إبطال دعوى وقوع السلف في التأويل الفاسد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه
أما بعد.. فمن المعلوم أن إثبات المذاهب عمومًا -في قضية ما، أو مسألة معينة- لا يكون بتتبع الأقوال الشاذة والغريبة – على فرض ثبوتها- وإنما يكون بتوارد الأقوال وتتابعها في طريق مَهْيَع، وسبيل واضح، ونهج مستقيم.
ومع وضوح هذا المسلك في إثبات مذاهب العلماء؛ فإن بعض المنتسبين إلى المذهب الأشعري يحاولون تقوية طريقتهم في تأويل صفات الله تعالى وصرفها عن ظاهرها وحقيقتها؛ بادعاء وقوع بعض علماء السلف فيما يطلقون عليه تأويلًا.
وسنعرض في هذه الورقة العلمية -بعون الله تعالى- تفنيدًا لهذه الدعوى، بوضعها على بساط العلم والبحث، والحكم عليها بالقسط والعدل؛ امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
منهج السلف في صفات الله تعالى:
أوَّل ما يُستهل به هو إثبات منهج السلف في صفات الله تعالى، وهو إثبات صفات الله تعالى على حقيقتها وظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ معتصمين بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقطع الطمع عن إدراك العقول لكيفية صفاته سبحانه؛ متمسكين بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
وفي هذا المعنى يقول الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) رحمه الله: “فإن قال لنا قائلٌ: فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله -عز وجل- ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: الصواب من هذا القول عندنا، أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه جل ثناؤه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}”([1]).
إجماع السلف على هذا المنهج:
هذا المنهج الذي حكاه الطبري وغيره من حمل صفات الله تعالى الواردة في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة على حقيقتها، وعدم اللجوء لتأويلها وصرفها عن ظاهرها، ليس منهجًا مختلفًا فيه عن السلف، وإنما هو قول السلف الكرام -من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان- كافة، لا خلاف بينهم في ذلك البتة، وهاكم بعض الأقوال الدالة على إجماعهم:
- يقول أبو يعلى الفراء (ت 458هـ): “دليل آخر على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغًا لكانوا أسبق لما فيه من إزالة التشبيه، ورفع الشبهة، بل قد روي عنهم ما دل على إبطاله”([2]) .
- ويقول حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر (ت 463 هـ): “أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة، والحمد لله”([3]) .
- ويقول الإمام ابن القيم (ت 751 هـ): “قد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا، ولكن – بحمد الله – لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرًا واحدًا، وأجروها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عِضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه”([4]).
- ويقول أيضًا: “ولم يتنازعوا [يعني: الصحابة رضي الله عنهم] في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها“([5]) .
حقًّا لقد سَعِد السلف ومن تبعهم بإحسان بهذا المعتقد المبني على ما جاء في الكتاب والسنة، ووقع بعض من جاء بعدهم في مخالفات أبعدتهم عن سبيلهم، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية والسداد، وفيما يأتي بؤرة الشبهة التي أوقعتهم في تلك المخالفات، وأودت ببعضهم فادعى وقوع بعض السلف في التأويل الفاسد لصفات الله تعالى.
الشبهة الدافعة لمن ادعى على السلف وقوعهم في التأويل:
يعتقد كثير من المنتسبين إلى المذهب الأشعري أن ظاهر نصوص الصفات ليس بمراد؛ لأن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو من خصائصهم، هذا محصل الشبهة التي وقعوا في شِراكها، فأخذوا يلتمسون المخارج بالتأويل وحملها على خلاف ظاهرها، بل وصل الأمر ببعضهم إلى الادعاء بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من الكفر([6]). نسأل الله تعالى العصمة من الزلل.
واندرج تحت هذا قياس الأمر في صفات الله تعالى بما يشاهده العبد من صفات المخلوقين؛ يقول أبو سليمان الخطابي الشافعي (ت 388 ه): “وإنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث [يعني: الأحاديث التي تذكر فيها صفات الباري من النزول ونحوه] من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو نزلة من أعلى إلى أسفل، وانتقال من فوق إلى تحت، وهذا صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا يستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه…”([7]).
وقد دفع هذا بعضهم إلى البحث عن أقوال عن السلف تؤيد ما ادَّعاه، فأخذ يجمع الغث والسمين، وسيأتي مناقشتهم تفصيلًا.
والجواب عن هذه الشبهة إجمالًا([8]):
إن هذا المعنى الذي اعتقدوه باطل بلا ريب؛ إذ السلف الكرام -رضي الله عنهم- والأئمة لا يسمون الظاهر تمثيلًا بصفات المخلوقين، كما أنهم ينكرون أن يكون ظاهر القرآن والسنة باطلًا؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): “لكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
تارة: يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارة: يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل”([9]).
وبالمثال يتضح المقال:
أولًا: جعلهم المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، وبالتالي يلجؤون إلى تأويلٍ يخالف هذا الظاهر، ومن الأمثلة على هذا:
ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»([10]). فقالوا: ومعلوم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق سبحانه، فجعلوا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، ثم ذهبوا يتأولونه.
والجواب عن هذه الشبهة:
لو أننا أنعمنا النظر في الحديث، وأعطيناه حقه من الفهم؛ لتبين لنا جليًّا أن ظاهره لا يدل على ما ادعوه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل: “هذا بين يدي” ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164]، لم يقتض أن يكون مماسًا للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة”([11]).
ثانيًا: ردهم المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أن هذا الظاهر باطل، ومن الأمثلة على هذا:
إثبات السلف لصفة اليدين لله تعالى؛ بقوله سبحانه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فلم يقبل بعض المتكلمين ذلك؛ وجعلوا تلك الآية مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، واعتقدوا أن ظاهر الآية الكريمة باطل([12])، فردوا المعنى الحق؛ لاعتقادهم بطلان ظاهره.
والجواب عن تلك الشبهة([13]):
إن ظاهر الآية الأولى يدل على إثبات صفة اليدين لله تعالى، وهو الحق الذي دلت عليه نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث المتواترة وإجماع السلف؛ قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»([14]).
وبين الآية الأولى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، والآية الثانية: {خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} فروق كثيرة نجملها فيما يلي:
- في الآية الثانية أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهًا بقوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وفي الآية الأولى أضاف الفعل إليه سبحانه فقال: {لِمَا خَلَقْتُ}، ثم قال تعالى: {بِيَدَيَّ}.
- في الآية الأولى ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد {خَلَقْتُ}، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية{بِيَدَيَّ}، كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، بخلاف الآية الثانية، حيث أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا}، فصار كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14].
- الجمع في الآية الثانية نظير المفرد في قوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْك} [الملك: 1]، وقوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، فإن الله تعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، وتارة بصيغة الجمع للتعظيم الذي يستحقه سبحانه.
وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو سبحانه مقدس عن ذلك.
- فدل ما تقدم على أن قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، بخلاف قوله سبحانه: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}.
تقدم معنا خلاصة ما عليه السلف الكرام في صفات الله تعالى، وبُعدهم التام عن التأويل الفاسد – الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره المراد – وفيما يأتي الرد التفصيلي على من ادَّعى وقوع التأويل الفاسد من بعض السلف.
الرد التفصيلي على دعوى وقوع السلف في التأويل:
لما أيس الأشاعرة من تأصيل مذهبهم بالنقول عن السلف؛ وأدركوا بُعد الصحابة وتابعيهم عن مسلك التأويل والتفويض، حتى شاعت عنهم مقولة: “مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم”، وهي مقولة فاسدة، غير صحيحة مبنًى ومعنًى؛ إذ الوصف بالسلامة يقتضي العلم والحكمة، فمذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم.
أقول: لما أيسوا من ذلك، أخذوا في البحث عمَّا يقوي مذهبهم بالتأويل، ولو كان باطلًا، وبطلانه من وجهين: إما ضعف في النقل، أو خطأ في الفهم.
أولًا: رد شبهاتهم من جهة الضعف في النقل:
زعم بعض الأشاعرة أن التأويل ثابت عن بعض السلف، معتمدين في ذلك على روايات ضعيفة غير ثابتة، وقديمًا قالوا: “ثبِّت العرش ثم أدر النَّقش”، والمعنى: أنَّى لحكم أن يصح ومستنده ودليله ضعيف لا يثبت؟! وفيما يلي شبهاتهم التي اعتمدوا عليها، متبوعة بالرد عليها بما يناسب المقام([15]):
شبهة: تأويل ابن عباس للكرسي:
ادعوا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما تأوَّل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة: 255]، فقال: “كرسيه: علمه”([16]).
الجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: إن هذا الأثر ضعيف، لا يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ضعفه جمع غفير من أهل العلم، وإليك بعض أقواله:
- يقول أبو سعيد الدارمي (ت 280 هـ) في “نقض المريسي”: “إنه من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر ممن يعتمد على روايته؛ إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون”([17]).
- ويقول ابن منده (ت 395 هـ) في “الرد على الجهمية”: “لم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير”([18]). ثم أورد رواية أخرى من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس بمثلها، وقال: “وهذا خبر لا يثبت؛ لأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس، نهشل متروك”([19]).
- ويقول أبو منصور الأزهري (ت 370 هـ) في “تهذيب اللغة”: “والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم، فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار”([20]).
- ويقول الذهبي (ت 748 هـ) في “العلو للعلي الغفار”: “فهذا جاء من طريق جعفر الأحمر: لين، وقال ابن الأنباري: إنما يروى هذا بإسناد مطعون فيه”([21]) .
- ويقول ابن أبي العز الحنفي (ت 792 هـ): “وقيل: كرسيه: علمه، وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم [يعني: قوله: الكرسي موضع القدمين، وسيأتي تخريجه]، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش”([22]) .
الوجه الثاني: على فرض التسليم – جدلًا – بقبوله؛ فإن من المقرر عند المحدثين: “أن الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين علله”، وبجمع أقوال ابن عباس في تفسير الكرسي؛ فإن هذا الأثر يعارض الرواية الصحيحة عن ابن عباس أنه قال: “الكرسي: موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره”([23]). قال أبو منصور الأزهري: “وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها”([24]).
الوجه الثالث: إن هذا الأثر معارض -على فرض صحته- بما صح مرفوعًا؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ“([25]). والعبرة بما صح مسندًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شبهة تأويل الإمام مالك لحديث النزول:
ادعوا أن التأويل ثابت عن الإمام مالك رحمه الله في حديث النزول([26])؛ وذلك فيما رواه حبيب بن أبي حبيب قال: حدثني مالك قال: “يتنزل ربنا – تبارك وتعالى – أمره، فأما هو فدائم لا يزول”([27]).
يجاب عن هذه الشبهة من وجهين:
هذه شبهة واهية لا عماد لها، وتضعيفها من وجهين: من جهة السند، ومن جهة المتن.
أولًا: ضعف الشبهة من جهة السند:
هذا الأثر منكر لا يثبت؛ وقد جاء من طريقين ضعيفين عن مالك؛ أحدهما فيه كذاب، والآخر مجهول.
وقد أجمل شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية هذا بقوله: “هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم، وقد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول”([28]). وإليك بيان القول في الطريقين تفصيلًا:
فأما الطريق الأول: حبيب بن أبي حبيب عن مالك به:
هذا الطريق غير صحيح؛ لأنها من رواية حبيب بين أبي حبيب – كاتب مالك – وهو كذاب متروك الحديث، وفيما يأتي أقوال أهل العلم فيه:
- يقول عبد الله بن الإمام أحمد: “سمعت أبي وذكر حبيب الذي قرأ على مالك بن أنس، فقال: ليس بثقة، كان حبيب يحيل الحديث ويكذب، وأثنى عليه شرًّا وسوءًا”([29]).
- ويقول أبو داود – في حبيب هذا -: “كان من أكذب الناس“([30]).
- ويقول النسائي: “حبيب كاتب مالك متروك الحديث، وحبيب هذا أحاديثه كلها موضوعة عن مالك وعن غيره“([31]).
- وقال أبو حاتم الرازي وأبو الفتح الأزدي فيه: “متروك الحديث”([32]).
- وقال ابن حبان فيه: “كان يورق بالمدينة على الشيوخ، ويروي عن الثقات الموضوعات، كان يدخل عليهم ما ليس من حديثهم…”([33]).
- وقال ابن عدي فيه: “كاتب مالك بن أنس يضع الحديث“([34]). وقال فيه أيضًا: “وعامة حديث حبيب موضوع المتن، مقلوب الإسناد، ولا يحتشم حبيب في وضع الحدث على الثقات، وأمره بيِّنٌ في الكذابين“([35]).
فهل مَن هذه حاله تُقبل روايته؟! ثم إن الظاهر أن هذا القول لحبيب نفسه، وليس للإمام مالك؛ لذا نسبه الحافظ ابن عبد البر إلى حبيب ولم ينسبه إلى مالك؛ فقال: “وروى ذلك عن حبيب – كاتب مالك – وغيره، وأنكره منهم آخرون”([36]).
وأما الطريق الثاني: جامع بن سوادة عن مالك به:
هذا الطريق أيضًا لا يصح؛ لأنه من رواية جامع بن سوادة، وهو مجهول، اتُّهِم بالوضع، وفيما يلي أقوال العلماء فيه:
- روى له الدارقطني حديثًا في “غرائب مالك”، وقال عقبه: “جامع ضعيف“([37]) .
- واتَّهمه الذهبي بالوضع، فقال: “جامع بن سوادة عن آدم بن أبي إياس بخبر كذب في الجمع بين الزوجين، كأنه وضعه“([38]).
- وقال ابن الجوزي – عقب حديث له -: “هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجامع بن سوادة مجهول“([39]).
ثانيًا: ضعف الشبهة من جهة المتن:
هذه الرواية – من طريقيها – عن مالك منكرة، تخالف المحفوظ عن مالك وجمهور أئمة أهل السنة؛ يقول ابن عبد البر: “والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء([40])، والحجة في ذلك واحدة.
وقد قال قوم من أهل الأثر أيضًا: إنه ينزل أمره، وتنزل رحمته، وروى ذلك عن حبيب كاتب ملك وغيره.
وأنكره منهم آخرون، وقالوا: هذا ليس بشيء؛ لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبدًا في الليل والنهار، وتعالى الملك الجبار الذي إذا أراد أمرًا قال له: كن فيكون في أيِّ وقت شاء، ويختص برحمته من يشاء متى شاء، لا إله إلا هو الكبير المتعال”([41]).
شبهة تأويل الإمام أحمد لصفة المجيء لله تعالى:
ادعوا على الإمام أحمد أنه تأوَّل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]؛ فقال: “إنه جاء ثوابه”([42]).
يجاب عن هذه الشبهة من وجوه:
الأول: إن هذه الرواية غلط على الإمام أحمد:
هذه الكلام جاء في رواية حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، ومعلوم عند الحنابلة أن حنبلًا له روايات شاذة، ينفرد بها عن الإمام أحمد:
- يقول ابن تيمية: “قيل: إن هذا غلط من حنبل، انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة([43])، مثل صالح، وعبد الله، والمرُّوذي وغيرهم؛ فإنهم لم يذكروا هذا، وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه، قال أبو إسحاق ابن شاقلا: هذا غلط من حنبل، لا شك فيه…”([44]).
- ويقول الذهبي – عن حنبل – : “له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد، ويغرب“([45]).
- ويقول ابن القيم: “فإن حنبلًا تفرد به عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما خالف المشهور عنه، فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع، فكيف في هذه المسألة؟!”([46]).
الثاني: إن هذه الرواية قالها الإمام في حال المناظرة لإلزام الخصم:
من المقرر في علم المناظرة: أن المناظِر بالحق قد يقول كلامًا لا يعتقده؛ إلزامًا للخصم، وهذه الرواية من هذا القبيل؛ كما قاله طائفة من أصحاب الإمام أحمد؛ يقول ابن تيمية: “قال طائفة من أصحاب أحمد: هذا قاله إلزاما للخصم على مذهبه؛ لأنهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله: “تأتي البقرة وآل عمران”، أجابهم بأن معناه: يأتي ثواب البقرة وآل عمران، كقوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]، أي: أمره وقدرته، على تأويلهم لا أنه يقول بذلك؛ فإن مذهبه ترك التأويل”([47]).
الثالث: إن هذه الرواية معارَضة بما هو أقوى منها:
هذه الرواية قد عارضها غيرها من الروايات المتواترة عن الإمام أحمد في رد التأويل والمنع منه، وإذا لم يمكن الجمع بين الروايات عن الإمام أحمد، فإنه يصار إلى الترجيح، والذي عليه العمل هو ترجيح القول المتواتر المشهور – وهو المنع من التأويل – على القول الغريب الفرد؛ يقول ابن تيمية: “وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل؛ فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، وتأويل النزول والاستواء، ونحو ذلك من الأفعال”([48])، وقال أيضًا: “أنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد، وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل، وقد ذكر الروايتين ابن الزاغوني وغيره، وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا، ورواية التأويل فسر ذلك بالعمد والقصد، لم يفسره بالأمر والقدرة، كما فسروا {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة: 29]، فعلى هذا في تأويل ذلك – إذا قيل به – وجهان”([49]).
شبهة تأويل الإمام البخاري لصفة الضحك:
ادعوا أن الإمام البخاري قال – في صفة ضحك الله تعالى -: “معنى الضحك الرحمة”([50]).
يجاب عنها من وجوه:
الأول: إن هذا الأثر ضعيف منقطع؛ فإن البيهقي نقله عن الفربري عن البخاري، ولم يذكر سنده إلى الفربري، والانقطاع من أسباب الضعف، كما لا يخفى.
الثاني: إنه مع كثرة نسخ صحيح الإمام البخاري، فإنه لا يعرف هذا القول عن البخاري في نسخة منها؛ يقول الحافظ ابن حجر: “ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري”([51]).
ثانيًا: شبهاتهم من جهة الخطأ في الفهم:
فهم بعض الأشاعرة كلامًا لبعض السلف على غير وجهه الصحيح، وظنوا أنه من قبيل التأويل الفاسد؛ الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فجعلوا كلام السلف فاسدًا معيبًا من حيث لا يدرون، وحقيقة الأمر: أن كلام السلف صحيح ولا يؤدي إلى ما فهموه منه، وفي ذلك :
وكَمْ مِنْ عائبٍ قَوْلًا صَحِيحًا … وآفتُه مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
ولا يخرج ما ذكروه عن السلف عن أمرين: إما أنه تفسير باللازم، وإما أنه ليس من آيات الصفات أصلًا.
وفيما يلي بيان ذلك:
تفسير ابن عباس والطبري لقوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا}:
ادعوا أن ابن عباس رضي الله عنهما تأوَّل قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، فقال: “بمرأى منا”([52]). وأن الطبري قال: “بمرأى مني ومحبة وإرادة”([53]).
يجاب عن هذه الدعوى من وجهين:
الأول: بالرغم من أن هذا الأثر لم يرو مسندًا عن ابن عباس -إلا أن معناه صحيح- والثابت عن ابن عباس قوله -في تفسير الآية-: “بعين الله”([54]). قال البيهقي: “والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين له صفة، لا من حيث الحدقة أولى”([55]).
الثاني: إن هذا المعنى صحيح، قد قال به غير واحد من السلف، وهو من قبيل التفسير باللازم، ولا يعارض ذلك إثباتهم للأصل، وهو صفة العين لله تعالى؛ يقول الشيخ ابن عثيمين (ت 1421 هـ): “فإذا قال قائل: قد ورد في تفسير بعض السلف لقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} قال: تجري بمرأى منا، فهل يعتبر هذا تحريفًا أم ماذا؟
فالجواب: ليس هذا تحريفًا؛ لأنهم يقولون: تجري بمرأى منا مع إقرارهم بالعين، ولو أن هذا القول كان من شخص ينكر العين لقلنا: هذا تحريف.
والذين قالوا: إن المعنى بمرأى منا، فإن معنى كلامهم أنها تجري ونحن نراها بأعيننا، وكأنهم يريدون بذلك الرد على من زعم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في نفس العين، وحاشا لله”([56]).
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: {بِأَيْدٍ}:
زعموا أن قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]: “بقوة”([57])، من قبيل التأويل.
يجاب عن فهمهم من وجهين:
الأول: هذا المعنى المنقول عن ابن عباس صحيح ثابت، وليس هو من التأويل الفاسد.
الثاني: إن قوله تعالى: {بِأَيْدٍ} ليس جمع “يد”، وإنما الأيد: القوة. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ): “فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطًا فاحشًا، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة”([58]).
تفسير ابن عباس قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}:
قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، قال ابن عباس في تفسيره: “الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض”([59])، فزعموا أن قول ابن عباس من التأويل الفاسد.
يجاب عن فهمهم:
بغض النظر عن ثبوت هذا الأثر عن ابن عباس، فإن معناه صحيح؛ ولا يمنع أن يكون الله تعالى في نفسه نورًا؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ثم قول من قال من السلف [يعني: في تفسير الآية]: “هادي أهل السموات والأرض” لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا؛ فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض “صفات المفسَّر” من الأسماء أو بعض أنواعه؛ ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى، بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقية الأنواع فيه…ومن تدبره علم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة“([60]).
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}:
قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، فقال ابن عباس: “الوجه عبارة عنه”([61]).
يجاب عن فهمهم:
بالرغم من أن هذا الأثر لم يسند عن ابن عباس، إلا أنه ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس ينفي الوجه لله تعالى، بل الصحيح المسند عنه هو إثبات الوجه لله تعالى؛ كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: “الزيادة: فالنظر إلى وجه الله”([62]).
ولذا يقول ابن تيمية: “المعنى الصحيح للآية: إن بقاء وجهه المذوى بالجلال والإكرام: هو بقاء ذاته”([63]).
تفسير ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد لقوله تعالى: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}:
ادَّعوا أن تفسير ابن عباس لقوله تعالى: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]: “هو يوم حرب وشدّة”([64]). وعن الضحاك وقتادة وسعيد بن جبير بنحوه، فظنوا أن هذه الأقوال كلها من التأويل الفاسد.
يجاب عن فهمهم من وجهين:
الأول: يعدُّ هذا من التفسير، وليس تأويلًا -بالمعنى الذي يذهب إليه الأشاعرة- وظاهر الآية أنها ليست من آيات الصفات؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “لا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات؛ فإنه قال: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نكرة في الإثبات، لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف؛ ولكن كثير من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولًا له، ثم يريدون صرفه عنه، ويجعلون هذا تأويلا، وهذا خطأ…”([65]) .
الثاني: بالرغم من هذا؛ فليس في الأثر ما يدل على نفي صفة الساق لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا- أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا»([66]) .
تفسير ابن عباس ومجاهد والسدي لقوله تعالى: {جَنْبِ اللَّهِ}:
في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، قال ابن عباس: “يريد على ما ضيعت من ثواب الله”([67]). وعن مجاهد والسدي بنحوه، فزعموا أن هذا من التأويل الفاسد.
يجاب عن فهمهم:
إن هذه الآية ليست من آيات الصفات؛ يقول الألوسي (ت 1270 هـ): “ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعول على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير، وكلهم مجمعون على التنزيه، وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”([68]) .
تفسير الثوري والطبري لصفة الاستواء:
قال الثوري في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]: “قصد إليها”([69]). وعن الطبري: “أقبل عليها”([70])، فزعموا أن هذا تأويلًا فاسدًا.
يجاب عن فهمهم من وجوه:
الأول: لم يرو هذا الأثر عن الثوري مسندًا، والصحيح الثابت عنه قوله في أحاديث الصفات: “أمروها كما جاءت بلا كيف”([71]).
الثاني: إن هذا المعنى صحيح، وبتمام النقل عن الطبري يتضح المراد؛ وتزول الشبهة؛ يقول الطبري: “وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ}: علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل([72]) قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوَّله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر.
ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى}: أقبلَ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟!
فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير.
قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال”([73]).
الثالث: إنه ليس فيما نقل عن الثوري والطبري تأويل لقوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، كما زعموا؛ يقول الطبري: “يعني: علا عليه”([74]) .
تفسير مجاهد والضحاك والشافعي وأبي عبيدة والبخاري لقوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}:
ادَّعوا أن هؤلاء الأئمة تأوَّلوا قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
يجاب عن فهمهم:
هذه الآية ليست من آيات الصفات، على ما ذهب إليه جمهور السلف؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -في معرض بيان معناها -: “أي: قِبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدَّها بعضهم في الصفات، وقد يدل على الصفة بوجه فيه نظر”([75]).
خلاصة ما سبق: إنه يتعين على المؤمن حقًّا أن يسأل الله تعالى العصمة من الوقوع في الزلل؛ باتهام علماء السلف بما هم منه براء؛ فإن الأصل الراسخ عند علماء أهل السنة والجماعة في إثبات صفات الله تعالى: إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، والكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات([76]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) التبصير في معالم الدين للطبري (ص: 140).
([2]) إبطال التأويلات (ص: 71).
([3]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 145).
([4]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 39).
([5]) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 210).
([6]) قاله الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين عند تفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} [آل عمران: 7].
([7]) ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 378).
([8]) ولجواب مفصل عن هذه الشبهة ينظر: مقال بعنوان: “دفع التلازم بين اعتقاد ظواهر نصوص الصفات والتشبيه” في موقع مركز سلف للبحوث والدراسات.
([12]) ينظر: مفاتيح الغيب للرازي (26/ 410).
([13]) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 45- 46).
([14]) أخرجه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
([15]) ينظر شبهات القوم في: كتاب “أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم” من (ص: 232- 247).
([16]) أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 397).
([17]) نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي (1/ 411).
([18]) الرد على الجهمية (ص: 21).
([19]) الرد على الجهمية (ص: 21- 22).
([23]) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 248)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 39)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 582)، وابن بطة في الإبانة (269).
([25]) أخرجه ابن حبان في صحيحه (361- إحسان)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (136)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 226).
([26]) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
([27]) ينظر: سير أعلام النبلاء (8/ 105).
([28]) مجموع الفتاوى (16/ 405).
([29]) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 324).
([30]) ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 452).
([31]) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 324).
([32]) تهذيب الكمال للمزي (5/ 369).
([33]) ميزان الاعتدال (1/ 452).
([34]) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 324).
([35]) الكامل في ضعفاء الرجال (3/ 329).
([36]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 143).
([37]) ينظر: لسان الميزان (2/ 415).
([38]) المغني في الضعفاء (1/ 127).
([40]) لأن القاعدة المضطردة عند أهل السنة والجماعة: “القول في بعض الصفات كالقول في بعض”؛ وفي مركزنا – مركز سلف – ورقة علمية تناولت هذه القاعدة بالشرح والتحليل، بعنوان: “قاعدة: القول في بعض صفات الله تعالى كالقول في بعضها الآخر – شرح وتحليل “، وهذا رابطها: https://salafcenter.org/2492/ .
([41]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 143).
([42]) ينظر: دفع شبه التشبيه لابن الجوزي (ص: 141)، والبداية والنهاية لابن كثير (14/ 386).
([43]) يعني: في المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد في القول بخلق القرآن.
([44]) مجموع الفتاوى (16/ 405).
([45]) سير أعلام النبلاء (13/ 52).
([46]) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للبعلي (ص: 474).
([47]) مجموع الفتاوى (16/ 405- 406).
([48]) المرجع السابق (16/ 405).
([49]) مجموع الفتاوى (16/ 406).
([50]) الأسماء والصفات للبيهقي (2/72، 402).
([52]) ينظر: تفسير السمعاني (2/ 427)، وتفسير البغوي (4/ 173).
([53]) تفسير الطبري (18/ 304).
([54]) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 309)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2026)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 116).
([55]) الأسماء والصفات (2/ 116- 117).
([56]) شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (1/ 271).
([57]) أخرجه الضياء في الأحاديث المختارة (131)، وهو في تفسير القرطبي (17/ 52) بلفظ: “بقوة وقدرة”.
([58]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 442).
([59]) أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 177).
([60]) مجموع الفتاوى (6/ 390).
([61]) تفسير القرطبي (17/ 165).
([62]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 509).
([63]) مجموع الفتاوى (2/ 434).
([64]) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 554).
([65]) مجموع الفتاوى (6/ 394- 395).
([66]) أخرجه البخاري (4919)، ومسلم (183).
([67]) روح المعاني للألوسي (12/ 272).
([69]) ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لملا علي القاري (3/ 924).
([71]) أخرجه أبو بكر الخلال في السنة (1/ 259)، والآجري في الشريعة (3/ 1146)، والدارقطني في الصفات (ص: 44).
([72]) التأويل عند المتقدمين بمعنى التفسير، بخلافه عند الأشاعرة.
([74]) تفسير الطبري (16/ 325) تفسير الطبري (16/ 325)
([75]) مجموع الفتاوى (2/ 429).
([76]) في مركز سلف ورقة علمية تناولت هذه القاعدة بالبحث والمناقشة، بعنوان: “قاعدة: القول في صفات الله تعالى كالقول في الذات – دراسة وتحليل”، وهذا رابطها: https://salafcenter.org/2356/