الاثنين - 20 شوّال 1445 هـ - 29 ابريل 2024 م

من الهرطقة إلى الأصولية…قراءة في فكر جورج طرابيشي(3)

A A

­

للتحميل كملف pdf اضغط على الأيقونة

الفصل الثالث :

بين ظاهرية ابن حزم وحرفية طرابيشي

مما عابه طرابيشي على العلماء المسلمين ولا سيما أهل الحديث أنهم أتباع العقل النصي :

(  وهو العقل المميز لجميع الحضارات المتمركزة دائرياً على نفسها نظير الحضارة العربية الإسلامية، بأنه العقل الذي يقدم تعقل النصوص على تعقل الواقع ، أو يرهن الثاني بالأول[1])، ولذلك شن حملة شعواء عليهم حتى وصف ابن حزم ب(وثنية النص [2])، لكن طرابيشي يمارس ظاهرية في بعض الأحيان أشد من ظاهرية ابن حزم، وهذا واضح في محاولة نفيه لعالمية الإسلام – وهي القضية المركزية لكتابه – ، فيقول أن الآيات ( تنص متضافرة على أن لكل أمة رسولها، وعلى أن كل رسول لا يبعث إلا إلى قومه، وعلى أن الرسالة القرآنية التي بُعث بها الرسول محمد مشروطة لغوياً بعروبة حاملها وبعروبة الأمة المحمولة إليها، وجغرافياً ب ” أم القرى ومن حولها” من دون أن يكون أصلاً لهذه الرقعة من الأرض من حدٍ آخر سوى عروبة لسان قاطنيها. [3])، فالنص هو محور منطلق طرابيشي بعد محاولته إخفاء الآيات الكثيرة الدالة على عالمية الإسلام، فهو نصي لتحقيق مآربه ، ويخفي النص أيضاً لتحقيق مآربه، وهو حرفي لدرجة أن يجعل وصف القرآن العربي دلالة على نزوله للعرب خاصة، وأضيق حرفية عندما يجعل ” أم القرى ومن حولها ” مضيقة بالمعنى الجغرافي للكلمة، وهذا مناقض لما يدعيه من ( والحال أن القرآن يبقى خطاباً مفتوحاً[4])، ولكن طرابيشي يغلقه لتحقيق غرضه، رغم قوله : ( والخطاب المفتوح يُبقى بدوره باب التأويل مفتوحاً [5]) ، فمفتاح التأويل بيد طرابيشي يغلقه متى شاء ويفتحه متى شاء!!، وعندما فتح ابن حزم باب التأويل وخرج من حرفيته – كما يزعم طرابيشي – لم يقبل طرابيشي ذلك ، وأصر على حرفية النص، فعندما استدل ابن حزم – رحمه الله وقبله الإمام الشافعي -رحمه الله – بقوله تعالى في سورة النجم عن نبيه صلى الله عليه وسلم { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ }، يصر طرابيشي بظاهرية مقيتة على اعتبار حرفية الزمان والمكان والحدث ، ويرفض أن يبقى الخطاب مفتوحاً ويغلقه بقفل الجمود فيقول أن ابن حزم ( يتجاهل ، مثله مثل الشافعي ، كون سورة النجم سورة مكية ، وكون الآيتين نزلتا قبل أن يكون للحديث ولمفهوم الحديث بالمعنى النبوي وجود.[6]) ، فتأمل كيف  يجمد على اسم ” الحديث ” ، وهو الذي يصف ابن حزم بأنه صاحب المذهب الاسمي !!، ويمضي في حرفيته قائلاً : ( فالآيتان نزلتا في سياق المجادلة مع أهل مكة من مشركين وكتابيين ممن أبوا تصديق بعثة الرسول ، تنبيهاً لهم على أن الرسول حين ينطق بالقرآن فليس ينطق عن هوى، بل بما يؤتاه من وحي ربه، وليس صعباً أن ندرك أين يعاظل ابن حزم ، كما الشافعي، في التأويل : فهو يطلق فعل النطق ويفك الارتباط  بينه وبين المنطوق به، أي آي القرآن، ليصير يعني أن كل ما هو منطوق به من قِبل الرسول إنما هو وحي من عند الله.[7] )، ويوغل طرابيشي بظاهريته منكراً استدلال العلماء بقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الحشر 7، على اتباع السنة النبوية، فقال 🙁نزلت آية طالما احتج بها الفقهاء والأصوليون اللاحقون ليبرروا تحويلهم للرسول من مشرَّع له إلى شارع- فذكر الآية الكريمة- ، فههنا أيضاً يجمع أهل التأويل والمفسرون على أنها نزلت في قسمة غنائم غزوة بني النضير. [8])، ولكن طرابيشي الذي يلجأ للمفسرين لا يقبل تفسيرهم لبيان عموم الدعوة المحمدية لجميع البشرية، ويقيد النص بقيد السبب والحدث، وأما علماؤنا فيقولون:

( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )، فكل ما ماجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا مأمورون باتباعه شرعاً إلا أن يدل الدليل على نسخه أو خصوصيته أو تقييده وغير ذلك مما بينه الأصوليون .

ويتفوق طرابيشي على ابن حزم في ظاهريته واسميته فلا يترك مساماً يتنفس منه النص، فيقول : ( فالسنة حصراً سنة الله، وفي الوقت الذي تتكرر فيه عبارة سنة الله في النص القرآني ثماني مرات ، فإن ست آيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول مباشرة في ما يشبه الإنذار : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} فاطر 43، والغائب الأكبر في النص القرآني هو تعبير سنة الرسول الذي سيحضر بالمقابل في كتب السيرة والتفسير والفقه والحديث حضوراً طاغياً. [9])، فأي حرفية بعد هذه الحرفية!! وطرابيشي يدرك أن معنى سنة الله الواردة في الآيات الكريمة هي عادته في معاقبة المكذبين المعرضين بعد إنذارهم ، فسنة الله فيهم لا تتبدل ولا تتحول ،قال تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ  فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا)(42) (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ  وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ  فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )(43)( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ  إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} سورة فاطر( 44)، وأما السنة النبوية المطلوب اتباعها فهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي أذن الله له بتبليغها بتوجيه منه، وهي وإن لم ترد في القرآن الكريم بحرفية الكلمة كما أراد طرابيشي، فالأمر باتباعها مقرون بطاعة الله بآيات متضافرة المعنى ، ومنها آية سورة الحشر التي سبق بيان جمود آلة التأويل الطرابيشية عندها، قال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الحشر 7، فطرابيشي الذي خرج عن نص القرآن الكريم إلى متاهات التأويل عند طعنه في مقام النبوة في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يقبل إلا أن ترد لفظة السنة النبوية بحرفيتها وتركيبها ، ثم تراه يخلط بين المصطلحين ” سنة الله ” و” السنة النبوية ” ، فهي حرفية محرِفة.

ويهاجم الإمام الشافعي الذي أعمل فكره في فهم القرآن عندما فسر كلمة ” الحكمة ” بالسنة، ونقل ذلك عمن سبقه من أهل العلم ، ويتهمه أنه أراد أن يفرض رأيه [10]، ويتهمه بما جنته يداه عندما أخفى الآيات الكثيرة الدالة على عموم الرسالة الإسلامية لكل البشرية- فكل يرى الناس بعين طبعه – فيقول عن الشافعي : ( بدلاً من أن يستقرئ الآيات الإحدى والثلاثين استقراءً تاماً ، أو حتى ناقصاً غيَّب عن وعي قارئه أربعاً وعشرين آية وأحضر له سبع آيات ليُلْبِسها من خلال ذلك التغييب وهذا الإحضار المعنى الذي أراد …[11])، والشافعي ليس بحاجة لدرس في أخلاقيات المعرفة على يد طرابيشي وخاصة أن طرابيشي هو الذي كان يخفي الآيات عن قارئه عند نفيه عموم الرسالة المحمدية ، وادعى أن المفسرين لم يفوزوا إلا بآية واحدة في الموضوع، والشافعي مبدع علم الأصول لا يحتاج لدرس في المنهجية العلمية وأنواع الإستقراء التام والناقص، والشافعي العربي الهاشمي القرشي ليس بحاجة لدرس في اللغة على يد طرابيشي وهو الذي أخذ اللغة من قلب صحراء العرب ومن أفواه أهلها، لكن الشافعي الأصولي المفكر أوسع فكره لمدلول الآية فرأى عطف الحكمة على الكتاب ، فتوصل لهذا التفسير ، و فكر طرابيشي الحداثوي تصلب فتعطل فاتهم الشافعي بإخفاء الآيات ،فيقول : ( فماذا فعل صاحب الرسالة حتى يفرض التأويل الذي يريد فرضه ؟ أو بتعبير أدق وأقسى : ماذا فعل حتى يمرر التأويل الذي يريد تمريره ؟ بدلاً من أن يستقرأ الآيات الإحدى والثلاثين استقراءً تاماً ، أو حتى ناقصاً، غيَّب عن وعي قارئه أربعاً وعشرين آية وأحضر له سبع آيات ليُلبسها من خلال ذلك التغييب ….[12]) ، فطرابيشي بحرفيته وجموده يطالب الشافعي باستدعاء كل آية وردت فيها كلمة الحكمة مع الكتاب من القرآن الكريم ، وهذا عين ” اللفظية ” و” الاسمية ” فيتساءل 🙁 فلماذا لم تسمَّ بالاسم الذي يطابق هذا المعنى أي ” السنة “؟ [13])، ويقول بكل ظاهرية : ( فليس في معجم العربية ما يمكن أن يستدل منه أن الحكمة تعني السنة ، ولا السنة تعني الحكمة . [14])، إلا أن مفكراً  واسع الأفق كالشافعي ، يذكر الآيات التي تخاطب المسلمين و النبي صلى الله عليه وسلم ، ليدلل على ما يريد ، فالقرآن يعطف الكتاب على الحكمة لبيان امتنان الله تعالى على المؤمنين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والعطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفيْن ، فيكون معنى الكتاب القرآن الكريم ، ومعنى الحكمة السنة النبوية، كقوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } آل عمران (164)، ولكن طرابيشي يستغفل القارئ بحرفيته ويطلب من الشافعي استدعاء جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الكتاب والحكمة ، ولو لم يكن الخطاب موجهاً مباشرة للمؤمنين ، فالله تعالى وصف عيسى عليه السلام بقوله : { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ } آل عمران (48(، وكغيرها من الآيات التي ذكرها طرابيشي[15]، و بديهة أن المقصود بهذه الآيات ليس السنة النبوية، فلماذا سيذكرها الشافعي ؟!! فمن يستغفل من ؟!!

وتمضي ظاهرية طرابيشي – حسب هواه –  فينكر على الإمام الشافعي استدلاله بالآية الكريمة { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } النحل 89 ، على بيان القرآن الكريم لأحكام النوازل،  فيقول : ( أن مدار الآية- يعني – { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}- كما هو واضح من مساقها بتمامها ، هو على الحساب يوم الحساب. وهي بذلك تتمم الآية التي تسبقها مباشرة { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} النحل 88، فالتبيان الذي تتكلم عليه الآية ليس تبيان كل شيء من أمور الدنيا ، بل تبيان كل شيء من أمور الآخرة والمحاسبة يوم الآخرة.)[16]، ويقول : ( فهذه السورة كما هو معلوم من الآيات المكيات ، وفي الطور المكي لم يكن القرآن قد تضمن بعد أية أحكام بصدد نوازل الدنيا ، فمداره كله على الآخرة بنعيمها ، وعلى الأخص بجحيمها [17].)، فطرابيشي ضيّق معنى الآية بمكيتها وحصر معناها باليوم الآخر، والشافعي بسعة فكره أخرجها من دائرة الزمان والمكان إلى دائرة الفاعلية بالحياة فمن صاحب العقل النصي ؟!!.

ومن عجيب ظاهرية طرابيشي إنكاره على الإمام الشافعي استدلاله بقوه تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} القيامة (36) على نفي الاستحسان لأن الله لم يترك الإنسان بغير أمر أو نهي فلا يترك سدى، فيتهمه طرابيشي بممارسة انزياحية ب( توظيف آية قرآنية هي الآية 36 من سورة القيامة ، في المنحى الانزياحي نفسه الذي كان وظّف الآية 89 من سورة النحل ، ذلك أن الآية لا تمت بصلة من قريب أو بعيد إلى إشكالية مصادر الحكم والقياس في النوازل الفقهية،….وهي نزلت كما يدل اسمها في المشككين في يوم القيامة وفي ما ينتظر المكذبين بالله وبرسالة رسوله من عذاب يوم الحساب ….، وهي من مكيات القرآن التي كان مدارها الأول على الإيمان والكفر ، أو التصديق والتكذيب ببعثة الرسول ، يوم لم تكن جماعة المؤمنين قد تكونت بعد ليستدعي تكوُّنها نزول الأحكام في القرآن المدني [18])، فطرابيشي يسد فسحة فهم النص بإعمال العقل ، وتوسيع مدلول النص عن حرفيته إلى رحابة الاستنباط والتعقل ، فعلماء المسلمين إذا أخذوا بالنص نعتهم طرابيشي بوثنية النص، وإذا تأولوا النص وصفهم بالإنزياحية.!!

ونختم بمقارنة بين ظاهرية ابن حزم – رحمه الله- وظاهرية طرابيشي ليحكم القارئ أيهما أشد حرفية ، فقد استدل ابن حزم كما نقل طرابيشي عنه على بطلان القياس بقوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } الأنعام 38، وقوله تعالى : { تبياناً لكل شيء } النحل 89، فلا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي ، لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص، وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئاً، وأن الدين قد كمل ، فصح أن النص قد استوفى جميع الدين، فإن كان كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس، ولا رأيه ، ولا إلى رأي غيره.[19]

هكذا نرى الإمام ابن حزم – رحمه الله – لم يحبس نفسه في زمن نزول الآيتين المكيتيْن بل تجاوزهما لاستخراج مدلول أوسع من النص، فوسع دائرة فهم الآية ، ولكن طرابيشي حجّر واسعاً وضيّق بحرفيته فهم النص فرد على ابن حزم قائلاً 🙁 ولن ندخل في نقاش حول مضمون الآيتين …..إنما حسبنا أن نشير إلأى أن الآيتيْن كلتيهما مكيتان ولا صلة لهما بالتالي بالنوازل وأحكامها التي عليها حصراً مدار الآيات المدنية، كما أن السياق الذي وردتا فيه- والذي يضرب عنه ابن حزم صفحاً- هو سياق المحاسبة يوم الحساب ، وبالتالي سد الذرائع في وجه من قد يقول في ذلك اليوم إنه كان يجهل مع أن الكتاب نُزِّل ” تبياناً لكل شيء “)[20]، وأشد من ذلك فإن طرابيشي يوغل بالإسمية واللفظية فيقول : ( ثم أننا لسنا متيقنين أصلاً أن المعني ب “الكتاب” في الآية 38 من سورة الأنعام هو القرآن، وأغلب الظن أن المقصود هنا قدر الله وقضاؤه المكتوب منذ الأزل والساري على جميع مخلوقاته من بشر وحيوان ، وذلك هو المنطوق الذي تفصح عنه الآية متى أخذناها بتمامها في سياقها ولم نجتزئها كما اجتزأها ابن حزم ، ومن قبله الشافعي،{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم  مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }الأنعام 38)[21]، ولسنا بصدد الدخول بخلاف المفسرين حول معنى الكتاب الوارد في الآية الكريمة ، وما يهمنا كيف يعيب طرابيشي التأويلي الحداثوي على ابن حزم تأويله للنص ليوسع دائرة الاستدلال منه خروجاً عن ظاهريته المعهودة ، ويتصلب طرابيشي في منطوق النص ، ويجمد على واقعة الزمان والمكان مصراً على أن مكية السورة لا تقبل إعمالها في غير ذلك ، وابن حزم الظاهري يترفع عن مثل هذا الجمود الفكري، فأيهما أشد ظاهرية؟!!

وفي خيانة من طرابيشي لأيدليوجيته الحداثوية التأويلية يرفض طرابيشي تأويل ابن حزم – رحمه الله – لقوله تعالى : {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ } النساء 59، فقال أن أولي الأمر هم أهل العلم[22]، فقال : ( ويكاد لا يحتاج لبيان أن ابن حزم يضرب هنا صفحاً عما انعقد عليه إجماع أهل التفسير وأسباب النزول من أن الآية نزلت على الأرجح في الحرب وقسمة غنائمها، وأن المعنيين بأولي الأمر…” أمراء السرايا “)[23] ، فحرفية طرابيشي لا تقبل إدخال أهل العلم في مسمى أولي الأمر  معتمداً على الإجماع في تفسير الآية وضرورة حصرها في سبب نزولها وإغلاق جميع منافذ الفكر فيها، مع أن ابن حزم لم ينفرد بذلك فجمع من العلماء يقولون هم : العلماء والأمراء، والإجماع الذي يتكأ عليه طرابيشي في نقده لابن حزم، هو ذاته الإجماع الذي ينقض كتاب طرابيشي من أساسه ، فالعلماء مجمعون على أن المقصود بطاعة الرسول الواردة في الآية اتباع السنة النبوية ، وهو الإجماع الذي يهدم ما ادعاه من التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ، ولو أتم طرابيشي الآية لاتضح له ذلك ، فالله تعالى يقول : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }، فالله تعالى أمر عند التنازع بالرجوع لكتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالعلماء والأمراء عليهم الرجوع للكتاب والسنة عند الاختلاف.

وهكذا نرى الأستاذ جورج طرابيشي يكون ظاهرياً متى شاء !!، وأصولياً يأخذ بالإجماع متى شاء !!، و يدعي القرآنية متى شاء !!، و تراثياً يعتمد على الأحاديث متى شاء!! ، وهكذا هي الشخصية الانقلابية ،لا تنقلب على مبادئها فحسب ، بل تتقلب بحسب أهوائها ، لتحقيق مآربها الأصولية الأولى .

ــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

[1] من إسلام القرآن ص 111.

[2] من إسلام القرآن  ص 293 .

[3] من إسلام القرآن ص 100.

[4] من إسلام القرآن ص 619

[5] من إسلام القرآن ص 619.

[6] من إسلام القرآن ص 371.

[7] من إسلام القرآن ص 371.

[8]  من إسلام القرآن ص 73.

[9] من إسلام القرآن ص 85

[10]  انظر : من إسلام القرآن ص 177

[11] من إسلام القرآن ص 177

[12] من إسلام القرآن ص 177.

[13] من إسلام القرآن ص 181

[14] من إسلام القرآن ص 182.

[15]  انظر : من إسلام القرآن ص 179.

[16] من إسلام القرآن ص 247 – 248.

[17] من إسلام القرآن ص 248 .

[18] من إسلام القرآن ص 257.

[19]  انظر : من إسلام القرآن ص 332.

[20] من إسلام القرآن ص 332.

[21] من إسلام القرآن ص 332.

[22]  انظر : من إسلام القرآن ص 375

[23] من إسلام القرآن ص 374.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017