الثلاثاء - 21 شوّال 1445 هـ - 30 ابريل 2024 م

 أسباب الاختلاف بين الفقهاء وبعض تطبيقاتها

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

يظن كثير من غير المختصين في العلوم الشرعية أن الخلاف بين الفقهاء هو خلاف ناتج عن تصرف تلقائي، وأحيانًا يكون لدوافع ذاتية مثل حب الظهور والمماحكة والخلاف، وهذا إن وجد من بعض المشتغلين بالفقه؛ فإنه ليس سببًا رئيسيًا فيما يقع من الخلاف بل سرعان ما ينكشف، ويتم اطّراح قول صاحبه وعدم اعتباره؛ لأنه لم يسلك سَنَنَ أهل العلم في تقرير المسائل، وأخذ الأدلة كما هو حال كثير من أهل البدع الذين أطلق عليهم السلف مصطلح أهل الأهواء، وهذا الوصف من السلف عميق، فإنه يفسر طريقة التعامل مع النصوص عند هذه الفرق، كما يرشد إلى “أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم”([1]).

أما أهل العلم الراسخون فإنهم كانوا على قدر من الدين والورع يمتنع معه أن تكون مقاصدهم غير حسنة فيما يقع بينهم من خلاف، وواقعهم العملي خير شاهد على هذا؛ فكان من سجاياهم حفظ الحقوق وإقرار بالأسبقية العلمية لبعض من اختلفوا معهم، كما شهد لذلك رجوعهم عن بعض أقوالهم إلى أقوال المختلفين معهم؛ لأن السبب راجع إلى طبيعة التعامل وكيفية معالجة الإشكالية التي يثيرها إما بتناوله لها، أو إهمالها، فيختلف الفقيهان بناء على نوع الآليات التي يستعلمونها في فهم النص ومجال إعمالها، ثم إن التداول الواعي للنصوص والذي تميَّز به أئمة السلف ومن تبعهم من أهل المذاهب؛ جعل كثيرًا من الأئمة يقرون بقوة دليل المخالف، وأن درجة الترجيح عليه لا تصل إلى حد الحسم أو الظن الغالب، مما يوجب التوقف لدى الفقيه حتى في قوله لقوة الدليل المعارض، فيضطر الفقيه للاستثناء في قوله وقاعدته مراعاة للخلاف؛ كما هو الحال في كثير من مسائل البيوع والأنكحة التي يفتي فيها أهل المذاهب بخلاف قواعدهم؛ مراعاة لأقوال خارج مذاهبهم، والمحاذرة في تخطي الخلاف أمر مطروق عند أهل العلم، بل لا يكون العالم مؤهلًا مالم يطلع على الخلاف، ونحن في هذه الورقة العلمية نحاول تسليط الضوء على جزء من أسباب الخلاف بين الأئمة مع التنبيه على أهمية معرفة الخلاف، وموارده والمعتبر منه وغير المعتبر، وقصدنا من ذلك تنبيه المشتغلين بالعلوم الشرعية على أهمية هذا الباب ومعرفته والتعامل معه تعاملًا يليق بالمستوى العلمي والشرعي لعلماء الأمة الذين يحملون همَّ الإصلاح والتجديد، ولا بأس أن نبدأ هذه الورقة بأهمية معرفة الخلاف:

 

أهمية معرفة الخلاف: لم يخل كتاب من كتب أهل العلم المهتمة بذكر المسائل العلمية والعملية من التنبيه على أهمية معرفة الخلاف؛ وأنه جزء كبير من العلم، وقصدهم من ذلك ألا يَقطع الإنسان فيما محله الظن، أو يُؤَثِّم فيما محله الأجر والعذر، وقد وردت عبارات عن الأئمة تؤكد هذا المعنى، ومنه ما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلة وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: ” أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ: الْوِلَايَةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ “، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلًا إِذَا فَقِهُوا فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ” إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ، إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى إِسْتِهِ زَحْفًا”([2]).

ولهذا جعلوا معرفة الخلاف مرتبة أساسية تخوِّل الإنسان لمعرفة الحق، فعن قتادة أنه قال: من لم يعرف الاختلاف لم يشم رائحة الفقه بأنفه”([3]).

وقال سعيد بن أبي عروبة: من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالما”([4])، وعن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ يَقُول أجسر النَّاس على الْفتيا أقلهم علمًا باخْتلَاف الْعلمَاء، وَأمْسك النَّاس عَن الْفتيا أعلمهم باخْتلَاف الْعلمَاء”([5]).

وكل هذا لكي يتأهل الباحث في الأحكام الشرعية لمعرفة كيفية تناولها، وأوجه الخلاف بين العلماء فيها، وجوابهم عن الأدلة المعارضة لأقوالهم، وكيف يصيرون إلى الراجح من بين الأقوال المختلفة، أما من لم يتأهل لذلك فمن السهل عليه أن يدعي الإجماع في غير مظانه، ويقطع فيما سبيله الظن ويزري بكبار الأئمة في أعين ضعاف العقول، دون أن يعرف مستند أقوالهم ومبناه، وقد أكَّد الغزالي – رحمه الله- على خطورة هذا المسلك في التعامل مع النصوص فقال: “أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق، في معرض التحدي والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء؛ فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذَّر على العلماء المتلطفين محوُها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمةٌ، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء؛ لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرًا في قلب مجنون فضلًا عن قلب عاقل”([6]).

 

فمعرفة الخلاف المعتبر والأقوال الضعيفة المثبتة في كتب أهل العلم مهمٌ؛ لأن معرفة الخلاف وإثباته وحفظ المدارك، وكونها قد يُلجأ إليها عند الضرورة؛ قال في المراقي:

      وذكرُ ما ضعف ليس للعمل إذ ذاك عن وِفاقِهم قد انحظل
بل للترقي لمدارج السنا ويحفظَ الُمدرك من له اعْتِنا
ولمراعاةِ الخلاف المشتهر أو المراعاة لكل ما سُطر
وكونِه يلجي إليه الضرر إن كان لم يشتدَّ فيه الخوَر
وثبت العزوُ وقد تحققا ضُرًّا من الضر به تَعَلَّقا([7])

 

ونظرًا لتشعب أسباب الخلاف فإنه يصعب تتبع جزئياته؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى التطويل الذي يخرجنا عن موضوع البحث، فنكتفي بذكر أصول الخلاف مع التمثيل لكل أصل في أكثر من باب.

أسباب الخلاف بين الفقهاء: لا يختلف المسلمون في دلالة الوحي على الأحكام الشرعية بقسميها التكليفي والوضعي، ولكن يقع الخلاف في مجال الدليل من حيث دلالته على مراد الله طلبًا أو تخييرًا أو وضعًا، ولذا وقع الخلاف بين العلماء في تفسير النص وبيانه وتنزيله، وقد أقرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – ما كان من الخلاف لا يتناقض مع معطيات النص من حيث مدلوله بشقيه الراجح والمرجوح، ما دام اجتهادًا في الامتثال لا في الرد، وذلك تبيينًا منه على سماحة الشريعة ورفقها بالمكلفين؛ لأن الله لو أراد أن يجعل وحيه نصًا على وتيرة واحدة يفهم معناه بمجرد سماعه لفعل، وهو القادر على كل شيء؛ لكن لحكمة منه جعل الشريعة عامةً، فلزم في عمومها استيعاب أحكامها لكل المكلفين على تفاوت مراتبهم العقلية والإدراكية، ففيهم الذكي والغبي والبليد والأعمى والبصير، وكلٌ من هؤلاء تخاطبه الشريعة بحسب حاله وما يمكن أن يصل إليه بجهده؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها، ففتحت الشريعة للعلماء باب الاحتمال والظنون المعتبرة ليتفاعل  العلماء مع النصوص ويطبقوها على الوقائع المستجدة بما يوافق مراد الله وشرعه، ويشهد لهذا وقائع وقعت في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأقرَّ كل مجتهد على اجتهاده، مع أن كلا من الْمُجْتهدَيْن يختلف مع صاحبه؛ وذلك تشريع منه – عليه الصلاة والسلام – للاجتهاد المنضبط في التعامل مع النصوص، ومن ذلك ما روى عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: “أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك”. وقال للذي توضأ وأعاد: “لك الأجر مرتين”([8]).

فقد أقرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – كلا الرجلين على اجتهاده وجعل له نصيبًا من الأجر، وكذلك قوله – عليه الصلاة والسلام -: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”([9]). قال النووي:” وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ إِلَى اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلَ لَهُمُ الْأَجْرَ عَلَى الاجتهاد”([10]) وهذا يعني أن الإنسان مكلف بطلب الحق لا بإصابته؛ لأن تكليفه بالإصابة في أعيان المسائل يقتضي مطالبته بالعصمة، وذلك منتفٍ في حق غير الأنبياء فلم يبق إلا الاجتهاد في إصابة الحق وطلبه وإرجاع العلم إلى الله – عز وجل – فيما خفي على الإنسان، ولو كان الله مريدًا لأن يصيب المكلف الحق في كل شيء؛ لأمر النبي بذلك، فقد رفعت إليه مسائل اختلف فيها، وأقرَّ كلًا على اجتهاده، ومن المعلوم أن الرَّد إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – كاف في تعيين المراد من النص لكن إقرار النبي على أكثر من اجتهاد دليل على جواز ذلك النوع الذي أقر، دليل ذلك ما روى مسلم عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الْأَحْزَابِ: أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ”([11]). وعدم تعيين المخطئ دليل على أن الكل مصيب للأجر ومطيع لله باجتهاده، وليس معناه أنه يمكن أن يتعدد الحق بين المتناقضات.

فيصير الشيء حلالًا وحرامًا في نفس الوقت وملكًا للشخص وليس ملكًا له وواجبًا ومندوبًا([12]).

وإنما المقصود أن التناول الواعي للنصوص مقبول في هذه الدائرة ولو أدى إلى نوع من الاختلاف، وقد مضى المسلمون على هذا فأداروا خلافاتهم الفقهية عبر آلية الاستدلال المتعارف عليها عند أهل العلم بأصول الفقه لضبط التنازع التأويلي الذي يمكن أن يقع في فهم النصوص الشرعية أثناء ممارسة العملية الاجتهادية، وقصدنا من هذه المقدمة أن يُعلم أن الخلاف الفقهي ليس من إنتاج المذاهب، بل هو سابق لها، ويؤكد ذلك أيضًا اختلاف أهل المذهب الواحد في تناول الدليل ومورده وتوجيه كلام الإمام واعتبار التخريج عليه قولًا له أم لا؟

ويمكن حصر أسباب الخلاف في أصول معينة يرجع الخلاف الفقهي المنضبط إليها، وهي محصورة في أمرين:

الأول: يتعلق بالدليل.

الثاني: دلالة الدليل.

السبب الأول: الخلاف في الدليل: وهذا الخلاف يرجع إلى قضيتين:

القضية الأولى: اعتبار الدليل: فيختلف العلماء في المسألة بناء على دليل معين، منهم من يراه دليلًا ومنهم من لا يراه دليلًا، كما هو الشأن بين الظاهرية والجمهور في القياس، وما يبنى عليه من الأحكام عند القائلين به، فيحتج الظاهري المنكر للقياس لقوله، بقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، فلو كان القياسُ هُدًى لم ينحصر الهُدى في الوحي، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده، وهو تحكيمه في حال حياته، وتحكيم سنته فقط بعد وفاته، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] أي: لا تقولوا حتى يقول، والإخبار عنه بأنه حَرَّمَ ما سكت عنه أو أوجبه قياسًا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدُّمٌ بين يديه؛ فإنه إذا قال: “حَرَّمْتُ عليكم الربا في البر” فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط، فهذا مَحْضُ التَّقدُّم.

قالوا: وقد حَرَّم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم، فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينًا، فإنَّا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة، تحريمه في القَدِيد من اللحوم، وهذا قَفْوٌ منا ما ليس لنا به علم، وتعدٍّ لما حَدَّ لنا، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، والواجب أن نقف عند حدوده، ولا نتجاوزها ولا نُقصِّر بها”([13]).

 

فيجيب الجمهور بأن الدليل أعم من الدعوى، وأن ما ورد من ذم القياس محمول على الفاسد منه:

وما رُويِ من ذمه فقد عُني   به الذي على الفساد قد بُني([14])

وقد بوَّب البخاري في كتابه الاعتصام بعد ذكره لذم الرأي وما يكره من التكلُّف في القياس، فقال: (بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بين الله حكمها لِيُفْهِمَ السَّائِلَ). وترجم بعد هذا (باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها).

وقال الطبري: “الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم، وبذلك جاءت الأخبار عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعن جماعة الصحابة والتابعين، وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ فقاس الإمامة على الصلاة، وقاس الصديق – رضي الله عنه – الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرِّق بين ما جمع الله، وصرح علي – رضي الله عنه – بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة، وقال: “إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى”؛ فحدَّه حدَّ القاذف، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابًا فيه: “الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى”([15]).

فما يقع من الخلاف بين الظاهرية والجمهور لا يمكن فهمه إلا في مجال إعمال الدليل وإهماله، فالجمهور حين أفتوا بالقياس وحللوا وحرموا به؛ كان مستندهم في ذلك أنه دليل شرعي، وليسوا مشرعين من دون الله ولا قائلين عليه بغير علم، والظاهرية حين ردوا الأحكام التي أثبتت بالقياس الجلي فإنهم لم يكونوا مكذبين لله ورسوله، وإنما عرضت لهم شبهة أوجبت عليهم ردَّ هذه الأحكام بناء على أنها أقوال واجتهادات صادمت النص لا غير.

كما يقع الخلاف بين المعتبرين للدليل نفسه في مجال إعماله، فمن يقول به قد يخرج منه بعض المجالات كما فعل المالكية في الرخصة؛ فهم يرون عدم جريان القياس فيها، وفي الأسباب ففي الأسباب خالفوا الحنفية، وفي الرخصة خالفوا الشافعة، قال ابن عاصم:

ولا يرى القياس للجمهور   يدخل في الأسباب للأمور

ثم على الرخصة لا يقاس    والشافعي شأنه القياس([16]).

وقد يختلفون في محل الدليل المتفق عليه، مثل: اختلافهم في فساد نكاح الشغار، مع اتفاقهم على عدم جوازه؛ لورود الحديث في ذلك عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق([17]).

فقد اتفقوا على عدم جواز هذا النوع من النكاح لورود النهي عنه، ثم اختلفوا هل يصحح بمهر المثل أم لا؟

فمالك قال: لا يصح ويفسخ أبدًا قبل الدخول وبعده، وبه قال الشافعي على تفصيل عنده، وقال أبو حنيفة وجماعة نكاح الشغار يصح بفرض صداق المثل، وسبب خلافهم هل النهي المعلَّق بذلك معللٌ بعدم العوض أو غير معلل؟ فإن قلنا غير معلل؛ لزم الفسخ على الإطلاق، وإن قلنا العلة عدم الصداق؛ صح بفرض صداق المثل([18]).

فأنت تراهم اتفقوا على الدليل وعلى مدلوله؛ وهو النهي الذي يفيد الحرمة، ثم اختلفوا في مقتضاه هل هو الفساد أم لا؟

وهل هو معلل أم غير معلل؟

ومثله خلافهم في الشك في الحد هل ينقض الوضوء أم لا؟ مع اتفاقهم على العمل بقاعدة: اليقين لا يزول بالشك، فالجمهور: يرون أن من تيقَّن الطهارة وشك في الحدث فإن طهارته باقية على حالها([19]).

أما المالكية فخالفوا الجمهور فرأوا أن الشاك في الحدث ناقض؛ لأن محل اليقين عندهم هو طلب العبادة والبقاء على الطهارة مشكوك فيه، فجعلوا اليقين هو طلب الطهارة لا البقاء عليها، كما فرق نُظَّارهم بين الشك في الأسباب والأسباب في الشك، فوافقوا الجمهور في أن الشاك في الوجوب أو التحريم  لا يجب عليه شيء؛ لأنه شكٌ في سبب، كما هو الحال في من شك في الطلاق بخلاف من شك في محل جعلت فيه الشريعة الشك سببًا فإنه يكلف بمقتضى الشك كمن شك في شاة هل هي مذكَّاة أم ميتة فإنها تحرم عليه والسبب هو الشك،  وكذلك الحال فيمن شك في امرأة هل هي أجنبية عليه أم لا؟ حرم عليه نكاحها؛ والسبب هو الشك، ومن شك في صلاة أو في شيء منها وجب عليه؛ لأن الشك هو الموجب وللمسألة نظائر كثيرة([20]).

ومثله: اختلافهم في العمل بالحديث الضعيف ومجاله وبالآحاد فيما تعم به البلوى.

القضية الثانية: العوارض التي تعرض للدليل: والعلل التي يرد بها الدليل وتكون سببًا في الخلاف، وهي ثمانية:

أولاها: فَسَاد الْإِسْنَاد: ومن أمثلته: الْإِرْسَال وَعدم الاتصال.

ومنها: أن يكون بعض رُوَاته صَاحب بِدعَة، أَو مُتَّهمًا بكذب وَقلة ثِقَة أَو مَشْهُورًا ببله وغفلة، أَو يكون متعصبًا لبَعض الصَّحَابَة منحرفًا عَن بَعضهم، فَإِن من كَانَ مَشْهُورًا بالتعصب ثمَّ روى حَدِيثًا فِي تَفْضِيل من يتعصب لَهُ وَلم يرد من غير طَرِيقه لزم أَن يُستراب بِهِ، وَذَلِكَ أَن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب لَهُ، وَشدَّة محبته يحمله على افتعال الحَدِيث، وإن لم يفتعله بدَّله وَغيَّر بعض حُرُوفه كنحو مَا فعلت الشِّيعَة، فَإِنَّهُم رووا أَحَادِيث كَثِيرَة فِي تَفْضِيل علي – رَضِي الله عَنهُ – وَوُجُوب الْخلَافَة لَهُ ينكرها أهل السّنة.

 

والثَّانية: من جِهَة نقل الحَدِيث على مَعْنَاهُ دون لَفْظَه وهذا كثيرًا ما يقع للمحدثين فيروون الحديث بالمعنى، وهذا المعنى قد لا يكون مؤديًا للمعنى المراد للشارع فيقصر عنه أو يزيد، فيقع الإشكال والاختلاف بسبب ذلك؛ لأن اللفظة قد تقع على الشيء وضده بسبب الاشتراك، ولا يتعين معناها إلا بالسياق فإذا رويت بالمعنى كانت عرضة للتأويل من جهة الراوي، كما في حديث: “قصوا الشَّوَارِب وأعفوا اللحى” فَقَوله: “أعفوا” يحْتَمل أَن يُرِيد وفروا وكثروا، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ: قللُوا وخففوا، فَلَا يفهم مُرَاده من ذَلِك إلا بِدَلِيل من لفظ آخر، والمعنيان جَمِيعًا موجودان فِي كَلَام الْعَرَب، يُقَال: عَفا وبر النَّاقة إذا كثر وَكَذَلِكَ: عَفا لَحمهَا، قَالَ الله عز وَجل: {حَتَّى عفوا} أَي: كَثُرُوا.

والثَّالثة: من جِهَة الْجَهْل بالإعراب، فالجاهل بالإعراب ووجوهه يقع في أفحش الغلط، مما قد يؤدي إلى الكفر، ألا ترى قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [سورة الحديد:3].

فلو فتحت الخاء من قوله: والأخر؛ لكان معنى مغايرا للمعنى الأول.

والرَّابعة: من جِهَة التَّصْحِيف، وهذا كثير الوقوع في القراءة والحديث وللدارقطني كتاب نفيس سماه: تصحيف الحفاظ.

والخامسة: من جِهَة إسقاط شَيْء من الحَدِيث لا يتم الْمَعْنى إلا بِهِ.

والسَّادسة: أَن ينْقل الْمُحدِّث الحَدِيث ويُغفل نقل السَّبَب الْمُوجب لَهُ، أَو بِسَاط الْأَمر الَّذِي جرَّ ذكره، ومن أمثلته ذكر قصة العُرنيين دون ذكر سببها.

والسَّابعة: أَن يسمع الْمُحدث بعض الحَدِيث ويفوته سَماع بعضه.

وَالثَّامِنَة: نقل الحَدِيث من الصُّحُف دون لِقَاء الشُّيُوخ([21]).

وقد فصل الإمام ابن السيد المالكي هذه المسائل بأمثلتها في كتابه الماتع الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الخلاف بين المسلمين وهو كتاب نفيس جليل في بابه على أن فيه مسحة من التأويل مغمورة في بحر ما فيه من الفوائد.

السبب الثاني دلالة الدليل: فمن أسباب الخلاف الواقعة بين الفقهاء الخلاف في دلالة الدليل، وحمله على وجه من أوجه الاحتمال التي تعرض له وإلى ذلك أشار في المرتقى بقوله:

 

والحمل للمحتمل اللفظ على  بعض الذي من المعاني احتملا

كمثل الاشتراك والعموم      والحذف والمجاز والمفهوم

والأمر هل محمله الوجوب   والنهي هل تحريمه المطلوب

وهل على إباحة للواقع     أو غيرها يحمل فعل الشارع([22]).

فهذه جملة من الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف بسبب الدلالة، ومنها الاشتراك؛ وهو يعرض للفظة من وجوه منها:

الوضع اللغوي للكلمة فتكون مشتركة بين معان مختلفة، مثل القرء فهو مشترك بين الحيض والطهر، وقد اختلف الفقهاء في المراد بالقرء في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [سورة البقرة:228]. فذهب مالك والشافعي وأهل الظاهر إلى أنه الطهر، وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنه الحيض، وسبب الخلاف هو اشتراك اللفظ بين المعنيين([23]).

الثاني: الاشتراك بسبب الأحوال التي تعرض للكلمة في الإعراب، كما هو الحال في قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم} [سورة المائدة:33].

فلفظة أو محتملة للتخيير، ويكون الأمر موكولًا إلى الإمام كما هو مذهب مالك، ومحتملة كذلك للتفصيل والتبعيض، فَمن حَارب وَقتل وَأخذ المَال صلب، وَمن قتل وَلم يَأْخُذ المَال قتل، وَمن أَخذ المال ولم يقتل قطعت يَده وَرجله من خلاف، كما هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة([24]).

ومن أسباب الخلاف العموم، ويقع الخلاف فيه من ناحيتين: الناحية الأولى دلالته؛ هل هي قطعية أو ظنية؟ والثانية بقاؤه؛ قال في المراقي:

وهو على فرد يدل حتما وفهم لاستغراق ليس جزما
بل هو عند الجل بالرجحان والقطع فيه مذهب النعمان ([25])

فأبو حنيفة حين رأى قطعية دلالة العام لم يقبل تخصيصه بالظني فتمسك بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [سورة البقرة:267]. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام:141]. ولم يقبل تخصيصه بحديث معاذ أنه ((كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضروات، وهي البقول، فقال: ليس فيها شيء))([26]).

قال في بدائع الصنائع: “وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَغَرِيبٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِمِثْلِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ ” لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ” عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ بَلْ أَرْبَابُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَ هَذَا نَفْيَ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ وَبِهِ نَقُولُ، وَاَللَّهُ أَعْلَم”([27]).

ومنه كذلك تقدير الحذف من عدمه، فمن قدر محذوفًا فإنه يعتبر معناه بناء عليه فيقع الخلاف كما في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة:275].

فمن قدر محذوف؛ وهو أخذ الربا صح عنده البيع إذا أسقطت الزيادة كبيع درهم بدرهمين؛ لأنه إذا رد الدرهم الثاني صح بيعه، وعند الجمهور أنه يفسد مطلقًا؛ لأن اللفظ محمول على المجاز، وهو الزيادة المخصوصة فيبطل البيع بها([28]).

وكذلك القول بالمفهوم من عدمه من أسباب الخلاف، كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم} [سورة النساء:23]. فالجمهور يرى أن الآية لا مفهوم لها؛ لأنها خرجت مخرج الغالب، وهو ما يسمونه بدليل الخطاب، فيقول الظاهري: بل القيد في الآية معتبر، وهو كون الربيبة في الحجر، فلا تحرم من ليست في الحجر([29]).

ومن أسبابه اختلافهم أيضًا لاختلاف في دلالة الأمر، هل هي على الوجوب أو الندب؟ ومن هذا النوع اختلافهم في حكم الأضحية، فبعضهم قال بوجوبها وهم الحنفية، ومُتمسكهم في ذلك الأمر بالإعادة على من ذبح قبل الصلاة، وكذلك نهي من كان له سعة ولم يذبح ألا يقرب المصلى، واستدل الجمهور على عدم الوجوب بما يفهم من صيغة التخيير الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهي قوله: “إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسُّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا”([30]).

وكذلك الخلاف في دلالة النهي، هل هي على الحرمة أو الكراهة؟ مثل قوله: “لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا”([31]). فذهبت جماعة إلى المنع مطلقًا، ومنهم الإمام أحمد تمسكًا بعموم الحديث، وآخرون إلى الكراهة([32]).

ومن أوجه الخلاف بينهم كذلك دلالة الفعل الصادر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – هل هو على الوجوب أم لا؟

فاستدل القائلون للوجوب بأدلة منها:

أولًا: أن أفعاله – عليه الصلاة والسلام – قائمة مقام أقواله في بيان المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق من الكتاب والسنة، فكان فعله محمولًا على الوجوب كالقول.

ثانيًا: أن ما فعله النبي – عليه الصلاة والسلام – يجب أن يكون حقًا وصوابًا، وترك الحق والصواب يكون خطأ وباطلًا، وهو ممتنع.

ثالثًا: أن فعله احتمل أن يكون واجبًا واحتمل أن لا يكون واجبًا، واحتمال كونه واجبًا أظهر من احتمال كونه ليس بواجب؛ لأن الظاهر من النبي – عليه الصلاة والسلام – أنه لا يختار لنفسه سوى الأكمل والأفضل، والواجب أكمل مما ليس بواجب، وإذا كان واجبًا فيجب اعتقاد مشاركة الأمة له فيه.

واستدل المانعون لدلالته على الوجوب بأدلة نقلية وعقلية، فمن النقلية قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} جعل التأسي به حسنة، وأدنى درجات الحسنة المندوب فكان محمولًا عليه، وما زاد فهو مشكوك فيه.

ومن العقلية: أن الظاهر من فعله أنه لا يكون إلا حسنة، والحسنة لا تخرج عن الواجب والمندوب، وحمله على فعل المندوب أولى لوجهين.

الأول: أن غالب أفعال النبي – عليه الصلاة والسلام – كانت هي المندوبات.

الثاني: أن كل واجب مندوب وزيادة، وليس كل مندوب واجبًا.

فكان فعل المندوب لعمومه أغلب، ويلزم من ذلك مشاركة أمته له فيه([33]).

ويضاف إلى ذلك ما يقع من الخلاف في الدلالة وطرق حملها عند التعارض، مثل: اختلاف العام والخاص والمطلق والمقيد والحقيقة والمجاز، وقد صدر للمركز مقال بعنوان: تعارض الألفاظ وطرق دفعه عند الأصوليين؛ ناقش هذه القضية فنكتفي بالإحالة إليه، وغرضنا من هذه الورقة؛ إطلاع القارئ الكريم على مستوى الوعي العلمي لدى الفقهاء في تناول القضايا العلمية، ثم إرشاده عمليًا إلى إنصافهم، فما من عالم من علماء المسلمين اشتهر بعلم، وكان محل اقتداء للأمة، أجاز لنفسه مخالفة الدليل بدون عذرٍ، كما نسجل ملاحظة مهمة للمتعصبين؛ الذين يتخذون من كلام الأئمة سورًا يطلعون منه إلى الباطل؛ ليخالفوا الشرع ومقاصد العلماء، فالعلماء اختلفوا بسبب حرصهم على اتباع الدليل وفهم مراد الله عز وجل، أما بعض المتعصبين وأهل الأهواء فضلوا؛ لأن مقصدهم هو مخالفة الدليل والتذرع بأقوال أهل العلم لرده، وهنا يجدر بالقارئ النبيه أن يفرق بين عذر الإمام وإصابته للحق، فمعرفة عذره سبب في إنصافه وحفظ مكانته ودلالة على فضله؛ لكنها ليست موجبة لاتباعه فيما خالف فيه مخالفة تظهر للناظر في الدليل، والله الموفق.

 

ــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الموافقات للشاطبي (4/276).

([2]) المعجم الصغير للطبراني (624).

([3]) جامع بيان العلم وفضله (2/814).

([4]) المصدر السابق (2/815).

([5]) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (969).

([6]) نقله الشاطبي عنه في الموافقات (4/290).

([7]) مراقي السعود (ص39).

([8]) سنن أبي داود (338).

([9]) صحيح البخاري ح(6919)

([10]) شرح النووي على صحيح مسلم (11/91).

([11]) البخاري (946) مسلم (1770).

([12]) ينظر تفسير القرطبي (11/311).

([13]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/401).

([14]) مراقي السعود (ص45).

([15]) تفسير القرطبي (7/172) وينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/175).

([16]) مرتقى الوصول للإمام بن عاصم (ص44).

([17]) البخاري (1512) ومسلم (1415).

([18]) ينظر: بداية المجتهد (2/96).

([19]) ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي (ص51) مسائل الامام أحمد رحمه رواية ابنه عبد الله (23/78).

([20]) ينظر: الفروق للقرافي (ص238).

([21]) الإنصاف في التنبيه على المسائل التي أوجبت الخلاف بين المسلمين (ص157).

([22]) المرتقى لابن عاصم (ص 61).

([23]) ينظر: أحكام القرآن لابن العربي المالكي (1/251).

([24]) ينظر: تفسير القرطبي (7/450).

([25]) مراقي السعود (ص30)

([26]) سنن الترمذي ح(638) قال الشيخ الألباني: صحيح.

([27]) بدائع الصنائع (2/59).

([28]) نيل السول على مرتقى الوصول (ص225) وفتح الودود على مراقي السعود (110).

([29]) ينظر: تفسير القرطبي (6/120).

([30]) مسلم (1977).

([31]) البخاري (394).

([32]) الاستذكار (2/443).

([33]) الإحكام في أصول الأحكام الآمدي (1/178).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: ﴿‌لَّا ‌يَتَّخِذِ ‌ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةۗ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017