عن عبد الله بن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: «يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي»، فطلع معاوية، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فأخذ معاوية بيد ابنه زيد أو يزيد، وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله القائد والمقود، أيُّ يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة»([10]).
الجواب عن الشبهة:
يجاب عن هذه الشبهة – المأخوذة من هذه الرواية – من وجوه([11])، وحاصلها في وجهين:
أولًا: أن هذا الحديث مردود على قائله – سندًا ومتنًا – وبيان ذلك:
- لا يجوز الاحتجاج بالحديث إلا بعد ثبوته، فيقال لهم: ما مدى صحة هذه الرواية؟ ويطالب المحتج بها بإثبات صحتها.
- هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف، وهذا المحتج به لم يذكر له إسنادًا.
- من العجيب أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعبدالله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة، وأروى الناس لمناقبهم، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه، حيث يقول: “ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيرًا منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية”([12]).
- ثم إن خُطَب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واحدة، بل كان يخطب في الجُمَع والأعياد والحج وغير ذلك، ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب، كما يشهدها المسلمون كلهم، أفتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمكَّنان من ذلك؟! هذا قدح في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر المسلمين، إذ يمكِّنون اثنين دائمًا من القيام أثناء الخطبة وعدم شهود الجمعة! وإن كانا – معاوية وأبوه – يشهدان كل خطبة؛ فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها؟!
- من المعلوم من سيرة معاوية رضي الله عنه أنه كان من أحلم الناس، وأصبرهم على من يؤذيه، وأعظم الناس تأليفًا لمن يعاديه، وكان الإمام أحمد يقول عنه: “السيد الحليم”([13])، فكيف ينفِر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق مرتبة في الدين والدنيا، وهو محتاج إليه في كل أموره؟! وكيف لا يصبر على سماع كلامه؟! وحال معاوية بعد أن صار ملكًا أدلّ على ذلك، فقد كان رضي الله عنه يسمع كلام من يسبُّه في وجهه؟ فلماذا لا يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كاتبًا للوحي من هذه حاله؟!
- قوله في الرواية المذكورة: “إنه أخذ بيد ابنه زيد أو يزيد” كلام باطل؛ فإن معاوية لم يكن له ابن اسمه زيد، وأمَّا يزيد فهو ابنه الذي تولى بعده الملك، وجرى في خلافته ما جرى، وإنما وُلد يزيد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه باتفاق أهل العلم، ولم يكن لمعاوية ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الحافظ أبو الفضل ابن ناصر: “خطب معاوية رضي الله عنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُزوَّج؛ لأنه كان فقيرًا، وإنما تزوج في زمن عمر رضي الله عنه، ووُلد له يزيد في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة سبع وعشرين من الهجرة”([14]).
ثانيًا: لو سلَّمنا جدلًا بثبوت هذا الحديث فهو مردود كذلك؛ لإمكان معارضته بمثله من جنسه بما يدل على فضل معاوية رضي الله عنه؛ فقد قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب “الموضوعات”: “قد تعصب قوم ممن يدّعي السنة، فوضعوا في فضل معاوية رضي الله عنه أحاديث؛ ليغضبوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمِّه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح”([15]) .
ويقول ابن القيم في “المنار المنيف”: “ومن ذلك ما وضعه بعض جهلة أهل السنة في فضائل معاوية بن أبي سفيان، قال إسحاق بن راهويه: “لا يصح في فضائل معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء”. قال ابن القيم – تعليقًا على كلام إسحاق-: “ومراده ومراد من قال ذلك من أهل الحديث: أنه لم يصح حديث في مناقبه بخصوصه، وإلا فما صح عندهم في مناقب الصحابة على العموم، ومناقب قريش، فمعاوية رضي الله عنه داخل فيه”([16]) .
فالحذر الحذر من التقوّل على المسلمين عمومًا، وعلى الصحابة خصوصًا ما ليس فيهم، ومن حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين([17])؛ وروى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار»([18]).
([1]) عزاه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة في موضعين (4/ 486، 8/ 83) إلى مسند أبي بكر بن أبي شيبة.
([2]) هكذا زعم عدنان إبراهيم في تسجيل له بعنوان: هل لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان؟ وهو ضمن سلسلته: معاوية في الميزان.
([3]) رواه ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير – السفر الثالث (2/ 71)، وابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 360).
([4]) أوردها بسندها: البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (4/ 486).
([5]) رواه البزار في مسنده (2352).
([6]) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7155).
([7]) رواه أحمد في المسند (6520)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (57/ 270).
([8]) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (8/ 83).
([9]) ينظر: الاستيعاب (1/ 360)، ومرآة الزمان (5/ 496)، وتاريخ الإسلام (3/ 367).
([10]) أورده شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (4/ 443) من قول الشيعي: ابن المطهر الحلي.
([11]) ينظر: منهاج السنة النبوية (4/ 444- 445).
([12]) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/ 379)، رقم (516)، والخلال في السنة (2/ 441) عن نافع، عن ابن عمر به.
([13]) في السنة لأبي بكر بن الخلال (2/ 442) قال: سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله، أيش معنى السيد؟ قال: السيد: الحليم، والسيد: المعطي، أعطى معاوية أهل المدينة عطايا ما أعطاها خليفة كان قبله.
([14]) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/ 446).
([16]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص: 116).
([17]) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 8)، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.