العُزْلة بين الورَع وتضييع الحقّ
لقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تحذر من الفتن ومواطن الشبهات، وتأمر المؤمن بالابتعاد عن كل ما قد يضرّ دينه ويفسده، كما جاءت نصوص شرعية أخرى تأمره بلزوم جماعة المسلمين والحرص على مجالس الخير والمشاركة في كل بر والتعاون مع كل طالب للخير على البر والتقوى، ولا شك أن هذه النصوص قد يظهر تعارض بينها في بعض المواطن حيث يوجد الخير ويوجد الشر، فلا يدري الإنسان أيشارك في الخير رجاء الأجر، أم يترك الشر رجاء السلامة.
ولا شك أن ترجيح أحد الأمرين لا يخلو من عملية اجتهادية شاقة، وقد غلا بعض الناس في الأدلة التي تأمر بالعزلة وتجنب الفتن، فتسرعوا في ترك المجتمعات والحكم عليها بالجاهلية والشر، ففرطوا في خير كثير، ووقعوا في بعض ما فروا منه، حتى إن بعضهم تعرض للابتداع في الشرع والوقوع في كبائر الذنوب من تكفير للمسلمين وتكبر على الصالحين، وترك لما قد يحتاجه من علم في دينه ودنياه.
ونحن نورد في هذا المقال بعض الأدلة المرشدة لهذا الفهم، وأول ذلك أننا حين ننظر في القرآن الكريم نجد أن الاعتزال بحد ذاته لا يناقض مخالطة الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بأفعال الخير، فقد جاء عن السلف -رحمهم الله- تفسير العزلة بأنها الابتعاد عن الشر والمشاركة في الخير:
ففي الحديث: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))([1]).
قال ابن المبار ك في تفسير العزلة: “أن تكون مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت”([2]).
وعن وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا، وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل؛ إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصمَّ سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتا نطوقا([3]).
فالأحاديث الواردة في الباب محمولة على الابتعاد عن الشرّ، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بإراقة الدماء والفتن الواقعة بين المسلمين مما يعلم الإنسان من نفسه أنه لا يستطيع لها دفعًا، بل هو طرف من أطراف الباطل إن شارك؛ ولذلك اعتزل الصحابة الفتن والقتال بين المسلمين، ولعل في حديث حذيفة رضي الله عنه ما يفسر لنا هذا، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة إلى إجراء عملي يفعله قبل العزلة.
فعن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر))، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))([4]).
فقد أرشده إلى لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وهو إجراء لتفادي الفتنة يسبق العزلة وينسجم مع نصوص أخرى آمرة بشهود الجمعة والجماعة وصلة الرحم وحضور مجالس الخير، وقد أنكر الصحابة -رضوان الله عليهم- على بعض العباد التعجل في الاعتزال ومفارقة الناس، فقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين من خرجوا إلى ظاهر الكوفة، وبنوا مسجدًا يتعبدون فيه، منهم: عمرو بن عتبة ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال: (إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد، أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة!). وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه، فقال له: (إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله)([5]).
فالاعتزال لا يمكن أن يكون سلوكا عاما يرشد إليه جميع أفراد المجتمع، بل هو سلوك فردي قد يخص شخصا بعينه ويتقيد بحاله، وهو موقف لكنه لا يفتى به كل الناس؛ لما في ذلك من تعجّل في الحكم على المجتمعات بالهلاك وتغييب للخير الذي قد يكون موجودا وبكثرة، لكن الإحباط وسرعة اليأس إلى النفوس يجعل الإنسان يتعجل في الحكم في أمر له فيه سعة، ويؤكد ما قلنا ما روي عن الصحابة -رضوان الله عليهم- من الإنكار على من سارع بالعزلة وانفصل عن المجتمع، وقد فسر بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليك بخاصة نفسك)) بفرض العين وما تعرف من نفسك مشروعيته، فهذا لا يمنع أن تشارك الناس فيه إذا اتضح لك وتترك المتشابه، وهنا لا إشكال، ويشهد له ما مر معنا من النقل عن ابن المبارك رحمه الله.
وكل الأحاديث تدور حول اعتزال الفتنة، ولكنها لا تتناول أعمال الخير ولا أعمال البر، ولا ترشد إلى تركها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم))([6]).
فهذا هو الأصل المحكم الذي لا ينبغي لمسلم أن يحيد عنه، ولا أن يزهد فيه، وغيره استثناء إن جاز فإنما هو في حق أعيان الناس، لا في حق العموم؛ بدليل أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) سنن ابن ماجه (4032)، قال الشيخ الألباني: “صحيح”.
([2]) ينظر: تفسر القرطبي (10/ 361).
([3]) ينظر: تفسير القرطبي (10/ 362).