كتاب التوحيد لابن خزيمة واعتقاد أهل الحديث
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
في إطار خلط الأوراق على مصطلح أهل السنة، والادعاء بأن أهل الحديث هم الأشاعرة والماتريدية، قُدّمت أحد الأبحاث إلى مؤتمر جروزني – سيء الذكر- عن كتب أهل الحديث التي تناولت معتقد أهل السنة والجماعة.
وقد قسم الباحث هذه الكتب إلى نوعين، وذكر أن النوع الثاني هي الكتب التي تمثل شذوذاً في الاعتقاد يرمي بصاحبه في التشبيه والتجسيم، ومثّل لذلك بكتاب التوحيد لابن خزيمة رحمه الله، ثم استدل على كلامه بأن للذهبي تعقيباً مهماً عليه، وذكره مختصِراً له اختصاراً مخلاً([1]) لينتقل منه إلى القول بأن “ما يمكن تسميته اعتقادا لأهل الحديث لا يؤخذ من كتاب ابن خزيمة وحده، بل لابد من اعتبار مجموع أعمال المحدثين، حتى نستخلص من مجموعها ما هو معهود منهم، ومتلقى عند جماهيرهم بالقبول، وعند التدقيق في ذلك نجد أن اعتقادهم جار على قواعد الأشاعرة “.
ونطرح هنا تساؤلين اثنين:
هل خالف ابنُ خزيمة أهل الحديث في كتابه التوحيد – في غير حديث الصورة- ؟
وهل كانت كتب اعتقاد أهل الحديث موافقةً للأشاعرة فيما ذهبوا إليه بحسب زعم هذا الزاعم؟
للجواب عن هذين السؤالين سنعقد مقارنة بين مسائل كتاب التوحيد وكتب اعتقاد أهل الحديث الأخرى، ثم ننظر هل كانت هذه الكتب جارية على وفق عقائد الأشاعرة أم لا، لنعلم مدى صحة هذه الدعوى من بطلانها.
أما كتاب التوحيد لابن خزيمة فهو معنيٌّ في المقام الأول بإثبات صفات الله عز وجل الخبرية التي ينفيها الأشاعرة ويسمونها أبعاضاً كصفة الوجه واليدين والرجل، وقد عقد فصولاً في إثباتها.
وكذلك عقد فصولاً للصفات الفعلية كالضحك والاستواء والنزول التي يؤولها الأشاعرة أيضاً.
ثم فصولاً لصفة الكلام وأن الله يتكلم بما شاء وقت ما شاء، وهو يرد على الأشاعرة في إثباتهم مجرد الكلام النفسي فقط، وهي من صفات الأفعال لكنه خصها بمزيد عناية واستدلال.
ثم تحدث عن رؤية المؤمنين لربهم، وهو يرد في هذا على المعتزلة.
ثم فصولا ًعن إثبات الشفاعة.
إذن: فالمحاور الرئيسية لكتاب ابن خزيمة هي:
– إثبات الصفات الخبرية.
– إثبات صفات الأفعال.
– إثبات أن الله في السماء على العرش.
– إثبات صفة الكلام وأنه سبحانه يتكلم بما شاء وقتما شاء.
– إثبات رؤية المؤمنين لربهم.
– إثبات الشفاعة.
أما الرؤية والشفاعة فهما للرد على المعتزلة.
إذن فالقضايا الأربعة الأولى هي ما سنبحث عنه في كتب العقيدة التي اعتنت بجمع عقيدة أهل السنة على طريقة المحدثين لنتبيّن أمرين:
الأول: هل شذ ابن خزيمة عنهم في شيء؟
الثاني : هل اتفاقهم كان على مذهب الأشاعرة أم للرد عليهم؟
ولإثبات هذين الأمرين عملياً نعرض لأهم الكتب المسندة التي ألفها علماء أهل الحديث التي تناولت اعتقادهم في القضايا الأربعة سابقة الذكر:
* السنة من مسائل إسماعيل بن حرب الكرماني [ت/280هـ ]
ذكر في بداية الكتاب باباً جامعاً في القول بالمذهب لخص فيه اعتقاد السلف وذكر أن هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر، ثم دلل على ما ذكره في أبواب مستقلة ، فذكر أن الله فوق السماء السابعة، وأثبت الصفات الخبرية والنزول وصفة الأصابع والقدم واليد والوجه، وقد عقد للاستدلال على ذلك أبواباً مستقلة.
* السنة لابن أبي عاصم [ت/287هـ].
ذكر باباً في أن الله في سمائه دون أرضه ثم باباً في صفة النزول، وباباً في إثبات صفة الكلام وأنه بصوت، ثم ذكر أبواباً في إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليدين والأصابع والضحك والتعجب واليد.
* صريح السنة للإمام الطبري [ت/310 هـ].
هو رسالة صغيرة ذكر في أولها أن القرآن غير مخلوق كيف كُتب وحيث تُلي وفي أي موضع قُرئ ، ثم أنكر إنكاراً شديداً على من نسب إليه غير ذلك.
* السنة للخلال [ت/311 هـ]
لم يتعرض لمبحث الصفات سوى إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأطال في ذلك.
* الشريعة للآجرّي [ت/360 هـ] .
عقد باباً في أن الله يضحك، وباباً في الاستواء على العرش، ثم تناول أن الله كلم موسى، ثم صفة النزول، فصفة الأصابع، وعقد أبواباً لصفة اليد بعد ذلك.
* الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة [ت/387هـ ].
تعرض لصفة الكلام، كذلك الصفات الفعلية، وخص بالذكر: الغضب والرضى والحب والكره والتعجب، وتناول أيضاً صفة الاستواء على العرش وصفة النزول، وكذلك صفة الأصابع وصفة اليدين.
* الإيمان لابن مندة [ت/395 هـ].
لم يتعرض في الكتاب لباب الصفات، سوى أنه ذكر أن” المقر بالتوحيد إشارة إلى السماء بأن الله في السماء دون الأرض ، وأن محمداً رسول الله ﷺ يسمى مؤمناً “، وذكر دليل ذلك [(1/230)] .
* السنة لابن أبي زمنين [ت /399هـ ].
ذكر باباً في الإيمان بصفات الله وأسمائه وذكر فيه أحاديث صفة اليدين والأصابع، وصفة العينين، ثم صفة الكلام، ثم ذكر العرش وأن الله خصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، ثم ذكر ” ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين” ، ثم ذكر باباً في صفة النزول، ولم يتعرض لغير ذلك مما قد ذكرنا أننا نبحث عنه.
* شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي [ت /418 هـ].
ذكر باباً في سياق ما دل من الآيات والأحاديث وما روي عن الصحابة والتابعين في أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وتحدث في الجزء الثالث عن أن الله على عرشه في السماء، وذكر أبواباً فيها الأدلة على إثبات صفات الوجه والعينين واليدين.
* عقيدة السلف أصحاب الحديث لابن إسماعيل الصابوني [ت/449 هـ].
قال في بداية الكتاب بإثبات الصفات التي وردت بها الأخبار فذكر صفات الرضا والسخط والفرح والضحك .
وذكر فصلاً في مسألة خلق القرآن وذكر أنه سبحانه تكلم به حقيقة، وتكلم عن مسألة اللفظ، ثم فصلاً لاستواء الله على عرشه، وذكر فيه نقولاً عن أئمة الدين في القول بذلك، منهم مالك والشافعي وابن المبارك، ثم تحدث عن صفة النزول من غير تشبيه ولا تمثيل، ونقل بعدما ساق الأحاديث في ذلك نقولاً عن كيفية فهم هذه الأخبار.
* الحجة في بيان المحجة للأصبهاني [ت/535 هـ].
في الكتاب فصول عن : إثبات صفة اليد -صفة الوجه -صفة الكلام كصفة ذات وكصفة فعل -صفة الضحك والفرح -إثبات صفات الأفعال -الرد على من ينكر حديث النزول.
فهذه عشرة كتب في اعتقاد أهل الحديث تصرح في القضايا الأربعة السابقة بمثل ما في كتاب ابن خزيمة، ولا تكتفي بسرد الأخبار فقط- كما ادعى الباحث-، بل يبين المؤلف ويوضح عقيدته في تلك الأخبار، ولولا الإطالة لنقلنا نصوص كلامهم من كل كتاب.
وإذا كان هذا الباحث يرى أنه لا بد من اعتبار مجموع أعمال المحدثين، فنحن نقول:إن مجموع أعمال المحدثين في هذا الباب لم يكن جارٍ على قواعد الأشاعرة، بل كان -في الحقيقة- للرد عليهم، يظهر هذا الأمر بوضوح لكل من استقرى كتبَ العقيدة المسندة.
ولسنا ندعي أن الكتب السابقة هي فقط كتب العقيدة المسندة، فغيرها كثير، لكن منها مالم يتعرض لقضية الصفات، خاصة الكتب المتقدمة زمنياً مثل كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام [ت/224 هـ]، وكتاب الإيمان لابن أبي شيبة [ت/235 هـ]، أو ما تعرض لها من خلال قضية الرؤية ومسألة عدم خلق القرآن ككتاب السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل [ت/290هـ]، ومنها ما هو غير مشهور، والأقل النادر هو ما وافق الأشاعرة في بعض أقوالهم كالرسالة الوافية لأبي عمرو الداني [ت/440هـ]، لكننا -جرياً على قاعدة الباحث- سنقول إن تلك المواضع في هذا الكتاب -بحق- لا تمثل اعتقاد أهل الحديث، وليس ثمة إشكال عندنا في ذلك،وإذا كان ابن خزيمة مع جلالته لم يُسلَّم له مخالفته لأصحاب الحديث في موضع -وهو حديث الصورة- فغيره أحرى ألا يُسَلّم له ذلك، ولا يخلو أحد من خطأ أو نسيان.
أما تأويل ابن خزيمة لحديث الصورة فقد خرج فيه عن اعتقاد أهل الحديث، ورغم ذلك فلم يكن هذا جرياً على قواعد الأشاعرة، بل لتضعيفه الحديث وظنه أن الحديث الآخر يحتمل هذا التأويل [وقد سبق بيان ذلك تفصيلاً في المقال الذي بعنوان: “الأشاعرة وكتاب التوحيد لابن خزيمة”]
هذا كله في كتب العقيدة المسندة، ولو نظرنا في المتون التي كانت على وفق اعتقاد أهل الحديث ككتاب: اعتقاد أئمة أهل الحديث لابي بكر الإسماعيلي [ت/371هـ]، وكالعقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي [ت/321هـ]، وغيرهما من الكتب التي ردت على الأشاعرة قولهم خاصة في مسألة الكلام النفسي: لطال الأمر، فأغلب العقيدة المنقولة عن الأئمة تذكر أن من عقيدة أهل السنة الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه سبحانه يتكلم بما شاء وقتما شاء [راجع في ذلك: جمهرة عقائد أئمة السلف، وهو مجموع فيه خمسون رسالة في اعتقاد أهل السنة والجماعة لأئمة السلف]، ولعل هذا يكون موضعه في مقال آخر، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به.
([1]) تناول المركز هذا الأمر في مقال سابق بعنوان “الأشاعرة وكتاب التوحيد لابن خزيمة”